الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ودفع مَنْ لمن جاءت وآية
…
نجواه كذلك قيام الليل مشتطر
وزيد آية الاستئذان من ملكت
…
وآية القسمة الفضلى لمن حضروا
ولعموم النَّفْعِ نذكر ما ذكره من هذه الآيات، مع شيء من التحليل والتوضيح، منبهين على ما قد مضى تفصيله منها.
السيوطي وآيات النسخ:
تكلَّمَ السيوطي عن اثنين وعشرين آية من الآيات التي قيل بنسخها، بعضها منسوخ حقًّا، وبعضها في نسخه مقال، وإليك هذه الآيات وما ذكره في شأنها، مع مناقشته في بعض ما ذهب إليه كما وعدناك بذلك:
1-
قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} 1.
الآية منسوخة، قيل بآية المواريث، وقيل: بحديث: "ولا وصية لوارث" 2، وقيل: بالإجماع، حكاه ابن العربي.
وقد نازعه في نسخ هذه الآية جماعة من أهل العلم، وقالوا: إنها محكمة، وهو الظاهر لي -الله أعلم بالصواب.
قال القاسميّ في محاسن التأويل3، بعد أن ذكر ما ذهب إليه السيوطي: "ذهبت طائفة إلى أن الآية محكمة لا تخالف آية المواريث، والمعنى: كتب عليكم ما أوصاكم به من توريث الوالدين والأقربين من قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُم} .
1 البقرة: 180.
2 الحديث أخرجه الترمذي في كتاب الوصايا، باب:"ما جاء في لا وصية لوارث" عن عمرو بن خارجة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب وهو يقول: "إن الله قد أعطى كل ذي حقٍّ حقَّه، فلا وصية لوارث".
3 ج3 ص411 وما بعدها.
أو كتب على المحتضر: أن يوصي للوالدين والأقربين بتوفير ما أوصى به الله لهم، وأن لا ينقص من أنصبائهم، فلا منافاة بين ثبوت الميراث للأقرباء مع ثبوت الوصية بالميراث عطية من الله تعالى، والوصية عطية ممن حضره الموت، فالوارث جُمِعَ له بين الوصية والميراث بحكم الآيتين، ولو فرض المنافاة لأمكن جعل آية الميراث مخصَّصَة لهذه الآية، بإبقاء القريب الذي لا يكون وارثًا لأجل صلة الرحم، فقد أكدَّ تعالى الإحسان إلى الأرحام وذوي القربى في غير ما آية، فتكون الوصية للأقارب الذين لا يرثون عصبة، أو ذوي رحم مفروضة.
قالوا: ونسخ وجوبها للوالدين والأقربين الوارثين لا يستلزم نسخ وجوبها في غيرهم.
وقال القاسمي تأييدًا لهذا المذهب: إن هذه الآية مع آية: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُم} متلاقيان في المعنى من حيث إن المراد بالوصية: وصية الله في إيتاء ذوي الحقوق حقوقهم، وعدم الغضِّ منها، والحذر من تبديلها، لما يلحق المبدِّل من الوعيد الشديد.
2-
قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} 1.
ذهب جمهور المفسِّرين إلى أن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} .
واعتمدوا فيما ذهبوا إليه على آثار كثيرة وردت في صحيح البخاري ومسلم ومسند أحمد.
أ- فقد روى البخاري ومسلم من حديث الزهري، عن عروة، عن عائشة أنها قالت: كان عاشوراء يُصَامُ، فلمَّا نزل فرض رمضان كان مَنْ شاء صام ومن شاء أفطر.
وروى البخاري عن ابن عمر وابن مسعود مثله.
ب- وروى أحمد في مسنده من حديث معاذ بن جبل، أن الله فرض على النبي صلى الله عليه وسلم الصيام، وعلى الصحيح المقيم من أمته، فمن شاء صام ومن شاء أطعم مسكينًا، ثم إن الله عز وجل أنزل قوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ
1 البقرة: 184.
مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} 1 فأثبت الله صيامه على المقيم الصحيح، ورخَّصَ فيه للمريض والمسافر، وثبت الإطعام للكبير الذي لا يستطيع الصيام.
لكن قد ورد ما يفيد أنها محكَمة، فقد روى البخاري في التفسير عن عطاء أنه سمع ابن عباس يقول في هذه الآية: ليست منسوخة، وهو للشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطعيان أن يصوما، فيطعمان كل يوم مسكينًا.
والصواب عندي: إنه لا تناقض بين ما قاله ابن عباس رضي الله عنهما، وما ذهب إليه الجمهور، فالنَّسْخُ ثابت في حقِّ الصحيح المقيم بإيجاب الصيام عليه، بقوله:{فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} .
وأن الشيخ الكبير الذي لا يستطيع الصوم إلّا بمشقَّة شديدة، فله أن يُفْطِرَ ويُطْعِمَ عن كل يوم مسكينًا.
وقد صحَّحَ القرطبي قول ابن عباس وقول الجمهور معًا، وجمع بينهما جمعًا أراه في غاية الحسن فقال: "قد ثبت بالأسانيد الصِّحَاح عن ابن عباس، أن الآية ليست بمنسوخة، وأنها محكَمَة في حق من ذُكِرَ.
والقول الأول: صحيح أيضًا، إلّا أنه يحتمل أن يكون النَّسْخُ هناك بمعنى التخصيص، فكثيرًا ما يُطْلِقُ المتقدِّمون النَّسْخَ بمعناه -أي: بمعنى التخصيص- والله أعلم".
ورجَّحَ الشيخ محمد عبده قول ابن عباس على قول الجمهور؛ جريًا على عادته في إنكار النَّسْخِ، وقال فيما قال: القاعدة أنه لا يُحْكَمُ بالنَّسْخِ إذا أمكن حمل القول على الإحكام.
