الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولم يكن على أحد من خلفاء بني أمية لقب معروف، إلا أن بعض الرواة ذكر أنهم كانت لهم ألقاب، ونحن نذكر لقب كلِّ واحد منهم، عند ابتداء ترجمته، كما نفعله في خلفاء بني العباس، وخلفاء الدولة العلوية الفاطمية؛ ليطلع على ذلك.
وصلَّى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلَّم.
(خلافة الناصر لدين الله معاوية بن أبي سفيان)
هو أبو عبد الرحمن، معاويةُ بن أبي سفيانَ صخرِ بنِ حربِ بنِ أميةَ ابنِ عبدِ شمسِ بنِ عبدِ منافٍ، يجتمع هو والنبي صلى الله عليه وسلم في عبد منافِ بنِ قصيٍّ، القرشيُّ، وأمُّه: هندٌ بنتُ عتبةَ بنِ ربيعةَ بنِ عبدِ شمس، يجتمع أبوه وأمه في عبدِ شمس.
أسلم هو، وأبوه أبو سفيان، وأخوه يزيد بن أبي سفيان، وأمه هند في فتح مكة.
وكان معاوية يقول: إنه أسلم يومَ الحديبية، فكتم إسلامه من أبيه وأمه.
شهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حُنَينًا، وأعطاه من غنائم هوازن مئة بعير، وأربعين أوقية، وكان هو وأبوه من المؤلَّفة قلوبهم، ثم حَسُنَ إسلامُهما، وكان أحدَ الكُتَّاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولما بَعَث أبو بكر الجيوش إلى الشام، سار معاوية مع أخيه يزيد،
فلما مات يزيد، استخلفه على عمله بالشام، وهي دمشق، وأقره عمرُ رضي الله عنه مكانَه، فأقام أميرًا على الشام مدة خلافة عمر، ثم أَمَّره عثمان، وولي الخلافةَ بعد ذلك عشرين سنة.
بويع له البيعة التامة لما خلع الحسنُ نفسَه، وسلَّم الأمرَ إليه.
قال محمد بن سعد: بقي معاويةُ أميرًا عشرين سنة، وخليفةً عشرين سنة - تقريبًا -.
وقال الوليد بن مسلم: كانت خلافته تسع عشرة سنة ونصفًا.
وهو من الموصوفين بالدهاء والحِلْم، وهو أولُ من قامت له الرجال من الخلفاء، وأول من قِيْدت بين يديه الجنائب، وأول من اتخذ المقاصر في الجوامع، وأول ما عمر مقصورة جامع دمشق، وهو أول من أقام على رأسه حرسًا، وأول من اتخذ الخصيان في الإسلام، وأول من بلغ درجات المنبر خمس عشرة درجة، وأول من صنع المنبر في المسجد الحرام، وزاد في منبر سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن أراد نقله، فأتاه أبو هريرة وجابر، وقالا: ننشدك الله أن لا تفعل، فأجابهما، وهو أول من علق الستور، واتخذ الحرس وأرباب الشرط، واستخدم الحجاب، وركب الهماليج، ولبس الخز والوشي الخفيف، وعمل الطراز بمصر واليمن والرها والإسكندرية، واقتنى الضياع، واستكتب النصارى، وجلس على السرير والناسُ تحته، وأمر بهدايا النيروز.
وحج بالناس سنة أربع وأربعين، وسنة إحدى وخمسين، واستخلف في بقية خلافته من يحج، وكان يقول: أنا أول الملوك.
وكان معاوية كثير الحلم والعفو والكرم، وكان يجيز الحسن والحسين في كل سنة، لكل واحد ألف ألف درهم، وكذلك عبد الله بن جعفر، وعبد الله بن عباس، لكل واحد ألف ألف درهم.
ودخل عليه الحسن يومًا، وهو مضطجع على سريره، فسلم عليه، وأقعده تحت رجليه، وقال له: ألا تعجب من قول أم المؤمنين عائشة تزعم أني لستُ أهلًا للخلافة؟ فقال الحسن: أوعجبٌ ما قالت؟ قال: كل العجب، قال: أعجبُ من هذا جلوسي عندَ رجليك، فاستحيا معاوية، واستوى جالسًا.
