الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وينبغي أن نقرِّرَ بادئ ذي بدء أن خصائص القرآن التي تميَّزَ بها عن غيره من الكتب السماوية بوجه خاص، وعن كلام الناس بوجه عام، فجعلته معجِزًا في بيانه وتشريعه. قد أفاض في ذكرها الأدباء والبلغاء من أصحاب الملكات الفريدة، والمواهب الفذة، فكانوا بين مقلٍّ في سردها ومكثِر، ولكن لم يقل واحد منهم إنه قد أحاط بما لديه خبرًا، بل إنهم جميعًا لم يقدموا لنا من هذه الخصائص إلا قطرة من بحر، فلم يزيدوا على أن قرَّبوا لنا البعيد بِضَرْبٍ من التمثيل بغية الإيضاح والتبيين.
ويبقى القرآن أبدًا هو الكتاب الذي لا تنتهي عجائبه، ولا تنقضي غرائبه، ولا تبلى جدته، ولا يمله قارئوه ولا سامعوه.
ونحن إذا سمحنا لأنفسنا أن نتكلَّم عن بعض هذه الخصائص القرآنية، فإنما نذكر على وجه التمثيل والتقريب أيضًا، وما لا يدرك كله لا يترك جله.
الخاصة الأولى: جمال التعبير
اصطفى الله من ألفاظ اللغة العربية أفصحها وأيسرها على اللسان، وأسهلها على الأفهام، وأمتعها للآذان، وأقواها تأثيرًا على القلوب، وأوفاها تأدية للمعاني، ثم ركَّبَها تركيبًا محكم البنيان، لا يدانيه في نسجه كلام البشر من قريب ولا من بعيد، وذلك لما يكمن في ألفاظه من الإيحاءات التي تعبر إلى خلجات النفس، وتقتَحِم شغاف القلوب.
وما يكون في تركيبه من ألفة عجيبة، وانسجام وثيق بين هذه الألفاظ، مهما تقاربت مخارج حروفها أو تباعدت.
فقد جاء رصف المباني وفق رصف المعاني، فالتقى البحران على أمر قد قُدِرَ، فاستساغته جميع القبائل على اختلاف لهجاتها قراءة وسماعًا.
واستسلمت لهذا النسق الفريد، والترتيب العجيب أساطين البلاغة في كل زمان ومكان، واستمدَّت منه النفوس المؤمنة روحها وريحانها، فلم يشبع من دراسته العلماء، ولم يملّ تلاوته أحد من الأتقياء.
"ومن عجيب أمر هذا الجمال اللغوي، وذاك النظام الصوتي، أنهما كما كانا دليل إعجاز من ناحية، كانا سورًا منيعًا لحفظ القرآن من ناحية أخرى، وذلك أنّ من شأن الجمال اللغوي والنظام الصوتي أن يسترعي الأسماع، ويثير الانتباه، ويحرك داعية الإقبال في كل إنسان إلى هذا القرآن الكريم، وبذلك يبقى أبد الدهر سائدًا على ألسنة الخلق وفي آذانهم، ويُعْرَف بذاته ومزاياه بينهم، فلا يجرؤ أحد على تغييره وتبيدله مصداقًا لقوله سبحانه:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} 1.
وإن نظام القرآن الصوتي في ائتلاف حركاته وسكناته، ومدَّاته وغنَّاته، واتصالاته وسكتاته، أمر يبهر العقول، ويسترعي الأسماع ويستهوي النفوس، بصورة تختلف كل الاختلاف عَمَّا يجده المتذوق لكلام الناس من نسق وانسجام، فإنه مهما كان كلام البشر سهلًا جزرًا عذبًا، فإنه لا يخلو من قصور في المعنى، أو ثِقَلٍ في النطق، أو خَلَلٍ في الترتيب.
"وبيان ذلك أن من ألقى سمعه إلى مجموعة القرآن الصوتية، وكان بعيدًا لا يسمع إلّا صدى الصوت من غير تمييز للحروف والكمات، متميزًا بعضها عن بعض، يشعر من نفسه -ولو كان أعجميًّا لا يعرف العربية- بأنه أمام لحن غريب، وتوقيع عجيب، يفوق في حسنه وجماله كل ما عرف من توقيع الموسيقى وترنيم الشعر؛ لأن الموسيقى تتشابه أجراسها، وتتقارب أنغامها، فلا يفتأ السمع أن يملَّها، والطبع أن يمحيها، ولأن الشعر تَتَّحِدُ فيه الأوزان، وتتشابه القوافي في القصيدة الواحدة غالبًا وإن طالت على نمط يورث سامعه السأم والملل، بينما سامع لحن القرآن لا يسأم ولا يملّ؛ لأنه ينتقل فيه دائمًا بين ألحان متنوعة، وأنغام متجددة، على أوضاع مختلفة، يهز كطل وضع منها أوتار القلوب، وأعصاب الأفئدة.