وأقول: إن هذه القاعدة تتمشَّى مع النَّسْخِ بمعناه عند المتأخرين، وهو رفع الحكم بالكلية وإبداله بحكم آخر، ولا تتمشَّى مع النَّسْخِ بمعناه عند المتقدِّمين؛ فإن معناه عندهم واسع كما ذكرنا من قبل، فيشمل تخصيص العام، وتقييد المطلق، وغير ذلك مما سبق بيانه.
3-
قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ
1 البقرة: 185.
لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ} 1.
قيل: إن هذه الآية ناسخة لقوله: {كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} ؛ فقد روي أن شهر رمضان قد فُرِضَ على الذين من قبلنا على الوجه الذي كان مفروضًا على المسلمين قبل نزول هذه الآية الناسخة، بمعنى أنهم قد كُتِبَ عليهم أنه إذا صلَّى أحدهم العشاء ونام حُرِّمَ عليه الطعام والشراب والنساء إلى مثلها من الليلة المقبلة.
وهذا ما رواه أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس، عَمَّن حدَّثه عن ابن عمر2.
ونحن لا ندري على وجه اليقين أن الصوَّمَ قد فُرِضَ على الذين من قبلنا على هذا النحو، فيكون الأصح الذي تطمئن إليه النفس أن هذه الآية ناسخة للسُّنَّة التي كان عليها المسلمون في أول الإسلام.
فقد روى أحمد في مسنده من حديث معاذ الطويل قوله: وكانوا يأكلون ويشربون ويأتون النساء ما لم يناموا، فإذا ناموا امتنعوا، ثم إن رجلًا من الأنصار يقال له: صرمه، كان يعمل صائمًا حتى أمسى، فجاء إلى أهله فصلَّى العشاء، ثم نام فلم يأكل ولم يشرب، حتى أصبح، فأصبح صائمًا، فرآه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد جَهِدَ جهدًا شديدًا فقال:"ما لي أراك قد جهدت جهدًا شديدًا؟ " قال: يا رسول الله، إني عملت أمس، فجئت حين جئت فألقيت نفسي فنمت، فأصبحت حين أصبحت صائمًا، قال: وكان عمر قد أصاب من النساء بعدما نام، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فأنزل الله عز وجل:{أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} إلى قوله: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْل} .
وقد ذهب صاحب تفسير المنار إلى أن هذه الآية ليست منسوخة، بل هي متمِّمَة لأحكام الصوم، مبيِّنَة لما امتاز به صومنا من الرخصة التي لم تكن لمن
1 سورة البقرة: 187.
2 ذكره ابن كثير في تفسيره لقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَام} .
قبلنا، وهذا ما اختاره الأستاذ الإمام "يعني: الشيخ محمد عبده"، وقال: إذا صحَّ ما ورد في سبب النزول فهو يدل على أنه فرض الصيام كان كل إنسان يذهب في فهمه مذهبًا كما يؤديه إليه اجتهاده ويراه أحوط وأقرب إلى التقوى.
والصواب ما قاله من أعلم بكتاب الله تعالى منه ومن شيخه، وأقول له ولمن نحا نحوه في التأويل: ماذا تقولون في قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُم} أليس هذا اللفظ يقتضي إباحة ما كان محذورًا من قبل، كما هو المتبادر إلى الذهن، ويؤيد ذلك قوله في الآية:{عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ} فلو كان ما فعلوه مبنيًّا على اجتهادهم، مع عدم وجود النص القاطع بكيفية الصوم -لكانوا مأجورين على فعلهم، وما كانوا مذنبين، وما وُصِفَ فعلهم بالخيانة، وما كان للتوبة والعفو موضع.
إن أول الآية ووسطها وآخرها ينطق بالحق الذي ذهب إليه الجمهور.
والنَّسْخُ بهذه الآية رَفْعٌ للحكم السابق الذي كان معروفًا لديهم من أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم، أو أفعاله، وليس باجتهادهم كما قال صاحب المنار وشيخه، والله أعلم.
4-
قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} 1.
قال القرطبي في تفسيره: "واختلف العلماء في نسخ هذه الآية، فالجمهور على نسخها، وأن قتال المشركين في الأشهر الحرم مباح، واختلفوا في ناسخها.
فقال الزهريّ: نسخها: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّة} 2.
وقيل: نسخها غزو النبي صلى الله عليه وسلم ثقيفًا في الشهر الحرام، وإغزاؤه أبا عامر إلى أَوْطَاس في الشهر الحرام.
وقيل: نسخها بيعة الرضوان على القتال في ذي القعدة، وهذا ضعيف؛
1 سورة البقرة: 217.
2 سورة التوبة: 36.
فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما بلغه قتل عثمان بمكة، وأنهم عازمون على حربه، بايع حينئذ المسلمين على دفعهم لا على الابتداء بقتالهم.
وذكر البيهقي عن عُروة بن الزبير من غير حديث محمد بن إسحاق في أثر قصة الحضرمي: فأنزل الله عز وجل: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ} الآية. قال: فحدثهم الله في كتابه أن القتال في الشهر الحرام حرام كما كان، وأن الذي يستحلُّون من المؤمنين هو أكبر من ذلك، من صدهم عن سبيل الله حين يسجنونهم ويعذبونهم ويحبسونهم أن يهاجروا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكفرهم بالله، وصدِّهم المسلمين عن المسجد الحرام في الحج والعمرة والصلاة فيه، وإخراجهم أهل المسجد الحرام وهم سكانه من المسلمين، وفتنتهم إياهم عن الدِّين؛ فبلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم عقل ابن الحضرمي، وحرَّم الشهر الحرام كما كان يحرمه، حتى أنزل الله عز وجل:{بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} .
وكان عطاء يقول: الآية محكمة، ولا يجوز القتال في الأشهر الحرام، ويحلف على ذلك؛ لأن الآيات التي وردت بعد عامة في الأزمنة، وهذا خاص، والعام لا ينسخ الخاص باتفاق.
