الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الراجح:
والراجح من الأقوال ما قاله الراغب في مفرداته، فقد أجاد وأفاد، وحقَّقَ المراد.
قال -رحمه الله تعالى: "والمتشابه من القرآن ما أُشْكِلَ تفسيره لمشابهته بغيره، إمَّا من حيث اللفظ أو من حيث المعنى.
فقال الفقهاء: والمتشابه ما لا ينبئ ظاهره عن مراده، وحقيقة ذلك أن الآيات عند اعتبار بعضها ببعض ثلاثة أضرب: محكَمٌ على الإطلاق، ومتشابِهٌ على الإطلاق، ومحكَمٌ من وجهٍ ومتشابِهٌ من وجهٍ.
فالمتشابه في الجملة ثلاثة أضرب:
متشابه من جهة اللفظ فقط، ومتشابه من جهة المعنى فقط، ومتشابه من جهتهما.
والمتشابه من جهة اللفظ ضربان: أحدهما يرجع إلى الألفاظ المفردة، وذلك إما من جهة غرابته نحو "الأَبُّ"1 و "يزفون"2، وإما من جهة مشاركة في اللفظ كاليد والعين3.
والثاني يرجع إلى جملة الكلام المركَّب، وذلك ثلاثة أضرب:
ضرب لاختصار الكلام نحو: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} 4.
1 هو نبات ترعاه الإبل، ولما كان لفظًا غريبًا خفي على عمر رضي الله عنه، إذ قال: عرفنا ما الفاكهة، فما الأَبُّ؟ الحديث بطوله أخرجه ابن جرير الطبري عند تفسير الآية.
2 الزفيف: هو الإسراع الشديد في خِفَّة، مأخوذ من زَف النعامة، وهو هزّ جناحيها بشدَّة عند إسراعها من وجه خطر يداهمها.
3 فإن اليد تطلق على العضو، وعلى القدرة، وعلى النعمة، والعين تطلق على عضو الإبصار والجاسوس، والذهب والفضة، وعين الماء، وغير ذلك.
4 المراد باليتامى في الآية: اليتيمات، فلما جاء اللفظ عامًّا أُشْكِلَ على بعض الصحابة ارتباط الشرط بالجواب، فأخبرتهم عائشة رضي الله عنها بأن المراد به ما ذكرنا، وقد تَقَدَّمَ حديثها في أسباب النزول.
وضرب لبسط الكلام نحو: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}
لأنه لو قيل: ليس مثله شيء، كان أظهر للسامع.
وضرب لنظم الكلام، نحو:{أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا، قَيِّمًا} 1.
تقديره: الكتاب قيمًا، ولم يجعل له عوجًا.
وقوله: {وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُون} .
إلى قوله: {لَوْ تَزَيَّلُوا} 2.
والمتشابه من جهة المعنى: أوصاف الله تعالى، وأوصاف يوم القيامة، فإن تلك الصفات لا تتصوَّر لنا؛ إذ كان لا يحصل في نفوسنا صورة ما لم نحسه، أو لم يكن من جنس ما نحسه.
والمتشابه من جهة المعنى واللفظ جميعًا خمسة أضرب:
الأول: من جهة الكمية كالعموم والخصوص نحو: {اقْتُلُوا الْمُشْرِكِين} .
والثاني: من جهة الزمان كالناسخ والمنسوخ، نحو:{اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِه} .
والرابع: من جهة المكان والأمور التي نزلت فيها، نحو:{وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا} 3.
1 الكهف: 1-2.
2 الفتح: 25، ففي الآية تقديم وتأخير دعا إليه المقام، والمعنى كما قال أبو السعود في تفسيره:"لولا كراهة أن تهلكوا ناسًا مؤمنين بين الكافرين، غير عالمين بهم، فيصيبكم بذلك مكروه، لما كفَّ أيديكم عنهم".
3 البقرة: 189.
وقوله: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} 1.
