الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال ابن عباس: هو أبو بكر رضي الله عنه، يزحزح عن دخول النار، ثم وصف الأتقى فقال:
{الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى} ، أي: يطلب أن يكون عند الله زاكيًا، ولا يطلب بذلك رياء ولا سمعة، بل يتصدَّق به مبتغيًا به وجه الله تعالى.
وقال بعض أهل المعاني: أراد بقوله: "الأتقى" و"الأشقى"، أي: التقيّ والشقي، كقول طرفة:
تعنى رجال أن أموت وإن أمت
فتلك سبيل لست فيها بأوحد
أي واحد ووحيد، وتوضع "أفعل" موضع فعيل، نحو قولهم: الله أكبر، بمعنى كبير، {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْه} 1. بمعنى هيّن".
والثالث: قوله: إن هذه الآية ليست فيها صيغة عموم، واتهامه مَنْ قال ذلك بالوهم والغلط، عكسه هو الصحيح، وما ذكره من القواعد النحوية لا يسلَّم له في هذه الآية لدلالة القرائن على العموم.
من هذه القرائن سياق الآيات من قوله تعالى: {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} إلى آخر السورة.
فإن الوعد والوعيد فيها عام، وذكر الأشقى والأتقى جاء مبالغة في وصف من نزلت الآيات بسببه، وأفعل التفضيل هنا ليس على بابه كما علمت.
وإلّا فإن الشقي لا يصلاها، والتقي لا يتجنبها، وهذا غير مراد قطعًا، فتعيَّن أن اللفظ يفيد العموم بمفهومه، والله أعلم.
1 الروم: 27.
فوائد العلم بأسباب النزول:
1-
العلم بأسباب النزول من الأمور التي لا غنى للمفسِّر عنها، فهو من العلوم التي تعينه على فهم المراد من كلام الله تعالى على وجه تطمئِنُّ النفس إليه.
وقد تقدَّمَ بيان شيء من ذلك في مقدمة هذا المبحث، وعند ذكر أقسام أسباب النزول، فقد قلنا هناك: إن منها ما يبين الإبهام ويرفع الإجمال، ويزيل الإشكال، وضربنا لذلك أمثلة، نضيف إليها هنا أمثلة أخرى؛ لكي تتحقق من أهمية هذا العلم في تقرير الأحكام، وبيان المعاني والمقاصد المرادة من كلام الله عز وجل.
أ- ما ورد في سبب نزول قوله تعالى: {لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} 1.
فقد روى البخاري ومسلم وغيرهما، أن مروان قال لبوابه: اذهب يا رافع إلى ابن عباس فقل: لئن كان كل امرئ منا فَرِحٌ بما أوتي، وأحبَّ أن يُحْمَدَ بما لم يفعل يُعَذَّب، لنعذَّبَنَّ أجمعون، فقال ابن عباس: ما لكم ولهذه الآية، إنما نزلت في أهل الكتاب، ثم تلا:{وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} الآية.
قال ابن عباس: سألهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء فكتموه إياه وأخذوا بغيره، فخرجوا وقد أروه أن قد أخبروه بما سألهم عنه، واستحمدوا بذلك إليه، وفرحوا بما أوتوا من كتمان ما سألهم عنه".
ب- ما جاء في سبب نزول قوله تعالى:
فإن ظاهر لفظ الآية لا يقتضي أن السعي فرض؛ لأن رفع الجناح يفيد الإباحة لا الوجوب، وذهب بعضهم إلى هذا تمسكًا بالظاهر، وقد ردَّت عائشة على عروة بن الزبير في فهمه ذلك بما ورد في سبب نزولها، وهو أن الصحابة تأثَّموا من السعي بينهما؛ لأنه من عمل الجاهلية، حيث كان على الصفا إساف، وعلى المروة نائلة، وهما صنمان، وكان أهل الجاهلية إذا سعوا مسحوهما.
"عن عائشة أن عروة قال لها: أرأيت قول الله:
1 آل عمران: 188.
2 البقرة: 158.
