الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
خصائص المثل القرآني وسماته البلاغية:
المثل في كلام الناس: قول بليغ يرسله حكيم، أو يجري على لسان واحد من الناس بقصد، أو بغير قصد، فيقع منهم موقع الغرابة والاستحسان، لمطابقته للقضية التي قيل فيها، أو للشَّأن الذي أريد تصويره بإيجاز بليغ.
فيحفر له في أذهانهم مكانًا، يظل مائلًا فيه يذكر كلما وقع ما يشبه مورده.
ويتميَّز المثل عن الأساليب البيانية بخصائص فنية، وسمات بلاغية كثيرة، جمعها القرآن الكريم في أمثاله، فكانت في الذروة العليا من البلاغة والتأثير في القلوب والعقول.
أما خصائص المثل وسماته بوجه عام، فإنها تُرَدُّ في جملتها إلى أربعة أمور:
الأول: الإيجاز البليغ: وهو تأدية المعاني الكثيرة بألفاظ قليلة محكمة.
الثاني: إصابة المعنى: بأن يكون المثل مؤديًا للغرض الذي ضُرِبَ له أو قيل فيه، بحيث إذا أُلْقِيَ على المخاطَب وقع من نفسه موقعه، وأصاب مرماه، وسلَّم به تسليمًا لا يقبل التردد.
وهذا يقتضي أن يكون المثل مطابقًا للواقع، مجرَّبًا عند السامع، لا ينكره عقل ولا دين.
الثالث: حسن التشبيه: وذلك بأن يكون وجه الشبه بين المشَبَّه والمشبَّه به قويًّا، يدركه الذهن من غير تكلُّف في التأويل، وأن يكون في التشبيه جدَّة وطرافة وابتكار، حتى يكون التأثير به أقوى وأقدر على إبراز المعاني المعقولة في صور محسَّة.
فإن لم يكن وجه الشَّبَه بين المشَّبه والمشبَّه به قويًّا أو لم يكن في أسلوب التشبيه جدة وطرافة وابتكار كان فاترًا مبتذلًا غير مؤثر، وبالتالي يكون فاقد
القدرة على تأدية الغرض المراد منه، وهو إبراز الفكرة وتقوية المعنى، وإقناع السامع وإمتاعه، وتدريب ذهنه على التأمُّل والتفكير، وإطلاق خياله في المعاني المرسَلَة لفهمها واستيعابها، وربط بعضها ببعض، وغير ذلك من الأغراض التي لا يؤديها غير هذا الأسلوب البياني.
الرابع: جودة الكتابة: وذلك إذا كان المثل من باب الكنايات، بأن يعبّر عن حكمة دلت على صدقها التجربة، وشهد لها الواقع بالسلامة والصحة.
فالكناية تأتي بالمعنى مصحوبًا بدليله، وتبرز ما يستقبَح ذكره في صورة مقبولة لا يأباها الحسّ المرهف، ولا يمجُّها الذوق السليم، فهي أسلوب مقنع وممتع ومؤثر.
وأمثال القرآن الكريم مستوفية لهذه الخصائص إلى حدِّ الإعجاز -ولا شك- فالإيجاز فيه من الدقة بحيث يسع اللفظ الواحد من المعاني المرادة ما لا تسعه المجلدات الضخام.
ولكننا نجد الأمثال السائدة في كلام الناس تعوزها الدقة أو الطلاوة، أو البراعة في التعبير، أو حسن الحبكة في كثير من الأحيان.
وكثير منها يخلو من صفة الثبات والخلود، فتتبعثر وتتلاشى مع مَرِّ العصور.
أما أمثال القرآن الكريم فهي قواعد كلية تجتمع تحتها كل القوانين الأخلاقية والقيم الإنسانية، لذا كانت خالدة على مرِّ الزمان، صالحة لكل عصر ومكان، مقبولَة عند الخاصة والعامة، مستسَاغَة لدى الطباع المستقيمة، والعقول السليمة، لها جلال تشعر بوقعه القلوب المؤمنة، وجمال تستشفه الأذواق المعتدلة، ويجد فيها أصحاب الحسِّ المرهف كمالًا في رسم صور المعاني المرادة، لا يجدونه في غيرها.
فأين قولهم مثلًا: "القتل أنفى للقتل" من قول الله تعالى في سورة البقرة: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاة} 1.
1 آية: 179.
فقد تفوَّق قول الله تعالى على ما قاله أولئك العرب في كثير من الوجوه البيانية، ذكر بعضها الألوسي والرازي وصاحب المنار، وغيرهم من المفسرين.
فكان ما عدوه من وجوه البيان بالغًا ما بلغ، لا يساوي فيما لم يذكروه قطرة من بحر، فجُلّ كلام الله تعالى عن أن يُعْقَد بينه وبين كلام الناس معادلة أو مفاضلة أو موازنة.
وكان مما ذكر المفسِّرون من الوجوه:
أولها: أن حروف المثل في الآية أقل، وكلما قَلَّت الحروف وكَثُرَت المعاني كان أبلغ في الإعجاز.
وثانيها: أن قولهم: "القتل أنفى للقتل" ظاهره يقتضي كون الشيء سببًا لانتفاء نفسه، وهو محال، بخلاف الآية، فإن الضد فيها متضمِّن لضده، وهو الحياة في الإماتة التي هي القصاص.
