المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌مقاصد الأمثال القرآنية ومواطن العبرة فيها - دراسات في علوم القرآن - محمد بكر إسماعيل

[محمد بكر إسماعيل]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة:

- ‌المبحث الأول: معنى علوم القرآن

- ‌المبحث الثاني: نشأة علوم القرآن وتطورها

- ‌المبحث الثالث: أسماء القرآن

- ‌المبحث الرابع: الفرق بين القرآن والحديث القدسي والنبوي

- ‌المبحث الخامس: تنزلات القرآن

- ‌المبحث السادس: تنجيم القرآن

- ‌المبحث السابع: أول ما نزل من القرآن وآخر ما نزل

- ‌مدخل

- ‌أول ما نزل بإطلاق:

- ‌آخر ما نزل:

- ‌المبحث الثامن: جهات نزول القرآن

- ‌المبحث التاسع: المكي والمدني

- ‌مدخل

- ‌ضوابط كلية لتمييز المكي من المدني:

- ‌مقاصد المكي

- ‌فائدة العلم بالمكي والمدني:

- ‌المبحث العاشر: آيات القرآن وترتيبها

- ‌معنى الآية

- ‌طريق معرفة الآي:

- ‌سبب الخلاف في عد الآي:

- ‌ترتيب الآي:

- ‌المبحث الحادي عشر: سور القرآن وترتيبها

- ‌تعريف السورة

- ‌حكمة تسوير القرآن:

- ‌تقسيم السور بحسب الطول والقصر:

- ‌أسماء السور:

- ‌ترتيب السور:

- ‌المبحث الثاني عشر: عدد سور القرآن وآياته وكلماته وحروفه

- ‌المبحث الثالث عشر: نزول القرآن على سبعة آحرف

- ‌مدخل

- ‌بعض ما ورد في ذلك:

- ‌الأصول المستفادة من هذه الأحاديث:

- ‌بعض الأقوال في معنى الأحرف:

- ‌المبحث الرابع عشر: القراءات والقراء

- ‌مدخل

- ‌تعريف القراءات:

- ‌الحكمة من تعدد القراءات:

- ‌نشأة علم القراءات:

- ‌أقسام القراءات باعتبار السند:

- ‌ضوابط قبول القراءات:

- ‌هل التواتر شرط في صحة القراءة:

- ‌المبحث الخامس عشر: جمع القرآن في الصدور والسطور

- ‌مدخل

- ‌جمعه في عصر النبي صلى الله عليه وسلم:

- ‌جَمْعُه في عهد الصديق رضي الله عنه:

- ‌جمعه في عهد عثمان:

- ‌خطة عثمان في نسخ المصاحف:

- ‌عدد ما نُسِخَ من المصاحف:

- ‌مصير مصحف حفصة:

- ‌حكم تحريق المصاحف:

- ‌المبحث السادس عشر: رسم المصحف

- ‌مدخل

- ‌العلاقة بين الخط الإملائي والمصحفي:

- ‌عناية العلماء بالرسم العثماني وأشهر المؤلفات فيه:

- ‌المصحف العثماني والأحرف السبعة:

- ‌موقف السلف من كتابة المصاحف بغير الرسم العثماني:

- ‌موقف السلف من تفسير ظواهر الرسم

- ‌مدخل

- ‌ تعليل بعض ظواهر الرسم بعلل لغوية أو نحوية:

- ‌ حَمْلُ تلك الظواهر على خطأ الكاتب:

- ‌ اختلاف الرسم لاختلاف المعنى:

- ‌ تفسير الزيادة والحذف باحتمال القراءات:

- ‌ الرسم بُنِيَ على حكمة ذهبت بذهاب كتبته:

- ‌الخلاصة

- ‌مدخل

- ‌قواعد رسم المصحف:

- ‌قاعدة الحذف:

- ‌قاعدة الزيادة:

- ‌قاعدة الهمز:

- ‌قاعدة البدل:

- ‌قاعدة الوصل والفصل:

- ‌مزايا الرسم العثماني وفوائده:

- ‌المبحث السابع عشر: نقط المصاحف وشكلها وتجزئتها وتحسينها

- ‌مدخل

- ‌دواعي النقط والشكل:

- ‌حكم نقط المصحف وشكله:

- ‌حكم تجزئته وتحسين خطه:

- ‌المبحث الثامن عشر: أسباب النزول

- ‌مدخل

- ‌تعريف سبب النزول:

- ‌طرق معرفة أسباب النزول:

- ‌الصيغة التي يُعْرَف بها سبب النزول:

- ‌تعدُّد الروايات في سبب النزول:

- ‌الخلاصة

- ‌مدخل

- ‌تعدُّد النازل والسبب واحد:

- ‌أقسام السبب:

- ‌العبرة بعموم اللفظ أم بخصوص المسبب

- ‌الرد على السيوطي في هذه المسألة:

- ‌فوائد العلم بأسباب النزول:

- ‌المبحث التاسع عشر: معرفة المحكم من المتشابه

- ‌مدخل

- ‌معنى الإحكام والتشابه في اللغة:

- ‌معنى الإحكام والتشابه في الاصطلاح:

- ‌الراجح:

- ‌ما يقع فيه التشابه:

- ‌الحكمة من وجود المتشابه في القرآن بوجه عام:

- ‌المبحث العشرون: حكم الآيات المتشابهات الواردة في الصفات

- ‌مدخل

- ‌آيات الصفات بين التفويض والتأويل:

- ‌التأويل المحمود والتأويل المذموم:

- ‌المبحث الحادي والعشرون: الحروف المقطعة في فواتح السور

- ‌مدخل

- ‌المبحث الثاني والعشرون: العام والخاص

- ‌تعريف العام والخاص

- ‌صيغ العموم:

- ‌دلالة العام:

- ‌أنواع العام:

- ‌الفرق بين العام المطلق والعام الذي أريد به الخصوص:

- ‌أقسام التخصيص:

- ‌المبحث الثالث والعشرون: المطلق والمقيد

- ‌تعريف المطلق والمقيد

- ‌حكم حمل المطلق على المقيد:

- ‌المبحث الرابع والعشرون: المجمل والمبين

- ‌تعريف المجمل والمبين

- ‌أسباب الإجمال:

- ‌أقسام المجمَل:

- ‌أقسام المبيِّن:

- ‌حكم المجمَل:

- ‌المبحث الخامس والعشرون: المشترك اللفظي

- ‌تعريفه

- ‌أسباب وجوده في اللغة:

- ‌حكمه:

- ‌المبحث السادس والعشرون: النسخ في القرآن والسنة

- ‌مدخل

- ‌مفهوم النَّسْخِ في اللغة:

- ‌مفهوم النَّسْخِ في الشرع:

- ‌أدلة جواز النَّسْخِ:

- ‌ما يقع فيه النَّسْخُ:

- ‌أنواع النسخ

- ‌الأول: ما نسخت تلاوته وبقى حكمه

- ‌الثاني: ما نُسِخَ حكمه وبقيت تلاوته

- ‌الثالث: نَسْخُ الحكم والتلاوة

- ‌النَّسْخُ إلى بدل، وإلى غير بدل:

- ‌حسم الخلاف:

- ‌النَّسْخُ إلى الأخفِّ والمساوي والأثقل:

- ‌طرق معرفة الناسخ والمنسوخ:

- ‌سور القرآن باعتبار الناسخ والمنسوخ:

- ‌السيوطي وآيات النسخ:

- ‌نسخ القرآن بالسنة:

- ‌نسخ السنة بالقرآن:

- ‌نسخ السنة بالسنة:

- ‌حكمة الله في النسخ:

- ‌المبحث السابع والعشرون: أمثال القرآن

- ‌مدخل

- ‌تعريف المثل في اللغة:

- ‌تعريفه عند الأدباء:

- ‌تعريفه عند علماء البيان:

- ‌تعريف المثل القرآني:

- ‌أنواع المثل القرآني:

- ‌خصائص المثل القرآني وسماته البلاغية:

- ‌مقاصد الأمثال القرآنية ومواطن العبرة فيها

- ‌المبحث الثامن والعشرون: أسلوب القس في القرآن الكريم

- ‌المقسم به

- ‌المقسَمُ عليه:

- ‌أدوات القسم:

- ‌مقاصد القسم ومواطن العبرة فيه:

- ‌وجه المناسبة بين المقسم به والمقسم عليه

- ‌الفرق بين القسم والحلف:

- ‌المبحث التاسع والعشرون: خصائص أسلوب القرآن

- ‌مدخل

- ‌الخاصة الأولى: جمال التعبير

- ‌الخاصة الثانية: دقة التصوير

- ‌الخاصة الثالثة: قوة التأثير

- ‌الخاصة الرابعة: براعته في تصريف القول، وثروته في أفانين الكلام:

- ‌المبحث الثلاثون: إعجاز القرآن

- ‌مدخل

- ‌تعريفه:

- ‌عناية العلماء به:

- ‌أهم المؤلفات فيه:

- ‌وجوه الإعجاز

- ‌الوجه الأول: لغته وأسلوبه

- ‌الوجه الثاني: طريقة تأليفه

- ‌الوجه الثالث: بلاغته

- ‌الوجه الرابع: تأثيره في القلوب

- ‌الوجه الخامس: علومه ومعارفه

- ‌الوجه السادس: إنه شيء لا يمكن التعبير عنه

- ‌الوجه السابع: أنه معجز لأنه معجز

- ‌الخلاصة والتحقيق

- ‌مدخل

- ‌القول بالصرفة:

- ‌القدر المعجز منه:

- ‌المراجع:

- ‌الفهرس:

الفصل: ‌مقاصد الأمثال القرآنية ومواطن العبرة فيها

‌مقاصد الأمثال القرآنية ومواطن العبرة فيها

مقاصد الأمثال القرآنية مواطن العبرة فيها:

قد عرفت فيما سبق أن أمثال القرآن الكريم في الذروة العليا من الإعجاز البياني؛ لأنها تبرز المعاني في صور محسَّة، وتظهرها بإيجاز بليغ يأخذ بنواصي العقول، ويملك شغاف القلوب، ويبعث في النفوس مشاعر الإعجاب والانبهار، وتدل بعمق على مواطن العظة والاعتبار.

ونريد أن نتكلم هنا عن أهم الأغراض والفوائد التي يحصُل عليها كل متأمِّل في كتاب الله عز وجل.

ومن المعلوم أن كل وراء مقصد عام مقاصد أخرى تتصل به او تتفرع عنه.

ومن هذه المقاصد مجتمعة تنبعث كوامن العظة والعبرة، وتتفجر ينابيع العلم والحكمة.

والأصل في البيان أن يتضمَّن التعريف بما يراد التعريف به بأسلوب مباشر، والخروج عن هذا الأصل لا يكون عند البلغاء والعقلاء إلّا لغرض يقتضي ذلك.

ولما كانت الأمثال من الأساليب البيانية غير المباشرة للتعريف بما يُراد التعريف به، وكانت من أساليب الكلام البليغ التي يلجأ إليها كبار البلغاء، ولما كانت تصاريف الرب الحكيم منَزَّهة عن العبث -كان اللجوء إلى ضرب الأمثال في القرآن لا يخلو عن غرض يدعو إليه"1.

وأغراض ضرب الأمثال في القرآن لا تنحصر، لكنها تُرَدُّ في جملتها إلى مقصد واحد، وهو بيان الحق الذي جاءت به الرسل لهداية الخلق، ودعوتهم إلى عبادة الله وحده، والانقياد لطاعته عز وجل، وذلك بوضع منهج متكامل روعيت فيه مصالح العباد في العاجل والآجل.

