المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌بعض الأقوال في معنى الأحرف: - دراسات في علوم القرآن - محمد بكر إسماعيل

[محمد بكر إسماعيل]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة:

- ‌المبحث الأول: معنى علوم القرآن

- ‌المبحث الثاني: نشأة علوم القرآن وتطورها

- ‌المبحث الثالث: أسماء القرآن

- ‌المبحث الرابع: الفرق بين القرآن والحديث القدسي والنبوي

- ‌المبحث الخامس: تنزلات القرآن

- ‌المبحث السادس: تنجيم القرآن

- ‌المبحث السابع: أول ما نزل من القرآن وآخر ما نزل

- ‌مدخل

- ‌أول ما نزل بإطلاق:

- ‌آخر ما نزل:

- ‌المبحث الثامن: جهات نزول القرآن

- ‌المبحث التاسع: المكي والمدني

- ‌مدخل

- ‌ضوابط كلية لتمييز المكي من المدني:

- ‌مقاصد المكي

- ‌فائدة العلم بالمكي والمدني:

- ‌المبحث العاشر: آيات القرآن وترتيبها

- ‌معنى الآية

- ‌طريق معرفة الآي:

- ‌سبب الخلاف في عد الآي:

- ‌ترتيب الآي:

- ‌المبحث الحادي عشر: سور القرآن وترتيبها

- ‌تعريف السورة

- ‌حكمة تسوير القرآن:

- ‌تقسيم السور بحسب الطول والقصر:

- ‌أسماء السور:

- ‌ترتيب السور:

- ‌المبحث الثاني عشر: عدد سور القرآن وآياته وكلماته وحروفه

- ‌المبحث الثالث عشر: نزول القرآن على سبعة آحرف

- ‌مدخل

- ‌بعض ما ورد في ذلك:

- ‌الأصول المستفادة من هذه الأحاديث:

- ‌بعض الأقوال في معنى الأحرف:

- ‌المبحث الرابع عشر: القراءات والقراء

- ‌مدخل

- ‌تعريف القراءات:

- ‌الحكمة من تعدد القراءات:

- ‌نشأة علم القراءات:

- ‌أقسام القراءات باعتبار السند:

- ‌ضوابط قبول القراءات:

- ‌هل التواتر شرط في صحة القراءة:

- ‌المبحث الخامس عشر: جمع القرآن في الصدور والسطور

- ‌مدخل

- ‌جمعه في عصر النبي صلى الله عليه وسلم:

- ‌جَمْعُه في عهد الصديق رضي الله عنه:

- ‌جمعه في عهد عثمان:

- ‌خطة عثمان في نسخ المصاحف:

- ‌عدد ما نُسِخَ من المصاحف:

- ‌مصير مصحف حفصة:

- ‌حكم تحريق المصاحف:

- ‌المبحث السادس عشر: رسم المصحف

- ‌مدخل

- ‌العلاقة بين الخط الإملائي والمصحفي:

- ‌عناية العلماء بالرسم العثماني وأشهر المؤلفات فيه:

- ‌المصحف العثماني والأحرف السبعة:

- ‌موقف السلف من كتابة المصاحف بغير الرسم العثماني:

- ‌موقف السلف من تفسير ظواهر الرسم

- ‌مدخل

- ‌ تعليل بعض ظواهر الرسم بعلل لغوية أو نحوية:

- ‌ حَمْلُ تلك الظواهر على خطأ الكاتب:

- ‌ اختلاف الرسم لاختلاف المعنى:

- ‌ تفسير الزيادة والحذف باحتمال القراءات:

- ‌ الرسم بُنِيَ على حكمة ذهبت بذهاب كتبته:

- ‌الخلاصة

- ‌مدخل

- ‌قواعد رسم المصحف:

- ‌قاعدة الحذف:

- ‌قاعدة الزيادة:

- ‌قاعدة الهمز:

- ‌قاعدة البدل:

- ‌قاعدة الوصل والفصل:

- ‌مزايا الرسم العثماني وفوائده:

- ‌المبحث السابع عشر: نقط المصاحف وشكلها وتجزئتها وتحسينها

- ‌مدخل

- ‌دواعي النقط والشكل:

- ‌حكم نقط المصحف وشكله:

- ‌حكم تجزئته وتحسين خطه:

- ‌المبحث الثامن عشر: أسباب النزول

- ‌مدخل

- ‌تعريف سبب النزول:

- ‌طرق معرفة أسباب النزول:

- ‌الصيغة التي يُعْرَف بها سبب النزول:

- ‌تعدُّد الروايات في سبب النزول:

- ‌الخلاصة

- ‌مدخل

- ‌تعدُّد النازل والسبب واحد:

- ‌أقسام السبب:

- ‌العبرة بعموم اللفظ أم بخصوص المسبب

- ‌الرد على السيوطي في هذه المسألة:

- ‌فوائد العلم بأسباب النزول:

