الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بابُ صفةِ صلاةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم
-
الحديث الأول
78 -
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذَا كَبَّرَ فِي الصَّلاةِ، سَكَتَ هُنَيْهَةً (1) قَبْلَ أَنْ يَقْرَأَ ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي ، أَرَأَيْتَ سُكُوتَكَ بَيْنَ التَّكْبِيرِ، وَالْقِرَاءَةِ، مَا تَقُولُ؟ قَالَ: أَقُولُ: «اللَّهُمَّ بَاعِدْ بَيْنِي، وَبَيْنَ خَطَايَايَ؛ كَمَا بَاعَدْتَ بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، اللَّهُمَّ نَقِّنِي مِنْ خَطَايَايَ؛ كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الأَبْيَضُ مِنْ الدَّنَسِ، اللَّهُمَّ اغْسِلْنِي مِنْ خَطَايَايَ بِالثَّلْجِ، وَالْمَاءِ، وَالْبَرَدِ» (2).
(1) في "ق": "هنيئة".
(2)
* تَخْرِيج الحَدِيث:
رواه البخاري (711)، كتاب: صفة الصلاة، باب: ما يقول بعد التكبير، ومسلم (598)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: ما يقال بين تكبيرة الإحرام والقراءة، واللفظ له، وأبو داود (781)، كتاب: الصلاة، باب: السكتة عند الافتتاح، والنسائي (60)، كتاب: الطهارة، باب: الوضوء بالثلج، و (895)، كتاب: الافتتاح، باب: الدعاء بين التكبيرة والقراءة، وابن ماجه (805)، كتاب: الصلاة، باب: افتتاح الصلاة. =
* الكلام على الحديث من وجوه:
الأول: ظاهر هذا الحديث ملازمته عليه الصلاة والسلام لهذا الدعاء عند الافتتاح؛ لما تقدم من أن (كان) هذه تدل على تكرار الفعل، وملازمته، وأن (كان) قد تستعمل في مطلق العمل، ولكن الأكثر الأول.
الثاني: قوله: «هنيهة» (1): هو -بضم الهاء الأولى وفتح النون، على وزن فُعَيلة-، ويروى:«هُنَيَّة» -بتشديد الياء بغير (2) همز-، وهي تصغير هَنَّة، وأصل هنة: هَنْوَة، فلما صغرت، رد المحذوف، وهو الواو فصار هنيوة، فاجتمعت الياء والوا، وسبقت إحداهما بالسكون، فقلبت الواو ياء، وأدغمن الياء في الياء، ومن همزها فقد أخطأ (3)، والرواية الأولى هي رواية صاحب الكتاب.
= * مصَادر شرح الحَدِيث:
"إكمال المعلم" للقاضي عياض (2/ 550)، و"المفهم" للقرطبي (2/ 216)، و"شرح مسلم" للنووي (5/ 96)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 212)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (1/ 443)، و"فتح الباري" لابن رجب (4/ 342)، و"النكت على العمدة" للزركشي (ص: 91)، و"التوضيح" لابن الملقن (7/ 19)، و"فتح الباري" لابن حجر (2/ 229)، و"عمدة القاري" للعيني (5/ 292)، و"كشف اللثام" للسفاريني (2/ 310)، و"سبل السلام" للصنعاني (1/ 165)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (2/ 206).
(1)
في "ق": "هنيئة".
(2)
في "ق": "من غير".
(3)
كذا نقله الشارح عن الإمام النووي في "شرح مسلم"(5/ 96). إلا أن =
الثالث: قوله: (رأيت سكوتك»: روايتنا في بضم (1) التاء من رأيت، وهي من رؤية القلب لا العين.
فيه: الحصر على تتبع أقوال الإمام وأفعاله من حركة وسكون، وهذا كان دأب الصحابة رضي الله عنهم معه عليه الصلاة والسلام؛ محافظة على الاقتداء به، وذلك من نعم الله عز وجل على هذه الأمة؛ إذ هم الذين نقلوا الشريعة إلينا، ولو تساهلوا في ذلك لاختل النظام.