ثم قال: أقسمتُ عليك أبا محمد إلَّا أخبرتني كم عليك من الدَّين؟ قال: مئة ألف درهم، فقال: يا غلام! أعط أبا محمد ثلاث مئة ألف درهم: مئة ألف يقضي بها دينه، ومئة ألف يفرقها على مواليه، ومئة ألف يستعين بها على نوائبه، وأنجزها له الساعة، فأخذها الحسن، وانصرف.
فقال يزيد: يا أبت! ما رأيتُ كاليوم، استقبلَكَ بما تكره، وأعطيته هذا العطاء! فقال: يا بُني! وما نريد؟ إن الحق - واللهِ - لهم، وحقهم، فإذا أتوك، فأجزل لهم العطية.
وروي: أن معاوية حجَّ في سنة خمسين، وأمر بحمل منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الشام، فلما حُمل، كسفت الشمس، وظهرت النجوم بالنهار، فلما رأى ذلك، خاف، وجزع، وأمر بردِّه إلى موضعه، وزاد فيه ستَّ درجات.
وله أخبار كثيرة في السخاء والحلم.
وقدم عليه جماعة من الرجال والنساء في أيام خلافته، ممن استطال عليه قبل الخلافة، فيذكرهم بما وقع منهم، فيعتذرون إليه، فيعاملهم بالحلم، ويجزل لهم العطاء.
ولما أراد أن يبايع لابنه يزيد، أرسل إلى زياد يستشيره في ذلك، ويأمره بأخذ البيعة على أهل العراق، فكتب إليه زياد: كتبتَ إليَّ تأمرني أن أدعو أشراف الكوفة وأهل البصرة إلى بيعة يزيد بولاية العهد من بعدك، فما تقول الناس في يزيد، وهو يلعب بالكلاب والقرود، ويلبس المصبغات، ويتجاهر بشرب الخمر، واتخاذ المعازف، وفي الناس الحسينُ بن علي بن أبي طالب، وعبدُ الرحمن بن أبي بكر، وعبدُ الله ابن عمر، وعبدُ الله بن العباس، وعبدُ الله بن الزبير، العابدون الزاهدون المتواضعون لله، الفقهاءُ في دين الله، ولكن إن تخلَّق يزيدُ بأخلاق هؤلاء القوم، يوشك أن يُمَوَّهَ أمرُه على الناس.
فغضب معاوية [وقال]: ويلي على ابن سمية، والله! لأَرُدَّنَّه إلى أبيه وأمِّه البغيِّ.
فتوفي زياد بالكوفة سنة ثلاث وخمسين.
ثم إن معاوية بعث لعبد الله بن عمر بمئة ألف درهم، وذكر له بيعة يزيد، فقال: أراد معاويةُ أن أبيع ديني، فهو إذن عندي رخيص، فامتنع من ذلك.
ثم كتب معاوية إلى عماله أن يوفدوا له الوفود من الأمصار، فحضر
إليه خلقٌ، فمنهم من أطاع، ومنهم من امتنع، ولم يزل معاوية يداري الأمر، حتى بايعه أكثرُ الناس بالعراق والشام، ثم سار إلى الحجاز في ألف فارس، فلما دنا من المدينة، لقيه الحسين بن علي، وابنُ الزبير، وعبد الرحمن بن أبي بكر، وابن عمر رضي الله عنهم، فلما نظروه، قالوا: لا مرحبًا، ولا سهلًا، وأقبلوا معه، لا يلتفت إليهم، وخرجوا إلى مكة، وأقاموا بها، وخطب معاوية بالمدينة، فذكر يزيد، ومدحه، ثم دخل على عائشة، فوعظته، لما بلغها عنه من ذكر الحمسين وأصحابه، وتهديدهم بالقتل.
ثم خرج إلى مكة، فلما قضى نسكه، وحمل أثقاله، وقرب مسيره، أحضرهم معاوية، وقال لهم: قد علمتم سيرتي فيكم، وصلتي لأرحامكم، ويزيدُ أخوكم، وابنُ عمكم، وقد أردتُ أن تقدموه باسم الخلافة، وتكونون أنتم تعزلون، وتولون، وتَجْبُون المال، وتقسمونه، لا يعارضكم في شيء من ذلك، فسكتوا، فقال: ألا تجيبون؟ - مرتين -، فأجابوه بجواب لم يرضَه، قال: إني قد أحببت أن أخبركم أنه قد أحذر من أعذر (1)، إني كنت أخطب، فيقوم إلى القائم منكم، فيكذبني على رؤوس الأشهاد، فأحمل ذلك، وأصفح، وإني قائم بمقالة، وأُقسم بالله! لئن ردَّ عليَّ أحد منكم كلمةً في مثل هذا، لا ترجع إليه كلمة غيرها، حتى يسبقها السيف إلى رأسه.
