الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
آيات الصفات بين التفويض والتأويل:
بعد أن عرضنا عليك مذهب السلف، ومذهب الخلف فيما تشابه من آيات الصفات، نذكر لك طرفًا من أقوال كلٍّ منهما في بعض هذه الآيات، ليتبين لك الفرق بينهما بوضوح، فتعلم أيّ الفريقين أقوم قيلًا، وأهدى سبيلًا على التحقيق.
1-
{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 1:
اتفق العلماء سلفًا وخلفًا على أن الاستواء بمعناه المعلوم لدينا غير جائز على الله تعالى؛ لأن الله عز وجل قد نفى عن نفسه المماثلة لخلقه من جميع الوجوه بقوله سبحانه:
{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} .
ولكنهم اختلفوا في المراد منه، فقال السلف: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، فهو -جل شأنه- أعلم بما يليق به.
وقال الخلف: الاستواء معناه الاستيلاء والهيمنة والقهر من غير معاناة ولا تكلُّف، واللغة تتسع لهذا المعنى، فلا مانع عندهم من القول به إذا كان الغرض هو تنزيه الله عز وجل عمَّا لا يليق بذاته من صفات الحوادث.
ومنهم من يؤوِّل الاستواء من غير تعيينٍ لمعناه على الحقيقة، ولا على المجاز، ويقولون: إن المراد من الآية إثبات أنه تعالى متَّصِفٌ بصفة سمعية لا نعلمها على التعيين.
وذكرت في الآية تأويلات أخرى لا يعوَّل عليها ولا يلتَفَتُ إليها، ضربنا عنها صفحًا خشية التطويل من غير فائدة.
والسلف والخلف يدورون في فلك واحد، وإن اختلفت أنظارهم، وتباينت أقوالهم، فالجميع ينزه الله عز وجل بالطريقة التي يراها صحيحة عنده، إلّا أن مذهب السلف أسلم، كما سيتبين لك قريبًا.
وللإمام الطبري -رحمه الله تعالى- فَهْمٌ في معنى الاستواء، جمع فيه بين قولي السلف والخلف، بناه على المفهوم من عرف اللغة، مراعيًا ما يجب في حق الله تعالى من التقديس والتنزيه، فبعد أن ذكر أقوال العلماء في معناه، قال: الاستواء في كلام العرب منصرف على وجوه، ثم يقول: وأَوْلَى المعاني بقول الله -جل ثناؤه:
1 طه: 5.
{ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ} .
علا عليهن وارتفع فدبَّرَهن بقدرته، وخلقهن سبع سماوات.
ثم قال: والعجب ممن أنكر المعنى المفهوم من كلام العرب في تأويل قول الله: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء} ، الذي هو بمعنى العُلُوِّ والارتفاع هربًا عند نفسه من أن يلزمه بزعمه إذا تأوَّله بمعناه المفهوم، كذلك أن يكون إنما علا وارتفع بعد أن كان تحتها -إلى أن تأوَّله بالمجهول من تأويله المستنكر، ثم لم ينج مما هرب منه، فيقال له: زعمت أن تأويل قوله: {اسْتَوَى} : أقبل، أفكان مدبرًا عن السماء فأقبل إليها؟
فإن زعم أن ذلك ليس بإقبال فعل، ولكنه إقبال تدبُّر، قيل له: فكذلك فقل: علا عليها علوَّ ملك وسلطان، لا علوَّ انتقال وزوال.
ثم لن يقول في شيء من ذلك قولًا إلّا ألزم في الآخر مثله.
فأنت تراه بهذا التأويل قد أصاب المحذ، وأمسك بالعصا من طرفيها، ففسَّرَ الاستواء بمعناه المعروف عند العرب، والذي لا ينكره أحد من علماء اللغة، وهو العُلُوّ والارتفاع، وأتى به على النحو الذي يليق بجلال الله تعالى، فجعله علوَّ ملك وسلطان لا علوَّ انتقال وزوال.
وهو ما عليه علماء السلف الصالح من الصحابة والتابعين. أ. هـ.
2-
{يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِم} 1.
ولما كانت اليد من الألفاظ المشتركة وقع فيها الخلاف بين العلماء سلفًا وخلفًا، فهي تُطْلَقُ ويراد بها الجارحة والقدرة والنعمة، وغير ذلك.
لكن لمَّا أثبت الله لنفسه اليد -وهو المنزه عن صفات الحوادث- ذهب العلماء في تاويلها مذاهب؛
فقال السلف -على طريقتهم في التفويض: لله يد ليست كأيدينا، لا علم لنا بها.
1 الفتح: 10.
وقال فريق من الخلف كالأشعري: إن اليد صفة ورد بها الشرع، والذي يلوح من معنى هذه الصفة أنها قريبة من معنى القدرة، إلّا أنها أخصّ والقدرة أعمّ، فإن في اليد تشريفًا لازمًا.
وقال فريق آخر: إنها القدرة خروجًا من التشبيه، وفرارًا من التوقف.
وقد سلك الإمام الطبري مسلك الجمع بين الأقوال، ووقف وسطًا بين السلف والخلف، وحكَّم اللغة في الترجيح والتصحيح، كما هو شأنه دائمًا في المتشابِه الذي لم يَرِدْ فيه نقلٌ صحيح يعين المراد منه؛ وقال رحمه الله: "فيها وجهان من التأويل؛ أحدهما: يد الله فوق أيديهم عند البيعة؛ لأنهم كانوا يبايعون الله ببيعتهم نبيه صلى الله عليه وسلم.
والآخر: قوة الله فوق قوتهم في نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم".
وحيث ذكر هذين القولين ولم يرجِّح أحدهما على الآخر، فهو يُقِرُّهما معًا على السوية باعتبارهما متلازمين، إذ يلزم عن العلوِّ والفوقية القوة والغلبة التي تقع بهما النصرة على العدو.
وما قيل في قوله تعالى: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِم} يُقَالُ في قوله تعالى: {وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} .
3-
{وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} 1:
ورد لفظ العين مفردًا وجمعًا منسوبًا إلى الله تعالى، فجعله السَّلف على المعنى الذي يليق بذاته من غير تأويل، وأوَّله الخلف كما أوَّلوا الاستواء واليد، فقالوا: المراد بالعين العناية والرعاية، وما في معناها.
قال محمد جمال الدين القاسمي2 -وهو سلفيّ المذهب والعقيدة- في تفسير قوله تعالى: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا} 3:
{بِأَعْيُنِنَا} أي: بحفظنا وكلاءتنا، كأن معه من الله عز وجل حفاظًا وحراسًا، يكلأونه بأعينهم من التعدي من الكفرة، ومن الزيغ في الصنعة.
1 طه: 39.
2 محاسن التأويل ج9 ص3434، 3435.
3 سورة هود: 37.