- ‌المبحث التاسع عشر: معرفة المحكم من المتشابه

- ‌مدخل

- ‌معنى الإحكام والتشابه في اللغة:

- ‌معنى الإحكام والتشابه في الاصطلاح:

- ‌الراجح:

- ‌ما يقع فيه التشابه:

- ‌الحكمة من وجود المتشابه في القرآن بوجه عام:

- ‌المبحث العشرون: حكم الآيات المتشابهات الواردة في الصفات

- ‌مدخل

- ‌آيات الصفات بين التفويض والتأويل:

- ‌التأويل المحمود والتأويل المذموم:

- ‌المبحث الحادي والعشرون: الحروف المقطعة في فواتح السور

- ‌مدخل

- ‌المبحث الثاني والعشرون: العام والخاص

- ‌تعريف العام والخاص

- ‌صيغ العموم:

- ‌دلالة العام:

- ‌أنواع العام:

- ‌الفرق بين العام المطلق والعام الذي أريد به الخصوص:

- ‌أقسام التخصيص:

- ‌المبحث الثالث والعشرون: المطلق والمقيد

- ‌تعريف المطلق والمقيد

- ‌حكم حمل المطلق على المقيد:

- ‌المبحث الرابع والعشرون: المجمل والمبين

- ‌تعريف المجمل والمبين

- ‌أسباب الإجمال:

- ‌أقسام المجمَل:

- ‌أقسام المبيِّن:

- ‌حكم المجمَل:

- ‌المبحث الخامس والعشرون: المشترك اللفظي

- ‌تعريفه

- ‌أسباب وجوده في اللغة:

- ‌حكمه:

- ‌المبحث السادس والعشرون: النسخ في القرآن والسنة

- ‌مدخل

- ‌مفهوم النَّسْخِ في اللغة:

- ‌مفهوم النَّسْخِ في الشرع:

- ‌أدلة جواز النَّسْخِ:

- ‌ما يقع فيه النَّسْخُ:

- ‌أنواع النسخ

- ‌الأول: ما نسخت تلاوته وبقى حكمه

- ‌الثاني: ما نُسِخَ حكمه وبقيت تلاوته

- ‌الثالث: نَسْخُ الحكم والتلاوة

- ‌النَّسْخُ إلى بدل، وإلى غير بدل:

- ‌حسم الخلاف:

- ‌النَّسْخُ إلى الأخفِّ والمساوي والأثقل:

- ‌طرق معرفة الناسخ والمنسوخ:

- ‌سور القرآن باعتبار الناسخ والمنسوخ:

- ‌السيوطي وآيات النسخ:

- ‌نسخ القرآن بالسنة:

- ‌نسخ السنة بالقرآن:

- ‌نسخ السنة بالسنة:

- ‌حكمة الله في النسخ:

- ‌المبحث السابع والعشرون: أمثال القرآن

- ‌مدخل

- ‌تعريف المثل في اللغة:

- ‌تعريفه عند الأدباء:

- ‌تعريفه عند علماء البيان:

- ‌تعريف المثل القرآني:

- ‌أنواع المثل القرآني:

- ‌خصائص المثل القرآني وسماته البلاغية:

- ‌مقاصد الأمثال القرآنية ومواطن العبرة فيها

- ‌المبحث الثامن والعشرون: أسلوب القس في القرآن الكريم

- ‌المقسم به

- ‌المقسَمُ عليه:

- ‌أدوات القسم:

- ‌مقاصد القسم ومواطن العبرة فيه:

- ‌وجه المناسبة بين المقسم به والمقسم عليه

- ‌الفرق بين القسم والحلف:

- ‌المبحث التاسع والعشرون: خصائص أسلوب القرآن

- ‌مدخل

- ‌الخاصة الأولى: جمال التعبير

- ‌الخاصة الثانية: دقة التصوير

- ‌الخاصة الثالثة: قوة التأثير

- ‌الخاصة الرابعة: براعته في تصريف القول، وثروته في أفانين الكلام:

- ‌المبحث الثلاثون: إعجاز القرآن

- ‌مدخل

- ‌تعريفه:

- ‌عناية العلماء به:

- ‌أهم المؤلفات فيه:

- ‌وجوه الإعجاز

- ‌الوجه الأول: لغته وأسلوبه

- ‌الوجه الثاني: طريقة تأليفه

- ‌الوجه الثالث: بلاغته

- ‌الوجه الرابع: تأثيره في القلوب

- ‌الوجه الخامس: علومه ومعارفه

- ‌الوجه السادس: إنه شيء لا يمكن التعبير عنه

- ‌الوجه السابع: أنه معجز لأنه معجز

- ‌الخلاصة والتحقيق

- ‌مدخل

- ‌القول بالصرفة:

- ‌القدر المعجز منه:

- ‌المراجع:

- ‌الفهرس:

الفصل: ‌بعض الأقوال في معنى الأحرف:

وواحد منها أصاب الحق، وصادف القبول.

