الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقد ضعَّفَ هذا الاحتمال الأستاذ "غانم قدوري الحمد" فقال: "إن المصحف العثماني إنما كُتِبَ على قراءة معينة، أي: أن رسم الكلمات جاء لتمثيل لفظ واحد، ونطق معيِّنٍ، بغض النظر عن احتماله لأكثر من قراءة، بسبب تجرد الكتابة آنذاك من الشكل والإعجام، ومن ثَمَّ فإن هذا الاتجاه في تعليل بعض ظواهر الرسم لا يقوم على أساس راجح -في نظرنا، بل إنه لا يختلف كثيرًا عن الاتجاه القائل باختلاف أحوال الرسم لاختلاف المعاني في ضعف الأساس الذي بُنِيَ عليه"1.
وقوله هذا مرجوح وليس براجح في نظري، على ما يأتي بيانه قريبًا.
1 رسم المصحف ص231-232.
5-
الرسم بُنِيَ على حكمة ذهبت بذهاب كتبته:
وقد ذهب فريق من المعاصرين إلى أن الرسم العثماني قد بُنِيَ على حكمة لا نعلمها على وجه تطمئن إليه النفس، وأن ما أتى به العلماء من تعليلات لا تقوى على الرد، فهي مجرد احتمالات وتخمينات حاول أصحابها أن يثبتوا لهذا الرسم قدسية خاصة عن طريق الأدلة النظرية المستلْهَمة من تَتَبُّع بعض الكلمات التي خالفت في رسمها الخط الهجائي.
وهذه التعليلات ما هي إلّا استئناس وتلميح، والفرق كبير بين الاستئناس والاستدلال.
فالأول مبنيٌّ على الظن والتخمين، فلا يعتبر حجة قاطعة.
والثاني مبنيٌّ على النظر أو الاستقراء الموصِّل إلى ما يرفع الشك باليقين.
"وممن ذهب إلى هذا القول الأستاذ الشيخ محمد طاهر الكردي المكي الخطَّاط صاحب كتاب "تاريخ الخط العربي" و"تاريخ القرآن"2.
1 رسم المصحف ص231-232.
2 انظر "رسم المصحف" ص232.
الخلاصة
مدخل
…
الخلاصة:
ومما سبق يتبيِّنُ لنا مدى عناية العلماء سلفًا وخلفًا بكتاب الله تعالى قراءة وكتابة، لم يَفُتْهُم من ألفاظه ولا معانيه ولا مراميه صغيرة ولا كبيرة، إلّا وقفوا عندها مستلْهِمِين من الله الرشد في تفسيرها وتأويلها، وتحليلها وتعليلها.
وقد كان الخط الذي كتب به المصحف في عهد عثمان رضي الله عنه ظاهرة فريدة، استرعت انتباههم، ودفعتهم إلى تفسيرها وكشف أسرارها، فكان لهم في هذا التفسير والتعليل اتجاهات خمسة، وهي التي أشرنا إليها في هذا المقام، وكل اتجاه منها له وجهاته، وفيه ما فيه من الصواب، وعليه ما عليه من المآخذ.
أما الاتجاه الأول: وهو تعليل بعض ظواهر الرسم بعلل لغوية أو نحوية، فهو كما يظهر من عنوانه أنه قاصر على تحليل بعض الظواهر دون بعض، فلا يصلح أن يكون حكمًا على الجميع، ولكنه مع ذلك فاتحة خير وخطوة على طريق البحث، فلعل الله عز وجل يكشف لنا التحليل اللغوي والنحوي في سائر الظواهر التي لم يتوصَّل العلماء إلى كلمة الفصل فيها.
وأما الاتجاه الثاني: وهو حمل تلك الظواهر على خطأ الكاتب، فقد رددناه بما فيه الكفاية، ونضيف هنا أن خطأ الكُتَّاب أمرٌ لا يستبعد؛ لأن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ليسوا معصومين من الخطأ.
