الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقال في تفسير قوله تعالى: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} من سورة طه: "أي: ولتربَّى بيد العدو على نظري بالحفظ والعناية، فـ {عَلَى عَيْنِي} استعارة تمثيلية للحفظ والصَّوْن؛ لأن المصون يجعل بمرأى"1.
وذهب إلى هذا التأويل غير واحد من المفسِّرِين، وهو ليس من التأويل الممنوع، لأنه قريب المأخذ، له في اللغة مفهوم يحدِّد المراد منه على وجه مقبول شرعًا وعقلًا، فلا يُذَمُّ هذا التأويل لقربه من المعنى المراد -والله أعلم.
ويحسن بنا أن نذكر هنا حقيقة التأويل في لغة القرآن الكريم، ونبيِّن بإيجاز ما يُحْمَدُ منه وما يُذَمُّ.
1 ج11 ص4178.
التأويل المحمود والتأويل المذموم:
ورد لفظ التأويل في القرآن الكريم على ثلاثة معانٍ:
الأول: صَرْفُ اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح لدليلٍ يقترن به، وهذا هو اصطلاح أكثر المتأخرين.
الثاني: تفسير اللفظ، وبيان معناه.
الثالث: الحقيقة التي يُؤَوَّل إليها الكلام، فتأويل ما أخبر الله به عن ذاته وصفاته هو حقيقة ذاته المقدسة، وما لها من حقائق الصفات، وتأويل ما أخبر الله به عن اليوم الآخر هو نفس ما يكون في اليوم الآخر، وعلى هذا المعنى جاء قول عائشة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في ركوعه وسجوده: "سبحانك اللهمَّ ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي" يتأول القرآن"1.
تعني قوله تعالى: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} .
"فالذين يقولون بالوقف على قوله: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّه} ، ويجعلون {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} استئنافًا، إنما عُنوا بذلك التأويل بالمعنى
1 رواه البخاري ومسلم.
الثالث، أي: الحقيقة التي يُؤَوَّل إليها الكلام، فحقيقة ذات الله وكنهها وكيفية أسمائه وصفاته، وحقيقة المعاد لا يعلمها إلّا الله.
والذين يقولون بالوقف على قوله: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} على أن الواو للعطف وليست للاسئتناف، إنما عُنوا بذلك التأويل بالمعنى الثاني، أي: التفسير، ومجاهد إمام المفسرين، قال الثوري فيه: إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك، فإذا ذكر أنه يعلم تأويل المتشابه، فالمراد به أن يعرف تفسيره.
وبهذا يتضح أنه لا منافاة بين المذهبين في النهاية، وإنما الأمر يرجع إلى الاختلاف في معنى التأويل.
ففي القرآن ألفاظ متشابهة تشبه معانيها ما نعلمه في الدنيا، ولكن الحقيقة ليست كالحقيقة، فأسماء الله وصفاته، وإن كان بينها وبين أسماء العباد وصفاتهم تشابه في اللفظ والمعنى الكلي، إلّا أن حقيقة الخالق وصفاته ليست كحقيقة المخلوق وصفاته، والعلماء المحققون يفهمون معانيها، ويميزون الفرق بينها، وأما نفس الحقيقة فهي من التأويل الذي لا يعلمه إلا الله.
ولهذا لما سُئِلَ مالك وغيره من السَّلف عن قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} .
قالوا: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة.
وكذلك قال ربيعة بن عبد الرحمن شيخ مالك قبله: "الاستواء معلوم والكيف مجهول، ومن الله البيان، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا الإيمان".
فبيَّن أن الاستواء معلوم، وأن كيفية ذلك مجهولة.
وكذلك الشأن بالنسبة إلى أخبار الله عن اليوم الآخر، ففيها ألفاظ تشبه معانيها ما هو معروف لدينا، إلّّا أن الحقيقة غير الحقيقة، ففي الآخرة ميزان وجنة ونار، وفي الجنة:{أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى} 1.
1 محمد: 15.
2 الغاشية: 13-16.
وذلك نعلمه ونؤمن به، وندرك أن الغائب أعظم من الشاهد، وما في الآخرة يمتاز عَمَّا في الدنيا، ولكن حقيقة هذا الامتياز غير معلومة لنا، وهي من التأويل الذي لا يعلمه إلّا الله1.
وأما التأويل المذموم فهو: صَرْفُ اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح لدليل يقترن به، يكون قويًّا عند المؤول، ضعيفًا عند أهل الحق، وهو ما لجأ إليه المعتزلة وكثير من الأشاعرة مبالغةً منهم في تنزيه الله عن مماثلته للمخلوقين كما يزعمون.
وهو -لعمري- زعم خاطئ أوقعهم في مثل ما هربوا منه أو أشد، كما تقدَّم بيانه من كلام الطبري في تفسير قوله -جل شأنه:{ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء} .
وهم أيضًا عندما يفسِّرون اليد بالقدرة مثلًا ليفروا من إثبات اليد للخالق -جل شأنه- لكونها في المخلوقين، يكونون قد وقعوا فعلًا فيما فروا منه، فإن للعباد أيضًا قدرة، وإن لم تكن كقدرة الله تعالى، لكنه تشبيه على أي حال، وذلك تناقض ظاهر؛ لأنه يلزمهم في المعنى الذي أثبتوه نظير ما زعموا أنه يلزم في المعنى الذي نفوه.
فلا يجوز لهم أن يقولوا: إن هذا اللفظ مصروف عن الاحتمال المرجوح إلى الاحتمال الراجح؛ لأن الاحتمال الراجح هو الوقوف عند النصِّ، والإيمان بما فيه من إثبات أو نفي ورُدَّ متشابهه إلى محكمه، كما هو مذهب السلف، وهو الإلزم والأقوم والأسلم -والله أعلم.
1 انظر مباحث في علوم القرآن ص192، 193، وراجع تفسير القاسمي للآية السابعة.