الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ببيان وجوه إعرابه، ومشتقات ألفاظه، وغير ذلك مما يسترعي انتباههم، ويستميل أنظارهم.
وصار لكل مفسِّر طريقته ومنهجه، واتجاهه في التفسير والتأويل.
وسيظل هذا الكتاب المعجِزُ بحرًا زخارًا لمن يجيد السباحة فيه، والاغتراف من سلسبيله، حتى يرث الله الأرض ومَنْ عليها.
الخاصة الرابعة: براعته في تصريف القول، وثروته في أفانين الكلام:
فهو يورد المعنى الواحد بألفاظ مختلفة، وطرق متعددة، بمقدرة فائقة خارقة، تنقطع في حلبتها أنفاس الموهوبين من الفصحاء والبلغاء.
فهو ينتقل بك بين الأساليب الإنشائية والخبرية في المعنى المراد إبرازه، ويسلك مسالك شتَّى في التعبير والتصوير والترغيب والترهيب، من غير أن تشعر بفجوة بين أسلوب وأسلوب، أو تنافر بين كلمة وأخرى، ومن غير أن تشعر بتغيير يذكر بين الجوِّ العام للنص.
وهذا ضَرْبٌ فريد في الإعجاز البياني، جدَّ في طلبه رجال لم يلههم عنه تجارة ولا بيع، فنقَّبوا عن لطائفه، ودقائقه ونفحاته وإشراقاته، فخرجوا بعد التحري وطول التأمُّل والنظر بزاد غير قليل، زاد في إيمانهم بعظمة هذا الكتاب وقدرته على التحدي، وتأبيه على المعارضة والمطاولة، في أي وجه من وجوه الجمال الذي تحلَّى به في كل جزئية من جزئياته.
ولا نريد أن نتوسَّع هنا في ذكر مثال لكل أسلوب من أساليبه، فهذا يحتاج إلى مجلدات، ولكن نكتفي بذكر أسلوبين من هذه الأساليب، وهما:
أسلوبا الأمر والنهي: ومن خلالهما تستطيع أن تنطلق باحثًا بين دفتي المصحف عن غيرهما من الأساليب.
فخذ أولًا تعبيره عن طلب الفعل من المخاطبين، فإنه قد ورد بأساليب مختلفة، كل أسلوب منها في موقعه سديد:
1-
فقد يرد الأمر صريحًا بمادَّته المستعمَلة فيه، وهو لفظ "افعل" مثل قوله تعالى:
{يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا} [الأعراف: 31] .
2-
وقد يرد بلفظ فيه حروف الأمر نفسها، مثل قوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58] .
{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى} [النحل: 90] .
3-
وأحيانًا يدل على الأمر بصيغة "كتب"، مثل قوله تعالى:
{أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة: 178] .
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 183] .
4-
والإخبار بكونه على الناس، نحو قوله -جل شأنه:
{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97] .
5-
والإخبار عن المكلف بالفعل المطلوب منه نحو قوله تعالى:
{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] .
أي: مطلوب منهن أن يتربصن.
وقد جاء هذا الأمر بصيغة الخبر مبالغة في طلب الحرص على فعله، حتى لكأنه واقع منهن بمقتضى حياتهن الذي فُطِرْنَ عليه، فإن المطلَّقة من شأنها أن تستحي من تعريض نفسها للأزواج بعد الطلاق، حتى تظل مدة كافية تتأكَّد فيها من براءة رحمها، وتكون لزوجها فرصة في مراجعتها إن كان قد طلقها طلقة رجعية.
وكذلك الحال في قوله -جل شأنه: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ} [البقرة: 233] .
فهو أمر لهنَّ بإرضاع أولادهنَّ بوصفهنَّ والدات، فلا ينبغي أن يحملهن طلاقهن على ترك إرضاع أولادهن نكاية في أزواجهن.
6-
والإخبار عن الفعل بأنه خير، نحو قوله تعالى:
{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ} [البقرة: 220] .
7-
ووصف الفعل بالفرضية، نحو قوله تعالى:
{قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ} [الأحزاب: 50] .
أي: من بذل المهور والنفقة، والمعاشرة بالمعروف.
8-
وترتيب الوعد والثواب على الفعل، نحو قوله سبحانه:
{مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ} [الحديد: 11] .
9-
وترتيب الفعل على شرط قبله، نحو قوله تعالى:
{فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] .
10-
وإيقاع الفعل منفيًّا معطوفًا عقب استفهام، نحو قوله -جل شأنه:
{أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} [النحل: 17] .
أي: تذكَّروا.
11-
وإيقاع الفعل عقب ترجٍّ نحو قوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون} .
12-
وترتيب وصف شنيع على ترك الفعل، نحو قوله تعالى:
{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44] .
هذه هي أهم صيغ الأمر، ويقابله النهي، وله صيغ كثيرة منها:
1-
الصيغة المألوفة الصريحة بأداة النهي المعروفة، مثل قوله تعالى:
2-
الصيغة الصريحة التي تفيد التحريم بلفظه، مثل قوله تعالى:
{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ} [النساء: 23] .
{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} [المائدة: 3] .
3-
نفي الحلِّ عنه، نحو قوله تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا} [النساء: 19] .
4-
ووصفه بأنه شرٌّ، نحو قوله تعالى:{وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ} [آل عمران:180] .
5-
وذكر الفعل مقرونًا بالوعيد، نحو قوله سبحانه:
{وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة: 34] .
6-
وذكر الفعل منسوبًا إليه الإثم، نحو قوله -جل شأنه:
{فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ} [البقرة: 181] .
هذه نماذج من الأوامر والنواهي جاءت كما رأيت على أساليب متعددة، وفق المقام الذي سيقت له والجوّ الذي سيقت فيه.
"وهكذا تجد القرآن يفتن في أداء المعنى الواحد بألفاظ وطرق متعددة، بين إنشاء وإخبار، وإظهار وإضمار، وتكلم وغيبة، وخطاب ومضيّ، وحضور واستقبال، وإسمية وفعلية، واستفهام وامتنان ووصف، ووعد ووعيد إلى غير ذلك.
ومن عجب أنه في تحويله الكلام من نمط إلى نمط، كثيرًا ما تجده سريعًا لا يجارى في سرعته، ثم هو على هذه السرعة الخارقة لا يمشي مكبًّا على وجهه، مضطربًا أو متعثرًا، بل هو محتفظ دائمًا بمكانته العليا من البلاغة "يمشي سويًا على صراط مستقيم".
…
واعلم أن تصريف القول في القرآن على هذا النحو كان فنًّا من فنون إعجازه الأسلوبي كما ترى، وكان في الوقت نفسه مِنَّة يمنها الله على الناس، ليستفيدوا عن طريقها كثرة النظر في القرآن، والإقبال عليه قراءة وسماعًا وتدبُّرًا وعملًا، وأنه لا عذر معها لمن أهمل هذه النعمة وسفَّه نفسه.
اقرأ إن شئت قوله سبحانه في سورة الإسراء:
وقوله سبحانه في سورة الكهف:
وقوله سبحانه في سورة الرعد:
{كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَال} 3 أ. هـ.4.
1 آية: 89.
2 آية: 54.
3 آية: 17.
4 بتصرف يسير من "مناهل العرفان" ج2 ص218، 219.