الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث العشرون: حكم الآيات المتشابهات الواردة في الصفات
مدخل
…
المبحث العشرون: حكم الآيات المتشابهات الواردة في الصفات
كَثُرَ القيل والقال في المتشابهات من آيات الصفات، واحتدم النزاع في تأويلها، ووقعت الفتنة بين طوائف العلماء وكفَّر بعضهم بعضًا.
ولكنهم مع اختلافهم في تأويلها قد اتفقوا على أمرين:
الأول: صرف هذه الآيات عن ظواهرها المستحيلة في حق الله تعالى، لكونه مغايرًا لجميع الخلق، كما هو معلوم من قوله تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} .
وحملها على معانٍ تليق بذاته -جل وعلا، وذلك بردِّ المتشابهات إلى المحكَمَات، وهي التي لا تحتمل إلا وجهًا واحدًا من التأويل، وهو الوجه الذي يريده الشارع الحكيم دون سواه.
الثاني: أن المتشابه إن كان له تأويل واحد يفهم منه فهمًا قريبًا وجب القول به إجماعًا.
وذلك مثل قوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} .
فإن الكينونة بالذات مع الخلق مستحيلة قطعًا، وليس لها بعد ذلك إلّا تأويل واحد، وهو الكينونة معهم بالإحاطة علمًا وسمعًا وبصرًا وقدرة وإرادة.
وكقوله تعالى: {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} 1.
فالمراد بجنب الله حقَّه وما يجب له، كما تقتضيه لغة العرب، ليس له معنى يجب أن يُحْمَل عليه غيره.
واختلفوا فيما سوى ذلك على ثلاثة مذاهب:
الأول: مذهب السَّلَف، وهو أقومها طريقة، وأهداها سبيلًا، فقد قرروا أن الإيمان بالمتشابهات، وتفويض أمر العلم بها إلى الله تعالى ورسوله واجب.
1 الزمر: 56.
مع اعتقاد أن الظاهر غير مراد، لقيام الأدلة القطعية على خلافه.
فهم لا يبحثون فيها إلا بالقدر الذي يصحِّحُون به اعتقادهم بأن الله عز وجل منَزَّهٌ عَمَّا لا يليق بذاته من المشاركة والمماثلة، وما إلى ذلك من صفات النقص، تعالى الله عنها علوًّا كبيرًا.
فما دلَّت عليه النصوص الشرعية الصريحة عملوا به، وما تشابه عليهم فُهِمَ المراد منه، وكان متعلقًا بالعقيدة، آمنوا به وأجْرَوْه على ظاهره، وفوضوا علم كَمِّه وكيفه وحقيقته إلى الله تعالى، وأثبتوا له -جل شأنه- ما أثبته لنفسه من غير خوض في تفصيله، تأدُّبًا مع خالقهم -جل وعلا، ووقاية لأنفسهم من وعيد من أفتى بغير علم، وتقوَّل على الله ما لم يقله.
فالمتشابهات بوجه عام لا يتعيِّن المراد منها على التحقيق إلّا بنصٍّ صحيح صريح من الشرع، وحيث لا يكون هناك نصٌّ صحيح صريح بقي المتشابه على حاله، فتكون دلالته على المراد ظنية، والأمور الاعتقادية لا يكفي فيها الظن، بل لا بُدَّ فيها من اليقين، ولا سبيل إلى اليقين في معرفة المتشابه من الصفات، وهي من الأمور العقدية، فوجب التوقف فيها وعدم الخوض في تأويلها، وردَّها في جملتها إلى المحكَمِ الذي لا يحتمل إلّا وجهًا واحدًا.
وعماد المحكم في باب الصفات قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء} .
هذا هو خلاصة مذهب السلف الصالح من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، والتابعين لهم بإحسان،
وقد استدلُّوا على ما ذهبوا إليه بنصوص من الكتاب والسُّنَّة وأقوال علمائهم الأعلام، ووجدوا فيها السلامة لدينهم، والنجاة من عذاب ربهم.
أما الكتاب فقوله تعالى من سورة آل عمران:
{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ
وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} .