وهذا الجمال الصوتي أو النظام التوقيعي هو أول شيء أحسَّته الآذان العربية أيام نزول القرآن، ولم تكن عهدت مثله فيما عرفت من منثور الكلام، سواء
1 مناهل العرفان ج2 ص209.
أكان مرسلًا أم مسجوعًا، حتى خُيِّلَ إلى هؤلاء العرب أن القرآن شعر؛ لأنهم أدركوا في إيقاعه وترجيعه لذة، وأخذتهم من لذة هذا الإيقاع والترجيع هزة، لم يعرفوا شيئًا قريبًا منها إلّا في الشعر، ولكن سرعان ما عادوا على أنفسهم بالتخطئة فيما ظنوا، حتى قال قائلهم -وهو الوليد بن المغيرة:"وما هو بالشعر" معللًا ذلك بأنه ليس على أعاريض الشعر في رجزه، ولا في قصيده.
بيد أنه تورَّط في خطأ أفحش من هذا الخطأ، حين زعم في ظلام العناد والحيرة أنه سحر؛ لأنه أخذ من النثر جلاله وروعته، ومن النظم جماله ومتعته، ووقف منهما في نقطة وسط خارقة لحدود العادة البشرية، وبين إطلاق النثر وإرساله، وتقييد الشعر وأوزانه.
ولو أنصف هؤلاء لعلموا أنه كلام منثور؛ لكنه معجز ليس كمثله كلام، لأنه صادر من متكلم قادر ليس كمثله شيء، وما هو بالشعر ولا بالسحر؛ لأن الشعر معروف لهم بتقفيته ووزنه، وقانونه ورسمه، والقرآن ليس منه؛ ولأن السحر محاولات خبيثة لا تصدر إلّا من نفس خبيثة، ولقد علمت قريش أكثر من غيرهم طهارة النفس المحمَّدية، وسموَّها ونبلها"1.
وعلمت كذلك أن هذا القرآن ليس من عند بشر، ولكنهم جحدوا ذلك حسدًا من عند أنفسهم، وتعاليًا على الحقِّ، واستكبارًا في الأرض بغير حق.
وقال سبحانه: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} 3.
ونخلص من هذا الذي ذكرناه آنفًا إلى أن اللفظ الذي انتقاه الله من أفصح لغات العرب يمتاز عن غيره من الألفاظ السائدة في كلامهم بثلاث سماتٍ رئيسية:
1 انظر "مناهل العرفان" ج2 ص206، 207.
2 الأنعام: 33.
3 النمل: 14.
الأولى: جمال وقعه في السمع.
الثانية: انسجامه الكامل في المعنى.
الثالثة: اتساع دلالته لما لا تتسع له عادة دلالات الألفاظ الأخرى.
وقد نجد هذه السمات الثلاثة في بعض الأساليب الأدبية، ولكنها لا تجتمع كلها في أسلوب أديب.
ولو اجتمعت لا تطَّرد في جميع كلامه، بل لا بُدَّ أن يشذَّ لفظ عن دائرة الفصاحة، أو يتنافر مع غيره في التركيب، أو يقصِّر عن أداء المعنى المراد إبرازه، أو لا يكون له من الجمال ما يثير الإعجاب، أو يبعث في النفوس الرغبة الملِّحة في القراءة أو في السماع.
أما القرآن الكريم فإنه في الذروة العليا فصاحة وبلاغة وبيانًا، لا قدرة لأحد مهما علا قدره في البلاغة والأدب أن يباريه أو يجاريه، أو يقترح فيه إبدال كلمة بكلمة، أو حذف كلمة أو زيادة كلمة، أو تقديم واحدة وتأخير أخرى، مع أنه لم يغلق دونهم أبواب المعارضة، بل فتحها لهم على مصاريعها، ودعاها إليها أفرادًا وجماعات، وتحدَّاهم بسورة من سوره، فعجزوا جميعًا عن الإتيان بمثل آية من آياته، فأدركوا من خلال عجزهم أنه ليس من كلام البشر، بل هو من كلام خالق القوى والقدر، وسيأتي بيان هذا التحدي بصوره المختلفة في مبحث "إعجاز القرآن" إن شاء الله تعالى.
"فالجديد في لغة القرآن أنه من كل شأن يتناوله من شئون القول يتخيَّر له أشرف المواد، وأمسها رحمًا بالمعنى المرَاد، وأجمعها للشوارد، وأقبلها للامتزاج، ويضع كل مثقال ذرة في موضعها الذي هو أحق بها، وهي أحق به؛ بحيث لا يجد المعنى في لفظه إلّا مرآته الناصعة وصورته الكاملة، ولا يجد اللفظ في معناه إلّا وطنه الأمين وقراره المكين، لا يومًا أو بعض يوم، بل على أن تذهب العصور وتجيء العصور، فلا المكان يريد بساكنه بدلًا، ولا الساكن يبغي عن منزله حِولًا، وعلى الجملة يجيئك من هذا الأسلوب بما هو المثل الأعلى في صناعة البيان، أسلوب عجب، ومنهج من الحديث فذٌّ مبتَكَر، كأن ما سواه