وإليك بعض هذه الأقوال ومناقشتها، وبيان الراجح منها بالدليل.

ص: 73

‌بعض الأقوال في معنى الأحرف:

1-

ذهب بعض أهل العلم إلى أن حديث إنزال القرآن على سبعة أحرف مشكَلٌ لا يُعْرَف المراد منه؛ لأن الحرف في اللغة من المشترك اللفظي الذي لا يتعين المعنى المراد منه إلا بقرينة.

فالحرف يطلق في اللغة -كما في القاموس- على: طرف الشيء، وشفيره، وحده، ومن الجبل أعلاه المحدد، وعلى أحد حروف التهجي، وعلى الناقة الضامرة، ومسيل الماء، وعلى الوجه.

وليس في الكلام قرينة توضح المراد من هذه المعاني، فكان المعنى المراد مبهمًا لا يُعْرَف على وجه الحقيقة.

2-

وذهب بعضهم إلى أن العدد لا مفهوم له، بمعنى: أن حقيقته غير مرادة، وإنما المراد به التيسير والتسهيل والتوسعة على الأمة بوجوه متعددة كثيرة، لا تنحصر في سبعة.

والتعبير بالسبعة يراد به في الشرع أحيانًا المبالغة في الكثرة، كما في قوله تعالى:{وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ} 1.

وقوله تعالى: {إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّه} 2.

وقوله -جل شأنه:

{مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ} 3.

فالسبعة يُرَادُ بها الكثرة في الآحاد، والسبعون يراد بها الكثرة في العشرات، والسبعمائة يراد بها الكثرة في المئات.

1 لقمان: 27.

2 التوبة: 80.

3 البقرة: 261.

ص: 73

وإلى هذا القول جنح القاضي عياض ومن تبعه، كما قال الزرقاني في المناهل1.

3-

قال بعضهم: المراد من الأحرف السبعة لغات سبع متفرقة في القرآن كله.

على معنى أنه في جملته لا يخرج في كلماته عن سبع لغات هي أفصح لغاتهم، فأكثره بلغة قريش، ومنه ما هو بلغة هذيل، أو ثقيف، أو هوازن، أو كنانة، أو تميم، أو اليمن، فهو يشتمل في مجموعه على اللغات السبع.

وذهب إلى هذا القول: أبو عبيد القاسم بن سلام، وأبو حاتم السجستاني، واختاره الأزهري في التهذيب، واختاره أيضًا ابن عطية، حيث قال:"معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: "أنزل القرآن على سبعة أحرف" أي: فيه عبارة سبع قبائل، بلغة جملتها نزل القرآن، فيعبَّر عن المعنى فيه تارةً بعبارة قريش، ومرة بعبارة هذيل، ومرة بغير ذلك، بحسب الأفصح والأوفر في اللفظ، ألا ترى أن "فطر" معناه عند غير قريش "ابتدأ"، فجاءت في القرآن، فلم تتجه2 لابن عباس حتى اختصم إليه أعرابيان في بئر، فقال أحدهما: أنا فطرتها، فقال ابن عباس: ففهمت حينئذ معنى قوله تعالى:

{فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْض} .

وقال أيضًا: ما كنت أدري معنى قوله تعالى: {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ} .

حتى سمعت بنت ذي يزن تقول لزوجها: تعالى أفاتحك، أي: أحاكمك، وكذلك قول عمر بن الخطاب وكان لا يفهم معنى قوله تعالى:{أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّف} ، أي: على تنقص لهم، وغير ذلك.

ثم قال: وقد قال تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} .

1 ج1 ص166.

2 لم يتبين معناها.

ص: 74

ولم يقل: "قرشيًّا"1.

4-

ذهب بعضهم إلى أن الأحرف لغات عربية في كلمة واحدة، وكان من تيسير الله على الأمة أن يقرأ كل قوم بلغتهم، فالهذليّ يقرأ "عتى حين" يريد:"حتى حين"، والأسدي يقرأ:"تعلمون" بكسر أوله، والتميمي يهمز، والقرشي لا يهمز، ولو أراد كل منهم أن يزول عن لغته، وما جرى عليه لسانه طفلًا وناشئًا وكهلًا لشقَّ عليه غاية المشقة، فيسَّر الله عليهم، واستمرَّ هذا التيسير حتى جمع عثمان الناس على قراءة واحدة.

5-

ذهب بعض أهل الفقه والحديث، منهم سفيان وابن وهب وابن جرير الطبري، والطحاوي، إلى أن المراد بالأحرف السبعة سبع لغات في الكلمة الواحدة، ذات معنى واحد، مثل: هلم، وأقبل، وتعال، وعجل، وأسرع، وقصدي، ونحوي، هذه ألفاظ سبعة في معنى طلب الإقبال.

ويستدل لهذا الرأي بقراءة أُبَيّ بن كعب، إذا كان يقرأ:{كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيه} .