فقد أخبر الله عز وجل أنه لا يَتَّبِعُ المتشابه، ولا يَعْمَدُ إلى تأويله ابتغاء الفتنة، إلّا الذين في قلوبهم زيغ، وأما الراسخون في العلم فيقولون: آمنا به، كلٌّ من عند ربنا، ولا يخوضون في تأويل ما لا علم لهم به على التعيين.
ويقفون في قراءة الآية على لفظ الجلالة، ويبتدئون بقوله:{وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا} .
وقد جاءت في أفضلية الوقف على لفظ الجلالة في الآية روايات عن القراء من الصحابة، ذكرها ابن جرير، وابن كثير في تفسيرهما.
وجوَّز بعض العلماء الوقف على {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} بناءً على أنهم يعلمون المتشابه.
ولكن هذا فيما لم يستأثر الله بعلمه، أما ما استأثر الله بعلمه فلا يعلمه أحد سواه.
فمن وقف على لفظ الجلالة فسَّر المتشابه في الآية بما استأثر الله بعلمه، لقيام الساعة، وبعض صفاته تعالى.
ومن وقف على {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} فسَّرَ المتشابه بمعناه العام، وهو ما يحتمل أكثر من وجه لسبب من الأسباب التي ذكرها الرازي والراغب، وغيرهما، وقد تقدَّمَت في المبحث السابق.
وأما أدلتهم من السُّنَّة فكثيرة، منها:
1-
ما رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي وغيرهم، عن عائشة رضي الله عنها قالت: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ} .
1 آية: 7.
إلى قوله: {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} .
قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه، فأولئك الذين سَمَّى الله فاحذروهم". وهذا اللفظ للبخاري.
2-
ومنها: ما رواه أحمد في مسنده، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قومًا يتدارءون فقال: "إنما هلك مَنْ كان قبلكم بهذا، ضربوا كتاب الله بعضه ببعض، وإنما أُنْزِلَ كتاب الله يصدِّقُ بعضه بعضًا، فلا تكذِّبوا بعضه ببعض، فما علمتم منه فقولوا، وما جهلتم فكلوه إلى عالمه".
3-
وما رواه الحافظ أبو يعلى أحمد بن علي بن المثنى الموصلي في مسنده قال: حدَّثَنَا زهير بن حرب قال: حدَّثنا أنس بن عياض، عن أبي حازم، عن أبي سلمة قال: لا أعمله إلّا عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "نزل القرآن على سبعة أحرف، والمراء في القرآن كفر، ثلاثًا، ما عرفتم منه فأعملوا به، وما جهلتم منه فردوه إلى عالمه". ذكره ابن كثير في تفسيره1.
وأما أقوال علماء السلف فكثيرة أيضًا منها:
"ما رواه الدارميّ عن سليمان بن يسار أن رجلًا يقال له ابن صبيغ، قدم المدينة فجعل يسأل عن متشابه القرآن، فأرسل إليه عمر وقد أعدَّ له عراجين النخل، فقال له: من أنت؟ فقال: أنا عبد الله بن صبيغ، فأخذ عمر عرجونًا فضربه حتى دمي رأسه.
وجاء في رواية أخرى: فضربه حتى ترك ظهره دبرة، ثم تركه حتى برأ، ثم عاد، ثم تركه حتى برأ، فدعا به ليعود، فقال: إن كنت تريد قتلي فاقتلني قتلًا جميلًا، فأذن له إلى أرضه، وكتب إلى أبي موسى الأشعري: ألّا يجالسه أحد من المسلمين.
1 ج2 ص9.
والدبرة -بفتحات ثلاث- هي قرحة الدابة في أصل الوضع اللغوي، والمراد هنا أنه صيَّرَ في ظهره من الضرب جرحًا داميًا كأنه قرحة في دابة.
ورضي الله عن عمر، فإن هذا الأثر يدل على أن ابن صبيغ فتح أو حاول أن يفتح باب فتنة بتتبُّعه متشابهات القرآن يكثر الكلام فيها، ويسأل الناس عنها، ومنها ما ورد من أن الإمام مالكًا رضي الله عنه سُئِلَ عن الاستواء في قوله سبحانه:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} .
فقال: "الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والسؤال عن هذا بدعة، وأظنك رجل سوء، أخرجوه عني".
