الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
{فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} 1.
قال ابن تيمية: قولهم: نزلت هذه الآية في كذا، يراد به تارةً سبب النزول، ويُرَاد به تارة أن ذلك داخل في الآية، وإن لم يكن السبب، وقد تنازع العلماء في قول الصحابي: نزلت هذه الآية في كذا، هل يجري مجرى المسند، كما لو ذكر السبب الذي أنزلت لأجله، أو يجري مجرى التفسير منه الذي ليس بمسند؟ فالبخاري يدخله في المسند، وغيره لا يدخله فيه، وأكثر المسانيد على هذا الاصطلاح؛ كمسند أحمد وغيره، بخلاف ما إذا ذكر سببًا عقبه، فإنهم كلهم يدخلون مثل هذا في المسند"2.
وقال الزركشي في البرهان3: "قد عُرِفَ من عادة الصحابة والتابعين أن أحدهم إذا قال: نزلت هذه الآية في كذا، فإنه يريد بذلك أنها تتضمَّن هذا الحكم، لا أن هذا كان السبب في نزولها، فهو من جنس الاستدلال على الحكم بالآية، لا من جنس النقل لما وقع".
1 النساء: 65.
2 انظر الإتقان ج1 ص115، 116.
3 ج1 ص31، 32.
تعدُّد الروايات في سبب النزول:
قد تتعدد الروايات في سبب نزول الآية الواحدة، وتكون كلها صحيحة غير صريحة في بيان السبب، مثل قول الراوي:"نزلت هذه الآية في كذا" أو "أحسبها نزلت في كذا".
وقد يكون بعضها صحيح صريح في بيان السببية، وبعضها صحيح غير صريح.
كقول راوٍ: "نزلت الآية بسبب كذا"، أو "حدث كذا وكذا فنزلت"، أو "ما أراها إلّا نزلت بسبب كذا".
وراوٍ آخر قال: نزلت في كذا.
فهي صيغة محتملة للسبب والحكم معًا كما تقَدَّمَ، وقد ترد في نزول الآية روايات صحيحة صريحة وأخرى صريحة غير صحيحة.
وقد تكون الروايات متساوية في الصراحة والصحة، وكان من إحداها وجه من وجوه الترجيح.
وقد تكون متساوية في الصحة، وليس في رواية منها وجه من وجوه الترجيح.
فهذه خمس صور لكل صورة منها حكم يخصها.
1-
أما الصورة الأولى: وهي أن ترد عدة روايات صحيحة غير صريحة في ذكر السبب، فهذه لا منافاة بينها، إذ المراد منها تفسير الآية، وبيان أن ذلك داخل فيها، ومستفاد منها، وليس المراد ذكر سبب النزول، إلّا إذا قامت قرينة على واحدة بأنَّ المراد بها السببية.
والأمثلة في هذا كثيرة:
2-
وأما الصورة الثانية: وهي أن تكون بعض الروايات صحيحة صريحة، وبعضها صحيح غير صريح، فإنه يقدَّم الصحيح الصريح عن غيره قطعًا، وتحمل الرواية التي ليس فيها نصٌّ صريح على ذكر السبب على أنها بيان الحكم.
ومثال ذلك ما ورد في سبب نزول قوله تعالى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} 1.
عن نافع قال: "قرأت ذات يوم {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} ، فقال ابن عمر: أتدري فيم أنزلت هذه الآية؟ قلت: لا، قال: نزلت في إتيان النساء في أدبارهن" فهذه الصيغة من ابن عمر غير صريحة في السببية.
وقد جاء التصريح بذكر سبب يخالفه عن جابر قال: كانت اليهود تقول: إذا أتى الرجل امرأته من خلفها في قبلها جاء الولد أحول، فنزلت:{نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} .
فجابر هو المعتمد؛ لأن كلامه نقل صريح، وهو نصٌّ في السبب، أما كلام ابن عمر فليس ينص، فيُحْمَل على أنه استنباط وتفسير.
1 البقرة: 223.
3-
وأما الصورة الثالثة: وهي أن ترد في نزول الآية روايات صحيحة صريحة، وأخرى صريحة غير صحيحة، فإنه يُقَدَّمُ الصحيح الصريح على الصريح غير الصحيح.
