الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب القراءة في الصَّلاةِ
الحديث الأول
93 -
عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لا صَلاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ» (1).
(1) * تَخْرِيج الحَدِيث:
رواه البخاري (723)، كتاب: صفة الصلاة، باب: وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة، وأبو داود (822، 823)، كتاب: الصلاة، باب: من ترك القراءة في صلاته بفاتحة الكتاب في الصلاة، والترمذي (247)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء أنه لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب، وابن ماجه (837)، كتاب: الصلاة، باب: القراءة خلف الإمام.
* مصَادر شرح الحَدِيث:
"معالم السنن" للخطابي (1/ 205)، و"عارضة الأحوذي" لابن العربي (2/ 46)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (2/ 271)، و"المفهم" للقرطبي (2/ 24)، و"شرح مسلم" للنووي (4/ 100)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 13)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (1/ 507)، و"التوضيح" لابن الملقن (7/ 58)، و"فتح الباري" لابن حجر (2/ 241)، و"عمدة القاري" للعيني (6/ 10)، و"كشف اللثام" للسفاريني (2/ 422)، و"سبل السلام" للصنعاني (1/ 169)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (2/ 229).
* التعريف:
عبادة بن الصامت رضي الله عنه بن قيس بن أصرَم -بالصاد المهملة- بن فهر -بكسر الفاء- بن ثعلبة بن غَنْم بن سالم بن عوف بن عمرو بن عوف، الأنصاري الخزرجي.
وعبادة هذا: أحد النقباء ليلة العقبة، شهد البعقبة الأولى، والثانية، وشهد بدرا، وأحدا، وبيعة الرضوان، والمشاهد كلها مع النبي صلى الله عليه وسلم، وشهد فتح مصر، وأخوه أوس بن الصامت شهد بدرا.
وأمه: قرة العين بنت عبادة بن نضلة -بفتح النون وسكون الضاد المعجمة- بن مالك بن عجلان.
كنيته: أبو الوليد، وهو عَقَبي بدري أحدي شَجَري، استعمله النبي صلى الله عليه وسلم على بعض الصدقات، وكان يعلم أهل الصفة القرآن.
ويقال: وجهه عمر بن الخطاب رضي الله عنه في نفر لما كثر أهل الشام، فخرجوا يعلمون الناس القرآنت، ويفقهونهم في الدين، فاختار عبادة المقام بحمص، واختار أبو الدرداء دمشق، واختار معاذ بن جبل فلسطين، فلما مات معاذ عام طاعون عَمواس، صار عبادة إلى فلسطين، وأقام أبو الدرداء بدمشق حتى مات بها.
وتوفي عبادة بن الصامت ببيت المقدس، وقيل: بالرملة، وقيل: بفلسطين، سنة أربع وثلاثين، وهو ابن اثنتين وسبعين سنة.
روي له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مئة حديث (1) وأحدٌ وثمانون حديثا، اتفقا
(1)"حديث" ليس في "ق".
منها على ستة أحاديث، وانفرد البخاري بحديثين، ومسلم بآخرين.
روى عنه من الصحابة رضي الله عنهم: أنس بن مالك، وجابر بن عبد الله، وفضالة بن عبيد، وأبو أمامة الباهلي، وشرحبيل بن حسنة، والمقدام بن معديكرب، وعبد الله بن عمر، ومحمود بن الربيع، ورفاعة بن رافع الزرقي، وأوس بن عد الله الثقفي.
وروى عنه من أولاده: الوليد، ومحخمد، وعبد الله.
وروى عنه: أبو إدريس، وأبو مسلم الخولانيان، وجبير بن نفير، وعبد الرحمن بن عسيلة الصنابحي، وكثيرة بن مرة، وعبد الرحمن بن غنم، وأبو الأشعث الصنعاني، ويعلى بن شداد، وحطان بن عبد الله الرقاشي، بتخفيف القاف.
وقال الأوزاعي: أول من ولي قضاء فلسطين عبادة بن الصامت.
روى له الجماعة رضي الله عنه (1).