وعرَّف القصاص ونكَّر الحياة للإشعار بأن في هذا الجنس من الحكم نوعًا من الحياة عظيمًا لا يُقْدَرُ قدره ولا يُجْهَل سره.
وثالثها: أن قولهم فيه تكرير للفظ القتل، وليس في الآية تكرير.
ورابعها: أن قولهم لا يفيد إلّا الردع عن القتل، والآية تفيد الردع عن القتل، وعن الجرح، وغيرهما، فهي أجمع للفوائد.
وخامسها: أن نفي القتل في قولهم مطلوب تبعًا، من حيث إنه يتضمَّن حصول الحياة، وأما الآية فإنها دالة على حصول الحياة، وهو مقصود أصلي، فكان هذا أولى.
وسادسها: أن القتل ظلمًا قتل، مع أنه لا يكون نافيًا للقتل، بل هو سبب لزيادة القتل، وإنما النافي وقوع القتل المخصوص، وهو القصاص، فظاهر قولهم باطل، وأما الآية فهي صحيحة ظاهرًا وتقديرًا، فظهر التفاوت بين الآية وبين كلام العرب.
سابعها: ما في الآية من عذوبة اللفظ وسلاسته، مما يدعو إلى قبول ما فيه من تشريع ببشاشة واستبشار، بخلاف قولهم:"القتل أنفى للقتل" فإنه يشعر
ببشاعة الوسيلة التي تحفظ عليهم الحياة، فلا يجعلهم يميلون إلى ما يحتويه المثل من دعوة إلى حقن الدماء بسفك الدماء قصاصًا.
"وفي الآية من براعة العبارة، وبلاغة القول، ما يذهب باستبشاع إزهاق الروح في العقوبة، ويوطِّن النفوس على قبول حكم المساواة؛ إذ لم يسم العقوبة قتلًا أو إعدامًا، بل سماها مساواة بين الناس تنطوي على حياة سعيدة لهم"1.
هذا والمثل القرآني فوق ما ذكرنا، يتميز عن غيره بتصوير الحقائق المجرَّدة تصويرًا لا يبعد عن الواقع المحسّ، بمعنى أن ما فيه من تشبيه أو استعارة، أو كناية، أو مجاز، إنما هو من مقومات الوصول إلى الحق والحقيقة، بعيدًا كل البعد عن الخيال المقصود لذاته بغية الإمتاع الذهني أو العاطفي.
ومع ذلك نجد هذا الأسلوب الحكيم لا يجيء في عزله عن الآيات السابقة له واللاحقة، وإنما يأتي مفسِّرًا لما قبله، ممهدًا لما بعده، مصحوبًا بالحكم على من أطاع ومن عصى.
اقرأ قوله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا} 2.
ثم اقرأ الآيات قبلها، واقرأ ما بعدها، فماذا تجد؟
إنك لتجد أربعة أمور متلازمة تسير جنبًا إلى جنب، لا تكاد تفارق أي مثل من أمثال القرآن الكريم:
الأول: يفسر ما قبله من الآيات، فقد ذكر الله أوصاف المنافقين، ثم ساق المثل بيانًا لحالهم وشأنهم.
الثاني: تمهيد المثل لما بعده، وهو تكليف الخلق بتوحيد الله وعبادته:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} 3.
الثالث: الحكم على من ضُرِبَ فيهم المثل، فإن كانوا من الأخيار فلهم الحسنى، وإن كانوا من الأشرار فلهم سوء العقبى.
الرابع: يحمل المثل في طيَّاته من الحجج البالغة على صدق الرسل فيما
1 انظر تفسير المنار ج2 ص107.
2 البقرة: 17.
3 البقرة: 21.
يبلغون عن ربهم، وذلك من خلال أسلوبه العام الذي يتميز بالخصائص التي ذكرناها آنفًا.
يضاف إليها براعته في تصريف القول، وثروته في أفانين الكلام.
ومعنى هذا أنه يورد المعنى الواحد بألفاظ وبطُرُقٍ مختلفة بمقدرة خارقة، تنقطع في حلبتها أنفاس الموهوبين من الفصحاء والبلغاء.
اقرأ قوله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا} .
مع قوله: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاء} .
وقوله -جل شأنه: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ} .
مع قوله: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّي} .
ثم حاول أن توازن بين المثلين.
إنك لن تستطيع الموازنة ولا المفاضلة بين الصورتين أو الأسلوبين، فكلما قلت في نفسك هذه الصورة أجمل من أختها، أو هذا الأسلوب أدقّ من الذي قبله أو الذي بعده، راجعتك نفسك في الحال؛ فعادوت النظر مرة بعد مرة، وفي كل مرة تفضِّل أحد الأسلوبين على الآخر، ثم ترجع في ذلك على التوِّ، وتحكم في آخر الأمر بالحكم الذي حكم الله به في محكم كتابه على كتابه:
{كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} 1.
هذا. وقد تتبعت خصائص المثل وسماته البلاغية في كتابي "الأمثال القرآنية" بشيء من التفصيل، فراجعه إن شئت -وبالله توفيقك.
1 هود: 1.
2 الزمر: 23.