المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الخاصة الثانية: دقة التصوير - دراسات في علوم القرآن - محمد بكر إسماعيل

[محمد بكر إسماعيل]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة:

- ‌المبحث الأول: معنى علوم القرآن

- ‌المبحث الثاني: نشأة علوم القرآن وتطورها

- ‌المبحث الثالث: أسماء القرآن

- ‌المبحث الرابع: الفرق بين القرآن والحديث القدسي والنبوي

- ‌المبحث الخامس: تنزلات القرآن

- ‌المبحث السادس: تنجيم القرآن

- ‌المبحث السابع: أول ما نزل من القرآن وآخر ما نزل

- ‌مدخل

- ‌أول ما نزل بإطلاق:

- ‌آخر ما نزل:

- ‌المبحث الثامن: جهات نزول القرآن

- ‌المبحث التاسع: المكي والمدني

- ‌مدخل

- ‌ضوابط كلية لتمييز المكي من المدني:

- ‌مقاصد المكي

- ‌فائدة العلم بالمكي والمدني:

- ‌المبحث العاشر: آيات القرآن وترتيبها

- ‌معنى الآية

- ‌طريق معرفة الآي:

- ‌سبب الخلاف في عد الآي:

- ‌ترتيب الآي:

- ‌المبحث الحادي عشر: سور القرآن وترتيبها

- ‌تعريف السورة

- ‌حكمة تسوير القرآن:

- ‌تقسيم السور بحسب الطول والقصر:

- ‌أسماء السور:

- ‌ترتيب السور:

- ‌المبحث الثاني عشر: عدد سور القرآن وآياته وكلماته وحروفه

- ‌المبحث الثالث عشر: نزول القرآن على سبعة آحرف

- ‌مدخل

- ‌بعض ما ورد في ذلك:

- ‌الأصول المستفادة من هذه الأحاديث:

- ‌بعض الأقوال في معنى الأحرف:

- ‌المبحث الرابع عشر: القراءات والقراء

- ‌مدخل

- ‌تعريف القراءات:

- ‌الحكمة من تعدد القراءات:

- ‌نشأة علم القراءات:

- ‌أقسام القراءات باعتبار السند:

- ‌ضوابط قبول القراءات:

- ‌هل التواتر شرط في صحة القراءة:

- ‌المبحث الخامس عشر: جمع القرآن في الصدور والسطور

- ‌مدخل

- ‌جمعه في عصر النبي صلى الله عليه وسلم:

- ‌جَمْعُه في عهد الصديق رضي الله عنه:

- ‌جمعه في عهد عثمان:

- ‌خطة عثمان في نسخ المصاحف:

- ‌عدد ما نُسِخَ من المصاحف:

- ‌مصير مصحف حفصة:

- ‌حكم تحريق المصاحف:

- ‌المبحث السادس عشر: رسم المصحف

- ‌مدخل

- ‌العلاقة بين الخط الإملائي والمصحفي:

- ‌عناية العلماء بالرسم العثماني وأشهر المؤلفات فيه:

- ‌المصحف العثماني والأحرف السبعة:

- ‌موقف السلف من كتابة المصاحف بغير الرسم العثماني:

- ‌موقف السلف من تفسير ظواهر الرسم

- ‌مدخل

- ‌ تعليل بعض ظواهر الرسم بعلل لغوية أو نحوية:

- ‌ حَمْلُ تلك الظواهر على خطأ الكاتب:

- ‌ اختلاف الرسم لاختلاف المعنى:

- ‌ تفسير الزيادة والحذف باحتمال القراءات:

- ‌ الرسم بُنِيَ على حكمة ذهبت بذهاب كتبته:

- ‌الخلاصة

- ‌مدخل

- ‌قواعد رسم المصحف:

- ‌قاعدة الحذف:

- ‌قاعدة الزيادة:

- ‌قاعدة الهمز:

- ‌قاعدة البدل:

- ‌قاعدة الوصل والفصل:

- ‌مزايا الرسم العثماني وفوائده:

- ‌المبحث السابع عشر: نقط المصاحف وشكلها وتجزئتها وتحسينها

- ‌مدخل

- ‌دواعي النقط والشكل:

- ‌حكم نقط المصحف وشكله:

- ‌حكم تجزئته وتحسين خطه:

- ‌المبحث الثامن عشر: أسباب النزول

- ‌مدخل

- ‌تعريف سبب النزول:

- ‌طرق معرفة أسباب النزول:

- ‌الصيغة التي يُعْرَف بها سبب النزول:

- ‌تعدُّد الروايات في سبب النزول:

