الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقد أوقعهم -جميعًا- في ذلك إهمالهم للبعد التاريخي للكتابة، واعتقادهم -جميعًا- أن الأصل في الكتابة موافقة الخط للفظ، فقالوا: إن الصحابة -رضوان الله عليهم- خرجوا على ذلك الأصل حين كتبوا المصحف، وهم في الحقيقة إنما استخدموا الهجاء المستعمَلَ في زمانهم، الذي يعود بقواعده وبما يحمل من ظواهره كتابية وردت في رسم المصحف إلى فترات أقدم من تاريخ نسخ المصاحف.
ونستطيع أن نلخص هذه الاتجاهات فيما يأتي:
1-
تعليل بعض ظواهر الرسم بعلل لغوية أو نحوية:
مثل: تعليل رسم الألف ياء للإمالة، ورسم الهمزة بأحد حروف العلة الثلاثة للتسهيل، أو زيادة تلك الحروف في بعض الأحيان للفرق، أو حذفها للتخفيف.
ومثل تعليل وصل بعض الكلمات للإدغام، أو كتابة تاء التأنيث في بعض الأسماء مبسوطة على اللفظ، وأهل هذا الاتجاه يحاولون بذلك ربط هذه الظواهر الكتابية بالظواهر الصوتية للغة.
وقد عبَّر الداني1 عن هذا الاتجاه بقوله: "وليس شيء من الرسم ولا من النقط2 اصطلح عليه السلف -رضوان الله عليهم، إلّا وقد حاولوا به وجهًا من الصحة والصواب، وقصدوا به طريقًا من اللغة والقياس، لموقعهم من العلم، ومكانهم من الفصاحة، علم ذلك من علمه، وجهله من جهله، والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم".
1 المحكم ص196.
2 ظهر النقط في المصحف بعد الكتبة الأولى للمصاحف بزمن يسير -كما سيأتي بيانه في مبحث آخر.
2-
حَمْلُ تلك الظواهر على خطأ الكاتب:
وأهل هذا الاتجاه ينسبون الخطأ لخيرة الكُتَّاب من الصحابة؛ لأنهم لم يجدوا لهذا الرسم المخالف للقواعد الإملائية في بعض ظواهره تعليلًا لغويًّا تركن إليه أنفسهم، وتطمئن به قلوبهم.
وقد اعتمدوا في ذلك على آثار لا حجة لهم فيها فيما أرى، منها:
ما رواه أبو عبيد في فضائل القرآن بإسناده عن عكرمة أنه قال: "لما كُتِبَت المصاحف عُرِضَت على عثمان، فوجد فيها حروفًا من اللحن، فقال: لا تغيِّروها، فإن العرب ستغيِّرها -أو قال: ستعرّبها- بألسنتها، لو أن الكاتب من ثقيف والمملي من هذيل لم توجد فيه هذه الحروف".
ومنها ما أخرجه الفرَّاء وأبو عبيد وابن أبي داود، والداني عن أبي معاوية الضرير، عن هشام بن عروة بن الزبير عن أبيه أنه قال: "سألت عائشة عن لحن القرآن عن قوله تعالى: {إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَان} .
وعن قوله تعالى: {وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاة} .
وعن قوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ} .
فقالت: يا ابن أختي، هذا عمل الكُتَّاب أخطأوا في الكتاب".
قال الأستاذ قدوري في "رسم المصحف"1: "وقد تحدَّث العلماء عن هذه الأخبار، وما قِيلَ في معناها، فضعَّف بعضهم روايتها، وردَّها لذلك، وتأوَّل بعضهم ما ورد فيها من معنى الخطأ واللحن.
يقول السيوطي: وهذه الآثار مشكلة جدًّا، وكيف يظن بالصحابة أولًا أنهم يلحنون في الكلام فضلًا عن القرآن وهم الفصحاء اللُّذُّ2.
ثم كيف يُظَنُّ بهم ثانيًا في القرآن الذي تلقَّوْه من النبي صلى الله عليه وسلم كما أنزل وحفظوه وضبطوه وأتقنوه!
ثم كيف يظن بهم ثالثًا اجتماعهم كلهم على الخطأ وكتابته!
ثم كيف يظن بهم رابعًا عدم تنبههم ورجوعهم عنه!
ثم كيف يظن بعثمان أنه ينهى عن تغييره!
ثم كيف يظن أن القراءة استمرَّت على مقتضى ذلك الخطأ وهو مروي بالتواتر خلفًا عن سلف!
1 ص214 وما بعدها.
2 اللذ -بتشديد اللام وفتحها: الطيب الحديث، والجمع بضم اللام.
هذا مما يستحيل عقلًا وشرعًا وعادة.
…
وقد ردَّ أبو بكر الأنباري الأخبار المرويَّة عن عثمان بن عفان في ذلك -كما ينقل السيوطي- وهي عنده "لا تقوم بها حجة؛ لأنها منقطعة غير متصلة".