"كلما أضاء لهم مروا فيه".

"كلماء أضاء لهم سعوا فيه".

وما جاء في قراءة ابن مسعود: "يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا أمهلونا".

"يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا أخرونا نقتبس".

ويلتزم أصحاب هذا الرأي أن يقولوا: إن هذه الأوجه كانت جائزة في أول الأمر، ثم نسخت إلا وجهًا في العرضة الأخيرة، وهي التي نسخ عليها عثمان مصاحفه.

6-

وبعضهم يرى أن الأحرف السبعة هي ما فيه من أمر ونهي، وحلال وحرام، ومحكم، ومتشابه، وأمثال.

1 انظر اللآلئ الحسان ص118.

ص: 75

أو: وعد ووعيد، وحلال وحرام، ومواعظ وأمثال، واحتجاج.

أو: محكم ومتشابه، وناسخ ومنسوخ، وخصوص وعموم، وقصص.

أو: مطلق ومقيد، وعام وخاص، ونص ومؤول، وناسخ ومنسوخ، واستثناء، وغير ذلك.

7-

وذهب جماعة من أهل العلم، وعلى رأسهم الإمام الرازي، إلى أن الأحرف السبعة هي وجوه سبعة يقع فيها التغاير بين قراءة وأخرى:

الأول: اختلاف الأسماء بالإفراد والتثنية والجمع، والتأنيث والتذكير.

ويمكن التمثيل له بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُون} .

إذ قرئ: "لأماناتهم" جمعًا، و"لأمانتهم" بالإفراد.

الثاني: اختلاف تصريف الأفعال، من ماض ومضارع وأمر، ويمثِّل له بقوله تعالى:{فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا} .

قرئ بنصب "ربنا" على النداء، وبلفظ "باعد" على فعل الأمر.

وقرئ "ربنا بعد" برفع "رب" على الابتداء، وبلفظ "بعّد" ماضيًا مضعف العين، خبر المبتدأ.

الثالث: اختلاف وجوه الإعراب:

ويمكن التمثيل له في الأفعال بقوله تعالى: {وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ} .

قرئ بفتح الراء، على أن "لا" ناهية والفعل مجزوم، وقرئ بضم الراء، على أن "لا" نافية والفعل بعدها مرفوع.

ويمكن التمثيل في الأسماء بقوله تعالى: {ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيد} .

قرئ برفع لفظ "المجيد" على أنه نعت لكلمة "ذو"، وقرئ بجره، على أنه نعت لكلمة "العرش".

ص: 76

وهذه الأحرف الثلاثة موافقة لرسم المصحف العثماني؛ لأنه كما سبق كان خاليًا من النقط ومن الشكل.

الرابع: الاختلاف بالنقص والزيادة.

ويمكن التمثيل له بقوله تعالى في سورة التوبة: {وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ} .

وقرئ "تجري من تحتها الأنهار" بزيادة لفظ "من"، وهما قراءتان متواترتان، وقد وافقت كلٌّ منهما رسم المصحف، فالأولى بدون "من" وافقت رسم غير المصحف المكي، والتي بزيادة "من" وافقت رسم المصحف المكي.

ومن هذا الوجه -الزيادة والنقص- ما لا يوافق رسم المصحف قراءة: "وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة صالحة غصبًا" بزيادة لفظ "صالحة" وقراءة: "والذكر والأنثى" بحذف لفظ وما خلق، فإن زيادة "صالحة"، ونقص "وما خلق"، مخالفة لخطِّ جميع المصاحف العثمانية، ولذلك تركت هذه القراءة، وعُدَّت منسوخة في العرضة الأخيرة.

الخامس: الاختلاف بالتقديم والتأخير.

ويمكن التمثيل له بقوله تعالى: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ} .

فقد قرئ: "وجاءت سكرة الحق بالموت"، ولكن القراءة الثانية لا توافق رسم مصحف من المصاحف العثمانية، فتُرِكَت وعُدَّت منسوخة التلاوة، في العرضة الأخيرة.

ومثال ما وافق رسم المصحف من هذا الوجه، قوله تعالى في سورة التوبة:

{فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا} .

قرئ الفعل الأول مبنيًّا للمعلوم، والثاني مبنيًّا للمجهول، وقرئ بالعكس، الأول مبني للمجهول، والثاني مبني للمعلوم، والقراءتان متواترتان.

ص: 77

السادس: الاختلاف بالإبدال:

ويمكن التمثيل له بقوله تعالى: {وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا} .

قرئ "ننشزها" بالزاي وبالراء قراءتان متواترتان.

وكذا قوله تعالى: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} .

وقرئ "فتثبتوا" قراءتان متواترتان، موافقتان لرسم المصحف.

ومثال ما لم يوافق رسم المصحف قوله تعالى:

{إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} .