وإذا كانت هذه الأغراض لا تنحصر، فإنه بإمكاننا أن نذكر أصولها بوجه عام، وهي ستة يندرج تحتها فروع بحسب من ضُرِبَ له، أو ضُرِبَ فيه المثل.

الغرض الأول: تقريب صورة الممثل له إلى ذهن المخاطب، وذلك بأن يكون المخاطب جاهلًا بحقيقة الشيء الممثَّل له جهلًا مطبقًا، أو لديه نوع جهالة

1 الأمثال القرآنية، عبد الرحمن حسن حبنكة ص39 ط. دار القلم، دمشق، بيروت.

ص: 310

به، أو كان غامضًا عليه مع علمه به على وجه الإجمال، فيأتي المثل القرآني لرفع هذه الجهالة وإزالة هذا الغموض، والفصل في القضية فصلًا يقرِّه العقل السليم، ولا يمجه الطبع المستقيم، فلا يقع المخاطب بعد فهمه لهذا المثل تحت الشك أو الخيال المفرط، فلا يسعه إلا الإيمان به والتسليم بنتائجه.

ومن ذلك ما حكاه الله تعالى عن الحور العين والولدان المخلدين في مثل قوله -جل شأنه: {وَحُورٌ عِينٌ، كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ} 1.

{وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ} 2.

فالحور العين ذوات صور يمكن أن تدرك بالحسِّ الظاهر، ولكنهن مجهولات لنا، بعيدات الآن عن إدراكنا الحسِّي وعن تصوراتنا الخيالية، فيقرِّب الله لنا طرفًا من صورة لون يشرتهن ونعومتها، وغير ذلك من نعوتهن.

ويكشف لنا عن طبيعة الولدان وصورهم المحسَّة في صورة ذات بهجة وجمال ساحر، تجعل المخاطَب كأنه قد رأى وسمع وألمَّ ببعض ما لهؤلاء وأولئك من خصائص وسمات.

وهذه الأمثال وأشباهها أمثال تقريبية تقرِّبُ فهم الحقيقة، ولا تعبِّر عن ذاتها؛ إذ هي أعظم من ذلك بكثير.

الغرض الثاني: الإقناع بأمر من الأمور، وهذا الإقناع قد يصل إلى مستوى إقامة الحجة البرهانية، وقد يقتصر على مستوى إقامة الحجة الخطابية، وقد يقتصر على لفت النظر إلى الحقيقة عن طريق صورة مشابهة.

والحجة البرهانية هي الحجة الملزمة التي تفيد اليقين، أما الحجة الخطابية فهي حجة إقناعية ظنية تفيد الظن الراجح.

ولفت النظر يكفي فيه إيراد المثل المشابه ولو لم يشتمل على آية حجة.

فمن البراهين العقلية المقنعة ما ورد من الأمثال في بدء الخلق وإعادته، فقد استدلَّ الخالق -جل شأنه- على إعادة الخلق ببدئهم، وهو من أقوى البراهين على الإطلاق؛ لأن القادر على البدء والإيجاد من العدم قادر على الإعادة لا محالة.

1 الواقعة: 22-23.

2 الطور: 24.

ص: 311

قال تعالى: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُون} 1.

{كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُه} 2.

{وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} 3.

{أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ، وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ، قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} 4.

الغرض الثالث: الترغيب والترهيب بذكر محاسن ما يرغِّب فيه ومساوئ ما ينفِّر منه، كما في قوله تعالى:{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ، تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ، وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ} 5.

فالمثل الثاني ينفِّر من الكلمة الخبيثة ويحرِّض على الكفِّ عنها.

الغرض الرابع: إثارة محور الطمع والرغبة، أو محور الخوف والحذر لدى المخاطب.

ففي إثارة محور الطمع يتجه الإنسان بمحرِّض ذاتي إلى ما يراد توجيهه له.

وفي إثارة محور الخوف والحذر يبتعد الإنسان بمحرِّض ذاتي عَمَّا يراد إبعاده عنه.