كذلك هو ينفي أن يكون معنى قوله: "أرى فيه لحنًا" أرى في خطه لحنًا، إذا أقمناه بألسنتا كان لحن الخط غير مفسد، ولا محرف من جهة تحريف الألفاظ، وإفساد الإعراب، لأن الخط منبئ عن النطق، فمَنْ لحن في كتبه فهو لاحن في نطقه، ولم يكن عثمان ليؤخِّر فسادًا في هجاء ألفاظ القرآن من جهة كتب ولا نطق.
ونقل السيوطي أيضًا رأي ابن أشتة في الأخبار المروية عن عثمان، وما يذهب إليه في توجيهها، فيروي أنه قال: لعلَّ من روى تلك الآثار السابقة عنه حرَّفَها ولم يتقن اللفظ الذي صدر عن عثمان، فلزم منه ما لزم من الإشكال، فهذا أقوى ما يجاب عن ذلك.
ويقول السيوطي: إن تلك الأجوبة لا يصلح منها شيء في الإجابة عن حديث عائشة، ثم ينقل ما قاله ابن أشتة في ذلك، وتبعه فيه ابن جبارة "أحمد بن محمد المقدسي ت728هـ" في شرح الرائية، بأن معنى قولها:"أخطأوا"، أي: في اختيار الأَوْلَى من الأحْرُف السبعة لجمع الناس عليه، لا أن الذي كتبوا من ذلك خطأ لا يجوز.
وتناول أبو عمرو الداني تلك الأخبار بالنقد والتوجيه، فقال عن الخبر الذي يروى عن عثمان:"هذا الخبر عندنا لا تقوم بمثله حجة، ولا يصح به دليل من جهتين".
إحداهما: أنه مع تخليط في إسناده واضطراب في ألفاظه مرسَل؛ لأن ابن يعمر وعكرمة لم يسمعها من عثمان شيئًا ولا رأياه، وأيضًا، فإن ظاهر ألفاظه ينفي وروده عن عثمان رضي الله عنه لما فيه من الطَّعن عليه من محله من الدين، ومكانه من الإسلام، وشدة اجتهاده في بذل النصيحة، واهتباله بما فيه الصلاح للأمة".
ثم يوجه معنى اللحن في الخبر -لو صحَّ- بأن المراد به التلاوة دون الرسم، إذ كان كثير منه لو تُلِيَ على حال رسمه لانقلب بذلك معنى التلاوة، وتغيَّرت ألفاظها من مثل:"أو لا أذبحنه" وما شاكله.
ويرى الداني في قول عثمان رضي الله عنه في آخر هذا الخبر: "لو كان الكاتب من ثقيف، والمملي من هذيل لم توجد فيه هذه الحروف"، أن معناه: لم توجد فيه مرسومة بتلك الصور المبنية على المعاني دون الألفاظ المخالفة لذلك، إذ كانت قريش ومن ولي نسخ المصاحف من غيرها قد استعملوا ذلك في كثير من الكتابة، وسلكوا فيها تلك الطريقة، ولم تكن ثقيف وهذيل مع فصاحتهما يستعملان ذلك، فلو أنهما وليتا من أمر المصاحف ما وليه من تقدَّم من المهاجرين والأنصار لرسمتا جميع تلك الحروف على حال استقرارها في اللفظ، ووجودها في المنطق دون المعاني والوجوه، إذ أن ذلك هو المعهود عندهما، والذي جرى عليه استعمالها.
وتحدَّث الداني عن الخبر المروي عن أم المؤمنين عائشة وقال في تأويله: إن عروة لم يسأل عن حروف الرسم التي تزاد وتنقص، وإنما سألها عن حروف القراءة المختلفة الألفاظ، المحتمِلَة الوجوه على اختلاف اللغات، مما أذن الله عز وجل في القراءة به، ومن ثَمَّ فليس ما جاء في الخبر من الخطأ أو اللحن بداخل في معنى المرسوم، ولا هو من سببه في شيء، وإنما سَمَّى عروة ذلك لحنًا، وأطلقت عائشة على مرسومه الخطأ على جهة الاتساع في الأخبار، وطريق المجاز في العبارة" أ. هـ.
وممن صرَّح بخطأ الكُتَّاب في بعض ما كتبوا ابن قتيبة، فقد قال بعد أن ذكر من الحروف ما يخالف لفظها كتابتها: "وليست تخلو هذه الحروف من أن تكون على مذهبٍ من مذاهب أهل الإعراب فيها، أو أن تكون غلطًا من الكاتب، كما ذكرت عائشة رضي الله عنها.
فإذا كانت على مذاهب النحويين فليس ههنا لحن بحمد الله.
وإن كانت خطأ في الكتاب، فليس على رسوله صلى الله عليه وسلم جناية الكاتب في الخط.
