الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقولنا: "في سياق الإثبات"، احتراز عن النكرة في سياق النفي، فإنها تعمّ جميع ما هو من جنسها، وتخرج بذلك عن التنكير لدلالة اللفظ على الاستغراق، وذلك كقولك في معرض الأمر:"اعتق رقبة"، أو مصدر الأمر كقوله:{فَتَحْرِيرُ رَقَبَة} ، أو الإخبار عن المستقبل كقوله:"سأعتق رقبة"، ولا يتصور الإطلاق في معرض الخبر المتعلِّق بالماضي كقوله:"رأيت رجلًا" ضرورة تعينه من إسناده الرؤية إليه.
وإن شئت قلت: هو اللفظ الدال على مدلول شائع في جنسه.
فقولنا: "لفظ" كالجنس للمطلق وغيره، وقولنا:"دال" احتراز عن الألفاظ المهملة، وقولنا:"على مدلول" ليعمَّ الوجود والعدم، وقولنا:"شائع في جنسه" احتراز عن أسماء الأعلام، وما مدلوله معيَّن أو مستغرق.
قال: وأما المقيد فإنه يُطْلَقُ باعتبارين:
الأول: ما كان من الألفاظ الدالة على مدلولٍ معين، كزيد وعمرو، وهذا الرجل، ونحوه.
الثاني: ما كان من الألفاظ دالًّا على وصفٍ، مدلوله المطلق بصفة زائدة عليه كقولك: دينار مصري، ودرهم مكي.
وهذا النوع من المقيَّد، وإن كان مطلقًا في جنسه من حيث هو دينار مصري، ودرهم مكي، غير أنه مقيَّد بالنسبة إلى مطلق الدينار والدرهم، فهو مطلق من وجهٍ ومقيَّدٌ من وجه".
حكم حمل المطلق على المقيد:
"المطلق والمقيد إذا وردا: فإما أن يكون حكم أحدهما مخالفًا لحكم الآخر، أو لا يكون.
والأول: مثل أن يقول الشارع: "آتوا الزكاة، وأعتقوا رقبة مؤمنة".
ولا نزاع في أنه لا يحمل المطلق على المقيد -ههنا؛ لأنه لا تعلُّق بينهما أصلًا.
وأما الثاني: فلا يخلو إمَّا أن يكون السبب واحدًا، أو يكون هناك سببان متماثلان، أو مختلفان.
أ- فإن كان السبب واحدًا: وجب حمل المطلق على المقيد؛ لأن المطلَق جزء من المقيَّد، والآتي بالكل آتٍِ بالجزء -لا محالة، فالآتي بالمقيَّد يكون عاملًا بالدليلين، والآتي بغير ذلك المقيَّد لا يكون عاملًا بالدليلين، بل يكون تاركًا لأحدهما.
والعمل بالدليلين -عند إمكان العمل بهما- أولى من الإتيان بأحدهما، وإهمال الآخر.
ب- واختلفوا في الحكمين المتماثلين، إذا أطلق أحدهما وقُيِّدَ الآخر، وسببهما مختلف.
مثاله: تقييد الرقبة -في كفارة القتل- بالإيمان وإطلاقها في كفارة الظهار.
فمنهم من يقول: تقييد أحدهما يقتضي تقييد الآخر لفظًا -وهم الشافعية.
ومنهم من يقول: إنه لا يجوز تقييد هذا المطلق بطريق ما البتة -وهم الحنفية" أ. هـ1.
"واحتجَّ الشافعية على ما ذهبوا إليه بأن المطلق والمقيَّد كالعام الذي يحتمل الخصوص، والمجمَل الذي يحتمل البيان، فإذا ورد مطلَق ومقيَّد وجب أن يكون الثاني مبينًا للأول.
ويكون كلا النصين بمنزلة نص واحد، كالنص المجمَل مع النص المبين، حتى لا يؤدي إلى التناقض" أ. هـ2.
1 انتهى بتصرف من المحصول الجزء الأول القسم الثالث ص14 وما بعدها.
2 انظر "ميزان الأصول في نتائج العقول" لأبي بكر السمرقندي ج1 ص585، 586.