- ‌الخلاصة

- ‌مدخل

- ‌تعدُّد النازل والسبب واحد:

- ‌أقسام السبب:

- ‌العبرة بعموم اللفظ أم بخصوص المسبب

- ‌الرد على السيوطي في هذه المسألة:

- ‌فوائد العلم بأسباب النزول:

- ‌المبحث التاسع عشر: معرفة المحكم من المتشابه

- ‌مدخل

- ‌معنى الإحكام والتشابه في اللغة:

- ‌معنى الإحكام والتشابه في الاصطلاح:

- ‌الراجح:

- ‌ما يقع فيه التشابه:

- ‌الحكمة من وجود المتشابه في القرآن بوجه عام:

- ‌المبحث العشرون: حكم الآيات المتشابهات الواردة في الصفات

- ‌مدخل

- ‌آيات الصفات بين التفويض والتأويل:

- ‌التأويل المحمود والتأويل المذموم:

- ‌المبحث الحادي والعشرون: الحروف المقطعة في فواتح السور

- ‌مدخل

- ‌المبحث الثاني والعشرون: العام والخاص

- ‌تعريف العام والخاص

- ‌صيغ العموم:

- ‌دلالة العام:

- ‌أنواع العام:

- ‌الفرق بين العام المطلق والعام الذي أريد به الخصوص:

- ‌أقسام التخصيص:

- ‌المبحث الثالث والعشرون: المطلق والمقيد

- ‌تعريف المطلق والمقيد

- ‌حكم حمل المطلق على المقيد:

- ‌المبحث الرابع والعشرون: المجمل والمبين

- ‌تعريف المجمل والمبين

- ‌أسباب الإجمال:

- ‌أقسام المجمَل:

- ‌أقسام المبيِّن:

- ‌حكم المجمَل:

- ‌المبحث الخامس والعشرون: المشترك اللفظي

- ‌تعريفه

- ‌أسباب وجوده في اللغة:

- ‌حكمه:

- ‌المبحث السادس والعشرون: النسخ في القرآن والسنة

- ‌مدخل

- ‌مفهوم النَّسْخِ في اللغة:

- ‌مفهوم النَّسْخِ في الشرع:

- ‌أدلة جواز النَّسْخِ:

- ‌ما يقع فيه النَّسْخُ:

- ‌أنواع النسخ

- ‌الأول: ما نسخت تلاوته وبقى حكمه

- ‌الثاني: ما نُسِخَ حكمه وبقيت تلاوته

- ‌الثالث: نَسْخُ الحكم والتلاوة

- ‌النَّسْخُ إلى بدل، وإلى غير بدل:

- ‌حسم الخلاف:

- ‌النَّسْخُ إلى الأخفِّ والمساوي والأثقل:

- ‌طرق معرفة الناسخ والمنسوخ:

- ‌سور القرآن باعتبار الناسخ والمنسوخ:

- ‌السيوطي وآيات النسخ:

- ‌نسخ القرآن بالسنة:

- ‌نسخ السنة بالقرآن:

- ‌نسخ السنة بالسنة:

- ‌حكمة الله في النسخ:

- ‌المبحث السابع والعشرون: أمثال القرآن

- ‌مدخل

- ‌تعريف المثل في اللغة:

- ‌تعريفه عند الأدباء:

- ‌تعريفه عند علماء البيان:

- ‌تعريف المثل القرآني:

- ‌أنواع المثل القرآني:

- ‌خصائص المثل القرآني وسماته البلاغية:

- ‌مقاصد الأمثال القرآنية ومواطن العبرة فيها

- ‌المبحث الثامن والعشرون: أسلوب القس في القرآن الكريم

- ‌المقسم به

- ‌المقسَمُ عليه:

- ‌أدوات القسم:

- ‌مقاصد القسم ومواطن العبرة فيه:

- ‌وجه المناسبة بين المقسم به والمقسم عليه

- ‌الفرق بين القسم والحلف:

- ‌المبحث التاسع والعشرون: خصائص أسلوب القرآن

- ‌مدخل

- ‌الخاصة الأولى: جمال التعبير

- ‌الخاصة الثانية: دقة التصوير

- ‌الخاصة الثالثة: قوة التأثير

- ‌الخاصة الرابعة: براعته في تصريف القول، وثروته في أفانين الكلام:

- ‌المبحث الثلاثون: إعجاز القرآن

- ‌مدخل

- ‌تعريفه:

- ‌عناية العلماء به:

- ‌أهم المؤلفات فيه:

- ‌وجوه الإعجاز

- ‌الوجه الأول: لغته وأسلوبه

- ‌الوجه الثاني: طريقة تأليفه

- ‌الوجه الثالث: بلاغته

- ‌الوجه الرابع: تأثيره في القلوب

- ‌الوجه الخامس: علومه ومعارفه

- ‌الوجه السادس: إنه شيء لا يمكن التعبير عنه

- ‌الوجه السابع: أنه معجز لأنه معجز

- ‌الخلاصة والتحقيق

- ‌مدخل

- ‌القول بالصرفة:

- ‌القدر المعجز منه:

- ‌المراجع:

- ‌الفهرس:

الفصل: ‌الخاصة الثانية: دقة التصوير

من أوضاع الكلام منقول، وكأنه بيَّنَها على حَدِّ قول بعض الأدباء "وضع مرتجل" لا ترى سابقًا جاء بمثاله، ولا لاحقًا طُبِعَ على غراره، فلو أن آية منه جاءتك في جمهرة من أقوال البلغاء على مكانها، واستمازت من بينها، كما يستميز اللحن الحسَّاس بين ضروب الألحان، أو الفاكهة الجديدة بين ألوان الطعام"1.

وهذا مطلب له دليله، وإجمال له تفصيله، ومحل ذلك مبحث الإعجاز.

1 أ. هـ بتصرف يسير من كتاب "النبأ العظيم" للشيخ محمد عبد الله دراز ص85-87.

ص: 332

‌الخاصة الثانية: دقة التصوير

ومع جمال التعبير تكون دقة التصوير، وهي نوع آخر من أنواع الجمال الفني المعجِز الذي تتيه فيه عقول البلغاء في كل زمان ومكان.

فالقرآن الكريم يبرز المعاني المعقولة في صور محسَّة منتزَعَة من الواقع المشاهَد، مؤتلفة ائتلافًا عجيبًا في قوالب كلية متحركة، تشعر فيها بالأصوات والألوان والحركات، مما يجعلك تعيش مع الواقع الذي تصوره لك هذه التشبيهات والاستعارت والكنايات، المسبوكة سبكًا فريدًا يأخذ بمجامع القلوب، ويملك على الإنسان حسَّه ومشاعره، فلا يحتاج إلى مزيد تصوير للحقائق التي يذكرها القرآن في ثنايا هذه اللوحات البارعة البديعة في عناصرها، وائتلافها وانسجامها مع معانيها ومراميها.

إنها تشبيهات واستعارات وكنايات حيوية، تستمد حيوتها من الطبيعة في أسمى مظاهرها وأبهج مناظرها، فكانت خالدة على مرِّ الزمان، لا يمسها وهَنٌ، ولا يعتريها ضَعْفٌ، ولا يطويها نسيان، تمثل في الذهن، فلا تفارقه، وتكمنُ في القلب فلا تغادره، وذلك لما تتميز به من السمات البلاغية التي ينقِّب عنها الأدباء والبلغاء، فلا يجدون منتهى يقفون عنده حتى يكون هذا المنتهى هو المبتدى، فيعودون في التنقيب على بدء، وهكذا إلى أن يشاء الله.

ومن سماته التي اكتشفوها بالاستقراء والتتبُّع لهذه الصور البيانية أنها تصوِّر الغائب حتى يصبح حاضرًا، وتقرِّب البعيد النائي حتى يصير قريبًا دانيًا.

ص: 332

ومن سماتها إنها تتغلغل في النفس البشرية حتى تصير جزءًا من كيانها الروحي.

فإذا ما تدبَّر المؤمن البصير هذه الصور المنتزعة من الواقع المشاهَد كما قلنا، وتفاعل معها وانفعل بها، وهضم معانيها، جرت هذه المعاني في عروق روحه مجرى الدم في عروق بدنه، فنمت وسمت إلى آفاق رحبة من العلم والمعرفة واليقين.

ومن سماتها أيضًا التلوين في التشبيهات، فكثيرًا ما يكون المشبَّه واحدًا والمشبَّه به شيئان فأكثر، تثبيتًا للمعاني المرادة، وتعميقًا لآثارها في النفس.

ومن ذلك ما شبَّه الله به حال المنافقين في سورة البقرة، بقوله -جل شأنه:{مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ، صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ، أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ، يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} 1.