ولو كان هذا عيبًا يرجع على القرآن لرجع عليه كل خطأ وقع في كتابة المصحف من طريق التهجي، فقد كُتِبَ في الإمام:"إن هذان لساحران" بحذف ألف التثنية.
وكذلك ألف التثنية تحذف في هجاء هذا المصحف في كل مكان، مثل:"قال رجلن" و "آخرن يقومان مقامهما".
وكتب كتاب المصحف: الصلوة، والزكوة، والحيوية، بالواو، واتبعناهم في هذه الحروف خاصَّة على التيمن بهم.
ونحن لا نكتب "القطاة، والقناة، والفلاة" إلّا بالألف، ولا فرق بين تلك الحروف وبين هذه.
وكتبوا "الربو" بالواو، وكتبوا "فمال الذين كفروا" فمال بلام منفردة.
وكتبوا "ولقد جاءك من نبأي المرسلين" بالياء "أو من وراءي حجاب" بالياء في الحرفين جميعًا، كأنهما مضافان، ولا ياء فيهما، إنما هي مكسورة.
وكتبوا "أم لهم شركوا" و"فقال الضُعَفَؤُا" بواو، ولا ألف قبلها.
وكتبوا: "أو أن نفعل أموالنا ما نشاؤ" بواو بعد الألف، وفي موضع آخر "ما نشاء" بغير واو، ولا فرق بينهما.
وكتبوا "أو لا أذبحنه أو ليأتيتي بسلطان مبين" بزيادة ألف.
وكذلك "ولا أوضعوا خلالكم" بزيادة ألف بعد لام ألف.
وهذا أكثر في المصحف من أن نستقصيه"1.
فأنت ترى أنه قد ردَّ مخالفة الرسم للخط الهجائي إلى أحد احتمالين: إما أن تكون على مذهب من مذاهب أهل الإعراب فيها، أو تكون غلطًا من الكاتب.
فهو يجوز الغلط على الصحابة في كتابة المصحف، والغلط جائز على غير المعصوم صلى الله عليه وسلم، لكنه بعيد أن يخطئ هؤلاء الأخيار في كتابة كلام الله عز وجل، فلا بُدَّ أن يكون لكتابتهم المصاحف على هذا الرسم حِكَمٌ خفيت علينا، أو خفي بعضها وعُلِمَ بعضها.
1 تأويل مشكل القرآن ص56-58.
وكان ابن خلدون "ت 808هـ" أهم من ادعى بعد ابن قتيبة دعوى وقوع الغلط من الصحابة حيث رسموا المصاحف.
وهو يبني مذهبه على أن أهل الحجاز أخذوا الكتابة من حِمْيَر -وهو ما ينفيه البحث الحديث- إلّا أنهم لم يكونوا مجيدين لها شأن الصنائع إذا وقعت بالبدو.
ثم يقول: فكان الخط العربي لأول الإسلام غير بالغ إلى الغاية من الإحكام والإتقان والإجادة، ولا إلى التوسُّط؛ لمكان العرب من البداوة والتوحش، وبعدهم عن الصنائع، وانظر ما وقع لأجل ذلك في رسمهم المصحف؛ حيث رسمه الصحابة بخطوطهم، وكانت غير مستحكمة في الإجادة، خالف الكثير من رسومهم ما اقتضته رسوم صناعة الخط عند أهلها، ثم اقتفى التابعون من السلف رسمهم فيها تبرُّكًا بما رسمه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخير الخلق من بعده المتلقون لوحيه من كتاب الله وكلامه، كما يقتفي لهذا العهد خطَّ ولي أو عالم تبرُّكًا، ويتبع رسمه خطأ أو صوابًا، وأين نسبه ذلك من الصحابة فيما كتبوه، فاتبع ذلك، وأثبت رسمًا، ونبه العلماء بالرسم على مواضعه.
ثم يقول أيضًا: ولا تلتفتن في ذلك إلى ما يزعمه بعض المغفَّلين من أنهم كانوا محكمين لصناعة الخط، وأن ما يتخيل من مخالفة خطوطهم لأصول الرسم ليس كما يتخيل، بل لكلها وجه، ويقولون في مثل زيادة الألف في "لا أذبحنه": إنه تنبيه على أن الذبح لم يقع، وفي زيادة الياء في "بأييد": تنبيه على كمال القدرة الربانية، وأمثال ذلك مما لا أصل له إلّا التحكُّم المحض، وما حملهم على ذلك إلّا اعتقادهم أن في ذلك تنزيهًا للصحابة عن توهُّم النقص في قلة إجادة الخطِّ، وحسبوا أن الخط كمال فنزهوهم عن نقصه، ونسبوا إليهم الكمال بإجادته، وطلبوا تعليل ما خالف الإجادة من رسمه، وذلك ليس بصحيح.
ثم يستمرُّ ابن خلدون في بيان أن الخط ليس بكمالٍ في حق الصحابة؛ لأن