مثاله ما أخرجه الشيخان وغيرهما عن جندب البجلي قال: اشتكى النبي صلى الله عليه وسلم فلم يقم ليلتين أو ثلاثًا، فأتته امرأة فقالت: يا محمد، ما أرى شيطانك إلّا قد تركك، لم يقربك ليلتين أو ثلاثًا، فأنزل الله:{وَالضُّحَى، وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى، مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} .
وأخرج الطبراني وابن أبي شيبة، عن حفص بن ميسرة، عن أمه، عن أمتها، وكانت خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّ جروًا دخل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، فدخل تحت السرير، فمات، فمكث النبي صلى الله عليه وسلم أربعة أيام لا ينزل عليه الوحي، فقال:"يا خولة، ما حدث في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ جبريل لا يأتيني! " فقلت في نفسي: لو هيأت البيت وكنسته، فأهويت بالمكنسة تحت السرير، فأخرجت الجرو، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم ترعد لحيته، وكان إذا نزل عليه أخذته الرعدة، فأنزل الله {وَالضُّحَى} إلى قوله:{فَتَرْضَى} .
"قال ابن حجر في شرح البخاري: قصة إبطاء جبريل بسبب الجرو مشهورة، لكن كونها سبب نزول الآية غريب، وفي إسناده مَنْ لا يُعْرَفُ، فالمعتمَد ما في الصحيحين"1.
4-
وأما الصورة الرابعة: وهي أن تكون الروايات متساوية في الصحة، وكان في أحدها وجه من وجوه الترجيح، فإنها تُقَدَّمُ الرواية الراجحة، كأن يكون الراوي مثلًا حضر القصة، أو أتى بوصف لم يأت به آخر، أو أقسم بالله على صحة ما روى، ونحو ذلك من المرجحات.
مثاله ما أخرجه البخاري عن ابن مسعود قال: "كنت أمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وهو يتوكأ على عسيب، فمرَّ بنفرٍ من اليهود، فقال بعضهم: لو سألتموه، فقال: حدِّثْنَا عن الروح، فقام ساعة ورفع رأسه، فعرفت أنه يوحي إليه، حتى صعد الوحي، ثم قال:{قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} 2.
1 الإتقان ج1 ص118.
2 الإسراء: 85.
وقد أخرج الترمذي وصحَّحَه عن ابن عباس قال: قالت قريش لليهود: أعطونا شيئًا نسأل عنه هذا الرجل، فقالوا: اسألوه عن الروح، فسألوه فأنزل الله:{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} الآية.
فهذه الرواية تقتضي أنها نزلت بمكة حيث كانت قريش.
والرواية الأولى تقتضي أنها نزلت بالمدينة، وترجَّح الرواية الأولى لحضور ابن مسعود القصة، ثم لما عليه الأمة من تلقي صحيح البخاري بالقبول، وترجيحه على ما صحَّ في غيره.
وقد اعتبر الزركشي هذا المثال من باب تعدد النزول وتكرره1.
فتكون هذه الآية قد نزلت مرتين، مرة بمكة ومرة بالمدينة، واستند في ذلك إلى أن سورة "سبحان" مكية بالاتفاق.
وإني أرى أن كَوْن السورة مكية لا ينفي أن تكون آية منها أو أكثر مدنية، وما أخرجه البخاري عن ابن مسعود يدل على أن هذه الآية:{قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} مدنية.
فالوجه الذي اخترناه من ترجيح رواية ابن مسعود على رواية الترمذي عن ابن عباس أَوْلَى من حمل الآية على تعدُّد النزول وتكرره.
ولو صحَّ أن الآية مكية، وقد نزلت جوابًا عن سؤال، فإن تكرار السؤال نفسه بالمدينة لا يقتضي نزول الوحي بالجواب مرة أخرى، بل يقتضي أن يجبب الرسول صلى الله عليه وسلم بالجواب الذي نزل عليه من قبل.
5-
وأما الصورة الخامسة: وهي أن ترد الروايات متساوية في الصحة، وليس في إحداها ما يرجحها على غيرها، فإنه يجمع بينها إن أمكن ذلك بلا تكلُّف، فتكون الآية قد نزلت على سببين أو أكثر، ولا مانع من ذلك إن تقارب نزول الآية على هذين السببين أو الأكثر.