وهذا من الأغراض التربوية المهمة، ونلاحظه بكثرة في البيانات القرآنية "أي: في الأساليب التي تجسم المعاني في صور محسَّة ومشاهدة في الواقع الخارجي، ومن خلال الظواهر الطبيعية والمشاهد الكونية".

1 الأعراف: 29.

2 الأنبياء: 104.

3 الروم: 27.

4 يس: 77-79.

5 إبراهيم: 24-26.

ص: 312

من ذلك قوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} 1.

وقوله تعالى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} 2.

ففي المثل الأول إثارة لمحور الطمع في الإنسان، وذلك بتمثيل بذل المال في سبيل الله ببذر الحب في الأرض الخصبة الطيبة.

والناس بطبعهم يعرفون قيمة العطاء الزراعي إذا أقبل، فإذا كان هذا الإقبال في العطاء الزراعي قد يصل بعملية حسابية غير معقَّدة إلى سبعمائة ضعف، كانت إثارته لطمع الإنسان الزارع والتاجر بطبعه أعظم وأكثر.

فأي إنسان لا يحب الربح؟ وأي إنسان لا يطمع في فيوض الثروة؟

فالغرض من التمثيل في هذا النصِّ مع بيان حقيقة مضاعفة ثواب المنفقين في سبيل الله إلى أضعاف كثيرة جدًّا -إثارة محور الطمع في فضل الله في نفس المخاطبين، ليكون هذا الطمع محرِّضًا ذاتيًّا في الأنفس على بذل الأموال في سبيل الله.

والمثل الثاني يدعم المثل الأول ويؤكده، ويفصح عن الجوانب الكامنة فيه، وذلك بتشبيهه البذل في سبيل الله بإخلاص وطيب نفس، بجنة بربوة قد أثمرت وأينعت وآتت أكلها ضعفين في جميع الأحوال المناخية والظروف الطبيعية، بحيث لا يضرُّها الوابل الغزير فيغرقها، ولا يضرُّ بها إن قلَّ قدره، وأو تأخرَّ نزوله فهي جنة مباركة تنبت بإذن ربها نباتًا حسنًا في كل حين وتحت أي مؤثِّر خارجي.

1 البقرة: 261.

2 البقرة: 265.

ص: 313

وفي هذا المثل فوق إثارة الطمع في ثواب الله تحريض على الإخلاص له والثقة بفضله، وقصر المهمة على طلب مرضاته.

أما إثارة محور الخوف والحذر، فيظهر في مثل قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} 1.

وقوله تعالى: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} 2.

ففي المثل الأول يشبه الله أعمال المرائين والذين يتبعون صدقاتهم بالمَنِّ والأذى بحجر أملس عليه تراب نزل عليه الماء، فجرف التراب، وترك الحجر صلدًا يابسًا لا يمسك ماء، ولا ينبت كلأ.

وفي المثل الثاني يشبه الله عز وجل الكافر أو المرائي وعمله بحال رجل له جنة، بذل وسعه في إصلاحها وتشجيرها وتنقيتها من الآفات الضارة لتكون هذه الجنة قوتًا له في حياته، وقوتًا لعياله بعد موته، وذريته صغار ضعاف، وهي كل ثروته ومنتهى أمله في الحياة، لا يملك سواها، فأصابه الكبر والوهن، فأتى إعصار مدمِّر فيه نار، فأحرق جنته وأحرق معها آماله كلها، وبدَّله بعد الأمن خوفًا على نفسه وعلى ذريته من بعده.

وفي هذين المثلين كما هو واضح إثارة لمحور الخوف والحذر بأبلغ أسلوب، وأعذب بيان.

1 البقرة: 264.

2 البقرة: 266.