قرئ "فامضوا إلى ذكر الله"، وهي مخالفة لرسم جميع المصاحف العثمانية، فتُرِكَت، وعُدَّت منسوخة التلاوة في العرضة الأخيرة.

السابع: اختلاف اللغات "أي: اللهجات" كالفتح والإمالة والترقيق والتفخيم، والإظهار والإدغام، ونحو ذلك.

ويمكن التمثيل له بقوله تعالى: {وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى} .

بالفتح أو الإمالة في "أتى"، وفي "موسى"، وهذا الوجه موافق دائمًا لرسم المصحف؛ لأنه تغيير في النطق الشكلي، وليس في جوهر الكلمة.

مناقشة الأقوال السابقة وبيان الراجح منها:

أما "القول الأول": وهو أن حديث: "أنزل القرآن على سبعة أحرف" مشكَلٌ لا يُعْرَف المراد منه، فإنه لا إشكال فيه بحمد الله تعالى؛ لأن المشترك اللفظي إذا وجدت قرينة تبين المعنى المراد منه لا يكون مشكلًا، وقد قامت قرائن تمنع بعض معانيه، وتعين بعضها الآخر.

لأنه لا يصح أن يراد أحد حروف التهجي؛ لأن القرآن مؤلَّف من جميع حروف الهجاء، لا من سبعة منها فقط.

ولا يصحُّ أن يراد به طرف الشيء، ولا الناقة الضامرة، ولا مسيل الماء، فتعيَّن أن يراد منه الوجه، وإذا تعيَّن أحد وجوه المشترك اللفظي بمثل هذه القرائن لم يكن مشكلًا.

ص: 78

أما "القول الثاني": وهو أن حقيقة العدد غير مقصودة فهو غير صحيح، لما جاء في حديث ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"أقرأني جبريل على حرف فراجعته، فلم أزل استزيده، ويزيدني، حتى بلغ سبعة أحرف".

ولما جاء في حديث أبي بكرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "فنظرت إلى ميكائيل فسكت، فعلمت أنه قد انتهت العدة".

فهذان الحديثان مع المراجعات الثابتة في الأحاديث السابقة، تدل على أن المراد بالسبعة حقيقة العدد الواقع بين الستة والثمانية.

وأما "القول الثلث": وهو أن المراد من الأحرف السبعة لغات سبع متفرقة في القرآن كله، فليس بالقول المرضي، وذلك لوجوه:

الأول: أن عدم فهم ابن عباس وابن عمر لبعض ألفاظ القرآن لا يدلُّ على أن هذه الألفاظ غير قرشية أو مستعملة في لغة قريش؛ لأنه لا يمكن إدعاء إحاطة كلٍّ منهما بجميع ألفاظ لغة قريش، فقد قالوا: إنه لا يحيط باللغة إلا معصوم.

الثاني: أن هذا القول يتنافى مع ما عُلِمَ من الأحاديث المتقدِّمَة من أن نزول القرآن على سبعة أحرف كان الهدف منه التيسير على الأمة، بأن يقرأ كلُّ واحد بأيِّ حرف منها شاء.

فإذا كان معنى الأحرف السبعة على ما قالوا، لم يكن هناك تخيير في القراءة، بل يكون الكل ملزمًا بحرف واحد.

الثالث: إن هذا الرأي لا يمكن معه تصوّر اختلاف الصحابة في القراءة، وإقرار النبي صلى الله عليه وسلم كلًّا منهم على قراءته.

الرابع: أن لغات العرب أكثر من سبع، وفي القرآن كلمات لقبائل كثيرة تزيد على هذا العدد بكثير.

الخامس: أن هذا القول يقتضي أن يكون القرآن أبعاضًا، منه ما هو بلغة قريش، ومنه ما هو بلغة هذيل، وهكذا.

وهذا المذهب يستلزم أن كلَّ شخص لا يمكنه أن يقرأ إلّا البعض الذي نزل بلغته، دون البعض الذي نزل بلغة غيره.

ص: 79

وهذا يتنافى مع التيسير المقصود من نزول القرآن على سبعة أحرف كما قدمنا.

وهو مخالف لما صورته لنا الروايات السابقة من اختلافٍ في القراءت بين الصحابة، فإن المقروء فيها كان واحدًا لا محالة.

أما "القول الرابع": وهو أن المراد بالأحرف السبعة لغات عربية في كلمة واحدة؛ فهو رأي له وجاهته، غير أنه يلزم منه أن بعض هذه اللغات التي قرأ بها المسلمون قد ضيَّعَها عثمان رضي الله عنه لمَّا جمع الناس على حرف واحد، فيحتاج أصحاب هذا الرأي إلى مبرِّرٍ يدفع عنه التهمة، وعن المسلمين الذين أقرُّوه على ذلك، بأن يقولوا: إن المسلمين قد خُيِّرُوا في القراءة بأيِّ وجه9 شاءوا، فاختاروا هذا الوجه على غيره حسمًا للخلاف ودرءًا للفتنة.