وتسمية ذلك سكوتا: مجاز (2)؛ إذ لم يسكت عليه الصلاة والسلام، وإنما المراد هنا: السكت على الجهر، وهو في الحقيقة لا يسمى سكوتا؛ إنما الساكت من ترك الكلام مطلقا، ألا ترى أنه يقال: قرأ سرا، وتكلم سرا.
ويوضح ذلك قوله: ما تقول؟ ولم يقل: هل تقول؟ والسؤال بهل قبل السؤال بما؛ كما كان السؤال بأو قبل السؤال بأم في نحو قولك: أزيد في الدار، أو عمرو؟ على ما هو مقرر في كتب العربية، ولعله استدل على أصل القول بحركة الفم؛ كما ورد في استدلالهم على إسرار (3) القراءة باضطراب لحيته عليه الصلاة والسلام.
= القرطبي ذكر في "المفهم"(2/ 216): أن "هنيئة" بضم الهاء، وياء التصغير، وهمزة مفتوحة؛ كحُطَيئة، رواية الجمهور.
(1)
في "ق": "ضم".
(2)
في "خ": "مجازًا".
(3)
في "ق": "أصل" بدل "إسرار".
الرابع: قوله عليه الصلاة والسلام: «اللهم» : قد تقدم الكلام عليه بما يغني عن الإعادة، ولكن يزاد هنا أن يقال: المقصود بها: نداء الله تعالى، وتجيء حشوا بعد عموم، حثا للسامع على حفظ القيد المذكور بعدها، أو تنبيها على أنه بمثابة يستغفر التارك له؛ كقولك: أنا لا أنقطع عن زيارتك، اللهم إلا أن يمنع مانع لا تقدر على دفعهخ، ولألزمنك أبدا، اللهم إلا أن تكره مني شيئا.
وفي كلا م الحريرير: وما قيل في المثل الذي سار سائره: خير العشاء سوافره، إلا ليعجل التعشي، ويجنب أكل الليل الذي يعشي، اللهم إلا أن تقد نار الجوع، وتحول دون الهجوع (1).
فأنت تراه في مثله هذا لا يكاد يفارق حرف الاستثناء، وإنما ذكؤرت هذا هنا، فإن كان لا يمس بمعنى الحديث؛ ليشتمل الكتاب على جملة معناها، وتكميلا لما تقدم (2).
الخانس: قوله عليه الصلاة والسلام: «باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب» : كأن المراد بالمباعدة هنا أحد أمرين: إما ترك المؤاخذة بها، وإما المنع من وقوعها، والعصمة منها، وهذا منه صلى الله عليه وسلم إما أن يكون قصدا للتعليم، وإما إظهارا لحال العبودية، وإلا، فهو صلى الله عليه وسلم قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، والثاني: أظهر؛ إذ لو قصد التعليم، لجهر به، ولا يبعد عندي أن
(1) انظر: "مقامات الحريري"(ص: 44).
(2)
في "ق" زيادة: "منه".
يكون ذلك دعاء لأمته صلى الله عليه وسلم.
ق: وفيه مجازان:
أحدهما: استعمال المباعدة في ترك المؤاخذة، أو في العصمة والمباعدة في الزمان والمكان في الأصل.
الثاني: استعمال المباعدة في الإزالة الكلية؛ فإن أصلها لا يقتضي الزوال، وليس المراد هاهنا: البقاء مع البعد، ولا ما يطابقه من المجاز، وإنما المراد: الإزالة بالكلية.
قلت: قيل: ومثله قوله تعالى: {تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا} [آل عمران: 30]، والمراد: التبري تمنه.
ثم قال: وكذلك التشبيه بالمباعدة بين المشرق والمغرب، المقصود منه: ترك المؤاخذة، لأأو العصمة.
وقوله عليه الصلاة والسلام: «اللهم نقني من خطاياي» إلى قوله: «من الدنس» : كما تقدم؛ مجاز عن زوال الذنوب وأثثرها، ولما كان ذلك أظهر في الثوب الأبيض من غيره من الألوان، وقع التشبيه به.