يريد -رحمة الله عليه- أن الاستواء معلوم الظاهر بحسب ما تدل عليه الأوضاع اللغوية، ولكن هذا الظاهر غير مراد قطعًا؛ لأنه يستلزم التشبيه المحال على الله بالدليل القاطع، والكيف مجهول، أي: تعيين مراد الشارع مجهول لنا لا دليل عندنا عليه، ولا سلطان لنا به، والسؤال عنه بدعة، أي: الاستفسار عن تعيين هذا المراد على اعتقاد أنه مما شرَّعه الله بدعة؛ لأنه طريقة في الدين مخترعة مخالفة لما أرشدنا إليه الشارع من وجوب تقديم المحكَمَات وعدم اتباع المتشابهات، وما جزاء المبتدع إلّا أن يُطْرَدَ ويُبْعَدَ عن الناس، خوف أن يفتنهم؛ لأنه رجل سوء، وذلك سر قوله: وأظنك رجل سوء، أخرجوه عني" أ. هـ1.
"قال ابن الصلاح: على هذه الطريقة مضى صدر الأمة وساداتها وإياها اختار أئمة الفقهاء وقادتها، وإليها دعا أئمة الحديث وأعلامه، ولا أحد من المتكلِّمين من أصحابنا يصدف عنها ويأباها. أ. هـ"2.
المذهب الثاني: مذهب الخلف ويُسَمَّى مذهب المؤوِّلة -بتشديد الواو وكسرها، وهم فريقان: فريق يؤولها بصفات سمعية غير معلومة على التعيين، ثابتة له تعالى، زيادة على صفاته المعلومة لنا بالتعيين.
وفريق يؤولها بمعانٍ نعلمها على التعيين، وذلك بأن يحمل اللفظ الذي استحال ظاهره من هذه المتشابهات على معنًى يسوغ لغة، ويليق بالله عقلًا وشرعًا.
1 مناهل العرفان ج2 ص183-185.
2 الإتقان ج3 ص15.
فقد قالوا في تأييد مذهبهم هذا: إن المطلوب شرعًا هو صَرْفُ اللفظ عن مقام الإهمال، إذ لم يخاطب الله المكلَّفين بشيء لا يفهمون معناه، ولا يعقلون المراد منه على الجملة.
وما دام في الإمكان حمل كلام الشارع على معنى سليم، فالنظر قاضٍ بوجوبه، وانتفاعًا بما ورد عن الحكيم العليم.
المذهب الثالث: مذهب المتوسطين بين السلف والخلف.
وهؤلاء يقولون بأن التأويل نوعان: قريب وبعيد؛ فالقريب نقول به، والبعيد نتوقف عنه.
وقد نَسَبَ السيوطي هذا المذهب إلى ابن دقيق العيد، ونقل عنه قوله:"إذا كان التأويل قريبًا من لسان العرب لم يُنْكَر، أو بعيدًا توقفنا عنه، وآمنَّا بمعناه على الوجه الذي أريد به مع التنزيه، قال: وما كان معناه من هذه الألفاظ ظاهرًا مفهومًا من تخاطب العرب قلنا به من غير توقيف، كما في قوله تعالى: {يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} ؛ فنحمله على حق الله وما يجب له" أ. هـ1.
ومذهبه في التأويل القريب متَّفَقٌ عليه، كما سبقت الإشارة إليه في أول هذا المبحث.
ومذهبه في التأويل البعيد يشبه مذهب الفريق الأول من الخلف، ويخالف الفريق الثاني الذين يخوضون في التأويل، ويخالف أيضًا ما عليه السلف من إثبات ما أثبته الله لنفسه بلا توقُّفٍ من غير تشبيه، ولا تجسيم، فيجمعون بين الحسنيين -بين البعد عن التأويل المخالِف لظاهر النصوص، والتوقف عن القول بأن لله من الصفات ما أثبته لنفسه إجراء للنصوص على ظاهرها؛ لأن إعمالها أولى من أهمالها، فما نزل القرآن إلا ليتدبر معناه على وجه مقبول شرعًا وعقلًا، على ما سيأتي تفصيله عند الكلام على الحروف المقطعة التي افتتح الله بها تسعًا وعشرين سورة من كتابه العزيز.
1 الإتقان ج3 ص16.