وقالوا أيضًا: "إن كلام الله تعالى متحد في ذاته، لا تعدو فيه، فإذا نصَّ على اشتراط الإيمان في كفارة القتل، كان ذلك تنصيصًا على اشتراطه في كفارة الظِّهار"1.
وضعَّفَ الإمام الرازي في "المحصول"2 قول الشافعية بقوله: "لأن الشارع لو قال: أوجبت في كفارة القتل رقبة مؤمنة، وأوجبت في كفارة الظِّهار رقبة كيف كانت، لم يكن أحد الكلامين مناقضًا للآخر، فعلمنا أن تقييد أحدهما لا يقتضي تقييد الآخر لفظًا" أ. هـ.
وما احتجُّوا به من أن القرآن متحدٍّ في ذاته، فقد فنَّده الرازي وغيره من علماء الأصول، وحاصل ما ذكروه أنه لا يلزم من عدم حمل المطلَق على المقيَّد تناقض إذا كانت الأحكام مختلفة في أسبابها.
فكفارة الظِّهار تختلف عن كفارة القتل من حيث السبب، ومن حيث الجرم، وتتابع الصيام في الظِّهار بخلاف الصوم في كفارة اليمين، فليس مَنْ حَنَثَ في يمينه كالذي ظاهر في امرأته.
فالأول: يجوز له الحنث في اليمين إن حلف على شيء ورأى غيره خيرًا منه، ولهذا لم يشترط الشارع التتابع في كفارته بالصوم.
والثاني: أتى منكرًا من القول وزورًا، فشُدِّدَت عليه العقوبة؛ فأُمِرَ بصيام شهرين متتابعين، إن لم يجد رقبة يعتقها.
ولو كان عدم حمل المطلَق على المقيَّد يؤدي إلى التناقض في القرآن كما زعموا، لوجب أن يتقيد كل عام ومطلَق بكل خاصٍّ ومقيَّد.
وأما الحنفية فقد احتجوا على ما ذهبوا إليه بقولهم: "إن حمل المطلَق على المقيَّد، خلاف عُرْفِ أهل اللغة، بل في عرفهم إجراء المطلق على إطلاقه، والمقيَّد على تقييده.
فإن من قال لآخر: "أعتق عبيدي"، ثم قال بعد ذلك:"أعتق عبدي الأبيض"، فله أن يعتق أيَّ عبد شاء، ولا يتقيَّد بالأبيض.
1 انظر "الإحكام في أصول الأحكام" للآمدى ج3 ص6.
2 انظر الجزء الأول القسم الثالث ص219.
وكذا من قاله لامرأته: "إن دخلت الدار فأنت طالق"، ثم قال بعد ذلك:"إن دخلت الدار راكبة فأنت طالق"، فدخلت راكبة أو ماشية يقع الطلاق، ولا يتقيَّد المطلق بصفة الركوب.
وإذا كان عُرْفُ أهل اللسان هذا -يجب حمل كتاب الله تعالى وكلام الرسول صلى الله عليه وسلم على المتعارف؛ لأن كلام الله تعالى نزل بلغة العرب على حسب عاداتهم.
قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} 1.
والرسول عليه السلام منهم، فيكون كلامه محمولًا على تعارفهم في الأصل؛ ولأن في هذا نسخ المطلق، لأن النسخ ليس إلا بيان انتهاء مدة الحكم.
ومن حمل المطلَق على المقيَّد -وقَبْلَ التقييد يجوز العمل به، وبعده لا يجوز- فقد انتهى حكم المطلق ضرورة.
والنسخ لا يجوز إلّا عند تساوي الدليلين.
والقياس وخبر الواحد لا يساوي الكتاب، والمتواتر" أ. هـ2.
أقول: لكلٍّ من المذهبين السابقين وجاهته، وإن كانت النفس إلى مذهب الحنفية أَمْيَلُ، لقوة حجتهم -والله أعلم.
1 إبراهيم: 4.
2 انظر "ميزان الأصول" لأبي بكر السمرقندي ج1 ص588، 589.