وقوله: «اللهم اغسلني» إلى آخره: يحتمل أمرين بعد كونه مجازا كما ذكرنا:
أحدهما: أن يكون المراد هنا: التعبير بذلك عن غاية المحو؛ أعني: بالمجموع؛ فإن الثوب الذي تكرر عليه التنقية بثلاثة أشياء منقية، يكون في غاية النقاء.
الوجه الثاني: أن يكون كل واحد من هذه الأشياء مجازا عن صفة يقع بها التكفير والمحو، ولعل ذلك كقوله تعالى:{وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا} [البقرة: 286]، فكل واحدة من هذه الصفات -أعني: العفو، والمغفرة، والرحمة- لها أثر في محو الذنوب، فعلى هذا الوجه ينظر إلى الأفراد، ويجعل كل فرد من أفراد الحقيقة دالا على معنى فرد [مجازي]، وفي الوجه الأول: ينظر إلى أفراد الألفاظ، وتجعل (1) جملة الفعل دالة على غاية المحو للذنب، والله أعلم. انتهى (2).
وقوله: «بالثلج والماء البارد» : ع: استعارة للمبالغة في التنظف من الذنوب.
قلت: وروي: «من الدرن» ، وروي:«من الوسخ» ، وكلها مترادفة، أو متقاربة، وروي:«بالثلج والبرد» .
وـ «ماء البارد» : ع: وقوله: «ماء البارد: من إضافة الشيء إلى نفسه؛ كقولك: مسجد الجامع (3).
قلت: وانظر تخصيص الماء البارد دون السَّخْن، وإن كان السخن أذهب للوسخ من البارد (4).
(1) في "خ" و"ق": "بل بجعل".
(2)
انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 213).
(3)
انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 83).
(4)
قال ابن الملقن في "الإعلام"(3/ 9) بعد أن ذكر كلام الفاكهي دون عزو إليه: وكأنَّ سرَّه -والله أعلم- أنه استعاره لبرد القلب من الذنوب.
تذنيب:
قيل في الفرق بين الخطيئة والإثم: إن الخطيئة فيما بين العبد وربه، والإثم فيما بين المخلوقين، وفيه نظر؛ فإنه قد كثر إطلاق الفقهاء اسم الإثم على من أخرج الصلاة عن وقتها، وكذلك يقولون فيمن أفطر في الفرض متعمدا، وغير ذلك من العبادات، وهي فيما بين العبد وربه، فليتأمل ذلك.
فائدة تصريفية:
اعلم: أن «خطايا) أصله عند الخليل: خَطَائِءُ، فالهمزة الأولى بدل من الياء الزائدة في خطيئة، والهمزة الثانية هي لام الفاعل، ووزنه فعائل، فاستثقل الجمع بين همزتين في كلمة، فقدمت الياء الزائدة بعد الهمزة التي هي (1) لام الفعل، فصار خطائي الهمزة بعدها ياء، ثم أبدلت الياء ألفا، بدلا لازما مسموعا من العرب في هذا البناء من الجمع، وإذا أبدل من الياء ألفا، لزم أن يبدل من كسرة الهمزة التي قبلها فتحة؛ إذ الألف لا يكون ما قبلها إلا مفتوحا، فلما انفتحت الهمزة، صارت خطاءًا، اجتمع ألفان بينهعما همزة، فأبدل من الهمزة ياء، فصار خطايا، فوزنها فَعَالى، محول (2) من فعالي، مقلوب من فعائل.
وسيبويه يرى أن لا قلب فيه، ولكنه أبدل من الهمزة الثانية التي هي للم الفعل ياء؛ لانكسار ما قبلها، ثم أبدل منها ألفا على ما تقدم
(1)"هي" ليس في "ق".
(2)
في "ق": "محرك".
في مذهب الخليل، فوزنه عنده فعالى محول (1) من فعائل، والله أعلم (2).
* * *