1 انظر البرهان ج1 ص30.
ومثاله ما ورد في سبب نزول آيات اللعان، من قوله تعالى:{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} .
إلى قوله: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ} 1.
فقد أخرج البخاري والترمذي وابن ماجه عن ابن عباس أنها نزلت في هلال ابن أمية، قذف امرأته عند النبي صلى الله عليه وسلم بشريك بن سحماء.
وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن سهل بن سعد قال: جاء عويمر إلى عاصم بن عدي، فقال: سل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رجل وجد مع امرأته رجلًا، أيقتله فيُقْتَلُ به أم كيف يصنع؟
فجمع بينها بوقوع حادثة هلال أولًا، وصادف مجيء عويمر كذلك، فنزلت في شأنهما معًا بعد حادثتيهما.
قال ابن حجر: لا مانع من تعدُّد الأسباب، وإن لم يمكن الجمع لتباعد الزمن، فإنه يحمل على تعدد النزول وتكرره.
ومثاله: ما أخرجه الشيخان عن المسيب قال: "لما حضر أبا طالب الوفاة، دخل عليه رسوله صلى الله عليه وسلم وعنده أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية، فقال: أي عم، قل: لا إله إلا الله، أحاج لك بها عند الله، فقال أبو جهل وعبد الله: يا أبا طالب، أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فلم يزالا يكلمانه حتى قال: هو على ملة عبد المطلب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لأستغفرنَّ لك ما لم أُنْه عنه، فنزلت:{مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} 2.
وأخرج الترمذي عن علي قال: "سمعت رجلًا يستغفر لأبويه وهما مشركان، فقلت: تستغفر لأبويك وهما مشركان؟ فقال: استغفر إبراهيم لأبيه وهو مشرك، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت".
وأخرج الحاكم وغيره عن ابن مسعود قال: "خرج النبي صلى الله عليه وسلم يومًا إلى المقابر، فجلس إلى قبرٍ منها، فناجاه طويلًا ثم بكى، فقال: إن القبر الذي جلست عنده قبر أمي، وإني استأذنت ربي في الدعاء لهم، فلم يأذن لي، فأنزل علي:
1 النور: 6-10.
2 التوبة: 113.
{مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} .
فجُمِعَ بين هذه الروايات بتعدد النزول.
ومن أمثلته كذلك ما رواه البيهقي والبزَّار عن أبي هريرة "أن النبي صلى الله عليه وسلم وقف على حمزة حين استُشْهِدَ وقد مُثِّلَ به، فقال: لأمثِّلَنَّ بسبعين منهم مكانك، فنزل جبريل والنبي صلى الله عليه وسلم واقف بخواتيم سورة النحل: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} إلى آخر السورة".
فهذا يدل على نزولها يوم أحد.
وجاء في رواية أخرى أخرجها الترمذي والحاكم عن أُبَيّ بن كعب أنها نزلت يوم فتح مكة، والسورة مكية، فجُمِعَ بين ذلك بأنها نزلت بمكة قبل الهجرة مع السورة، ثم بأُحُدٍ، ثم يوم الفتح.
ولا مانع من ذلك لما فيه من التذكير بنعمة الله على عباده، واستحضار شريعته.
قال الزركشي في البرهان: "وقد ينزل الشيء مرتين تعظيمًا لشأنه وتذكيرًا عند حدوث سببه خوف نسيانه، كما قيل في الفاتحة نزلت مرتين: مرة بمكة وأخرى بالمدينة.
قال الشيخ منَّاع القطان: "لا أرى لهذا الرأي وجهًا مستساغًا، حيث لا تتضح الحكمة من تكرار النزول، وإنما أرى أن الروايات المتعدِّدَة في سبب النزول ولا يمكن الجمع بينها يتأتَّى فيها الترجيح.
فالروايات الواردة في سبب نزول قوله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ}
…
الآية.
ترجح فيها الأولى على الروايتين الأخيرتين؛ لأنها وردت في الصحيحين دونهما، وحسبك برواية الشيخين قوة.
فالراجح أن الآية نزلت في أبي طالب.