(1) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (3/ 546)، و"التاريخ الكبير" للبخاري (6/ 92)، و"الآحاد والمثاني" لابن أبي عاصم (3/ 429)، و"الثقات" لابن حبان (1/ 95)، و"المستدرك" للحاكم (3/ 398)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (2/ 807)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (26/ 180)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (3/ 158)، و"تهذيب الكمال" للمزي (14/ 183)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (2/ 5)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (3/ 624)، و"تهذيب التهذيب" له أيضًا (5/ 97).
* ثم الكلام على الحديث من وجوه:
الأول: ظاهر الحديث يدل على وجوب قراءة الفاتحة في الصلاة، إلا أن أهل الأصول اختلفوا في مثل هذا اللفظ إذا ورد في الشرع.
فقال بعضهم: هو من المجملات، أو قالوا: ملحق (1) بالمجملات؛ لأن نصه يقتضي نفي الذات، وملوم ثبوتها حسا، فقد صار المراد مجهولا.
قال الإمام المازري: وهذا الذي قالوا خطأ؛ لأن الملوم من عادة العرب أنها لا تضع هذا النفي للذات، وإنما تورده مبالغة، فتذكر الذات ليحصل لها (2) ما أرادت من المبالغة.
وقال آخرون: لم تقصد العرب قط نفي الذات، ولكن نفي أحكامها، ومن أحكامها الكمال والإجزاء في هذا الحديث، فيحمل اللفظ على الهموم فيهما (3).
قال الإمام: وأنكر هذا المخققون؛ لأن العموم لا تصح دعواه فيما يتنافى، لا شك أن نفي الكمال يشعر بحصول الإجزاء، فإذا قدر الإجزاء منتفيا بحق العموم، قدر ثابتا بحق إشعار نفي الكمال بثبوته، وهذا تناقض (4)، وما يتناقض لا يحمل الكلام عليه، وصار المحققون
(1) في "ق": "يلحق".
(2)
في "ق": "لتحصل بها".
(3)
في "ق": "فيها".
(4)
في "ق": "يناقض".
إلى التوقف بين نفي الإجزاء، ونفي الكمال، وادعوا الإجمال من هذه الجهة، لا مما قال الأولون، فعلى هذه المذاهب يخرج قوله عليه الصلاة والسلام:«لا صلاة» الحديث (1).
الثاني: ونذكر فيه اختلاف العلماء في وجوب قراءة الفاتحة في الصلاة، فنقول: مذهبنا: أن الفاتحة في الصلاةمتعينة، لا تصح صلاة القادر عليها إلا بها، وبهذا قال جمهور العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، وقد حكاه ابن المنذر عن عمر بن الخطاب، وعثمان بن أبي العاص، وابن عباس، وأبي هريرة، وأبي سعيد الخدري، وخوات بن جبير، والزهري، وابن عون، والأوزاعي، ومالك، وابن المبارك، وأحمد، وإسحاق، وأبي ثور، وحكاه الشافعية عن الثوري، وداود، والشافعي.
قال ابن عبد البر: وقال ابن خويز منداد (2) المالكي: وهي عندنا متعينة في كل ركعة، قال: ولم يختلف قول مالك: إنه من نسي في ركعة من صلاة ركعتين: أن صلاته تبطل إن لم يأت بركعة يصلها بالركعة التي قرأها (3) فيها، ولا تجزئه.
واهتلف قوله فيمن نسيها في ركعة من صلاة ثلاثية، أو رباعية، فقال مرة: لا يعتد بتلك الركعة، ويأتي بركعة يضيفها إلى الثلاث التي
(1) انظر: "المعلم بفوائد مسلم" للمازري (1/ 393).
(2)
في "خ" و"ق": "خواز منداد".
(3)
في "ق": "قرأ".
قرأ فيها بفاتحة الكتاب، ويسجد بعد السلام؛ كالذي نسي سجدة، ويذكرها قبل السلام سواء، فإن لم يفعل، وسلم، أو تكلم، أو طال ذلك، أعاد الصلاة، ولا تجزئه، وهو قول ابن القاسم، وروايته، واختياره من قول مالك، وقال في قول مالك الآخر: إنه ليس عنده بالبين.
وقال مالك مرة أخرى: يسجد سجدتي السهو، ويجزئه، وهي رواية ابن عبد الحكم وغيره عنه.