وروى أبو الزبير عن جابر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقاتل في الشهر الحرام إلّا أن يُغْزَى.
5-
قيل: إن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} 2، وهي متقدِّمة عليها في الترتيب مؤخَّرة عنها في النزول.
1 سورة البقرة: 240.
2 البقرة: 234.
وذهب جماعة من المفسِّرين إلى أنها محكَمَة لا نسخ فيها، وهو الراجح عندي.
وبيان ذلك: أن الآية الأولى في الترتيب فرضت على المرأة أن تعتدَّ في بيت الزوجية أربعة أشهر وعشرة أيام بلياليهنَّ، لا تخرج فيها من بيتها إلّا لحاجتها الضرورية، ولا تتزين للرجال، ولا تتعرَّض لهم من أجل الزواج، حتى تنقضي عدتها.
والآية الثانية في الترتيب نقلت حكم الآية الأولى من الوجوب إلى الندب، فصارت العدة الواجبة هي أربعة أشهر وعشرة أيام بلياليهن، والحول صار مستحبًّا لا واجبًا.
وهذا الاستحباب إما أن يكون وصيةً من الله للورثة؛ مبالغة في تكريم المرأة وإسهامًا منه في رفع المعاناة عنها، وتطيبًا لنفسها ووفاءً لزوجها، وإمَّا أن يكون وصية من الزوج قبل موته، وإمَّا أن يكون وصية من الورثة بعضهم لبعض.
وأما النفقة فليست مرفوعة بميراثها من زوجها؛ لأن هذه الوصية على سبيل الاستحباب لا على سبيل الوجوب، فآية المواريث نقلت الحكم من الوجوب إلى الاستحباب ولم ترفعه بالكلية.
ومن هنا نفهم أن النَّسْخَ في هذه الآية يُحْمَلُ على معناه الواسع الذي قال به السلف، والخلاف بين الفريقين لفظي أو اصطلاحي، ولا مشاحة في الاصطلاح، وكلٌّ من الفريقين على الصواب إن شاء الله تعالى.
ومن نظر في هاتين الآيتين وجد الأمر كما قررناه، فالآية الأولى فيها ذكر التربص وهو الانتظار والحبس عن الزواج حتى تنتهي العدة، بخلاف الآية الثانية، وبذلك تكون الآية الأولى خاصَّة بالزمن الذي لا تتعرَّض فيه المرأة إلى خطبة الأزواج، وما تبقى من الحول وهو سبعة أشهر وعشرين يومًا تكون المرأة فيه مخيَّرة بين الانتقال من بيت الزوج المتوفى والتزوج بآخر، والمكث في بيت زوجها المتوفى عنها دون أن تتزوج بآخر؛ وفاء لزوجها الأول ومبالغة في تكريمه، وعندئذ تكون أهلًا لإكرام أهل زوجها لها، واعتزازهم بوجودها بينهم.
وحيث أمكن الجمع فلماذا نعدل عنه إلى القول الذي يرتضيه قوم وينكره آخرون.
6-
قوله تعالى: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} 1.
قيل: إنها منسوخة بقوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} 2.
والأصح أنها ليست منسوخة، فالآية الثانية بيان لها؛ فقد وقع في نفوس المؤمنين أنهم سيحاسبون على كل ما يخطر في ضمائرهم من سوء، كما يحاسبون على كل ما تبديه أنفسهم من شرٍّ وإن لم يمكنهم دفعه، فبيَّن الله عز وجل في الآية الثانية أنه لا يحاسبهم إلَّا على ما يمكنهم دفعه من الخواطر؛ إذ على المؤمن أن يدفع وساوس الشيطان أولًا بأول، ولا يسمح لها أن تتحول إلى إرادة، ثم إلى عزم، ثم إلى فعل؛ عملًا بقوله تعالى:{وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ، إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} 3.
والدليل على ما ذكرناه من عدم النَّسْخِ ما رواه أحمد، ومسلم، والنسائي، وغيرهم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما نزلت هذه الآية: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} دخل قلوبهم منها شيء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"قولوا سمعنا وأطعنا وسلمنا"، قال: "فألقى الله الإيمان في قلوبهم، فأنزل:{لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} ، قال: قد فعلت. {رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} ، قال: قد فعلت. {وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} قال: قد فعلت.
واستدل القائلون بالنَّسْخِ بما رواه أحمد في مسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي
1 سورة البقرة: 284.
2 البقرة: 286.
3 الأعراف: 200-201.
وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} اشتدَّ ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم جثَوْا على الركَبِ، وقالوا: يا رسول الله، كلفنا من الأعمال ما نطيق: الصلاة والصيام والجهاد والصدقة، وقد أُنْزِلَتْ عليك هذه الآية ولا نطيقها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم: سمعنا وعصينا؟ بل قولوا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير" فلمَّا أقرَّ بها القوم وذلَّت بها ألسنتهم، أنزل الله في أثرها:{آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} 1 فلما فعلوا ذلك نسخها الله فأنزل: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} .
والمراد بالنَّسْخِ هنا من قبيل بيان المجمَلِ وتقييد المطلَق على حسب مفهوم المتقدمين من الصحابة والتابعين، لا على حسب مفهومه عند المتأخرين، فالقول بعدم النَّسْخِ أسلم.
7-
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِه} 2 قيل: إنها منسوخة بقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُم} 3.
فإن كان النَّسْخُ بمعنى بيان المجمَل وتقييد المطلَق، كما هو مفهوم المتقدمين للنَّسْخِ - فلا مانع من القول به؛ لأن الآية الثانية بيان للآية الأولى وتقييد لمطلقها، فمن المعلوم شرعًا أن الطاعة على قدر الطاقة.
وقد نقل ابن كثير عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس رضي الله عنهما في هذه الآية بأنها لم تنسخ، ولكن حقَّ تقاته أن يجاهدوا في سبيله حق جهاده، ولا تأخذهم في الله لومة لائم، ويقوموا بالقسط ولو على أنفسهم وآبائهم وأبنائهم.
