الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
شَهْرًا"، وتمم حجَّه.
وسُميت حجَّةَ الوداع؛ لأنه لم يحجَّ بعدها.
ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وأقام بها حتى خرجت السنة.
* * *
*
السنة الحادية عشرة من الهجرة *
دخلَتْ والنبيُّ صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وكان قد قدم من حجة الوداع، وأقام بها حتى خرجت سنة عشر، والمحرَّم، ومعظمُ صفر، من سنة إحدى عشرة.
*
ذكر مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم ووفاته:
ولما استكمل رسول الله صلى الله عليه وسلم مدى عمره، بعد أن قام لله بأمره؛ بإظهار الدين ونشره، والاشتمال على طاعة الله وبره، وهو مؤيَّد بالفتح المبين، والنصر والتمكئن، نقله الله إلى دار كرامته، وأدناه بعد أن أعلمه - فيما أنزل عليه - أنه قادم عليه، وصائر إليه، فعهد إلى الناس، وودَّعهم، وحذّرهم وبشَّرهم، ونصحهم وعلَّمهم، ووصّاهم وأنذرهم.
ابتدأ برسول الله صلى الله عليه وسلم مرضُه الذي مات فيه، يومَ الأربعاء، لليلتين بقيتا من صفر سنة إحدى عشرة في بيت ميمونةَ، ثم انتقل حين اشتدَّ وجعُه إلى بيت عائشة رضي الله عنها.
ثم غمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، واشتد به وجعُه.
وقال ابن مسعود: نعى إلينا نبينا وحبيبنا صلى الله عليه وسلم نفسَه قبل موته بشهر، فلما دنا الفراق، جمعنَا في بيت عائشة رضي الله عنها، فنظر إلينا، وشدد، ودمعت عيناه، وقال:"مَرْحَبًا بِكُمْ، حَيَّاكُمُ اللهُ، رَحِمَكُمُ اللهُ، آواكُمُ اللهُ، حَفِظَكُمُ اللهُ، رَفَعَكُمُ اللهُ، نَفَعَكُمُ اللهُ، وَفَّقَكُمُ اللهُ، سَلَّمَكُمُ اللهُ، قَبِلَكُمُ اللهُ، أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللهِ، وَأُوصِي اللهَ بِكُمْ، وأَسْتَخْلِفُهُ عَلَيْكُمْ، وَأُحَذّرُكُمُ اللهَ، إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ، أَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى اللهِ في عِبادِهِ وَبِلَادِهِ؛ فَإِنَّه قَالَ لي وَلَكُمْ: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص: 83]، دَنَا الفِرَاقُ، وَالمنَقَلبُ إِلَى اللهِ، إلَى جَنَّةِ المأْوَى، وإِلى سِدْرَةِ المُنْتَهَى، وَإِلَى الرَّفِيقِ الأَعْلَى، وَالكَأْسِ الأَوْفَى، وَالعَيْشِ الأَهْنَى"(1).
ولما ثَقُل رسول الله صلى الله عليه وسلم، جاءه بلال ليؤْذِنَه بالصلاة، فقال:"مُرُوا أَبا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ"، قالت عائشة رضي الله عنها: يا رسولَ الله! إن أبا بكر رجلٌ أَسيفٌ، وإن يقمْ مقامَك لا يُسْمعِ الناسَ، فلو أمرتَ عمرَ، قال:"مُرُوا أَبا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ"، فقالت عائشة لحفصة: قولي له، فقالت له حفصة: يا رسول الله! إن أبا بكر رجل أسيف، وإنه متى يقم مقامَك، لا يُسمعِ الناسَ، فلو أمرت عمر، فقال:"إِنَّكُنَّ صَوَاحِبُ يُوسُفَ، مُرُوا أَبا بَكْرٍ فَلْيُصَلّ بالنَّاسِ"، فأمروا أبا بكر يصلي بالناس،
(1) رواه البزار في "مسنده"(2028)، والطبري في "تاريخه"(2/ 228)، والطبراني في "المعجم الأوسط"(3996)، وفي "الدعاء" (ص: 366).
فلما دخل في الصلاة، وجد رسولُ الله صلى الله عليه وسلم من نفسه خِفَّة، فقام يتهادى بين رجُلين، ورجلاه تَخُطَّان في الأرض، حتى دخل المسجد، فلما سمع أبو بكر رضي الله عنه حِسَّه، ذهب ليتأخر، فأومأ إليه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: أنْ قمْ كما أنت، وجاء رسولُ الله صلى الله عليه وسلم حتى جلس عن يسار أبي بكر، فكان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس قاعدًا، وأبو بكر قائمًا، يقتدي أبو بكر بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والناس يقتدون بصلاة أبي بكر (1).