والتشبيه الأول ناري والثاني مائي، والمشبَّه فيهما المنافقون، والمشبَّه به أمور كثيرة مؤتلفة لا ينفك بعضها عن بعض، والصور فيهما كلية متزاحمة في نسق فريد، لإبراز أحوال هؤلاء المنافقين إبرازًا لا تخفى معه حقيقة من حقائقهم، ولا خفيَّة من خفاياهم، فقد أخرجت لنا ما كان يدور في خلجات نفوسهم من شرٍّ أرادوا به المسلمين، وما كانت تنطوي عليه ضمائرهم من خبث ومكر ودهاء، وكشف لنا بجلاء عن عاقبة أمرهم في الدنيا والآخرة.

فهي في إدعائهم الإيمان كمن أوقد لنفسه نارًا لينتفع بها، وفي إخفائهم الكفر يكون مثلهم كمثل من لم ينتفع بالنار التي أوقدها، أو أوقدت له، فالمنافقون قد أظهروا الإيمان حمايةً لأنفسهم وأموالهم، ولتكون لهم مثل ما للمؤمنين من الحقوق العامة في الغنيمة، والزكاة، وغيرها.

1 آية: 17-20.

ص: 333

لكنهم بكفرهم الذي أخفَوْه فأظهره الله في محكَم آياته فقدوا الانتفاع والتمتُّع بهذه الحقوق الدنيوية، وفقدوا أيضًا ثواب الآخرة، وحُرِمُوا نور الله الذي أوقدته في قلوبهم فطرة الله التي فطرهم عليها، وأوقده لهم نبيهم بما كان يتلوه عليهم من قرآن.

وهم في تخوّفهم من أن يفتضح أمرهم، واحتيالهم في إخفاء كفرهم، وإفسادهم في الأرض، ومداهنتهم المؤمنين تارة، وطاعتهم لشياطينهم من الجن والإنس تارة أخرى؛ كمثل أهل الصيب الذين يكونون في أمسِّ الحاجة إليه، فينزل عليهم مصحوبًا برعد وبرق، وظلمات بعضها فوق بعض، فهم يطمعون في الغيث، ولكنهم يخشون ما يصحبه من رعد وبرق وظلمة، يحاولون أن يتجاهلوه بوضع أناملهم في آذانهم توقيًا من الموت فزعًا وهلعًا، ولكن دون جدوى، فالله محيط بهم وبأمثالهم.

ومثلهم في ترددهم في شأن الإيمان، وحيرتهم بين إرضاء إخوانهم من اليهود والمشركين، لنَيْل ما في أيدي كليهما من المنافع العاجلة، مثلهم في ذلك كمثل من يمشي في ظلمة حالكة، لا يبصر تحت قدميه شيئًا، فيبرق البرق، فيمشي على ضوئه هنيهة، فإذا ذهب البرق -وسرعان ما يذهب- وقف كما هو، لا يقدِّمُ رجلًا ولا يؤخِّر أخرى، فقد بلغ به الأمر أقصى درجات الخطر، فأفقده القدرة على مجرد التفكير في الذهاب والإياب.

وفي هذين المثلين وجوه من التشبيه لا تكاد تنحصر، فهي تختلف بحسب حال الممثَّل له في جميع مواطنه وشتَّى عصوره، بحيث لو أجرى كل مثل من هذين المثلين على قوم من المنافقين في أي عصر، وأي مكان، لطابق المشبَّه المشبَّه به، وطابق الاسم المسَمَّى.

ومن عجيب أمر الأمثال في القرآن الكريم أنها تخلو من المبالغات التي تخرِجُ الكلام عن المعاني المرادة إلى جوٍّ من الخيال المفرِط، الذي يؤدي إلى تشتت الأذهان، وذهاب الحقائق وخلوِّ الأسلوب عن الإقناع العقلي، وإن صحبه شيء من الإمتاع العاطفي.

ص: 334

لهذا كانت تشبيهات القرآن، وأمثاله صورًا حية تعبِّر عن الواقع، لا تعدوه إلى غيره، ومع ذلك تجدها لا تخلو من الإمتاع العاطفي، والتأثير الوجداني، بما اشتملت عليه من ألوان المعاني والبيان والبديع، الذي يخلو تمامًا من التكلُّف والاعتساف، مع رقَّةٍ في النظم والحواشي والفواصل، كانت ولا تزال زادًا للبلغاء والأدباء، ومتعة عظيمة لكل ذوَّاقة لفنون الكلام البليغ في أسمى صوره، وأبهى معانيه.

وإذا كان للأمثال القرآنية هذا الجمال الفني الرائع، كان للكنايات القرآنية لون آخر من هذا الجمال المتجدِّد على مرِّ العصور، فإنها تأتي بالمعنى مصحوبًا بدليله المقنع، ويتلاشى في طيَّاتها ما نستقبح ذكره من الأقوال، وتقوم بما يقوم به التشبيه والاستعارة "وهي لون من التشبيه كما هو معروف" من إبراز المعاني والأهداف في صور محسَّة مفردة أو مركَّبة، موجبة أو سالبة، فيها تأديب وتهذيب، وترغيب وترهيب، وتنويه وتعريض، وتلميح وتمثيل، وغير ذلك من المقاصد والغايات.