قال ابن عبد الحكم: وقد قيل: إنه يعتد بتلك الركعة، ويسجد للسهو بعد السلام.
وقالب مرة: يسجد سجدتي السهو (1) قبل السلام، ثم يعيد تلك الصلاة.
وقال الشافعي، وأحمد بن حنبل: لا تجزئه صلاته حتى يقرأ بفاتحة الكتاب في كل ركعة، وهو قول جابر بن عبد الله.
وقال أبو حنيفة، والأوزاعي: إن تركها عامدا في صلاته كلها، وقرأ غيرها، أجزأه، على اختلاف عن الأوزاعي في ذلك.
وعن أبي حنيفة أيضا رواية: أنها تجب، ولا تشترط.
قال ابن عبد البر: وقال الطبري: يقرأ المصلي بأم القرآن في كل ركعة، فإن لم يقرأ بها، لم يجزه إلا مثلها من القرآن عدد آياتها وحروفها.
(1) من قوله: "ويجزئه، وهي رواية ابن عبد الحكم وغيره عنه" إلى هنا ليس في "ق".
وقال أبو حنيفة: لا بد في الأوليين من قراءة، أقل ذلك في كل ركعة منها آية.
وقال أبو يوسف، ومحمد: أقله ثلاث آيات، أو آية طويلة؛ كآية الدين.
وقال مالك: إذا لم يقرأ أم القرآن في الأوليين، أعاد، لم يختلف قوله في ذلك، إلا ما روي عنه: في ركعتين، لم يخص الأوليين (1) من غيرهما، ومذهبه: القراءة بها في الصلاة كلها، فإن نسيها في ركعة ورعتين، فجوابه ما تقدم ذكره.
قال ابن عبد البر: وقال الشافعي: أقل ما يجزئ المصلي من القراءة أن يقرأ فاتحة الكتاب إن أحسنها، وإن (2) لم يحسنها، وو يحسن غيرها من القرآن، قرأ بعددها (3) سبع آيات، لا يجزئه دون ذلك، فإن لم يحسن شيئا من القرآن، حمد الله تعالى، وكبر مكان القراءة، لا يجزئه غيره حتى يتعلمها.
قال: ومن أحسن فاتحة الكتاب، فإن ترك منها حرفا واحدا، وـ (4) خرج من الصلاة، أعاد الصلاة.
قال ابن عبد البر: وأجمع العلماء على إيجاب القراءة في الركعتين
(1) في "خ": "أولتين".
(2)
في "ق": "فإن".
(3)
في "ق": "بقدرها".
(4)
في "خ": "أو".
الأوليين من صلاة أربع (1)، على حسب ما ذكرنا من اختلافهم في فاتحة الكتاب من غيرها.
قلت: في هذا الإجماع نظر، بل الظاهر أنه وهم؛ لأن ابن عباس يقول: لا قراءة في الظهر، ولا في العصر، فقيل له: إن ناسا يقرؤون فيهما (2)؟ فقال: لو كان لي عليهم سلطان، لقطعت ألسنتهم، قرأ (3) رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقراءته لنا قراءة، وسكت، فسكوت لنا سكوت.
هكذا هو في مسند عبد بن حميد (4)، فليعرف (5) ذلك.
قال: واختلفوا في الركععتين الأخيرتين (6): فمذهب مالك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبي ثور، وداود: أن القراءة فيهما بفاتحة الكتاب واجبة على الإمام والمنتفرد، ومن أبى منهما أن يقرأ بفاتحة الكتاب، فلا صلاة له، وعليه إعادتها، إلا أن مالكا اختلف قولهفي الناس لقراءتها (7) في ركعة، على ما ذكرنا عنه.
وقال الطبري: القراءة فيهما واجبة، ولم يعين أم البقرآن من غيرها.
(1) في "ق": "الأربع".
(2)
في "ق": "فيها".
(3)
في "ق": "قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم لنا قراءة، وسكوته لنا سكوت".
(4)
رواه عبد بن حميد في "مسنده"(583).
(5)
في "ق": "فاعرف".
(6)
في "ق": "الآخرتين".
(7)
في "ق": "بقراءتها".