وأما "القول الخاس": وهو أن المراد بالأحرف السبعة سبع لغات في الكلمة الواحدة ذات المعنى الواحد مثل: هلمَّ، وأقبل، وتعال، وعجِّل، وأسرع، وقصدى، ونحوي.

فقد رجَّحه جماعة منهم سفيان بن عيينة، وابن جريج الطبري، وابن وهب، ونسبه ابن عبد البر لأكثر العلماء.

واستدلوا على هذا القول بما جاء في حديث أبي بكرة: "أن جبريل قال: يا محمد، اقرأ القرآن على حرف، فقال ميكائيل، استزده، فقال: على حرفين، حتى بلغ ستة أو سبعة أحرف، فقال: كلها شافٍ كافٍ ما لم يختم آية عذاب بآية رحمة، أو آية رحمة بآية عذاب، كقولك: هلمَّ وتعال وأقبل، واذهب وأسرع وعجل"1.

قال ابن عبد البر: "إنما أراد بهذا ضرب المثل للحروف التي نزل القرآن عليها، وأنها معانٍ متفق مفهومها، مختلف مسموعها، لا يكون في شيء منها

1 أخرجه أحمد والطبراني بإسناد جيد، وهذا اللفظ لأحمد.

ص: 80

معنى وضده، ولا وجه يخالف معنى وجه خلافًا ينفيه ويضاده، كالرحمة التي هي خلاف العذاب"1.

ويؤيده أحاديث، منها:

قرأ رجل عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه فغيَّرَ عليه، فقال: لقد قرأت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يغيِّر علي، قال: فاختصما عند النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، ألم تقرئني آية كذا وكذا؟ قال:"بلى"، قال: فوقع في صدر عمر شيء، فعرف النبي صلى الله عليه وسلم ذلك في وجهه قال: فضرب صدره وقال: "أبعد شيطانًا" -قالها ثلاثًا، ثم قال:"يا عمر، إن القرآن كله صواب ما لم تجعل رحمة عذابًا، أو عذابًا رحمة"2.

وعن بسر بن سعيد أن أبا جهيم الأنصاري أخبره أن رجلين اختلفا في آية من القرآن، فقال هذا: تلقيتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال الآخر: تلقيتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسألا رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن القرآن أنزل على سبعة أحرف، فلا تماروا في القرآن، فإن المراء فيه كفر"3.

وعن الأعمش قال: قرأ أنس هذه الآية: "إن ناشئة الليل هي أشد وطئًا وأصوب قيلًا".

فقال له بعض القوم: يا أبا حمزة، إنما هي "وأقوم"، فقال: أقوم، وأصوب وأهيأ واحد4.

وعن محمد بن سيرين قال: نُبِّئْتُ أن جبرائيل وميكائيل أتيا النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له جبرائيل: اقرأ القرآن على حرفين، فقال له ميكائيل:

1 انظر الإتقان ج1 ص47.

2 أخرجه أحمد بإسنادٍ رجاله ثقات، وأخرجه الطبري.

3 رواه أحمد في "المسند" ورواه الطبري، ونقله ابن كثير في "الفضائل"، والهيثمي في "مجمع الزوائد" وقال: رجاله رجال الصحيح.

4 رواه الطبري وأبو يعلى، والبزار، ورجاله رجال الصحيح.

ص: 81

استزده، قال: حتى بلغ سبعة أحرف، قال محمد: لا تختلف في حلال ولا حرام، ولا أمر ولا نهي، هو كقولك: تعالى: وهلمَّ، وأقبل، قال: وفي قراءتنا: {إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً} في قراءة ابن مسعود: "إن كانت إلا زقية واحدة"1.

ولكن هذا القول مردود من وجهين:

الأول: أن الكلمة التي يوجد لها سبع مرادفات في القرآن نادرة، فلا يتأتَّى التيسير، ولا رفع الحرج الذي أنزل القرآن على سبعة أحرف من أجله.

وقد أنكر ابن قتيبة أن يكون في القرآن كلمة تقرأ على سبعة أوجه.

الثاني: أنه يؤدي إلى أن الاختلاف في أوجه القراءة قد انتهى، مع أن الأمة أجمعت على صحة القراءات الكثيرة التي نُقِلَت بالتواتر.

وأمَّا "القول السادس": وهو أن الأحرف السبعة هي ما فيه من أمر ونهي، وحلال وحرام،

إلى آخره، فإنه قول لا دليل عليه، فهو مخالف لظاهر الأحاديث الواردة في أنَّ نزول القرآن على سبعة أحرف كان تيسيرًا على الأمة.

وظاهر الأحاديث يدل على أن المراد بالأحرف السبعة: أن الكلمة تقرأ على وجهين أو ثلاثة إلى سبعة توسعةً للأمة، والشيء الواحد لا يكون حلالًا وحرامًا في آية واحدة، والتوسِعَة لم تقع في تحريم حلال، ولا تحليل حرام، ولا في تغيير شيء من المعاني المذكورة.