ثم دعا بصاحب حرسه بحضرتهم، فقال له: أقم على رأس كلِّ
(1) في الأصل: "أحذر".
رجل من هؤلاء رجلين، مع كل واحد منهما سيف، فإن ذهب أحد منهم يردُّ عليَّ كلمة بتصديق أو تكذيب، فليضرباه بسيفيهما.
وخرجوا معه حتى رقا المنبر، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: إن هؤلاء الرهط سادة الناس وخيارهم، لا يُقضى أمرٌ دونهَم، وإنهم قد رجعوا وبايعوا ليزيد، فبايِعوا على اسم الله، فبايع الناس، ثم ركب معاوية، وانصرف إلى المدينة، فلقي الناسُ أولئك النفرَ، فقالوا لهم: زعمتم أنكم لا تبايعون، فلما أُرضيتم وأُعطيتم، بايعتم، قالوا: والله! ما فعلنا، قالوا: فما منعكم أن تردُّوا على الرجل؟ قالوا: كادَنا، وخِفْنا القتل.
وبايعه أهل المدينة، ثم انصرف إلى الشام، فأقام بها حتى حضره الموت.
وأنشد معاوية وقد تجلَّدَ للعائدين في مرضه:
وَتَجَلُّدِي لِلشَّامِتِينَ أُرِيهِمُ
…
أَنِّي لِرَيْبِ الدَّهْرِ لَا أتضَعْضَعُ
وَإِذَا المَنِيَّةُ أَنْشَبَتْ أَظْفَارَهَا
…
ألْفَيْتَ كُلَّ تَمِيمَةٍ لَا تَنْفَعُ
وكان يزيدُ عند موت أبيه غائبًا بقرية حوارين من عمل حمص، وأحضر معاويةُ الضحَّاكَ، ومسلِمَ بنَ عقبة، وحَمَّلهما رسالةً لابنه يوصيه بالعدل والإحسان للرعية، خصوصًا الحسين بن علي، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، وعبد الرحمن بن أبي بكر، وحذره من ابن الزبير.
ثم إنه أوصى أن يكفَّن في قميص كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم كساه إياه، وأن يُجعل مما يلي جسدَه، وكان عنده قلامةُ أظفارِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأوصى أن تُسحق، وتُجعل في عينيه وفمه، وقال: افعلوا ذلك، وخَلُّوا بيني وبينَ أرحم الراحمين، ثم قضى نَحْبَهُ.
وكانت وفاته في النصف من رجب، سنة ستين من الهجرة، وعمره ثمان وسبعون سنة، وقيل: ستة وثمانون سنة، وقيل: غير ذلك، وصلى عليه الضحاك، ودُفن بمقبرة دمشق، وكان ابنه غائبًا - كما تقدم -، فأرسلوا إليه البريد، فلم يدركه إلا وقد مات، فصلى على قبره.
وكان معاوية أبيضَ اللون، جميلًا، وروي: أنه قال: ما زلتُ أطمع بالخلافة منذ قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنْ وُلِّيتَ فَأَحْسِنْ"(1).
وروي عن عبد الرحمن بن أبي عميرة الصحابي رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال لمعاوية: "اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ هَادِيًا مَهْدِيًّا"(2).
وفي أيامه في سنة ثلاث وأربعين توفي عمرو بن العاص.
وفي سنة أربع وأربعين توفيت أم حبيبة بنتُ أبي سفيان زوجُ النبي صلى الله عليه وسلم.
وفي سنة خمسين توفي دِحْية الكلبي المنسوبُ إلى كلب بن وبرة،
(1) رواه الإمام أحمد في "المسند"(4/ 101)، وأبو يعلى في "مسنده"(7380).
(2)
رواه الترمذي (3842)، والإمام أحمد في "المسند"(4/ 216)، والطبراني في "المعجم الأوسط"(656).