1 البقرة: 285.
2 سورة آل عمران: 102.
3 سورة التغابن: 16.
8-
قوله تعالى: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا} 1.
قيل: منسوخة، وقيل: لا، ولكن تهاون الناس في العمل بها.
والأصح أنها محكمة لم تنسخ بآية المواريث كما قال بعضهم؛ وذلك لما رواه البخاري في صحيحه عن ابن عباس في الآية. قال: هي محكمة وليست بمنسوخة، وفي لفظ عنه: هي قائمة يعمل بها.
هاتان الآيتان منسوختان عند جمهور المفسِّرين والمحدثين، ودليل النَّسْخِ فيهما ظاهر، لكن هذا النَّسْخَ هو من قبيل التدرج في التشريع؛ رعاية لمصالح العباد في العاجل والآجل.
فالآية الأولى تنص على عقوبة الزانية بكرًا كانت أم ثيبًا بحبسها في البيت حتى يتوفاها الله أو يجعل لها مخرجًا بآية أخرى أو حديث.
والآية الثانية تنص على عقوبة الرجال من الأيامى والأبكار، وهي الإيذاء بالأيدي والنعال والتقريع بالألسنة، وما إلى ذلك من أنواع الإيذاء المناسب لهذه الجريمة، وهي جريمة الزنا واللواط كما يرى بعض المفسِّرين.
وقد اختلفت عقوبة الرجال من عقوبة النساء؛ لأن الرجال هم الذين يسعون في طلب المعاش ويقومون بحماية الأسرة وتوفير ما تحتاج إليه نساؤهم وزراريهم.
قال ابن كثير في تفسيره: "كان الحكم في ابتداء الإسلام أن المرأة إذا زنت فثبت زناها بالبينة العادلة، حُبِسَت في بيت فلا تمكَّن من الخروج منه إلى أن
1 النساء: 8.
2 سورة النساء: 15-16.
تموت
…
فالسبيل الذي جعله الله هو الناسخ؛ لذلك قال ابن عباس: كان الحكم كذلك حتى أنزل الله سورة النور، فنسخها بالجلد أو الرجم، وكذا روي عن عكرمة وسعيد بن جبير، والحسن وعطاء الخراساني، وأبي صالح وقتادة، وزيد بن أسلم، والضحاك، أنها منسوخة، وهو أمر متفق عليه".
ثم ساق الحديث الذي راه أحمد في مسنده، ومسلم في صحيحه، وغيرهما من أصحاب السنن، وفيه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلًا: الثيب بالثيب، والبكر بالبكر، الثيب جلد مائة ورجم بالحجارة، البكر جلد مائة ثم نفي سنة".
وقد زعم أبو مسلم أن الآية الأولى بيان لعقوبة السحاق، وهو استمتاع المرأة بالمرأة، وأن الآية الثانية بيان لعقوبة اللواط، ووافقه على ذلك صاحب تفسير المنار فرارًا من القول بالنَّسْخِ، فقال: هو المناسب لجعل تلك خاصة بالنساء، وهذه خاصة بالذكور، فهذا مرجع معنوي وهو كَوْن القرآن عليه ناطقًا بعقوبة الفواحش الثلاث، وكَوْن هاتين الآيتين محكمتين، والإحكام أولى من النَّسْخِ حتى عند الجمهور القائلين به.
ووافقه على ذلك الشيخ عبد الكريم الخطيب فقال في تفسيره: يجمع المفسرون على أن هاتين الآيتين منسوختان بالآية الثانية من سورة النور، وهي قوله تعالى:{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} وأن حَدَّ الزنا في أول الإسلام -كما يقولون- هو الإمساك للمرأة الزانية وحبسها في البيت، على حين أن الرجل يعنَّف ويؤنَّب باللسان، أو ينال بالأيدي والنعال، حسب تقدير ولي الأمر.
ونحن على رأينا بألَّا نسخ في القرآن -نرى أن هاتين الآيتين محكَمَتين، وأنهما تنشئان أحكامًا لمن يأتون الفاحشة- من الرجال والنساء، غير ما تضمنته آية النور من حكم الزانية والزاني.. إلى آخر ما قال.
والعجب كل العجب من هذا الأخير أنه يذكر إجماع المفسرين على أن الآيتين منسوختان بالآية الثانية من سورة النور، ثم ينفر هو برأي يخالف الجمهور ويعظِّم نفسه بقوله: ونحن نرى، وأين هو من هؤلاء المفسِّرين! وأين
مكان الثرى من الثريَّا! ولِمَ هذا التنطُّع! ولم هذه المكابرة في إنكار النَّسْخِ وقد أقرَّه الجمهور سلفًا وخلفًا، وأين يذهب هؤلاء المنكرون للنَّسْخِ وقد لزمتهم الحجة، ووضحت أمامهم المحجة، وإني لتأخذني الدهشة عندما أرى واحدًا من أولئك يقول في الآية برأيه، ويضرب بقول الرسول صلى الله عليه وسلم عرض الحائط، فينكر النَّسْخَ مثلًا في هاتين الآيتين بآية النور، وبالحديث الذي كان منهما بمنزلة البيان والتخصيص والتفصيل، ولو أنصف نفسه لم يظلمها بالقول في كتاب الله بالهوى، ولَأَرَاح واستراح، ووقَى نفسه شر العقوبة التي توعَّده الله بها في الدنيا والآخرة.
11-
قوله تعالى: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} 1.
منسوخة بقوله: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} 2.
"وقيل: إنها غير منسوخة؛ لأنها تدل على توريث مولى الموالاة، وتوريثهم باقٍ، غير أن رتبتهم في الإرث بعد رتبة ذوي الأرحام، وبذلك يقول فقهاء العراق"3.