يجد فيها السامع من الإقناع العقلي، والإمتاع العاطفي، ما لم يجده في غيرها من الكنايات المنتشرة في كلام الناس، هذا مع الإيجاز البليغ، والتعبير الأخَّاذ.

وكنايات القرآن منتَزعة أيضًا من الواقع المشاهَد، وأكثرها أمثال مرسَلٍة مسلمة المقدمات والنتائج عند جميع العقلاء في كل زمان ومكان، مناسِبَة لجميع الظروف والملابسات الزمنية والإنسانية، لا تبلى جدتها، ولا تبدل بغيرها، ولا يغني غناءها سواها.

وهذا أمر أسمى من أن ننبه عليه ونشير إليه.

ومن كنايات القرآن الكريم قوله تعالى في سورة المائدة: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ} 1.

1 آية: 75.

ص: 335

فالمقصود من قوله تعالى: {كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ} : هو ما يلزم عنه من إخراج الفضلات، وهو أمر يمجّ الطبع السليم ذكره، وتستهجن الآذان سماعه، فعدل عنه إلى ملزومه، وهو أكل الطعام.

والكناية هي لفظ له معنيان، أحدهما قريب غير مراد، والآخر بعيد هو المراد، لعلاقة المشابهة بين المعنيين.

فأكل الطعام يحتاج إليه لإقامة بنيته، ويحتاج أيضًا إلى إخراج فضلاته، فاكتفى سبحانه بذكر الملزوم، وأراد اللازم، أو أرادهما معًا، فاكتفى بأكل الطعام عَمَّا يلزم عنه؛ لأنه دالٌّ عليه بالضرورة.

ومن كناياته: قوله تعالى في سورة الإسراء: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا} 1.

فالمراد في هذه الآية نهي النبي صلى الله عليه وسلم وأمته عن البخل والإسراف.

فقد عبَّر سبحانه عن البخل بجعل اليد مغلولة إلى العنق، وهي صورة محسَّة منفرة بغيضة، فهذه اليد التي غُلَّت إلى العنق لا تستطيع أن تمتد بشيء إلى فقير، ولا إلى صاحب أو صديق أو ذي رحم.

وعبَّر ببسطها عن كثرة البذل إلى حدٍّ يوجب الذنب، وهو تصوير لحال هذا المبذِّر الذي لا يُبْقِي من ماله على شيء لنفسه وعياله، فاليد المبسوطة من شأنها ألّا يبقى فيها شيء.

ولما كان بسط اليد من الأمور المحمودة قيَّدَها بقوله: {كُلَّ الْبَسْطِ} .

ليبقى البسط المعقول على حاله من الوجوب المستحق للمحمدة.

والمعنى: ولا تبسطها البسط كله.

1 آية: 29.

ص: 336

ومن كناياته: قوله تعالى في سورة الفرقان: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا} 1.

فقد صوَّر حال الظالمين يوم القيامة بصورة محسَّة يراها الناظر إلى من اشتدَّ ندمه، واستفحلت مصيبته وحسرته.

ومنها قوله تعالى في سورة الكهف: {فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} 2.

فتقليب الكفَّين كناية عن الأسف والندم أيضًا، إلّا أن هذا قد وقع في الدنيا، وذاك يقع في الآخرة.

لهذا عبَّر عنه بصورة أبلغ في الدلالة على شدة التحسُّر، وهو العضُّ على الأيدي.

ومنها قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ} 3.

فانظر كيف صوَّر الله عز وجل الغيبة بأكل لحم الميتة، وأيّ ميتة؟، إنها لحم أخيه الذي نهشَ عِرضه وقال فيه ما يكره.

فقد شبَّه مَنْ ينهش أعراض الناس، بمن ينهش لحوم الأموات؛ تنفيرًا منها، وتبشيعًا لعواقبها.

"وقال ابن الأثير في "المثل السائر" في بحث الكناية:

كُنِّيَ عن الغيبة بأكل الإنسان لحم إنسان آخر مثله، ثم لم يقتصر على ذلك حتى جعله ميتًا، ثم جعل ما هو الغاية من الكراهة موصولًا بالمحبة.

1 آية: 27.

2 آية: 42.

3 الحجرات: 12.

ص: 337