الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وذكر بعضها وفنَّدها، فراجعه إن شئت.
وقد تحصل ما تقدَّمَ أن النَّسْخَ ينقسم إلى أربعة أقسام:
الأول: نسخ القرآن بالقرآن.
الثاني: نسخ السنة بالقرآن.
والثالث: نسخ القرآن بالسنة.
والرابع: نسخ السنة بالسنة.
وقد بسطنا القول في الأول، لأنه واقع في مجال بحثنا، مكين في موضوع كتابنا هذا، وأوجزنا القول في الأقسام الباقية؛ لأن محلها كتب الأصول كما أشرنا من قبل، ولم يبق لنا من عناصر هذا المبحث إلا بيان الحكمة من النَّسْخِ، وفيما يلي بيانها:
حكمة الله في النسخ:
بعد أن عرفنا مفهوم النَّسْخِ في اللغة والشرع، وعرفنا حكمه وأدلته، وأركانه وشروطه، وما إلى ذلك، أرى أن أختم هذا البحث ببيان الحكمة من النَّسْخِ وإنها لعظيمة، عرفنا شيئًا منها فآمنَّا به، وخفي منه الكثير فسلَّمْنَا بجهلنا فيه.
ولسنا مكلَّفين بمعرفة الحكمة من كل تشريع، وإن كان البحث عنها من ملح العلم، ومما يزيد القلب طمأنينة بسلامة هذا التشريع، وخلوه من التناقض والاختلاف، والخلل والانحراف، وصلاحيته لكل الناس في جميع العصور على السواء.
أقول: إن شريعة الإسلام نَسَخَت جميع الشرائع؛ لأنه جاء بتشريع وافٍ قد اكتملت فيه أسباب الهداية، واشتملت أحكامه جميع متطلبات الحياة، فلم يَعُدْ للتشريعات السابقة ما يستدعي بقاءها معه بحالٍ، فقد تقلَّب الإنسان في أطوار شتَّى، فكان لكل طور منها تشريع يخصه ويلائمه، حتى انتهى العالم
إلى وقت كانت فيه حاجتهم ماسة إلى شريعة جامعة لأصول الشرائع كلها، تعدِّل المسار وتصحِّح المعتقد، وترد الناس إلى فطرتهم التي فطرهم الله عليها.
فكان أن بعث الله محمدًا عليه الصلاة والسلام بهذا الدين الحنيف الذي ختم به الأديان، وأقام به الحجة على عباده، وألزم جميع المكلَّفين باعتناقه والعمل بشرعه، وترك ما لم يوافقه من الشرائع السابقة؛ فإنَّ فيها ما كان صالحًا لهم ولنا، وفيها ما كان صالحًا لهم قبل مجيء شرعنا الحنيف، غير ملائم لهم ولا لنا في شرعنا -كما عرفت.
فجاءت هذه الشريعة الغرَّاء إلى الناس تمشي على مهل متألفة لهم، متلطفة في دعوتهم، متدرجة بهم إلى الكمال رويدًا، صاعدة بهم في مدارج الرقي شيئًا فشيئًا، منتهزة فرصة الألف والمران والأحداث الجادة عليهم؛ لتسير بهم من الأسهل إلى السهل، ومن السهل إلى الصعب، ومن الصعب إلى الأصعب، حتى تمَّ الأمر، ونجح الإسلام نجاحًا لم يُعْرَفْ مثله في سرعته، وامتزاج النفوس به، ونهضة البشرية بسببه.
أو تسير بهم من الأصعب إلى الصعب، ومن الصعب إلى السهل، ومن السهل إلى الأسهل ترفيهًا عنهم، وإظهارًا لفضل الله عليهم ورحمته بهم، وفي ذلك إغراء لهم على المبالغة في شكره وتمجيده، وتحبيب لهم فيه وفي دينه.
أو تسير بهم من تكليف إلى تكليف آخر مساوٍ له؛ لابتلائهم وامتحان قلوبهم، فتظهر طاعة المطيع وعصيان العاصي.
فالنَّسْخُ نوع من التدرج في التشريع، روعي فيه مصالح العباد في العاجل والآجل؛ فإن من الأمور التكليفية ما يصلح في وقت دون وقت، وفي حال دون حال، فأخذ الله عباده بالحكمة، فوضع لهم من التشريعات ما يناسبهم على اختلاف درجاتهم وبيئاتهم وأحوالهم.
والنَّسْخُ وسيلة من أعظم الوسائل التربوية في وقت كان الناس فيه يعانون من انحلالٍ خلقي واجتماعي يصعب عليهم التخلُّص منه دفعة واحدة، كما يصعب عليهم أن يتحمَّلوا في بداية أمرهم بالإسلام جميع التكاليف التي أناطها بهم.
ولم يكن من الحكمة أخذهم بالشدَّة والعنف في وقت كانوا فيه في ضلالة عمياء، وجهالة، وتعلق شديد بعبادات سيئة، وتقاليد بالية، ومعتقدات فاسدة، وهم على ما هو عليه من العصبية القبلية، والحمية الجاهلية، والفكر المحدود، فكان النَّسْخُ في بعض الأحكام الشرعية العملية معالجة لتلك النفوس الجامحة، حتى تتخلص من أوزارها، وتتجه إلى طاعة ربها في أوامره السهلة والصعبة على السواء، متقلِّبة بين الصبر والشكر، راضية بما كتبه الله عليها من الفرائض والواجبات.
هذه هي الحكمة العامة من وجود النسخ في شريعة الإسلام بوجه عام، والله الهادي إلى سواء السبيل.