والأصح أنها منسوخة، لكثرة الآثار الواردة في ذلك عن الصحابة والتابعين، والقول قولهم عند التحاكم في أمر النَّسْخِ وأسباب النزول، وغير ذلك من أمور العقيدة والشريعة.
من هذه الآثار:
قال البخاريّ: حدثنا الصلت بن محمد، حدثنا أبو أسامة، عن إدريس، عن طلحة بن مصرف، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِي}
1 سورة النساء: 33.
2 الأنفال: 75.
3 مناهل العرفان للزرقاني ج2 ص159.
قال: ورثة. {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} 1: كان المهاجرون لما قدموا المدينة يرث المهاجري الأنصاري، دون ذوي رحمه؛ للأخوة التي آخى النبي صلى الله عليه وسلم بينهم، فلما نزلت:{وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ} نُسِخَت، ثم قال:{وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} من النصر والرفادة والنصيحة، وقد وقد ذهب الميراث ويوصى له".
وقال ابن أبي حاتم، حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا أبو أسامة، حدثنا إدريس الأوديّ، أخبرني طلحة بن مصرف، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قوله:{وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} الآية، قال: كان المهاجرون حين قدموا المدينة يرث المهاجري الأنصاري، دون ذوي رحمة، بالأخوة التي آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم، فلما نزلت هذه الآية:{وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ} نُسِخَت، ثم قال:{وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} .
وممن قال بالنَّسْخِ سوى ابن عباس: مجاهد، وسعيد بن جبير، وأبو صالح، وقتادة، وزيد بن أسلم، والسديّ والضحاك ومقاتل بن حيان، وغيرهم. أ. هـ2.
12-
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ} 3.
قيل إن قوله: {وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَام} منسوخ بمقتضى عموم قوله: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّة} ، وقد سبق القول في هذا4 فالحق عدم النَّسْخِ.
فالحكم باقٍ كما هو، فلا يجوز للمسلمين أن يقاتلوا عدوهم في الأشهر الحرام، إلّا إذا اضطروا لذلك.
1 "عقدت" و "عاقدت" قراءتان سبعيتان.
2-
انظر تفسير ابن كثير ج2 ص251، 252 ط الشعب.
3 المائدة: 2.
4 سبق في الآية الرابعة وهي قوله تعالى: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَام} .
يدل على ذلك ما جاء في صحيح البخاري عن أبي بكرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في حجة الوداع: "إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض، السنة اثنا عشر شهرًا، منها أربعة حرم، ثلاث مواليات: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرّم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان".
وهذا يدل كما قال ابن كثير1 عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ} يعني: لا تستحلوا قتالًا فيه، كذا قال ابن حيان، وعبد الكريم بن مالك الجزري، واختاره ابن جرير أيضًا.
13-
قوله تعالى: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} 2.
منسوخة بقوله: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} 3.
وقد قيل بعدم النَّسْخِ، وأن الآية الثانية متمِّمَة للأولى؛ فالرسول صلى الله عليه وسلم مخبَرٌ بمقتضى الآية الأولى بين أن يحكم بينهم وأن يعرِضَ عنهم، وإذا اختار أن يحكم بينهم وجب أن يحكم بما أنزل الله بمقتضَى الآية الثانية، وهذا ما نرجحه؛ لأن النَّسْخَ لا يصح إلا حيث تعذَّر الجمع.
14-
1 تفسير القرآن العظيم ج3 ص7ط. الشعب.
2 المائدة: 42.
3 المائدة: 49.
4 المائدة: 106.
قيل: قوله: {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُم} منسوخ بقوله: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} 1.
قال الزرقاني2: "وقيل إنه لا نسخ؛ لأنَّ الآية الأولى خاصَّة بما إذا أنزل الموت بأحد المسافرين، وأراد أن يوصي، فإنَّ الوصية تثبت بشهادة اثنين عدلين من المسلمين أو غيرهم؛ توسعة على المسافرين؛ لأن ظروف السفر ظروف دقيقة، قد يتعسَّر أو يتعذَّر وجود عدلين من المسلمين فيها، فلو لم يبح الشارع إشهاد غير المسلمَيْن لضاق الأمر، وربما ضاعت الوصية، أما الآية الثانية فهي القاعدة العامة في غير ظروف السفر" أ. هـ.
وقد قدَّم الله جل جلاله في هذه الآية إشهاد عدول المؤمنين؛ لأنه الأصل الذي يحصل به المقصود على الوجه الكامل، وأجاز إشهاد غيرهم في الحال التي لا يتيسر فيها ذلك بالشروط المذكورة في الآية.
وهذا يدل على أنها محكمة، جاءت بتشريع خاصٍّ، فلا يقال: إنَّ آية سورة الطلاق وهي قوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} ناسخة لها، وقد أمكن الجمع بينهما -كما عرفت- وحيث أمكن الجمع فلا نسخ.
وسورة المائدة كلها محكمة ليس فيها آية منسوخة على الصحيح من أقوال العلماء.
15-
قيل: إنها منسوخة بقوله سبحانه: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} 4.
1 الطلاق: 2.
2 مناهل العرفان ج2 ص161.
3 الأنفال: 65.
4 الأنفال: 66.
ووجه النَّسْخِ أن الآية الأولى أفادت وجوب ثبات الواحد للعشرة، وأن الثانية أفادت وجوب ثبات الواحد للاثنين، وهما حكمان متعارضان، فتكون الثانية ناسخة للأولى -على ما تقدَّمَ بيانه عند الكلام على نسخ الأثقل بالأخفِّ- والنسخ هنا ظاهر، ولكن قد يقال: إن هذا النَّسْخَ هو انتقال من الواجب إلى الرخصة.
16-
قوله تعالى: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا} 1.
قيل: نُسِخَت بآيات العذر، وهو قوله:{لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} 2.
وقوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} 4.
