الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
3-
ومن العلماء من ذهب إلى أن المصاحف العثمانية لا تشتمل إلّا على حرف واحد.
منهم ابن جرير الطبري، فقد نصَّ على أن المصحف العثماني قد كُتِبَ على حرف واحد، فقال فيما قال:"فلا قراءة للمسلمين اليوم إلّا بالحرف الواحد الذي اختاره لهم إمامهم الشفيق الناصح، دون ما عداه من الأحرف الستة الباقية".
الصواب عندي -والله أعلم- أن كُتَّاب المصاحف قد راعوا في كتابتهم أن تكون المصاحف مشتملة على الأحرف السبعة التي أنزل القرآن عليها بقدر الإمكان، وذلك في جملتها لا في كل واحد منها.
قال الزرقاني في فوائد الرسم العثماني:
"الفائدة الأولى: الدلالة في القراءات المتنوعة في الكلمة الواحدة بقدر الإمكان، وذلك أن قاعدة الرسم لُوحِظ فيها أن الكلمة إذا كان فيها قراءتان أو أكثر كتبت بصورة تحتمل هاتين القراءتين أو الأكثر، فإن كان الحرف الواحد لا يحتمل ذلك، بأن كانت صورة الحرف تختلف باختلاف القراءات، جاء الرسم على الحرف الذي هو خلاف الأصل، وذلك ليُعْلَم جواز القراءة به وبالحرف الذي هو الأصل، وإذا لم يكن في الكلمة إلّا قراءة واحدة بحرف الأصل رُسِمَت به"1.
ولا يعني هذا أن الرسم يشتمل على كل قراءة صحيحة، وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن الأمر في ذلك أكثري.
1 مناهل العرفان ج1 ص366.
موقف السلف من كتابة المصاحف بغير الرسم العثماني:
ذهب علماء السلف الصالح إلى وجوب كتابة المصاحف بالخط الذي كتبت به في عهد عثمان رضي الله عنه وعن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أجمعين.
يروي الداني أن مالكًا رضي الله عنه قيل له: "أرأيت من استكتب مصحفًا اليوم، أترى أن يكتب على ما أحدث الناس من الهجاء اليوم، فقال: لا أرى ذلك، ولكن يكتب على الكتبة الأولى"1.
1 المقنع ص9، 10.
وقد أجمع العلماء على مثل ما ذهب إليه الإمام مالك، فقد قال الداني بعد أن روى رأي مالك السابق:"ولا مخالف له في ذلك من علماء الأمة".
وقال الإمام أحمد بن حنبل: تحرم مخالفة مصحف الإمام في واو أو ياء أو ألف أو غير ذلك1.
وقد ذكر أحمد بن المبارك في الإبريز2 أن هذا هو مذهب الأئمة الأربعة، ونقل ذلك عن الجعبري من العقيلة.
قال البيهقي أبو بكر أحمد بن الحسين في شعب الإيمان: من كتب مصحفًا فينبغي أن يحافظ على الهجاء الذي كتبوا به هذه المصاحف، ولا يخالفهم فيه، ولا يغيِّر مما كتبوا شيئًا، فإنهم كانوا أكثر علمًا، وأصدق قلبًا ولسانًا، وأعظم أمانة منَّا، فلا ينبغي أن نظن بأنفسنا استدراكًا عليهم3.
ثم إن هذا الرسم سُنَّةٌ من سنن الخلفاء الراشدين المهديين الذين أوصى النبي صلى الله عليه وسلم بأتباعها، بقوله:"عليكم بسنتي وسُنَّة الخلفاء الراشدين المهديين، عُضُّوا عليها بالنواجذ"4.
ومضى التابعون على ما نهج عليه السلف الصالح في كتابة المصاحف من غير تبديل لكلمة أو تغيير لحرف، فوجب علينا أن ننهج نهجهم في كتابة المصاحف أسوة بهم، وتمسُّكًا بهذا الرسم كتراثٍ ديني لا ينبغي أن يندثر.
هذا، وقد ذهب أبو بكر الباقلاني في "الانتصار" إلى جواز كتابة المصاحف بالخط الهجائي، لعدم وجود ما يدل على وجوب كتابته بالرسم العثماني من كتاب أو سُنَّة، فقال رحمه الله بعد كلام طويل: "وليس في نصوص الكتاب ولا مفهومه أن رسم القرآن وخطه لا يجوز إلّا على وجه مخصوص، وحدٍّ محدود لا يجوز تجاوزه، ولا في نصِّ السنة ما يوجب ذلك
1 انظر البرهان للزركشي ج1 ص379، والإتقان للسيوطي ج4 ص146.
2 راجع ص64 ط1، المطبعة الأزهرية.
3 انظر الإتقان ج4 ص146.
4 الحديث رواه داود في السنة5، والترمذي في العلم16.
ويدل عليه، ولا في إجماع الأمة ما يوجب ذلك ولا دلَّت عليه القياسات الشرعية، بل السنة دلت على جواز رسمه بأي وجه سهل؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمرهم برسمه، ولم يبيِّن لهم وجهًا معينًا، ولا نهى أحدًا عن كتابته، ولذلك اختلفت خطوط المصاحف، فمنهم من كان يكتب الكلمة على مطابقة مخرج اللفظ، ومنهم من كان يزيد وينقص لعلمه بأن ذلك اصطلاح، وأن الناس لا يخفى عليهم الحال.
ولأجل هذا بعينه جاز أن يُكْتَب بالحروف الكوفية، والخط الأول.... وساغ أن يكتب الكاتب المصحف بالخط والهجاء القديمين، وجاز أن يكتبه بالهجاء والخطوط المحدثة، وجاز أن يُكْتَب بين ذلك، وإذا كانت خطوط المصاحف وكثير من حروفها مختلفة متغايرة الصور، وأن الناس قد أجازوا ذلك كله، وأجازوا أن يكتب كل واحد منهم بما هو عادته، وما هو أسهل وأشهر وأولى من غير تأثيم ولا تناكر - عُلِمَ أنه لم يُؤْخَذ في ذلك على الناس حدٌّ محدود مخصوص كما أُخِذَ عليهم في القراءة والأذان، والسبب في ذلك أن الخطوط إنما هي علامات ورسوم تجري مجرى الإشارات والعقود والرموز، فكل رسم دالٍّ على الكلمة مفيد لوجه قراءتها تجب صحته، وتصويب الكاتب به على أي صورة كان.
وبالجملة، فكل من ادَّعى أنه يجب على الناس رسمٌ مخصوص وجب عليه أن يقيم الحجة على دعواه وأنَّى له بذلك" أ. هـ.
وذهب العز بن عبد السلام إلى ما ذهب إليه القاضي، فأفتى بجواز كتابة المصاحف بالمألوف من الهجاء عند الناس، بل هو يوجب ذلك خشية وقوع التغيير في القرآن من قِبَلِ الجهَّال.
فقد أورد الزركشي في البرهان1 مذهبه هذا حيث يقول: "قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام: "لا تجوز كتابة المصحف -الآن- على الرسوم الأولى باصطلاح الأئمة، لئلَّا يوقع في تغيير الجهال".
1 ج1 ص379.