والذي ثبت في الأحاديث السابقة أن الصحابة الذين اختلفوا في القراءة، احتكموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فاستقرأَ كلَّ رجل منهم، ثم صوَّب جميعهم في قراءتهم على اختلافهم، حتى ارتاب بعضهم لتصويب إياهم، فقال صلى الله عليه وسلم للذي ارتاب منهم عند تصويبه جميعهم:"إن الله أمرني أن أقرأ القرآن على سبعة أحرف".

ومعلوم أن تماريهم فيما تماروا فيه من ذلك لو كان فيما دلَّت عليه تلاواتهم من التحليل والتحريم، والوعد والوعيد، وما أشبه ذلك، لكان مستحيلًا أن

1 رواه الطبري، ومحمد -هو ابن سيرين التابعي- فالحديث مرسل.

ص: 82

يصوّب النبي صلى الله عليه وسلم جميعهم، ويأمر كل قارئ منهم أن يلزم قراءته في ذلك على النحو الذي هو عليه، لما يلزم عليه من اجتماع الضدين على شيء واحد.

فظهر أن هذا القول ساقط لا يعوَّل عليه، ولا يلتفت إليه.

وأما "القول السابع": وهو أن الأحرف السبعة هي حروف سبعة يقع فيها التغاير بين قراءة وأخرى، فهو القول الصحيح الجامع لكلِّ ما تقدَّم من الأحاديث الصحيحة، والموافق للأصول الخمسة التي استنبطها العلماء منها، والذي لا يلحقه اعتراض فيما أرى، ولا يتوجَّه إلى المسلمين فيه أيِّ اتهام.

كما أنه يعتمد على الاستقراء التامِّ لمرجع اختلاف القراءات، ويتمشَّى مع بقاء الأحرف السبعة إلى اليوم.

وهذا القول ذهب إليه في جملته فحول من العلماء، على رأسهم أبو الفضل الرازي -كما ذكرنا، وتبعه فيه أو قاربه كل القرب ابن قتيبة، وابن الجزري، والقاضي ابن الطيب رحمهم الله جميعًا.

شبهات مردودة:

قد أورد بعض الكُتَّابِ في كتبهم شبهات حول حديث نزول القرآن على سبعة أحرف، وقاموا مشكورين بدحضها وتفنيدها.

الشبهة الأولى: ذهب بعض من لا علم له إلى القول بأن المراد بالأحرف السبعة، القراءات السبعة المنقولة عن الأئمة السبعة المعروفين عند القراء.

قال ابن الجزري في الردِّ على هذه الشبهة:

"لا يجوز أن يكون المراد هؤلاء السبعة القراء المشهورين، وإن كان يظنُّه بعض العوام؛ لأن هؤلاء السبعة لم يكونوا خُلِقُوا ولا وُجِدُوا"1.

"وقال أبو شامة: "ظنَّ قومٌ أن القراءات السبع الموجودة الآن هي التي أريدت في الحديث، وهو خلاف إجماع أهل العلم قاطبة، وإنما يَظُنُّ ذلك بعض أهل الجهل"

1 النشر ج1 ص75.

ص: 83

وقال ابن عمار: لقد فعل مُتَّبِعُ هذا السبع ما لا ينبغي له، وأشكل الأمر على العامة، بإبهامه كل من قلَّ نظره أن هذه القراءات هي المذكورة في الخبر، وليته نقص عن السبعة، أو زاد ليزيل الشبهة".

وقال مكي بن أبي طالب: هذه القراءات التي يُقْرَأُ بها اليوم، وصحَّت رواياتها عن الأئمة، هي جزء من الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن.

ثم قال: وأما من ظنٍّ أن قراءة القرَّاء كنافع وعاصم، هي الأحرف السبعة التي في الحديث، فقد غلط غلطًا عظيمًا، قال: ويلزم من هذا أن ما خرج عن قراءة هؤلاء السبعة، مما ثبت عن الأئمة وغيرهم، ووافق خطَّ المصحف، أن لا يكون قرآنًا، وهذا غلط عظيم"1.

وابن مجاهد الذي جمع القراءات السبع لم يقتصر على السبع لاعتقاده أنها هي المرادة بقوله صلى الله عليه وسلم: "أنزل القرآن على سبعة أحرف" ، وإنما كان ذلك منه على سبيل الصدفة، أو كان كما يقول شهاب الدين القسطلاني في مقدِّمَة إبراز المعاني من حرز الأماني" لأبي شامة:"جمع قراءات سبعة مشاهير من أئمة قراء هذه الأمصار، ليكون ذلك موافقًا لعدد الحروف التي أنزل عليها القرآن، لا لاعتقاده أو اعتقاد غيره من العلماء أن هؤلاء السبعة المعينين هم الذين لا يجوز أن يقرأ بغير قراءاتهم"2.