ولكن وعد الله عز وجل بحفظ كتابه يقتضي صيانته نطقًا وخطًّا، فلا بُدَّ من أن يكون الله عز وجل قد وفقَّ أولئك الكُتَّاب الأطهار المهرة إلى هذا الرسم ليتميز القرآن عن غيره خطًّا كما تميز نطقًا.
وما كان ينبغي أن يبادر ابن قتيبة وابن خلدون ومن لَفَّ لفهما إلى نسبة الخطأ إلى هؤلاء الكُتَّاب، بل كان عليهم أن يبحثوا بجد واجتهاد عن تنزيه ساحتهم منه؛ رعاية لحقهم، وصيانة لكتاب الله من أن يكون خطه غير موافق للفظه من بعض الوجوه، وأن يحملوا الروايات الواردة في تخطئة هؤلاء الكُتَّاب -إن صحَّ سندها- على محملٍ حسنٍ يتفق مع المحافظة على هيبة هؤلاء الكُتَّاب البررة، وسدًّا لباب من أبواب الشبهات التي ينفذ من خلالها أعداء الإسلام للنَّيْل من الإسلام في كتاب ربهم عز وجل، وسُنَّة نبيهم صلى الله عليه وسلم، والخلفاء الراشدين المهديين -رضوان الله عليهم.
وأما الاتجاه الثالث: وهو اختلاف الرسم لاختلاف المعنى، فقد ذكرنا أنه لا يعتمد على دليل صحيح تقوم به الحجة، فهو لا يعدو أن يكون تفسيرًا باطنيًّا يذكر استئناسًا لتنزيه ساحة الكُتَّاب من وقوع الخطأ منهم في كتابة المصاحف.
وليس كل كلام جاء معتبرًا
…
إلا كلام له حظ من النظر
وأما الاتجاه الرابع: وهو تفسير الزيادة والحذف باحتمال القراءات فهو قول صحيح؛ لأن كُتَّاب المصاحف قد بذلوا طاقتهم في أن تكون هذه المصاحف مشتملة في جملتها على الأحرف السبعة التي أُنْزِلَ عليها القرآن الكريم، فقد كتبوا مصاحف سبعة أو ثمانية، كل مصحف منها يحمل حرفًا من هذه الأحرف السبعة، وأرسلوا كل مصحف إلى القطر الذي يقرأ أهله بحرفه، وبذلك حفظت الأحرف السبعة كلها من الضياع.
وهذا القول أولى من قول من قال: إنهم كتبوا هذه المصاحف على حرف واحد من هذه الأحرف السبعة؛ لأنهم خُيِّرُوا فاختاروا، فهذا القول فيه اتهام لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم فرَّطوا في هذه الأحرف، فضيَّعوا منه ستة، وكان يمكنهم أن يحافظوا عليها جميعًا، ويمحوا ما سواها من الأوجه التي لم يثبت سندها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وفي ذلك كفاية لدرء الفتنة والقضاء على المحنة التي كادت تُوقِعُ بين المسلمين انقسامًا خطيرًا.
وأما الاتجاه الخامس: وهو أن الرسم بُنِيَ على حكمة ذهبت بذهاب كتبته، فهو اتجاه قوم توقَّفوا عن القول بما ليس لهم به علم، وآثروا السلامة على الخوض في حديث لا تدفعهم إليه حاجة ملحة، وقولهم هذا صحيح.
ولكن لماذا لا نفتِّشُ عن الحكمة بقدر طاقتنا، وبالوسائل المتاحة لنا، وقد أُمِرْنَا بالتدبر والنظر في كل ما يقع أمامنا من الظواهر الكونية والقرآنية، ونسعى جادِّين في تحقيق المسائل العلمية وتمحيصها، ولا سيما تلك الظواهر المتعلقة بكتاب الله تعالى، كظاهرة الرسم العثماني، فعسى أن نجد فيها سرًّا من أسرار هذا الكتاب العظيم، ونعثر على ضربٍ آخر من إعجازه البياني.
والحكمة ضالة المؤمن، والعلم أبواب مغلقة لا تنفتح إلّا بالتأمل والنظر.