وكان عند رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعةُ دنانير، وضعَها عند عائشة، فلما كان في مرضه، قال:"يا عائِشَةُ! ابْعَثِي بالذَّهَبِ إِلَى عَلِيٍّ"، ثم أُغمي عليه، وشغل عائشةَ ما به، حتى قال ذلك ثلاثَ مرات، كل ذلك يُغمى عليه، ويشغل عائشة ما به، فبعثت به إلى عليٍّ، فتصدق به.
ثم أمسى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلةَ الاثنين في جديد الموت، فأرسلت عائشة رضي الله عنها إلى امرأة من النساء بمصباحها، فقالت: انظري لنا في مصباحنا من عُكَك السمن؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمسى في جديد الموت (2).
وأقبلت فاطمةُ رضي الله عنها كأنَّ مشيتَها مشيةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:"مَرْحَبا يا ابنتي"، ثم أجلسها عن يمينه، أو عن شماله، ثم أسرّ
(1) رواه البخاري (633)، ومسلم (418)، عن عائشة رضي الله عنها.
(2)
رواه ابن سعد في "الطبقات الكبرى"(2/ 239)، وابن حبان في "صحيحه"(715)، والطبراني في "المعجم الكبير"(5990)، عن عائشة رضي الله عنها.
إليها حديثًا، فبكت، قالت عائشة: فقلت: استَخَصَّك رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بحديثه، ثم تبكين! ثم أسرّ إليها حديثًا، فضحكت، فقالت: ما رأيتُ كاليومِ فرحًا أقربَ من حزن، فسألتها عما قال لها؟ قالت: ما كنتُ لأُفشيَ سِرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إذا قُبض، سألتها، قالت: إنه أَسَرَّ إليَّ، فقال:"إنَّ جِبريلَ كانَ يُعارضُني بِالقرآنِ في كُلِّ عامٍ مَرَّةً، وَإِنَّهُ عارَضَني بهِ الآنَ مَرَّتَيْنِ، وَمَا أُرَاهُ إِلَّا قَدْ حَضَرَ أَجَلِي، وَإِنَّكِ أولُ لحوقٍ بي، ونِعْمَ السَّلَفُ أَنَا لَكِ"، فبكيت لذلك، ثم قال:"أَلا تَرْضَيْنَ أَنْ تَكُوني سَيِّدَةَ نِسَاءِ هَذِهِ الأُمَّةِ - أَوْ: نِسَاءِ المُؤْمِنِينَ -؟ "، فضحكتُ لذلك (1).
ولما بقي من أَجَل محمد صلى الله عليه وسلم ثلاثٌ، نزل عليه جبريلُ، فقال: يا أحمد! إن الله أرسلني إليك إكرامًا لك، وتفضيلًا عليك، وخاصَّة بك، يسألك عما هو أعلمُ به منك، يقول لك: كيفَ تجدُك؟ فقال: "أَجِدُني يا جِبْرِيلُ مَكْروبًا، وأَجِدُني يا جِبريلُ مَغْمومًا".
فلما كان في اليوم الثاني، هبط إليه جبريل، فقال: يا أحمد! إن الله أرسلني إليك إكرامأ لك، وتفضيلًا لك، وخاصَّة بك، يسألك عما هو أعلمُ به منك، يقول لك: كيف تجدُك؟ فقال: "أَجِدُني يا جِبريلُ مَكْروبًا، وأَجِدُني يا جِبريلُ مغمومًا".
فلما كان في اليوم الثالث، نزل إليه جبريل، ونزل معه مَلَك يقال له: إسماعيل، يسكن الهوى، لم يصعد إلى السماء قَطُّ، ولم يهبط إلى
(1) رواه البخاري (3426)، ومسلم (2450)، عن عائشة رضي الله عنها.
الأرض، ومعه سبعون ألفَ مَلَك، فسبقهم جبريل، فقال: يا أحمد! إن الله أرسلني يقول لك: كيف تجدك؟ فقال: "أَجِدُني يا جِبريلُ مَكْروبًا، وأَجِدُني يا جِبريلُ مَغْمومًا".
