الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال الخطَّابي: إنما لم يجمع صلى الله عليه وسلم القرآن في المصحف لما كان يترقَّبه من ورود ناسخ لبعض أحكامه أو تلاوته، فلمَّا انقضى نزوله بوفاته، ألهم الله الخلفاء الراشدين ذلك، وفاءً بوعده الصادق بضمان حفظه على هذه الأمة، فكان ابتداء ذلك على يد الصديق بمشورة عمر"1.
1 الإتقان ج1 ص245.
جَمْعُه في عهد الصديق رضي الله عنه:
بُويِعَ أبو بكر رضي الله عنه بالخلافة في العام الحادي عشر من الهجرة، فواجه في طريقه مشكلات جسامًا كادت تعوق مسير الدعوة، لولا عناية الله تعالى ورحمته.
كان من أهمها ارتداد كثير من العرب عن الإسلام، وخروجهم على إمام المسلمين، وتجنيد أنفسهم لمحاربته، والقضاء عليه وعلى المسلمين في المدينة وغيرها، فنهض الصديق لقتالهم بكل قوة أودعها الله فيه، وانضوى المسلمون تحت لوائه يقاتلون عدوَّ الله في كل مكان، شعارهم: احرصْ على الموت تُوهَبْ لك الحياة، واستطاع رضي الله عنه أن يُخْضِعَ المرتدين، ويهزمهم شرَّ هزيمة في كثير من المواطن، فحفِظَ بذلك للإسلام عزه ومجده وهيبته، وأنسى أولئك المرتدين وساوس أنفسهم وشياطينهم.
غير أن كثير من قراء القرآن قد قُتِلُوا في هذه المعارك، فخاف عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يضيع شيء من كتاب الله عز وجل، فأشار على أبي بكر بجمع القرآن كله مرتَّب الآيات والسور في كتاب جامع يرجع إليه المسلمون عند الاختلاف، فاستخار أبو بكر رضي الله عنه ربه بعد أناة وروية، فشرح الله صدره لذلك، فأرسل إلى زيد بن ثابت يعرض عليه هذا الأمر، ويكلفه القيام به.
روى البخاري في صحيحه عن زيد بن ثابت قال: "أرسل إليَّ أبو بكر مقتل أهل اليمامة، فإذا عمر بن الخطاب عنده، فقال أبو بكر: إن عمر أتاني فقال: إن القتل قد استحرَّ1 بقراء القرآن، وإني أخشى أن يستحرَّ التقل بالقراء
1 استحرَّ: أي اشتد.
في المواطن، فيذهب كثير من القرآن، وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن، فقلت لعمر: كيف تفعل شيئًا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم!
قال عمر: هو والله خير، فلم يزل يراجعني حتى شرح الله صدري لذلك، ورأيت في ذلك الذي رأى عمر.
قال زيد: قال أبو بكر: إنك شابٌّ عاقل، لا نتهمك، وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فتتبَّع القرآن فاجمعه -فوالله لو كلَّفُوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل عليَّ مما أمرني به من جمع القرآن- قلت: كيف تفعلان شيئًا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم!
قال: هو والله خير، فلم يزل أبو بكر يراجعني حتى شرح الله صدري للذي شرح به صدر أبي بكر وعمر، فتتبَّعتُ القرآن أجمعه من العسب واللخاف وصدور الرجال، ووجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري، لم أجدها مع غيره {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ} حتى خاتمة براءة، فكانت الصحف عند أبي بكر حتى توفاه الله، ثم عند عمر حياته، ثم عند حفصة بنت عمر".
وأخرج ابن أبي داود في المصاحف بسندٍ حسن عن عبد خير قال: سمعت عليًّا يقول: "أعظم الناس في المصاحف أجرًا أبو بكر، رحمة الله على أبي بكر، هو أول مَنْ جَمَعَ كتاب الله".
أي: أمر بجمعه في مصحف واحد مرتَّب الآيات والسور، وقد شهد الناس لزيد بن ثابت رضي الله عنه ببلوغ الغاية في التثبُّت، فقد كان يجمع القرآن من صدور الرجال ومن صحفهم، ولا يُثْبِتُ في المصحف إلّا ما كان محفوظًا في الصدور والسطور، لا يكتفي بأحدهما دون الآخر، كما اقتضته أمانته العلمية.