قال: وقد ذكرنا في «التمهيد» حديث أبي قتادة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الظهر والعصر في الركعتين الأوليين بأم القرآن وسورة، وفي الآخرتين بأم القرآن، وكان يسمعنا الآية أحيانا (1). وذكرنا هناك أيضا: حديث ابن عمر: أنه جاءه رجل، فقال: يا أبا عبد الرحمن! هل في الظهر والعصر قراءة؟ فقال: هل تكون صلاة بغير قراءة (2)؟
قال أبو عمر: معلوم أن الركعة الواحدة صلاة، فلا تجوز إلا بقراءة.
وقال أبو حنيفة: القراءة في الآخرتين لا تجب؛ وكذلك قال الثوري، والأوزاعي.
قال الثوري: يسبح في الأخريين أحب إلي من أن بيقرأ؛ وهو قول جماعة الكوفيين، وسلف أهل العراق.
وقال الثوري، وأبو حنيفة، وأصحابه: يقرأ في الركعتين الأوليين، وأما في الآخرتين، فإن شاء، سبح، وإن شاء، قرأ، وإن لم يقرأ ولم يسبح، جازت صلاته؛ وهو قول (3) إبراهيم النخعي، رواه أهل الكوفة عن علي، وروى عنه أهل المدينة خلاف ذلك.
قال أبو عمر: روي عن (4) علي بن أبي طالب، وجابر بن عبد الله،
(1) رواه ابن عبد البر في "التمهيد"(20/ 195).
(2)
رواه ابن عبد البر في "التمهيد"(20/ 195).
(3)
في "ق": "فعل".
(4)
"عن" ليس في "ق".
والحسن، وعطاء، والشعبي، وسعيد بن جبير: القراءة في الرعتين الأخيرتين (1) من الظهر والعصر بفاتحة الكتاب في كل ركعة منهما، وثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، فلا وجه لما خالفه، وبالله التوفيق.
واختلفوا فيمن ترك القراءة في ركعة: فأما مالك، فقد ذكرنا مذهبه، واختلاىف الرواية عنه في ذلك.
وقال الأوزاعي: من قرأ في نصف صلاته، مضت صلاته، وإن قرأ في ركعة واحدة من المغرب، أو الظهر، أو العصر، أو العشاء، ونسي أن يقرأ فيما بقي من صلاته، أعاد صلاته.
وقال إسحابق بن راهويه: إذا قرأ في ثلاث ركعات، إماما كان أو منفردا، فصلاته جائزة، لما اجتمع الناس عليه: أن من أدرك الركوع، أدرك الركعة.
قال أبو عمر: قاس إسحاق الإمام والمنفرد في الركعة على المأموم، فأخطأ القياس، والمنفرد لا يحنمل عنه غيره شيئا من صلاته، ولا يغلب عليه أحد رتبة صلاته، ولا يصليها هو، فتجزئ عنه.
وقال الثوري: إن قرأ في ركعة من الصبح، ولم يقرأ في الأخرى، أعاد الصلاة، وإن قرأ في ركعة من الظهر، أو العصر، أو العشاء، ولم يقرأ في الثلاث، أعاد.
وروي عن الحسن البصري: أنه قال: إذا قرأت في ركعة من الصلاة، أجزأك، وقال به أكثر فقهاء أهل البصرة.
(1) في "ق": "الأخريين".
وقال المغيرة بن عبد الرحمن المخزومي المدني: إذا قرأ بأم القرآن مرة واحدة في الصلاة، أجزأه، ولم تكن عليه إعادة؛ لأنها صلاة قد قرأ فيها بأم القرآن، فهي تمام ليست بخداج.
وقال أبو عمر (1): وقد روي عن مالك قول شاذ لا يعرفه أصحابه، وينكره أهل العلم به: أن الصلاة تجزئ بغير قراءة، على ما روي عن عمر، وهي رواية منكرة عن مالك، والصحيح عنه خلافها وإنكارها (2).
قلت: وكان ينبغي، أو (3) يتعين أن لا يجوز نقلها، ولا تسويد الورق بذكرها؛ إذ لا فائدة في ذلك، بل قد يغتر الجاهل أو (4) المتساهل بها، ولكن العلماء قد يذكرون بعض هذه المناكير؛ تحذيرا منها، وتنبيها على عدم اعتبارها، فحذار حذار من نقلها لغير عالم، أو متدين ورع.
