الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كِنْدةَ، فأخذه خالد، وقتل أخاه، وأخذ منه خالدٌ قباء ديباج مخوصٍ بالذهب، فأرسله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل المسلمون يتعجَّبون منه، وقدم خالدٌ بأُكيدر على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحقن دمه، وصالحه على الجزية، وخلَّى سبيله.
ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، بعد ما أقام بتبوك بضعَ عشرةَ ليلة، لم يجاوزها، ولم تقدم عليه الروم والعرب المتنصرة.
ولما عاد إلى المدينة، وكان قد تخلَّف عنه رهط من المنافقين، فأتوه يحلفون له، ويعتذرون، فصفح عنهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وأرجأَ أمرَ كعبٍ وصاحبيه إلى الله تعالى.
*
ذكر قصة كعب وصاحبيه:
قال كعب بن مالك: كان من خبري حين تخلفت بالمدينة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك: أني لم أكن قطُّ أقوى ولا أيسَر مني، حين تخلفتُ عنه في تلك الغَزاة، وكان رسول الله قلَّما يريد غزوة يغزوها إلا وَرَّى بغيرها، حتى كانت تلك الغزوةُ، فغزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حَرٍّ شديد، واستقبل سفرًا بعيدًا ومفازًا، واستقبل عدوًا كثيرًا، فجلَّى للمسلمين أمرَهم؛ ليتأهبوا أُهبة عدوهم، وأخبرهم بوجهه الذي يريد.
والمسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير، ولا يجمعهم كتاب حافظ - يريد: الديوان - وغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه، فطفقْتُ أغدو لكي أتجهز معهم، ولم يزل يتمادى بي، حتى اشتد بالناس الجدّ، فأصبح
رسولُ الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه، ولم أقضِ من جهازي شيئًا، فقلت: أتجهز بعد يوم أو يومين، ثم ألحقهم، فلم يزل بي حتى أسرعوا، وتفارط الغزو، وهممت أن أرتحل فأدركهم - وليتني فعلت - فلم يُقَدَّر لي ذلك.
ولم يذكرني رسول الله حتى بلغ تبوكَ (1)، فقال وهو جالس في القوم بتبوك:"ما فعلَ كعبٌ؟ "، فقال رجل من بني سلمة: يا رسول الله! حبسه بُرداه ونظرهُ في عِطْفَيه، فقال معاذ بن جبل رضي الله عنه: بئسَ ما قلتَ، والله يا رسول الله! ما علمنا عليه إلا خيرًا.
فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، جاء المخلَّفون، فطَفِقوا يعتذرون إليه، ويحلفون له، وكانوا بضعة وثمانين رجلًا، فقبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم علانيتهم، وبايعهم، واستغفر لهم، ووَكَلَ سرائرهم إلى الله تعالى، فجئته، فلما رآني، تبسَّم تبسُّمَ المغضَب، وقال:"تَعالَ"، فجئت أمشي، حتى جلست بين يديه، فقال:"ما خَلَّفَكَ؟ أَلَمْ تكنْ قَدِ ابْتَعْتَ ظَهْرَكَ؟ "، فقلت: بلى، والله! لو جلستُ عند غيرك من أهل الدنيا، لرأيت أني سأخرجُ من سخطه بعذر، ولقد أُعطيت جدلًا، ولكني - والله - لقد علمتُ، لئن حَدَّثتك اليومَ حديثَ كذب، ترضى به عني، ليوشكَنَّ الله أن يُسخطك عليَّ، ولئن حدثتك اليوم حديث صدق تجدُ عليَّ فيه، إني لأرجو فيه عفوَ الله، لا والله! ما كان لي عذر، والله ما كنت قط أقوى ولا أيسرَ مني حين تخلفت عنك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَمَّا هَذَا، فَقَدْ
(1) في الأصل: "تبوكًا".
صَدَقَ، فَقُمْ حَتَّى يَقْضِيَ اللهُ فِيكَ".
فقمت، وثار رجال من بني سلمة، فاتبعوني، فقالوا: والله! ما علمناك كنتَ أذنبتَ ذنبًا قبلَ هذا، ولقد عجزتَ أن لا تكونَ اعتذرتَ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مما اعتذر إليه المخلَّفون، قد كان كافيك ذنبَكَ استغفارُ رسول الله صلى الله عليه وسلم لك، فوالله! ما زالوا يؤنبّوني، حتى أردت أن أرجعَ فأكذِّبً نفسي، ثم قلت لهم: هل قال هذا أحد؟ قالوا: نعم: رجلان قالا ما قلتَ، فقيل لهما مثلُ ما قيل لك، فقلتُ من هما؟ قالوا: مُرارَةُ بنُ الربيع العمريُّ، وهِلالُ بن أُمية الواقفيُّ، فذكروا لي رجلين صالحين شهدا بدرًا، فقلت: لي فيهما أُسوة، فمضيتُ حينَ ذكروهما لي.
ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين عن كلامنا - أيها الثلاثة - من بين من تخلَّف عنه، فاجتنَبَنا الناس، وتغيروا لنا، حتى تنكرَتْ في نفسي الأرضُ، فما هي التي أعرف، فلبثنا على ذلك خمسين ليلة، فأما صاحباي، فاستكانا، وقعدا في بيوتهما يبكيان، وأما أنا، فكنت أَشَبَّ القوم، وأجلَدَهم، وكنت أخرج، فأشهدُ الصلاةَ مع المسلمين، وأطوف في الأسواق، ولا يكلِّمني أحد، وآتي رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فأسلِّم عليه، وهو في مجلسه بعدَ الصلاة، فأقولُ في نفسي: هل حَرَّك شفتيه بردِّ السلام عليَّ أم لا؟ ثم أُصلي قريبا منه، فأُسارقُه النظر، فإذا أقبلتُ على صلاتي، أقبلَ إليَّ، وإذا التفتُّ نحوه، أعرضَ عني.
ثم جاء نبطي من أنباط أهل الشام، ممن قدم بالطعام يبيعه بالمدينة، فدفع إلى كتابًا من ملك غسان، وإذا فيه: أما بعد: فإنه بلغني أن صاحبك
قد جفاك، ولم يجعلْكَ الله بدار هَوان ولا مضيعة، فالحقْ بنا نواسِكَ، فقلت: وهذا - أيضًا - من البلاء، فتيممت بها التنور، فسجرته بها.
حتى إذا مضت أربعون ليلة من الخمسين، إذا رسولُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم يأتيني، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تعتزل امرأتك، فقلت: أُطَلِّقها أم ماذا؟ قال: لا، بل اعتزلْها، ولا تقربْها، وأرسلَ إلى صاحبيَّ بمثلِ ذلك، فقلت لامرأتي: الحقي بأهلك، فكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر.
وجاءت امرأة هلال بن أمية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستأذنته في خدمته، فأذن لها، قال:"وَلكِنْ لَا يَقْرَبْكِ"، فقال لي بعضُ أهلي: لو استأذنتَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في امرأتك، كما أذن لامرأة هلال أن تخدمه، فقلت: والله! لا أستأذن.
فلبثتُ بعد ذلك عشرَ ليال، حتى كملت لنا خمسون ليلة من حين نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كلامنا، فلما صليت الفجر، سمعت صوت صارخٍ: يا كعبُ بنَ مالك! أبشرْ، فخررت ساجدًا، وعرفت أن قد جاء فرج، وآذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتوبة الله علينا، فذهب الناس يبشرونا، وذهب قِبَلَ صاحبيَّ مبشرون، فلما جاءني الذي سمعتُ صوتَه يبشرني، نزعتُ له ثوبيَّ، فكسوته إياهما، والله ما أملك غيرهما، واستعرت ثوبين، فلبستهما.
وانطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمسجد، وهو جالس حوله الناس، فلما سلَّمت عليه، قال - وهو يبرق وجهُه من السرور -:"أَبْشِرْ بخيرِ يَوْمٍ مَرَّ عَلَيْكَ مُنْذُ وَلَدَتْكَ أُمُّكَ"، قلتُ: أمِنْ عندِك يا رسول الله، أم من عند
الله؟ قال: "بَلْ مِنْ عِنْدِ اللهِ".
فلما جلستُ بين يديه، قلت: يا رسول الله! إن من توبتي أن أنخلعَ من مالي صدقةً إلى الله وإلى رسوله، قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:"أَمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِكَ، فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ"، قلت: فإني أُمسك سهمي الذي بخيبر، ثم قلت: يا رسول الله! إن الله إنما أنجاني بالصدق، وإن من توبتي أن لا أحدث إلا صدقًا ما بقيت.
وأنزل الله تعالى على رسوله عليه السلام: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (117) وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [التوبة: 117، 118].
فوالله! ما أنعم الله عليَّ نعمة قطُّ بعد أن هداني للإسلام، أعظمَ في نفسي من صدقي رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، أن لا أكون كذبته، فأهلكَ كما هلك الذين كذبوا؛ فإن الله تعالى قال للذين كذبوا حين أنزل الوحي:{سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (95) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: 95، 96](1).
(1) رواه البخاري (4156)، ومسلم (7192).