وقد أمره أبو بكر رضي الله عنه بذلك من باب التنبيه والتذكير، وهو يعلم أنه يراعي ذلك حتمًا، لخصالٍ حميدة تميَّزَ بها عن غيره، سنذكر بعضها فيما
أخرج ابن أبي داود من طريق يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب قال: "قدم عمر فقال: من كان تلقَّى من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا من القرآن فليأت به، وكانوا يكتبون ذلك في الصحف والألواح والعسب، وكان لا يقبل من أحد شيئًا حتى يشهد شهيدان".
وأخرج ابن أبي داود أيضًا من طريق هشام بن عروة، عن أبيه، أن أبا بكر قال لعمر ولزيد:"اقعدا على باب المسجد، فمن جاءكما بشاهدين على شيء من كتاب الله فأكتباه" ورجاله ثقات مع انقطاعه.
وهذا يدل على أن زيدًا كان لا يكتفي بمجرَّد وجدانه مكتوبًا حتى يشهد به من تلقَّاه سماعًا، مع كون زيد كان يحفظ، فكان يفعل ذلك مبالغة في الاحتياط -كما قلنا.
"قال ابن حجر: "وكأن المراد بالشاهدين: الحفظ والكتاب".
وقال السخاوي في "جمال القراء": "المراد أنهما يشهدان على أن ذلك المكتوب كُتِبَ بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو المراد أنهما يشهدان على أن ذلك من الوجوه التي نزل بها القرآن.
قال أبو شامة: "وكان غرضهم أن لا يُكْتَبَ إلّا من عين ما كَتَب بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، لا من مجرد الحفظ، ولذلك قال في آخر سورة التوبة: "لم أجدها مع غيره" أي: لم أجدها مكتوبة مع غيره؛ لأنه كان لا يكتفي بالحفظ دون الكتابة"1.
وقد عرفنا أن القرآن كان مكتوبًا من قبل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولكنه كان مفرَّقًا في الرقاع والأكتاف والعسب، فأمر أبو بكر بجمعه في مصحف واحد مرتَّب الآيات والسور، وأن تكون كتابته غاية في التثبُّت، مشتملة على الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن، فكان أبو بكر رضي الله عنه أوَّلَ من جمع القرآن بهذه الصفة في مصحف، وإن وجدت مصاحف فردية عند بعض الصحابة، كمصحف علي، ومصحف أُبَيّ، ومصحف ابن مسعود، فإنها لم
1 الإتقان ج1 ص205، 206.
تكن على هذا النحو، ولم تنلْ حظها من التحرِّي والدقة، والجمع والترتيب، والاقتصار على ما لم تنسخ تلاوته، والإجماع عليها، بمثل ما نال مصحف أبي بكر، فهذه الخصائص تميَّز بها جمع أبي بكر للقرآن، ويرى بعض العلماء أن تسمية القرآن بالمصحف نشأت منذ ذلك الحين في عهد أبي بكر بهذا الجمع.
فلم تكن إذًا كتابة القرآن الكريم أمرًا مستحدَثًا، فقد اتخذ النبي صلى الله عليه وسلم كتابًا يكتبونه، وأذن لأصحابه بكتابته، فكتبوه مفرَّقًا في الجلود والرقاع وسعف النخل، وغير ذلك مما أتيح لهم الكتابة عليه.
"وقال الحارث المحاسَبي في كتاب "فهم السنن": كتابة القرآن ليست بمحدثة، فإنه صلى الله عليه وسلم كان يأمر بكتابته، ولكنه كان مفرَّقًا في الرقاع والأكتاف والعسب، فإنما أمر الصديق بنسخها من مكان إلى مكان مجتمعًا، وكان ذلك بمنزلة أوراق وجدت في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيها القرآن منتشر، فجمعها جامع، وربطها بخيط حتى لا يضيع منها شيء، قال: فإن قيل: كيف وقعت الثقة بأصحاب الرقاع وصدور الرجال؟
قيل: لأنهم كانوا يبدون عن تأليف معجز، ونظم معروف، قد شاهدوا تلاوته من النبي صلى الله عليه وسلم عشرين سنة، فكان تزوير ما ليس منه مأمونًا، وإنما كان الخوف من ذهاب شيء من صحفه"1.