فما أرى على أحدٍ جناحًا أن لا يطوَّفَ بهما؟ فقالت عائشة: بئس ما قلت يا ابن أختي، إنها لو كانت على ما أوَّلتها كانت: فلا جناح عليه أن لا يطوَّف بهما، ولكنها إنما أنزلت لأنَّ الأنصار قبل أن يسلموا كانوا يهلِّون لمناة الطاغية التي كانوا يعبدونها، وكان من أهلَّ لها يتحرَّج أن يطوَّف بالصفا والمروة في الإسلام، فأنزل الله:{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} الآية.
قالت عائشة: ثم قد بَيَّنَ رسول الله صلى الله عليه وسلم الطواف بهما، فليس لأحد أن يدع الطواف بهما" أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما.
"ج" ما جاء في سبب نزول قوله تعالى من سورة المائدة:
فهذه الآية إذا قطعت عن السبب الذي نزلت عليه لا يفهم مراد الله منها، لهذا تأوَّلها جماعة على غير وجهها، فوقعوا في حرج عظيم، وأباحوا لأنفسهم شرب الخمر وهي أم الكبائر.
"روي أنَّ عمر استعمل قدامة بن مظعون على البحرين فقدم الجاردو على عمر، فقال: إن قدامة شرب فسكر، فقال عمر: من يشهد على ما تقول؟ قال: الجارود: أبو هريرة يشهد على ما أقول، وذكر الحديث، فقال عمر: يا قدامة إني جالدك! قال: والله لو شربت كما يقولون ما كان لك أن تجلدني، قال عمر: ولم؟ قال لأن الله يقول: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ} إلخ.
فقال عمر: إنك أخطأت التأويل يا قدامة، إذا اتقيت الله اجتنبت ما حرَّم الله.
1 آية 93.
وفي رواية: فقال: لم تجلدني؟ بيني وبينك كتاب الله، فقال عمر: وأي كتاب الله تجد أن لا أجلدك؟ قال: إن الله يقول في كتابه: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا} إلى آخر الآية.
فأنا من الذين آمنوا وعملوا الصالحات، ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا، شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بدرًا وأحدًا، والخندق، والمشاهد، فقال عمر: ألا تردون عليه قوله؟ فقال ابن عباس: إن هؤلاء الآيات أنزلن عذرًا للماضين، وحجَّة على الباقين؛ لأن الله يقول:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} 1.
ثم قرأ إلى آخر الآية الأخرى، فإن كان من الذين آمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا، ثم اتقوا وأحسنوا، فإن الله قد نهى أن يشرب الخمر، قال عمر: صدقت، الحديث.
وحكى إسماعيل القاضي قال: شرب نفر من أهل الشام الخمر وعليهم يزيد بن أبي سفيان، فقالوا: هي لنا حلال، وتأوَّلُوا هذه الآية:{لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا} الآية.
قال: فكتب فيهم إلى عمر، قال: فكتب عمر إليه: أن أبعث بهم إلي قبل أن يفسدوا من قبلك، فلما أن قدموا على عمر استشار فيهم الناس، فقالوا: يا أمير المؤمنين، نرى أنهم قد كذَبُوا على الله، وشرَّعوا في دينه ما لم يأذن به.. إلى آخر الحديث"2.
وما قاله ابن عباس صحيح يؤيده ما رواه البخاري عن أنس رضي الله عنه قال: "كنت ساقي القوم في منزل أبي طلحة، وكان خمرهم يومئذ الفضيخ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مناديًا ينادي: "ألا إنَّ الخمر قد حُرِّمَتْ" قال: فقال لي أبو طلحة: اخرج فأهرقها، فخرجت فهرقتها، فجرت في سكك المدينة، فقال بعض القوم: قد قتل قوم وهي في بطونهم، فأنزل الله:
1 المائدة: 90.
2 الموافقات ج3 ص349.
{لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} الآية.
من هذه الأحاديث نعلم أن الغفلة عن أسباب النزول تؤدي حتمًا إلى فساد التأويل، وأن العلم بها ضروري في تصحيح الفهم، ودفع الاشتباه.