والأصح أنه لا نسخ في الآية، وإنما جاءت الآيات المذكورة مخصِّصَة لعمومها، فكأنه قيل: انفروا خفافًا وثقالًا إلّا من كان معذورًا لا يستطيع القتال لكونه ذا عاهة من مرض أو عرج، أو عمى أو زمانة، ونحوها من المعوِّقات، مع بقاء طائفة تقوم بما يحتاج إليه القاعدون من أولى الضرر، كتعليم وإرشاد وغير ذلك.
"ومِمَّنْ قال بالنَّسْخِ ابن عباس ومحمد بن كعب، وعطاء الخراساني وغيرهم، قالوا: نُسِخَت بقوله تعالى: {فَلَوْلَا نَفَر} 5.
1 التوبة: 41.
2 التوبة: 91.
3 التوبة: 122.
4 الفتح: 17.
5 انظر تفسير ابن كثير ج4 ص97.
ومرادهم بالنَّسْخِ هنا معناه الواسع الشامل لتخصيص العام وتقييد المطلق، وغير ذلك كما بيناه في مفهوم النَّسْخِ عند السَّلَفِ في أول هذا المبحث.
17-
قوله تعالى: {الزَّانِي لا يَنْكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ} 1.
قيل: منسوخة بقوله سبحانه: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} 2؛ لأن الآية خبر بمعنى النهي، بدليل قراءة "لا ينكح" بالجزم، والقراءات يفسِّر بعضها بعضًا.
والأصح عندي -والله أعلم- أنه لا نسخ في الآية؛ لأن الآية لها معانٍ يمكن أن تُحْمَلَ عليها؛ بحيث لا تتعارض مع قوله: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} 3.
فمن معانيها: أن الزاني لا يطأ إلا زانية أو مشركة، أي: لا يطاوعه على مراده من الزنا إلا زانية عاصية أو مشركة لا ترى حرمة ذلك، وكذلك {الزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَان} أي: عاصٍ بزناه، {أَوْ مُشْرِك} لا يعتقد تحريمه.
وهذا قول ابن عباس رضي الله عنهما، رواه عنه أكثر من واحد بطرق صحيحة كما يقول ابن كثير4.
وكذلك روى نحوه عن مجاهد وعكرمة، وسعيد بن جبير وعروة بن الزبير، والضحاك، ومكحول، ومقاتل بن حيان.
ومن معانيها: الزاني لا يتزوج إلا زانية، أي: معروفة بالزنى؛ لأنه لا يرضى أن يتزوج بها إلا مثلها.
وقراءة {لا يَنْكِح} بالجزم، وهي المروية عن عمرو بن عبيد5 على النهي. تدل على حرمة نكاح الزانيات إلّا إذا ظهرت توبتهن، وآية {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى}
1 النور: 3.
2 النور: 32.
3 النور: 32.
4 انظر ج6 ص7.
5 انظر البحر المحيط ج6 ص431.
مخصوصة بقوله: "الزاني لا ينكح إلا زانية" أي: وزوجوا الأيامى منكم بشرط ألّا يكنَّ زانيات -والله أعلم.
18-
قال السيوطي: قيل: منسوخة، وقيل: لا، ولكن تهاون الناس في العمل بها أ. هـ.
والأصح أنها غير منسوخة، فهي أدب عظيم أدَّبَ الله به عباده من السادة والخدم على السواء؛ بأن أمر السادة أن يعلموا الخدم هذه الأحكام، ويحملوهم على التزامها من غير تهاونٍ، أو استخفافٍ، ولا دليل على نسخها.
قال ابن كثير2: "ولما كانت هذه الآية محكَمَة ولم تنسخ بشيء، وكان عمل الناس به قليلًا جدًّا، أنكر عبد الله بن عباس ذلك على الناس.
وذكر عنه قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ} إلى آخر الآية.
والآية التي في سورة النساء: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ} 3.
والآية التي في الحجرات: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} 4 أ. هـ.
19-
قوله تعالى: {لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ} 5.
1 النور: 58.
2 انظر "تفسير القرآن العظيم" ج6 ص89.
3 آية: 8.
4 آية: 13.
5 الأحزاب: 52.
"واعلم أن هذا النَّسْخِ لا يستقيم إلّا على أن هذه الآية متأخرة في النزول عن الآية الأولى، وأن الله قد أحلَّ للرسول صلى الله عليه وسلم في آخر حياته ما كان قد حَرَّمه عليه من قبل في قوله:{لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْد} إلخ.
وذلك مروي عن علي -كرم الله وجهه، وعن ابن عباس رضي الله عنه، وعن أم سلمة -رضوان الله عليها، وعن الضحاك رحمه الله، وعن الصدِّيقة بنت الصديق رضي الله عنهما.
أخرج أبو داود في جامعه، والترمذي وصحَّحَه، والنسائي والحاكم وصحَّحَه أيضًا، وابن المنذر وغيرهم، عن عائشة رضي الله عنها قالت:"لم يمت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحلَّ الله تعالى له أن يتزوج من النساء ما شاء إلّا ذات محرم" إلخ.
والسر في أن الله حرَّم على الرسول أولًا ما عدا أزواجه، ثم أحلَّ له ما حرَّمه عليه، هو أن التحريم الأول فيه تطييب لقلوب نسائه، ومكافأة لهنَّ على اختيارهن الله ورسوله والدار الآخرة، بعد أن نزلت آيات التخيير في القرآن، ثم إن إحلال هذا الذي حرَّم على رسوله مع عدم زواج الرسول من غيرهن بعد هذا الإحلال، كما ثبت ذلك، فيه بيان لفضله عليه الصلاة والسلام ومكرمته عليهن؛ حيث قصر نفسه ولم يتزوج بغيرهنَّ، مع إباحة الله له ذلك.
1 الأحزاب: 50.