فإن قلت: فما تصنع بما رواه أبو سلمة، ومحمد بن علي: أن عمر رضي الله عنه صلى المغرب فلم يقرأ، فقيل له، فقال: كيف كان الركوع والسجود؟ قالوا: حسنا، قال: فلا بأس.
رواه الشافعي في «الأم» ، وغيره (5)؟
(1)"أبو عمر" ليس في "ق".
(2)
انظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (1/ 449) وما بعدها، وعنه نقل المؤلف رحمه الله مذاهب العلماء هنا.
(3)
في "ق": "أن".
(4)
في "ق": "و".
(5)
رواه الإمام الشافعي في "الأم"(7/ 237)، ومن طريقه: البيهقي في "السنن الكبرى"(2/ 381).
قلت: أجيب عنه من ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه ضعيف؛ لأن أبا سلمة ومحمد بن علي لم يدركا عمر (1).
والثاني: أنه محمول على أنه أسر بالقارءة.
والثالث: أن البيهقي رواه من طريقين موصولين عن عمر: أنه صلى المغرب، فلم يقرأ، فأعاد.
قال البيهقي: وهو الرواية موصولة، وهي موافقة للسنة في وجوب القراءة، وللقياس في أن الأركان لا تسقط بالنسيان (2).
فإن قلت: فقد روي عن زيد بن ثابت رضي الله عنه أنه قال: القراءة سنة.
رواه البيهقي (3).
قلت: قال البيهقي وغيره: مراده: أن القراءة لا تجوز إلا على حسب ما في المصحف، فلا تجوز مخالفته، وإن كان على غير (4) مقاييس العربية، بل حروف القراءة سنة متبعة؛ أي: طريق تتبع ولا تغير (5).
(1) قلت: وكذا ضعفه الإمام الشافعي بالإرسال. وقال ابن عبد البر في "الاستذكار"(1/ 427): هذا حديث منكر، وقد ذكره مالك في "الموطأ"، وهو عند بعض رواته، وليس عند يحيى وطائفة معه، لأنه رماه مالك من كتابه بأخرة، وقال: ليس عليه العمل. وانظر: "التلخيص الحبير" لابن حجر (1/ 273).
(2)
انظر: "السنن الكبرى" للبيهقي (2/ 382).
(3)
في "السنن الكبرى"(2/ 385)، وكذا الطبراني في "المعجم الكبير"(4855).
(4)
"غير" ليست في "ق".
(5)
انظر: "السنن الكبرى" للبيهقي (2/ 385).
فإن قلت: فقد روى الحارث الأعور عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: أن رجلا سأله، فقال: إني صليت ولم أقرأ، قال: أتممت الركوع والسجود؟
قال: نعم، قال: تمت صلاتك. رواه الشافعي (1).
قلت: هذا الأثر ضعفوه أيضا؛ لأن الحارث الأعور متفق على ضعفه، هكذا ذكره ح (2).
ثم قال ابن عبد البر: وقال الشافعي: عليه أن يقرأ في كل ركعة بفاتحة الكتاب، لا تجزئ الركعة إلا بها، قال: وكما لا ينوب سجود ركعة ولا ركوعها عن ركعة أخرى، فكذلك (3) لا تنوب قراءة ركعة عن غيرها؛ وهو ظاهر قول جابر، وبه قال عبد الله بن عون، وأيوب السختياني، وأبو ثور، وداود، وروي مثله عن الأوزاعي.
قال أبو عمر: وقد أوضحنا الحجة في وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة من طريق الأثر والنظر في كتاب «التمهيد» ، وأما من أجاز القراءة بغيرها، فمحجوج مخصوم بحديث هذا الباب، وبقوله عليه الصلاة والسلام:«لا صلاة لمن لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب» ، ولا معنى لقول
(1) رواه الإمام الشافعي في "الأم"(7/ 165). قال البيهقي في "السنن الكبرى"(2/ 382): وهذا إن صحَّ فمحمول على ترك الجهر، أو قراءة السورة، بدليل ما مضى من الأخبار المسندة في إيجاد القراءة. قال: والحارث الأعور لا يحتج به.
(2)
انظر: "شرح مسلم" للنووي (1/ 98).