قال الشاطبي1: "وهذا شأن أسباب النزول في التعريف بمعاني المنزَّل، بحيث لو فُقِدَ ذكر السبب لم يُعْرَف من المنزَّل معناه على الخصوص، دون تطرُّق الاحتمالات وتوجُّه الإشكالات.
2-
ومن فوائد العلم بأسباب النزول أيضًا بيان أن القيد في الآية معتَبَرٌ في تقرير الحكم، بل هو لبيان الحال والواقع، أو بيان الغالب، ونحو ذلك.
كما في قوله تعالى من سورة الطلاق:
فقد أشكل معنى هذا الشرط على بعض الأئمة حتى قال الظاهرية بأن الآية لا عِدَّة عليها إذ لم ترتب، وقد بيَّنَ ذلك سبب النزول، وهو أنه لما نزلت الآية التي في سورة البقرة في عدد النساء، قالوا: قد بقي عدد من عدد النساء لم يذكرن: الصغار والكبار، فنزلت، أخرجه الحاكم عن أُبَيّ.
فعلم بذلك أن الآية خطاب لمن لم يعلم ما حكمهن في العدة، وارتاب:
هل عليهن عدة أو لا؟ وهل عدتهم كاللاتي في سورة البقرة أو لا؟ فمعنى: {إِنِ ارْتَبْتُم} إن أُشْكِلَ عليكم حكمهن، وجهلتم كيف يعتدون، فهذا حكمهن، ومثله ما جاء في قوله تعالى من سورة النور:
1 المرجع السابق.
2 آية: 4.
3 آية: 33.
فقوله تعالى: {إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} .
ليس قيدًا في النهي، وإنما هو لبيان الحال التي كنَّ عليه من الإناء والتمنُّع بعد أن أسلمن وحَسُنَ إسلامهن، كما يدل عليه سبب النزول الذي لولاه لتَوَهَّمَ متوهِمٌ أن هذا الشرط قيد في النهي.
قال ابن كثير في تفسيره1: "كان أهل الجاهلية إذا كَان لأحدهم أمة أرسلها تزني، وجعل عليها ضريبة يأخذها منها كل وقت، فلمَّا جاء الإسلام نهى الله المسلمين عن ذلك.
وكان سبب نزول هذه الآية الكريمة -فيما ذكره غير واحد من المفسِّرين من السلف والخلف- في شأن عبد الله بن أُبَيّ بن سلول، فإنه كان له إماء، فكان يكرههنَّ على البغاء طلبًا لخراجهن، ورغبةً في أولادهن، ورياسةً منه فيما يزعم".
وساق الآثار الواردة في ذلك، منها:
ما رواه الحافظ أبو بكر أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار رحمه الله في مسنده، قال: حدثنا أحمد بن داود الواسطي، حدثنا أبو عمرو اللخمي -يعني: محمد بن الحجَّاج- حدَّثنا محمد بن إسحاق، عن الزهري قال: كانت جارية لعبد الله بن أُبَيّ بن سلول، يقال لها: معاذة، يكرِهُهَا على الزنا، فلما جاء الإسلام نزلت:{وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ} إلى قوله: {فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ} .
3-
ومن فوائد العلم به: "دفع توهم الحصر، قال الشافعي ما معناه في قوله تعالى:{قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} 2 الآية.
1 ج6 ص57.
2 الأنعام: 145.
إن الكفَّار لما حرَّموا ما أحلَّ الله، وأحلُّوا ما حرَّم الله، وكانوا على المضادة والمحادَّة، فجاءت الآية مناقضة لغرضهم، فكأنه قال: لا حلال إلّا ما حرَّمتموه، ولا حرام إلا ما أحللتموه، نازلًا منزلة من يقول: لا تأكل اليوم حلاوة، فتقول: لا آكل اليوم إلّا الحلاوة، والغرض المضادة لا النفي والإثبات على الحقيقة، فكأنه تعالى قال: لا حرام إلّا ما أحللتموه من الميتة والدم ولحم الخنزير، وما أُهِلَّ لغير الله به، ولم يقصد حلّ ما وراءه؛ إذ القصد إثبات التحريم لا إثبات الحل.
قال إمام الحرمين: وهذا في غاية الحسن، ولولا سبق الشافعي إلى ذلك لما كنا نستجيز مخالفة مالك في حصر المحرَّمات فيما ذكرته الآية"1.