وقد جاءت روايات أخرى في هذا الموضوع تخالف ما ذكرناه، لكن لم يثبت لدينا صحة شيء منها؛ ولهذا رجَّحْنَا ما بسطناه، ولا يعكر صفو القول بالنَّسْخِ هنا ما نلاحظه من تأخُّر الآية المنسوخة عن الناسخة في المصحف؛ لأن المدار على ترتيب النزول لا على ترتيب المصحف كما تعلم"1 أ. هـ.
20-
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} 2.
قيل: نُسِخَت بقوله سبحانه عقب تلك الآية:
وقد تقدَّمَ الكلام عن ذلك عند ذكر نسخ الأثقل بالأخف.
21-
قوله تعالى في سورة الممتحنة:
قيل: نسختها آية الغنيمة، وهي قوله سبحانه:{وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} 5.
وقيل: منسوخة بآية السيف، وقيل: محكمة.
وبيان ذلك أن الآية الأولى تفيد أن زوجات المسلمين الَّلاتي ارتددن ولحقن بدار الحرب يجب أن يدفع إلى أزواجهن مثل مهورهن، من الغنائم التي يغنمها المسلمون، ويعاقبون العدو بأخذها.
1 مناهل العرفان ج2 ص163، 164.
2 المجادلة: 12.
3 المجادلة: 13.
4 آية: 11.
5 الأنفال: 41.
والآية الثانية تفيد أن الغنائم تُخَمَّسُ أخماسًا، ثم تصرف كما رسم الشارع.
وآية السيف وهي قوله تعالى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} 1 تقرر حكمًا خاصًّا يختلف عن أحكام الغنيمة والقتال، فلا تعارض بين الآيات الثلاثة حتى يُقال بالنَّسْخِ.
فالآية تقرر أنه إن ارتدَّت من المؤمنات امرأة، ففرت من زوجها المؤمن ولحقت بالكفار، فلم يردوا مهرها كما يفعل المؤمنون إذا فرَّت امرأة منهم بإيمانهم إلى ديار المسلمين، "فعاقبتم" أي: فغزوتموهم فوجدتم منهم غنيمة "فآتوا الذين ذهبت أزواجهم" منها "مثل ما أنفقوا" في مهورهن.
"قال قتادة: كنَّ إذا فررت من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى الكفار، ليس بينهم وبين نبي الله عهد، فأصاب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم غنيمة، أعطي زوجها ما ساق إليها من جميع الغنيمة، ثم يقتسمون غنيمتهم". أ. هـ2.
وهذا هو العدل في أسمى صوره، وأرقى معانيه.
22-
قيل منسوخة بقوله سبحانه في آخر هذه السورة: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} ثم نُسِخَ الآخر بالصلوات الخمس، هذا ما قاله السيوطي.
وبيانه أن في أول سورة المزمِّل أوجب الله على نبيه قيام الليل كله إلّا قليلًا منه، بأن يقوم نصفه أو أقل منه أو أكثر، ثم خففَّ عنه القيام هو ومن كان يقوم بقيامه، ثم نُسِخَ هذا الوجوب بالصلوات الخمس.
1 التوبة: 5.
2 "محاسن التأويل" ج8 ص5773.
وجاء في حديث طويل رواه أحمد في مسنده، ومسلم في صحيحه، عن عائشة رضي الله عنها قالت: إن الله افترض قيام الليل في أول هذه السورة -تعني: سورة المزمل- فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه حولًا حتى انتفخت أقدامهم، وأمسك الله خاتمتها في السماء اثني عشر شهرًا، ثم أنزل الله التخفيف في آخر هذه السورة، فصار قيام الليل تطوعًا من بعد فريضة".
وقد كان قيام الليل فرضًا على النبي صلى الله عليه وسلم وحده، كما يقول ابن كثير وغيره، بمقتَضى قوله تعالى:{وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} 1.
فكان يقوم من الليل ما شاء الله أن يقوم، كما أمره ربه في أول سورة المزمِّل، واقتدى طائفة من أصحابه به فقاموا بقيامه حتى نُسِخَ قيام الليل بالصلوات المفروضة، وصار قيام الليل نافلة.
أخرج بن جرير عن أبي سلمة، عن عائشة رضي الله عنها قالت:"كنت أجعل لرسول الله صلى الله عليه وسلم حصيرًا يصلي عليه من الليل، فتسامع الناس به فاجتمعوا، فخرج كالمغضب، وكان بهم رحيمًا، فخشي أن يُكْتَبَ عليهم قيام الليل، فقال: "أيها الناس اكلفوا من الأعمال ما تطيقون، فإن الله لا يمل من الثواب حتى تملوا من العمل، وخير الأعمال ما ديم عليه".
ونزل القرآن:
حتى كان الرجل يربط الحبل ويتعلق، فمكثوا بذلك ثمانية أشهر، فرأى الله ما يبتغون من رضوانه فرحمهم فردَّهم إلى الفريضة، وترك قيام الليل"2.
23-
وألحق السيوطي بالآيات المنسوخة قوله تعالى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّه} 3 فإنها على رأي ابن عباس -كما قال- منسوخة بقوله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَام} .
1 الإسراء: 79.
2 جامع البيان ج29 ص79.
3 البقرة: 115.
"قال أبو عبيد القاسم بن سلام في كتاب الناسخ والمنسوخ: حدثنا حجاج بن محمد، أخبرنا ابن جريج وعثمان بن عطاء، عن عطاء، عن ابن عباس قال: أول ما نُسِخَ من القرآن فيما ذكر لنا -والله أعلم- شأن القبلة، قال تعالى:{وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} فاستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى نحو بيت المقدس، وترك البيت العتيق، ثم صرفه الله إلى بيته العتيق ونسخها فقال:
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: "كان أول ما نُسِخَ من القرآن القبلة، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة، وكان أهلها اليهود، أمره الله أن يستقبل بيت المقدس، ففرحت اليهود، فاستقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعة عشر شهرًا، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب قبلة إبراهيم، فكان يدعو وينظر إلى السماء، فأنزل الله:{قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء} إلى قوله: {فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَه} 2 فأرتاب من ذلك اليهود، وقالوا: ما ولَّاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها فأنزل الله: {قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِب} ، وقال:{فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّه} أ. هـ.3.