(3)
في "ق": "فذلك".
من قال: يأتي بعدد حروفها وآياتها؛ لأن التعيين لها، والنص عليها قد خصها بهذا الحكمم دون غيرها، ومحال أن يجيء بالبدل منها من وجبت عليه، فتركها (1) وهو قادر عليها، وإنما عليه أن يجيء بها، ويعود إليها؛ كسائر المفروضات المعينات في العبادات. انتهى (2).
قلت: وظاهر هذا الحديث يدل على وجوبها في كل ركعة، ووجه الدليل منه: أن كل ركعة تسمى صلاة، وهو قد قال عليه الصلاة والسلام:«لا صلاة لمن لم يقرأ بأم القرآن» (3).
ق: وقد يستدل به من يرى وجوبها في ركعة واحدة بناء على أنه يقتضي حصول اسم الصلاة عند قراءة الفاتحة، فإذا حصل مسمى قراءة الفاتحة، وجبت أن تحصل الصلاة، والمسمى يحصل بقرا ءة الفاتحة مرة واحدة، فوجب القول بحصول ممى الصلاة، ويدل على أن الأمر كما ندعيه: أن إطلاق اسم الكل على الجزء مجاز، ويؤيده قوله عليه الصلاة والسلام:«خمس صلوات اكتبهن الله على العباد» (4)؛ فإنه يقتضي أن اسم الصلاة حقيقة لمجموع الأفعال،
(1) في "ق": "وتركها".
(2)
انظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (1/ 452).
(3)
هذا لفظ مسلم برقم (394) كما تقدم في صدر الحديث.
(4)
رواه أبو داود (1420)، كتاب: الصلاة، باب: فيمن لم يوتر، والنسائي (461)، كتاب: الصلاة، باب: المحافظة على الصلوات الخمس، وابن ماجه (1401)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في فرض الصلوات =
لا لكل ركعة؛ لأنه لو كان حقيقةفي كل ركعة، لكان المكتوب على العباد سبع عشرة صلاةٍ.
وجواب هذا: أن غاية ما فيه دلالة مفهوم على صحة الصلاة بقراءة الفاتحة في (1) ركعة، فإذا دل دليل خارج منطوق على وجوبها في كل ركعة، كان مقدما عليه.
قلت: قد دل دليل من خارج منطوق على وجوبها في كل ركعة، وهو قوله عليه الصلاة والسلام:«كل ركعة لم يقرأ فيها بأم القرآن، فهي خِداج» روي من طرق كثيرة، وإن كان قد اختلف في رفعه، ووقفه على جابر رضي الله عنه (2)، هذا من الحيث الأثر.
وأما من حيث النظر: فقوله عليه الصلاة والسلام-ت للأعرابي: «وافعل ذلك في صلاتك كلها» ، فإنه يقتضي إعادة الفاتحة في كل ركعة؛ كما يعيد الركوع والسجود، وأيضا: فإن القفيام فرض في الثانية وما بعدها، والقيام لا يراد لنفسه، وإنكما محل لغيره، وليت شعري ما يقول من لم يوجبهافي كل ركعة في صلاة من خص قراءتها بالرابعة مثلا، أو الثالثة، فإن أجازها، فليس في الحديث ما يدل على جوازها، وإن أبطلها، فكذلك.
= الخمس والمحافظة عليها، وابن حبان في "صحيحه"(1732)، وغيرهم من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه.
(1)
في "خ" زيادة: "كل".
(2)
انظر: "التمهيد" لابن عبد البر (11/ 48).
ق: وقد يستدل بالحديث على وجوب قراءة الفاتحة على المأموم؛ لأن صلاة المأموم صلاة، فتنتفي عند انتفاء قراءة الفاتحة، فإن (1) وجد دليل يقتضي تخصيص صة المأموم من هذا العموم، قدم على هذا، وإلا، فالأصل العمل به (2).
قلت: الدليل الذي يخصص هذا العموم: ما رواه مالك في «موطئه» عن ابن شهاب، عن ابن أُكَيمة الليثي، عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف من صلاة جهر فيها بالقراءة، فقال:«هل قرأ معي منكم أحد آنفا؟» ، فقال رجل: أنا يا رسول الله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني أقول: ما لي أنازع القرآن؟» ، فانتهى الناس عن القراءة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما جهر فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقراءة حين سمعوا ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم (3).