ص: 314

ولقد ضرب الله أمثلة حية من قصص الأولين أَبَانَ فيها سنته في معاملة عباده، ومجازاتهم بالثواب أو بالعقاب؛ ليبعث في نفوس المؤمنين كوامن الرغبة والطمع في ثوابه ورحمته، ويبعث دوافع الخوف في نفوس الصادِّين عن سبيله، والمعرضين عن ذكره.

والفرق بين هذا الغرض والذي قبله: أن هذا الغرض لا يقتصر على ذكر محاسن الشيء وتقبيحه، وإنما يذكر ما فيه من ربح جَمٍّ، أو خسارة فادحة؛ ليبعث في النفوس تلك الغرائز الكامنة التي أشرنا إليها، بحيث تكون هي الدوافع الأساسية للتحلي بالفضائل والتخلي عن الرذائل.

الغرض الخامس: مدح من يستحق المدح، وذم من يستحق الذم، بقصد التمييز بين المصلِح والمفسِد، والمحسِن والمسيء؛ ليزداد المحسِن إحسانًا، ويرعوي المسيء عن إساءته.

والأمثلة في ذلك كثيرة، منها ما ضربه الله في شأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في سورة الفتح من قوله -جل شأنه:{مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} 1.

إلى آخر السورة.

ومن ذلك ما ورد في ذمِّ اليهود من سورة الجمعة:

{مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} 2.

الغرض السادس: شَحْذُ ذهن المخاطَب، وتحريك طاقاته الفكرية، أو استحضار ذكائه؛ لتوجيه عنايته حتى يتأمَّل ويتفكَّر، ويصل إلى إدراك المراد عن طريق التفكر.

وهذا النوع من الأمثال يخاطَبُ به الأذكياء وأهل التأمُّل والتفكُّر، ومعلوم أن استخدام الأساليب الذكية التي يحتاج إدراك المراد منها إلى ذكاء، مما يرضي الأذكياء، ويحرك طاقاتهم الفكرية، ويلفت أنظارهم بقوة، ويدفعهم إلى توجيه عنايتهم لإدراك المراد بالتأمُّل وإمعان النظر.

1 آية: 29.

2 آية: 5.

ص: 315

ومن الأمثال القرآنية التي تصلح شاهدًا لهذا قول الله تعالى في سورة الحشر:

{لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} 1.

إن إنزال القرآن على جبل من الجبال ليس من خبرات الناس حتى يُضْرَبَ المثلُ به للإقناع أو للتقريب أو لغير ذلك من الأغراض التي سبق شرحها، لكنه مَثَلٌ يحرِّك في الأذكياء طاقاتهم الفكرية، ويوجِّه عنايتهم حتى يتأمَّلوا ويتفكَّروا ويدرسوا ويتابعوا البحث، رجاء أن يصلوا إلى معارف يحلُّون بها لغز هذا المثل.

ويشير إلى هذا قول الله تعالى عقب ضرب المثل:

{وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} .

فما جاء في المثَل يحتاج إلى تفكُّر، وأشار إلى بعد مدرك هذا النوع من الأمثال بقوله:{َتِلْكَ} إذ من المعلوم أن هذه الإشارة تستعمل فيما هو بعيد حسًّا أو معنًى أو منزلة.

وبعد. فهذه أهم المقاصد التي اشتملت عليها الأمثال القرآنية.

وهي مقاصد عامة يندرج تحتها كثير من الأهداف الجزئية التي ينقِّب عنها الباحث المحقِّق المدقق، المتعمِّق في أصول الشريعة واللغة.

فالأمثال القرآنية كما ذكرنا فيما سبق قواعد عامة، أو أصول كلية يندرِج تحتها من المسائل الفرعية والأمور الجزئية ما لا ينحصر.

والقرآن الكريم -كما نعلم- كتاب وافٍ بمطالب البشر على اختلاف أجناسهم وعصورهم وبيئاتهم، فما من صغيرة ولا كبيرة مما يحتاج الناس إليه إلّا وسِعَها تشريعه، وشملها بيانه، فهو كتاب هداية، ومنهج حياة.

1 آية: 21.

ص: 316