الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هذا خلاصة ما ذكره الرافعي في الإعجاز عن هؤلاء الذين ادَّعوا النبوة، وعارض بعضهم القرآن بكلام لا يقوله الأطفال.
وقد ذكر الرافعي قومًا عارضوا القرآن، ولم يدَّعوا النبوة ضربنا عن ذكرهم صفحًا، لأن أكثر ما قيل فيهم لا يصح، وهو نفسه يشك في صحته -راجعه إن شئت"1.
أما الفرض الثالث من الصرفة: وهو أن عارضًا مفاجئًا عطَّل مواهبهم البيانية، فينقضه بما هو معروف من أن العرب حين خوطبوا بالقرآن قعدوا في جملتهم عن معارضته اقتناعًا بإعجازه وعجزهم الفطري عن مساجلته، ولو أن عجزهم هذا كان لطارئ مباغت عطَّل قواهم البيانية لأُثِرَ عنهم أنهم حاولوا المعارضة بمقتضى تلك الدوافع القوية التي سبق ذكرها، ففوجئوا بما ليس في حسبانهم، ولكان ذلك مثار عجب لهم.
ولأعلنوا ذلك في الناس ليلتمسوا العذر لأنفسهم، وليقللوا من شأن القرآن في ذاته، ولعمدوا إلى كلامهم القديم فعقدوا مقارنة بينه وبين القرآن، يغضون بها من مقام القرآن وإعجازه، ولكانوا بعد نزول القرآن أقلَّ فصاحة وبلاغة منهم قبل نزوله، وكل هذه اللوازم باطلة، فبطل ما استلزمها وهو القول بالصرفة بناء على هذه الشبهة الهازلة.
1 ص178 وما بعدها.
القدر المعجز منه:
وبقي لنا من هذا البحث بيان القدر المعجز الذي وقع به التحدي، وعجز العرب عن الإتيان بمثله، فنقول: لقد تحدى الله العرب أولًا بحديث مثله، فقال في سورة الطور:{أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ، فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ} 1.
والحديث كلام يطلق على القليل والكثير.
1 الآيتين 33، 34.
ثم تحدَّاهم بعشر سور مفتريات، وذلك لما قالوا: إن محمدًا يفتري القرآن، فقال -جل شأنه- في سورة هود:{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} 1.
أي: فأتوا بعشر سور من مفترياتكم، لا تلتزمون فيها الحكمة ولا الحقيقة، وليس إلا النظم والأسلوب.
ثم تحداهم بسورة مثله، فقال في سورة يونس:{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} 2.
وبلغ التحدِّي أشده في سورة البقرة، حيث طلب منهم أن يأتوا بسورة من مثله، وأن يستعينوا في ذلك بشهدائهم، وسجَّل عجزهم عن الإتيان بها على وجه التأكيد والتأبيد، مع الإنذار والتهديد والوعيد، فقال -جل شأنه- في سورة البقرة:{وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} 3.
ثم سجل الله على الخلق جميعًا عجزهم عن معارضته ليكون ذلك التحدي باقيًا ما بقي القرآن.
فقال في سورة الإسراء: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} 4.
ومن هذه الآيات نعلم أن التحدي وقع بالقرآن كله، وبعشر سور منه،
1 آية: 13.
2 آية: 38.
3 الآيتين 23، 24.
4 آية: 88.
وبسورة واحدة، فدلَّ ذلك على أن الإعجاز يقع بسورة مثل سورة الكوثر، أو بآية تساويها في طولها.
"قال القاضي أبو بكر: ذهب عامة أصحابنا -وهو قول أبي الحسن الأشعري في كتبه- إلى أن أقل ما يعجز عنه من القرآن السورة قصيرة كانت أو طويلة، أو ما كان بقدرها.
قال: فإذا كانت الآية بقدر حروف سورة، وإن كانت كسورة الكوثر فذلك معجز.
وأما قوله تعالى: {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِه} .
فلا يخالف هذا، لأن الحديث التام لا تتحصل حكايته في أقل من كلمات سورة قصيرة"1.
وفي نظري أن الآية من القرآن معجزة بذاتها، وإن لم تبلغ في الطول سورة الكوثر، فإنك لو عرض على سمعك شيء من كلام الناس، وشيء من كلام الله، استطعت أن تميِّز بين الكلامين من غير كلفة، ولا إنعام نظر، فالآية القرآنية مهما كانت قصيرة فإن لها من الجلال والجمال ما للآية الكبيرة، فهو معجز كله، وإعجازه في كل آية من آياته، يُعْرَف ذلك بالبصائر والضمائر.
والله عليم بالسرائير، وهو من وراء القصد، وله الحمد في الأولى والآخرة، وهو الحكيم الخبير.
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
تَمَّ الكتاب بحمد الله تعالى في يوم 3 من شهر رجب عام 1411هـ الموافق 19 من يناير 1991م.
1 انظر "البرهان في علوم القرآن" ج2 ص108.