لماذا اختار الصديق زيدًا لجمع القرآن؟:
كان الصديق رضي الله عنه أعلم الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بمقادير الرجال ومواهبهم، وكان من أحرص الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم على وضع الرجل المناسب في المكان المناسب.
وكان زيد هو أنسب الناس في نظره، ونظر أكثر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لجمع القرآن؛ لما امتاز به من خصال كريمة لم تتوفَّر إلّا للقليل من أقرانه.
1 المرجع السابق.
وهذه الخصال كثيرة، نكتفي بذكر بعضها معتمدين في ذلك على ما جاء في ترجمته1.
1-
كان زيد بن ثابت بن الضحاك بن زيد الخزرجي البخاري الأنصاري من أحسن الناس إسلامًا، فقد أسلم في الحادية عشرة من عمره، فترعرع في أحضان الإسلام، وتأدَّب بأدبه، وشرب من معينه الصافي، وهو دون البلوغ، ولازم النبي صلى الله عليه وسلم فأخذ الكثير والكثير من علمه ومحاسن سيرته، فكان عبدًا ربانيًّا ينقاد لأمر الله تعالى وأمر رسوله -صلوات الله وسلامه عليه.
2-
وإنه كان من كُتَّاب الوحي، بل كان على رأسهم.
فقد قال رضي الله عنه كما روى الطبراني من طريق عبد الله بن صالح عن الليث: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أنزل عليه الوحي، بعث إلي فكتبته".
3-
وكان من الراسخين في العلم، كما قال مسروق رحمه الله.
وقد روى الأعمش عن مسلم عن مسروق عن عبد الله2 أنه كان يقول في أخوات لأب وأم، وأخوة وأخوات لأب: للأخوات للأب والأم الثلثان، فما بقي فللذكور دون الإناث.
فقدم مسروق المدينة، فسمع قول زيد فيها فأعجبه، فقال له بعض أصحابه: أتترك قول عبد الله؟
فقال: أتيت المدينة فوجدت زيد بن ثابت من الراسخين في العلم، يعني: كان زيد يشرّك بين الباقين3.
وعن ابن عباس قال: لقد علم الحافظون من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أن زيد بن ثابت من الراسخين في العلم4.
1 راجع ترجمته إن شئت التوسُع في "سير أعلام النبلاء" للذهبي ج2 ص426.
2 يعني: ابن مسعود.
3 إسناده صحيح، وهو في "تهذيب ابن عساكر" ج5 ص451، وقوله:"يشرِّك بين الباقين" أي: يسوي بينهم في القسمة.
4 تهذيب ابن عساكر ج5 ص451.
4-
وكان رضي الله عنه من أعلم الناس بالفرائض1.
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أفرض أمتي زيد بن ثابت"2.
أي: أكثرهم علمًا بالفرائض.
5-
وكان أقرأ الناس للقرآن، وأعلمهم بوجوهه.
روى عاصم عن الشعبي قال: غلب زيد الناس على اثنين: الفرائض والقرآن3.
وأخرج ابن سعد في الطبقات4، وابن عساكر في التاريخ5، عن سليمان بن يسار قال: ما كان عمر وعثمان يقدمان على زيد أحدًا في الفرائض والفتوى والقراءة والقضاء.
6-
وكان من أذكى الناس وأعقلهم -كما شهد له الصديق وغيره.
7-
وكان شابًّا يوم اختاره لجمع القرآن، والشباب قوة وعافية، وتجعل المرء قادرًا على صنع ما يعجز عنه الكثير من الشيوخ.
8-
كان رضي الله عنه من أشد الناس تثبيتًا في أمر القرآن، وتحريًا للدقة في الحفظ والكتابة.
9-
وكان زاهدًا ورعًا تقيًّا، لا يلتفت إلى الدنيا، ولا ينظر إلى ما في أيدي الناس، ولا يخشى في الله لومة لائم.
10-
وكان رضي الله عنه قد تعلَّم خطَّ اليهود بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
1 المواريث.
2 إسناده صحيح، وهو في الطبقات ج2 ص359 من طريق عفَّان بن مسلم عن وهيب بهذا الإسناد.
3 تهذيب ابن عساكر مسافة ج5 ص449.
4 ج5 ص450.
5 ج2 ص359.