قال القاضي أبو الوليد الباجي: وهذا الخديث أصل مالك رحمه الله في
(1) في "ق": "وإن".
(2)
انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 14).
(3)
رواه الإمام مالك في "الموطأ"(1/ 86)، ومن طريقه: أبو داود (826)، كتاب: الصلاة، باب: من كره القراءة بفاتحة الكتاب إذا جهر الإمام، والنسائي (919)، كتاب: الافتتاح، باب: ترك القراءة خلف الإمام فيما جهر به، والترمذي (312)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في ترك القراءة خلف الإمام، وابن ماجه (848)، كتاب: الصلاة، باب: إذا قرأ الإمام فأنصتوا.
ترك المأموم القراءة خلف الإمام في حال الجهر؛ لأنه لما علق حكم الامتناع من القراءة على الجهر، كان الظاهر أن الجهر علة ذلك الحكم.
قال: وذهب الشافعي إلى أن القراءة واجبة على المأموم على كل حال.
والدليل على صحة ما ذهب إليه مالك: قوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} [الأعراف: 204]، وهذا يقتضي منع القراءة جملة، وجميع الكلام، ووجوب الإنصات عند قراءة كل قارئ، إلا ما خصه (1) الدليل.
ودليلنا من جهة السنة: ما رواه أبو صالح، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر، فكبروا، وإذا (2) قرأ، فأنصتوا» (3)، وهذا أمر، والأمر يقتضي الوجوب.
قلت: ولعل هذا متمسك من لم يستحب عندنا القراءة للمأموم في الصلاة السرية أيضا، لأن الإمام قارئ فيها، وغن لم يسمع؛ فإن الإنصات لم يعلق على السماع، وإنما علق على القراءة، وإن كان الصحيح المشههور عندنا: استحباب القراءة للمأموم في السرية.
(1) في "ق": "خصصه".
(2)
في "خ": "فإذا".
(3)
تقدم تخريجه.
ثم قال الباجي: ودليلنا من جهة القياس: أن هذه (1) حال الائتمام، فوجب أن تسقط معه القراءة عن المأموم، أصله: إذا أدركه راكعا. انتهى كلام الباجي (2).
مسألة: لو كان الإمام ممن يسكت بعد التكبير سكتة، ففي «المجموعة» من رواية ابن نافع، عن مالك: يقرأ من خلفه في سكتته أم القرآن، وإن كان قبل قراءته.
قال الباجي: ووجه ذلك: أن اشتغاله بالقراءة أولى من تفرغه للوسواس وحديث النفس إذا لم يقرأ الإمام قراءة ينصت لها، ويشتغل بتدبرها وتأملها.
مسألة أخرى: فإذا (3) قرأ المأموم خلف الإمام حال جهره للقراءة، فبئس ما صنع، ولا تبطل صلاته.
ورأى (4) قوم أن صلاته باطلة؛ وقد روي ذلك عن الشافعي، والدليل على صحة قولنا: أنها قراءة قرآن، فلم تبطل الصلاة، أصل ذلك: حال الإسرار (5)
(1) في "ق": "هذا".
(2)
انظر: "المنتقى" للباجي (2/ 61).
(3)
في "ق": "وإن".
(4)
في "خ": "وروى"، وفي المطبوع من "المنتقى":"وروي عن".
(5)
المرجع السابق، الموضع نفسه.
فائدة:
ح: لفاتحة الكتاب عشرة أسماء حكاها الإمام أبو إسحاق الثعلبي وغيره:
أحدها: فاتحة الكتاب، وجاءت الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم بتسميتها بذلك، قالوا: سميت به، لأنه يفتتح بها المصحف، والتعليم، والقراءة في الصلاة.
وهي سورة الحمد؛ لأن فيها الحمد.
الثالث والرابع: أم القرآ، وأم الكتاب؛ لأنها مقدمة في المصحف، كما سمي الدماغ: أم الرأس؛ لأنه مجمع الحواس والمنافع.
