الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثامن: جهات نزول القرآن
…
المبحث الثامن: جهات نزل القرآن
نعني بالجهات: الأماكن التي نزل فيها القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم، وهي كثيرة.
فمنه ما نزل بمكة، ومنه ما نزل بالمدينة، ومنه ما نزل بالجحفة، ومنه ما نزل ببيت المقدس، ومنه ما نزل بالطائف، ومنه ما نزل بالحديبية.
وقد حاول الباحثون أن يتتبعوا ما نزل في هذه الأماكن وغيرها، معتمدين في ذلك على الروايات الصحيحة، ليستعينوا بمعرفة جهات النزول على فهم الأحكام الشرعية التي تضمنتها الآيات، وليعرفوا الناسخ منها والمنسوخ، وغير ذلك من الفوائد التي سيأتي بيانها.
وقد نقل السيوطي في الإتقان1 عن أبي القاسم النيسابوري في كتابه "التنبيه على فضل علوم القرآن" قوله:
"من أشرف علوم القرآن علم نزوله، وجهاته، وترتيب ما نزل بمكة والمدينة، وما نزل بمكة وحكمه مدني، وما نزل بالمدينة وحكمه مكيّ، وما نزل بمكة من أهل المدينة، وما نزل بالمدينة في أهل مكة، وما يشبه نزول المكي في المدني، وما يشبه نزول المدني في المكي، وما نزل بالجحفة، وما نزل ببيت المقدس، وما نزل بالطائف، وما نزل بالحديبية، وما نزل ليلًا، وما نزل نهارًا، وما نزل مشيعًا، وما نزل مفردًا، والآيات المدنيات في السور المكية، والآيات المكيات في السور المدنية، وما حُمِلَ من مكة إلى المدينة، وما حُمِلَ من المدينة إلى مكة، وما حُمِلَ من المدينة إلى أرض الحبشة، وما أُنْزِلَ مجملًا، وما نزل مفصَّلًا، وما اختلفوا فيه فقال بعضهم مدني وبعضهم مكي.
فهذه خمسة وعشرون وجهًا مَنْ لم يعرفها ويميِّزُ بينها، لم يحل له أن يتكلم في كتاب الله تعالى".
1 ج1 ص36.
أقول: في هذا الكلام شيء من المبالغة؛ لأن معرفة هذه الوجوه كلها لا يترتب عليها فوائد ذات بال.
ومعرفتها جميعًا من فضول العلم لا من أصوله، وقوله:"مَنْ لم يعرفها ويميِّز بينها لم يحِلّ له أن يتكلم في كتاب الله تعالى" حكم غير صحيح، فإن أراد بعضها كمعرفة المكي والمدني، فمسلم.
والصحابة -رضوان الله عليهم- لم يكونوا يعرفون هذه الوجوه جميعًا، ومع ذلك كانوا يتكلمون في كتاب الله تعالى بما انتهى إليه علمهم عن الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، أو وصل إليه فهمهم للآيات إذا لم يكن فيها بيان عن الرسول صلى الله عليه وسلم بقولٍ منه أو بفعل.
نقل الزركشي في البرهان عن القاضي أبي بكر في الانتصار: إن هذا يرجع إلى حفظ الصحابة وتابعيهم، غير أنه لم يكن من النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك قول، ولا ورد عنه أنه قال: اعلموا أنَّ قدر ما نزل بمكة كذا، وبالمدينة كذا، وفصَّله لهم، ولو كان ذلك منه لظهر وانتشر، وإنما لم يفعله؛ لأنه لم يؤمر به، ولم يجعل الله علم ذلك من فرائض الأمة.
وإن وجب في بعضه على أهل العلم معرفة تاريخ الناسخ والمنسوخ، ليُعْرَف الحكم الذي تضمنها، فقد يعرف ذلك بغير نص الرسول صلى الله عليه وسلم، وقوله هذا هو الأول المكي، وهذا هو الآخر المدني.
وكذلك الصحابة والتابعون من بعدهم لما لم يعتبوا أنَّ من فرائض الدين تفصيل جميع المكي والمدني مما لا يسوغ الجهل به، لم تتوفر الدواعي على إخبارهم به، ومواصلة ذكره على أسماعهم، وأخذهم بمعرفته، وإذا كان كذلك ساغ أن يختلف في بعض القرآن هل هو مكي أو مدني، وأن يعملوا في القول بذلك ضربًا من الرأي والاجتهاد، وحينئذ فلم يلزم النقل عنهم ذِكر المكي والمدني، ولم يجب على من دخل في الإسلام بعد الهجرة أن يعرف كل آية أنزلت قبل إسلامه، مكية أو مدنية.
فيجوز أن يقف في ذلك، أو يغلب على ظنه أحد الأمرين، وإذا كان كذلك بطل ما توهموه من وجوب نقل هذا، أو شهرته في الناس، ولزوم العلم به لهم، ووجوب ارتفاع الخلاف فيه.
لهذا لا يجب أن نكلف أنفسنا عناء البحث عن كل هذه الوجوه التي ذكرها أبو القاسم النيسابوري، ولكننا نكتفي بما تتعلق به فائدة في معرفة حكم من أحكام الدين.
وأشهر ما يعنى به العلماء من هذه الوجوه معرفة المكي والمدني.
وفيما يلي بيان ما اصطلحوا على تسميته مكيًّا، وما اصطلحوا على تسميته مدنيًّا، ومناقشة هذه المصطلحات بإيجاز.