4-
ومن فوائد العلم به: معرفة اسم مَنْ نزلت فيه الآية على التعيين، حتى لا يشتبه بغيره فيُتَّهَم البرئ، ويبَرَّأُ المريب.
ولهذا ردَّت عائشة على مروان حين أتهم أخاها عبد الرحمن بن أبي بكر بأنه الذي نزلت فيه آية:
{وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا} 2، إلى آخر الآية.
وقالت: "والله ما هو به، ولو شئت أن أسميه لسمَّيته" إلى آخر تلك القصة3.
قال ابن كثير: من زعم أنها نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر فقوله ضعيف؛ لأن عبد الرحمن بن أبي بكر أسلم بعد ذلك وحَسُنَ إسلامه، وكان من خيار أهل زمانه.
قال: وإنما هذا عام في كلِّ من عقَّ والديه وكذَّب بالحق، وساق قصة مروان بن الحكم مع عبد الرحمن بن أبي بكر بطولها، وبألفاظها المختلفة، معزُوَّةً لابن أبي حاتم والبخاري والنسائي، فراجعها في تفسيره4 إن شئت.
وقد كانت عائشة رضي الله عنها تعرف اسم الرجل الذي نزلت فيه الآية، ولكن أدبها وحياءها وتقواها أَبَى عليها أن تذكره، ولأن ذكره يخلو من الفائدة،
1 الإتقان ج1 ص109، 110.
2 الأحقاف: 17.
3 انظر الإتقان ج1 ص110، ومناهل العرفان ج1 ص106.
4 ج7 ص566 ط. الشعب.
ومعرفته على التعيين لا تعين على فهم الآية، ويكفيها أنها برَّأت أخاها من هذه التهمة التي رماها بها مروان.
5-
ومن فوائد العلم بأسباب النزول كما قال الزرقاني1: "تيسير الحفظ، وتسهيل الفهم، وتثبيت الوحي في ذهن كل من يسمع الآية إذا عرف سببها، وذلك لأن ربط الأسباب بالمسببات، والأحكام بالحوادث، والحوادث بالأشخاص والأزمنة والأمكنة، كل أولئك من دواعي تقرر الأشياء وانتقاشها في الذهن وسهولة استذكارها عند استذكار مقارناتها في الفكر، وذلك هو قانون تداعي المعاني المقرَّر في علم النفس" أ. هـ.
6-
ومن فوائد العلم به معرفة حكمة الله تعالى فيما شرعه لعباده في الكتاب العزيز على وجه يفيد اليقين، فإن المفسِّر إذا عرف سبب النزول اطمأنت نفسه إلى صحة ما يقول لمعرفته به، وبالإضافة إلى المعاني التي استنبطها من اللغة، والنقل الصحيح عن الصحابة والتابعين في التأويل.
فالسبب إن لم يكن دليلًا على صحة المعنى، وسلامة التأويل، فهو من الأمور التي يستأنس بها في ذلك، ولا شك.
ولهذه الفوائد وغيرها بالَغَ العلماء في العناية بهذا العلم، وأطنبوا في شرحه وتفصيل مسائله، وتتبعوا الآثار الواردة فيه، فأفرده بالتأليف جماعة أقدمهم عليّ بن المديني شيخ البخاري -كما يقول السيوطي في الإتقان.
ومنهم الواحدي، فقد ألَّف كتابًا سماه:"أسباب النزول"، واختصره الجعبري بحذف أسانيده ولم يزد عليه شيئًا.
وألَّف السيوطي فيه كتابًا جامعًا لما أتى به الواحدي مع زيادات كثيرة سماه: "لباب النقول في أسباب النزول".
وأُلِّفَت في هذا العلم رسائل جامعية منها:
رسالة للدكتور محمد يوسف القاسم.
ولا يزال هذا العلم في حاجة إلى تنقيح وتمحيص.
نسأل الله عز وجل أن يوفقنا للإسهام في ذلك العمل الجليل، إنه حسبنا ونعم الوكيل.
1 مناهل العرفان ج1 ص106، 107.