وقيل: إن هذه الآية ليست منسوخة، بل هي خاصة بصلاة التطوّع، أو بمن عجز عن تحديد القبلة.
قال ابن جرير: "وقال آخرون: نزلت هذه الآية على النبي صلى الله عليه وسلم إذنًا من الله عز وجل له أن يصلي التطوع حيث توجَّه وجهه من شرق أو غرب، في مسيره في سفره وفي حال المسايفة، وفي شدة الخوف، والتقاء الزحوف في الفرائض، وأعلمه أنه حيث وجه وجهه فهو هنالك بقوله:{وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} .
1 البقرة: 150.
2 البقرة: 144.
3 "تفسير القرآن العظيم" ج1 ص227.
وقال آخرون: بل نزلت هذه الآية في قوم عميت عليهم القبلة فلم يعرفوا شطرها، فصلوا على أنحاء مختلفة، فقال الله عز وجل لهم: لي المشارق والمغارب، فإن وليتم وجوهكم فهنالك وجهي، وهو قبلتكم؛ معلمهم بذلك أن صلاتهم ماضية".
قال الإمام الطبري بعد أن ذكر هذه الأقوال وغيرها: فأما القول في هذه الآية ناسخة أم منسوخة، أم لا هي ناسخة ولا منسوخة؟ فالصواب فيه من القول أن يقال: إنها جاءت مجيء العموم، والمراد الخاص، وذلك أن قوله:{فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّه} محتمل أينما تولوا في حال سيركم في أسفاركم، في صلاتكم التطوع، وفي حال مسايفتكم عدوكم، في تطوعكم ومكتوبتكم، فثَمَّ وجه الله، كما قال ابن عمر والنخعي، ومن قال ذلك ممن ذكرنا عنه آنفًا.
ومحتمل: فأينما تولوا من أرض الله فتكونوا بها فثمَّ قبلة الله التي توجهون وجوهكم إليها؛ لأن الكعبة ممكن لكم التوجه إليها منها.
كما قال أبو كريب، قال: حدَّثنا وكيع بن أبي سنان عن الضحاك، والنضر ابن عربي عن مجاهد في قول الله عز وجل:{فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّه} قال: قبلة الله، فأينما كنت من شرق أو غرب فاستقبلها.
ومحتمل: فأينما تولوا وجوهكم في دعائكم فهنالك وجهي أستجيب لكم دعاءكم.
قال مجاهد: لما نزلت: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُم} 1.
قالوا إلى أين؟ فنزلت: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّه} .
قال الطبري: فإذا كان قوله عز وجل: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّه} محتملًا ما ذكرنا من الأوجه، لم يكن لأحد أن يزعم أنها ناسخة أو منسوخة إلّا بحجَّة يجب التسليم لها؛ لأن الناسخ لا يكون إلا بمنسوخ، ولم تقم حجة يجب التسليم لها بأن قوله:{فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّه} معنيٌّ به: فأينما توجهوا وجوهكم في صلاتكم فثمَّ قبلتكم، ولا أنها نزلت بعد صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه نحو بيت المقدس أمرًا من الله عز وجل لهم بها أن
1 غافر: 60.
يتوجهوا نحو الكعبة، فيجوز أن يقال: هي ناسخة الصلاة نحو بيت المقدس؛ إذ كان من أهل العلم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأئمة التابعين من ينكر أن تكون نزلت في ذلك المعنى، ولا خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثابت بأنها نزلت فيه، وكان الاختلاف في أمرها موجودًا على ما وصفت، ولا هي إذ لم تكن ناسخة لما وصفنا قامت حجتها بأنها منسوخة، إذ كانت محتملة ما وصفنا بأن تكون جاءت بعموم، أو معناها في حالٍ دون حالٍ إن كان عني بها التوجه في الصلاة، وفي كل حالٍ إن كان عني بها الدعاء، وغير ذلك من المعاني التي ذكرنا.
قال رحمه الله: وقد دللنا في كتابنا "كتاب البيان من أصول الأحكام" على أن لا ناسخ من آي القرآن وأخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ما نفي حكمًا ثابتًا، وألزم العباد فرضه غير محتمل لظاهره، وباطنه غير ذلك، فأما إذا ما احتمل غير ذلك من أن يكون بمعنى الاستثناء أو الخصوص أو العموم، أو المجمَل أو المفسَّر، فمن الناسخ والمنسوخ بمعزل بما أغني عن تكريره في هذا الموضع، ولا منسوخ إلّا المنفي الذي كان قد ثبت حكمه وفرضه، ولم يصحّ واحد من هذين المعنيين لقوله:{فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّه} بحجة يجب التسليم لها، فيقال فيه: هو ناسخ أو منسوخ". أ. هـ1.
وبعد، فهذه هي الآيات التي قيل إنها منسوخة، وقد عرفت من خلال ما تقدَّمَ أن المنسوخ منها قليل على مفهوم النَّسْخِ عند المتأخرين.
ولو قارنا بين مفهومه عند السلف والخلف لخرجنا بهذه النتيجة، وقلنا -ونحن مطمئون: إن النَّسْخَ واقع في القرآن الكريم لحكمة سامية اقتضاها حال المؤمنين يوم أن كان القرآن ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم، لكن المنسوخ من الآيات آيات تُعَدُّ على الأصابع، وإذا نظر إلى مفهوم النَّسْخِ عند المتقدمين وعند المتأخرين جزمنا، أو كِدْنَا نحزم أن الخلاف بين القائلين به والمنكرين له لفظي أو اصطلاحي. والله تبارك وتعالى أعلم.
1 انظر "جامع البيان" ج1 ص502، 505.