الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كل ما ورد فيه من تلك المقاصد والعِبَر، والأحكام والحكم، فيلتقي الآخر بالأول في نسق واحد، ونسج فريد لا تناقض فيه ولا اختلاف، كما ستعرف ذلك عند معرفة أول ما نزل من الآيات، وآخر ما نزل على الصحيح من أقوال المحققين.
وإني لا أتتبع هنا أول ما نزل وآخر ما نزل في كل باب من أبواب العبادات والمعاملات، أو في كل ضربٍ من أضرب الآداب الشرعية والأخلاق المرعية، فذاك أمر عسير يحتاج تتبعه واستقصاؤه إلى طاقات فكرية وعلمية لا تتوفر لأمثالي.
ولكني أتكلم هنا عن أوَّل ما نزل بإطلاق، وآخر ما نزل على الراجح من أقوال العلماء بإطلاق.
أول ما نزل بإطلاق:
1-
اتَّفَق جمهور المحققين على أن أوَّلَ ما نزل من القرآن الكريم بإطلاقٍ أوائل سورة العلق، إلى قوله -جل شأنه:{عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} .
وذلك لما رواه البخاري ومسلم "واللفظ للبخاري"، عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت:"أوَّلَ ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلّا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حُبِّبَ إليه الخلاء، وكان يخلو بغار حراء فيتحنَّث1 فيه الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله، ويتزوَّد لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها، حتى جاءه الحق وهو في غار حراء، فجاءه الملك فقال: أقرأ، قال: ما أنا بقارئ، قال فأخذني فغطَّني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني، فقال: أقرأ، قلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطَّني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطَّني الثالثة ثم أرسلني، فقال: أقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم. الحديث"2.
1 يتحنَّث: يتعبَّد.
2 الحديث بطوله رقم 3، باب:"كيف كان بدء الوحي".
وفي بعض الروايات: حتى بلغ "ما لم يعلم".
وهناك أحاديث كثيرة غير هذا الحديث، تفيد صراحةً أن هذه الآيات من سورة "العلق" هي أوَّل ما نزل من القرآن الكريم، ضربنا صفحًا عن ذكرها، مخافة التطويل.
2-
وقيل: إن أوَّلَ ما نزل من القرآن أوائل سورة المدثر، واستدلَّ أصحاب هذا القَوْلِ بما رواه البخاري ومسلم، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف أنه قال: سألت جابر بن عبد الله: أيّ القرآن أنزل قبل؟ فقال: {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} فقلت: أو {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّك} ، وفي رواية نبئت أنه {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَْ} ، فقال: أحدثكم ما حدَّثنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إني جاورت بحراء، فلما قضيت جواري نزلت، فاستبطنت الوادي -زاد في رواية: فنوديت فنظرت أمامي وخلفي، وعن يميني وعن شمالي- ثم نظرت إلى السماء فإذا هو "يعني: جبريل" -زاد في رواية: جالس على عرشٍ بين السماء والأرض- فأخذتني رجفة، فأتيت خديجة، فأمرتهم فدثروني، فأنزل الله:{يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ، قُمْ فَأَنْذِرْ} .
لكن هذه الرواية ليست نصًّا فيما نحن بسبيله من إثبات أوَّل ما نزل من القرآن إطلاقًا، بل تحتمل أن تكون حديثًا عَمَّا نزل بعد فترة الوحي، وذلك هو الظاهر من رواية أخرى رواها الشيخان أيضًا، عن أبي سلمة، عن جابر أيضًا: "فبينا أنا أمشي إذ سمعت صوتًا من السماء، فرفعت بصري قِبَل السماء، فإذا الملك الذي جاءني بحراء قاعد على كرسيٍّ بين السماء والأرض، فجثثت 1 حتى هويت إلى الأرض فجئت أهلي، فقلت: زملوني، فزملوني، فأنزل الله تعالى:
قال أبو سلمة: والرجز: الأوثان. أ. هـ.
1 جثثت على وزن "فرحت"، معناه: ثَقُلَ جسمي عن القيام، وسببه فزع الرسول صلى الله عليه وسلم وخوفه.