فإن مَنْ لا يعرف عادتهم في الجاهلية يتعذَّر عليه معرفة تفسير هذه الآية.
والخامس: من جهة الشروط التي بها يصحُّ الفعل أو يفسد؛ كشروط الصلاة والنكاح.
وهذه الجملة إذا تصوِّرَت علم أن كل ما ذكره المفسِّرون في تفسير المتشابه لا يخرج عن هذه التقاسيم نحو قول من قال: المتشابه "ألم".
وقول قتادة: المحكَم: الناسخ، والمتشابه: المنسوخ.
وقول الأصم: المحكَم: ما أُجْمِعَ على تأويله، والمتشابه: ما اختُلِفَ فيه.
ثم جميع المتشابه على ثلاثة أضرب:
ضرب لا سبيل للوقوف عليه، كوقت الساعة، وخروج دابة الأرض، وكيفية الدابة، ونحو ذلك.
وضرب للإنسان سبيل إلى معرفته: كالألفاظ الغريبة والأحكام الغلقة.
وضرب متردِّدٌ بين الأمرين، يجوز أن يختص بمعرفة حقيقته بعض الراسخين في العلم، ويخفى على من دونهم، وهو الضرب المشار إليه بقوله عليه الصلاة والسلام في علي رضي الله عنه:"اللهمَّ فقِّهه في الدين وعلمه التأويل" وقوله لابن عباس مثل ذلك.
وإذا عرفت هذه الجملة عُلِمَ أن الوقف على قوله: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} .
ووصله بقوله: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْم} جائز، وأن لكلِّ واحد منهما وجهًا حسبما دلَّ عليه التفصيل المتقدم.
وقوله: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا} .
فإنه يعني ما يشبه بعضه بعضًا في الأحكام والحكمة واستقامة النظم". أ. هـ.
1 التوبة: 37.
انتهى كلام الراغب، فأنهى إلينا به منتهى ما كنا نبتغيه في تفسير المتشابه، وتمييزه عن المحكم بتعريفٍ جامع لأطرافه ومسائله، مانع من دخول غيره فيه.
فقد عرَّفه بالحدِّ والرسم1 والتقسيم، فلم يترك الباحث فيه على ظمأٍ حتى ارتوى.
وقريب منه قول الإمام الرازي ومن نحا نحوه.
وما ذكره الراغب، والرازي من تقسيمات وتفريعات سيأتي أكثره إن شاء الله تعالى، في بحوث مستقلة كما وعدتك بذلك.
نسبة المتشابه من المحكم في الشريعة:
اعلم أن المتشابه وإن كثرت أقسامه وفروعه بالنسبة للمحكَم من نصوص الشريعة قليل، وذلك لأمور:
أحدها: النصّ الصريح على أن الآيات المحكمات أمّ الكتاب، وذلك في قوله تعالى:{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} 2.
وأم الشيء: معظمه وعامته، والأم أيضًا الأصل والعماد، كما في القاموس، ولذلك قيل لمكة:"أم القرى"؛ لأن الأرض دحيت من تحتها.
فإذا كان ذلك كذلك، فقوله تعالى:{وَأُخَرُ مُتَشَابِهَات} إنما يُرَادُ بها القليل.
والثاني: أن المتشابه لو كان كثيرًا لكان الالتباس والإشكال كثيرًا، وعند ذلك لا يطلق على القرآن أنه بيان وهدى.
وقد نزل القرآن ليرفع الاختلاف الواقع بين الناس، والمشكَل الملتبس إنما هو إشكال وحيرة لا بيان وهدى، ولولا أن الدليل أثبت أنَّ فيه متشابهًا لم يصح القول به، وما جاء فيه من ذلك المتشابه الذي لم يتعلَّق به حكمٌ بالمكلَّفين من جهته، زائد على الإيمان به، يجب أن نقرَّه على ما جاء، ولا نخوض في تأويله.
1 الوصف.
2 آل عمران: 7.