وقال ابن دريد: (الأم) في كلام العرب: الراية ينصبها الأمير للعسكر يفزعون إليها، فسميت الفاتحة أم القرآن؛ لأن مفزهع أهل الإيمان والقرآن إليها، والعرب تسمي الأرض أما؛ لأن مهعاد الخلق إليها (1) في حياتهنم وموتهم (2).
وقال الحسن (3) بن الفضل: سميت بذلك؛ لأنها [إمام لجميع
(1) من قوله: "فسميت الفاتحة أم القرآن، لأن مفزع. . . ." إلى هنا، ليس في المطبوع من "المجموع" للنووي.
(2)
في "ق": "مماتهم".
(3)
في "ق": "الحسين".
القرآن، يقرأ في كل ركعة، ويقدم على كل سورة؛ كأم القرى] (1) الإسلام، وقيل: سميت بذلك؛ لأنها أعظم سورة في القرآن، ثبت في «صحيح البخاري» ، عن أبي سعيد بن المعلى رضي الله عنه، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لأعلمنك سورة هي أعظم السور في القرآن قبل أن تخرج من المسجد» ، ثم أخذ بيدي، فلما أراد أن يخرج، قلت له: ألم تقل: «لأعلمنك سورة هي أعظم سورة في القرآن؟» قال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2] هي السبع المثاني، والقرآن العظيم الذي أوتيته» (2).
الخامس: الصلاة؛ للحديث الصحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «قال الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، فنصفها لي، ونصفها لعبدي، فإذا قال (3):{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [البفاتحة: 2]، قال الله: حمدني عبدي، وإذا قال:{الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 3]، قالب: أثنى علي عبدي، وإذا قال:{مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة: 4]، قال: مجدني عبدي -وقال مرة: فوض إلي عبدي-، فإذا قال:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5]، يقول الله تعالى: هذه بيني وبين عبدي، فإذا قال (4): {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ
(1) ما بين معكوفتين زيادة من "المجموع".
(2)
رواه البخاري (4204)، كتاب: التفسير، باب: ما جاء في فاتحة الكتاب.
(3)
في "ق" زيادة: "العبد".
(4)
" {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}، يقول الله تعالى: هذه بيني وبين عبدي فإذا قال" ليس في "خ".
غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 6 - 7]، قال: هذا لعبدي، ولعبدي ما سأل»، رواه مسلم (1).
السادس: السبع المثاني؛ للحديث الصحيح الذي ذكرناه قريبا، سميت بذلك؛ لأنها تثنى في الصلاة، فتقرأ في كل ركعة.
السابع: الوافية -بالفاء-؛ لأنها لا تتبعض، فلا يقرأ بعضها في ركعة، وبعضها في أخرى؛ بخلاف غيرها.
الثامن: الكافية؛ لأنها تكفي عن غيرها، ولا يكفي عنها غيرها (2).
التاسع: الأساس، روي عن ابن عباس.
العاشر: الشفاء، فيه حديث مرفوع.
قال الماوردي في «تفسيره» : اختلف (3) في جواز تسميتها أم الكتاب؛ فجوزه الأكثرون، ومنعه الحسن، وابن سيرين، وزعما أن هذا اسم للوح المحفوظ، فلا يسمى به غيره.
قلت: وهذا غلط، ففي «صحيح مسلم» عن أبي هريرة، قال:«من قرأ بأم الكتاب، أجزأت عنه» (4)، وفي «سنن أبي داود» عن أبي هريرة،
(1) رواه مسلم (395)، كتاب: الصلاة، باب: وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة.
(2)
في "ق": "غيرها عنها".
(3)
في "ق": "اختلفوا".
(4)
رواه مسلم (396)، كتاب: الصلاة، باب: وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة.
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2] أم الكتاب، وأم القرآن، والسبع المثاني» (1)، انتهى (2).
قلت: وزاد الزمخشري: سورة الكنز (3)، فتكون أسماؤها أحد عشر، وبالله التوفيق.
* * *
(1) رواه أبو داود (1457)، كتاب: الصلاة، باب: فاتحة الكتاب.
(2)
انظر: "المجموع في شرح المهذب" للنووي (3/ 276). وانظر: "تفسير الثعلبي"(1/ 126).
(3)
انظر: "الكشاف" للزمخشري (1/ 45).