قال أبو شامة في إبراز المعاني: "فذكرت تصانيف الأئمة في القراءات المعتبرة والشاذة، ووقع اختيار أكثرهم على الاقتصار على ذكر قراء سبعة من أئمة الأمصار، وهم الذين أجمع عليهم، وإن كان الاختلاف أيضًا واقعًا فيما نُسِبَ إليهم، وأول من فعل ذلك الإمام أبو بكر بن مجاهد قبيل سنة ثلاثمائة أو في نحوها، وتابعه بعد ذلك من أتى بعده إلى الآن، وكان من كبار أئمة هذا الشأن، وبعضهم صنَّف في قراءة أكثر من هذا العدد، وبعضهم في أنقص منه.

واختار ابن مجاهد ومن بعده هذا العدد موافقة لقوله عليه الصلاة والسلام: "إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف".

1 اللآلئ الحسان ص127.

2 ص22.

ص: 84

فإن كان المراد بها غير ذلك على ما ذكرناه في كتاب مفرد لذاك، وتأسيًا بمصحف الأئمة التي أنفذها الصحابة إلى الأمصار، فإنها كانت سبعة على ما نطقت به الأخبار، ووقع اختيارهم من أئمة القراءة على كل مختار"1.

الشبهة الثانية: يقول المفترون من المستشرقين ومن نحا نحوهم من أهل الزيغ والضلال: إن اختلاف القراء في قراءة القرآن على سبعة أحرف، والأحاديث الدَّالة على أنه نزل على سبعة أحرف، تدل على أن في القرآن اختلافًا كثيرًا، بينما ينفي الله عن هذا القرآن الاختلاف، ويجعل وجوده دليلًا على أنه ليس من عنده.

والجواب أن الاختلاف الناشئ عن الأحرف السبعة هو اختلاف في طرق الأداء في دائرة محدودة، لا تعارض بين معانيها، ولا تضارب بين أحكامها.

والاختلاف المنفي إنما هو التعارض في المعاني، والتناقض في الأحكام والأخبار.

الشبهة الثالثة: "قالوا: إن بعض الروايات في اختلاف القراءات تثير الشك في القرآن، وتفقد الثقة فيه، ففي بعض الروايات تخيير الشخص أن يأتي باللفظ أو بمرادفه، أو باللفظ وما لا يضاده في المعنى، من ذلك حديث أبي بكرة من رواية أحمد، وفيه: "كلها شافٍ كافٍ، ما لم تختم آية عذاب برحمة، أو آية رحمة بعذاب، نحو قولك: تعالى، وأقبل، وهلمَّ، وأسرع، وعجِّل".

ومن ذلك أيضًا ما روي عن ابن مسعود، "أنه أقرأ رجلًا:{إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ، طَعَامُ الْأَثِيمِ} فقال الرجل: طعام اليتيم، فردها عليه، فلم يستقم بها لسانه، فقال: أتستطيع أن تقول: طعام الفاجر؟ قال: نعم، قال: فأفعل".

والحقيقة أن كثرة الأقوال، وتهافتها، وضعف الروايات وسقوطها، مكَّن لأعداء الإسلام من التهجُّم على الكتاب الخالد، الذي "لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه"، وأتاج لهم فرصة الاعتراض والتشكيك.

نعم، وإن سماحة الإسلام فتحت مجال القول والكتابة على مصراعيه،

1 ص5، 6.

ص: 85

فدخله العالم والجاهل، فكتب فيه -بحسن قصد- ما ليس منه، ووجد من كلام أبنائه معاول هدم أخطر من سيوف المبشِّرين والمستشرقين، وصدق القائل:

لا يبلغ الأعداء من جاهل

ما يبلغ الجاهل من نفسه

فما أحوج ثروة الإسلام العلمية إلى جملة نقاء وتصفية في كتب التفسير، وكتب الحديث، وكتب السير، بل وكتب الأحكام الفقهية الفرعية.

ونرى بعض العلماء يسلِّمُ بصحة هذه الروايات لمجرد اطمئنانه للمسند، ويحاول الرد بأن هذا كان جائزًا في أول الإسلام حتى تلين ألسنة المبعوث إليهم، مع ملاحظة أن الكلَّ نازل من عند الله.

وتلك المحاولة -رغم حسن القصد الباعث عليها- لا تزيد الشبهة إلّا اشتباهًا، فإن القرآن لم ينزل للعرب وحدهم، وكان حريًّا به أن يراعي المشقة بالنسبة لجميع الأمم لا بالنسبة لبعض القبائل العربية التي تقف ألسنتها عند كلمات منه محدودة.

والأولى ردَّ هذه الروايات من أساسها؛ لأن ما جاءت به يخالف الأمر المجمع عليه"1.

1 انتهى بتصرف يسير من اللآلئ الحسان ص125، 126.

ص: 86