ثم استأذنَ عليه مَلَكُ الموت، فقال جبريلُ: يا أحمد! هذا ملك الموت يستأذن عليك، ولم يستأذن على آدمي قبلك، ولا يستأذن على آدمي بعدك، قال:"ائْذَنْ لَهُ"، فدخل ملك الموت، فوقف بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! إن الله أرسلني إليك، وأمرني بطاعتك في كل ما تأمرني، إن أمرتني أن أقبض نفسك، قبضتها، وإن أمرتني أن أتركها، تركتها، قال:"وَتَفْعَلُ يَا مَلَكَ المَوْتِ؟ "، قال: بذلك أُمرت أن أطيعك في كل ما أمرتني به.
فقال جبريل: السلامُ عليك يا رسول الله، هذا آخرُ موطئي الأرض، إنما كنتَ حاجتي من الدنيا.
وتوفِّي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وجاءت التعزيةُ، يسمعون الصوتَ، ولا يرون الشخص: السلامُ عليكم يا أهلَ البيت ورحمةُ الله وبركاته، كلُّ نفسٍ ذائقةُ الموت، وإنما توفَّون أُجورَكم يوم القيامة، إنَّ في الله عز وجل عزاء من كل مصيبة، وخَلَفًا من كل هالك، ودَرَكًا من كل ما فات، فبالله فثقوا، وإياه فارجوا، فإنما المصابُ من حُرِم الثواب، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته (1).
(1) رواه ابن سعد في "الطبقات"(2/ 258)، والطبراني في "المعجم الكبير" =
وكان من وصيته عند الموت: "الصَّلاةَ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمانكُمْ"، حتى جعل يتغرغر بها في صدره، ولا يفيض بها لسانه (1).
وكانت وفاته صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين، نصف النهار لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأول سنة إحدى عشرة وولد يوم الاثنين وقدم المدينةَ يوم الاثنين، وتوفي يوم الاثنين.
وأخرجت عائشة رضي الله عنها كساءً جليدًا، وكساءً غليظًا، فقالت: قُبِض رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذين.
ولما مات، قالت فاطمة رضي الله عنها: يا أبتاه! أجاب رَبًّا دعاه، يا أبتاه! في جنة الفردوس مأواه، يا أبتاه! إلى جبريلَ أنعاه.
فلما دُفِن، قالت: يا أَنس! أطابتْ نفوسُكم أن تَحْثُوا على نبيكم التراب؟ ! (2).
وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابنُ ثلاث وستين، وروي: خمس وستين، وروي: ستين، ونزل عليه جبريل عليه السلام أربعة وعشرين ألف مرّة.
ولما توفي، دهش الناس، وطاشت عقولهم، واختلفت أحوالهم في ذلك.
= (2890)، عن علي بن الحسين، عن أبيه رضي الله عنه.
(1)
رواه ابن ماجة (2697)، عن أنس بن مالك رضي الله عنه.
(2)
رواه البخاري (4193)، عن أنس بن مالك رضي الله عنه.
ولما قبض الله نبيه، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: من قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات، عَلَوْتُ رأسه بسيفي هذا، وإنما ارتفع إلى السماء، فقرأ أبو بكر رضي الله عنه:{وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} [آل عمران: 144]، فرجع القومُ إلى قوله (1)، وبادروا إلى سَقيفة بني ساعِدَة، فبايع عُمَرُ أبا بكر، ثم بايعه الناسُ، خلا جماعةً.
وغسَّله عليه السلام عليٌّ، والعباس، وابناه: الفضل، وقُثَم، ومولياه: أسامة، وشقران، وحضرهم أوسُ بن خولي الأنصاري (2).
وكفن صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب بِيضٍ سحوليةٍ، ليس منها قميص ولا عمامة (3).
وصلى عليه المسلمون أفرادًا، لم يؤمَّهم أحدٌ، وفُرِش تحتَه قَطيفةٌ حمراءُ كان يتغطى بها، ودخل قبرَه العباسُ، وعلي، والفضل، وقُثم، وشقران، وأُطبِقَ عليه تسعُ لَبِنات.
ودُفِن في الموضع الذي توفَّاه الله تعالى فيه، حُوِّلَ فراشُه، وغسَّلوه وعليه قميصُه، يصبون الماء فوق القميص، ويدلُكونه والقميصُ دون
(1) رواه البخاري (1185)، عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما.
(2)
رواه ابن سعد في "الطبقات الكبرى"(2/ 279)، والطبراني في "المعجم الكبير"(627)، عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما.
(3)
رواه البخاري (1214)، ومسلم (941)، عن عائشة رضي الله عنها.
أيديهم، فأسندَه عليٌّ إلى صدره، والعباسُ والفضلُ وقُثم يقلبونه معه، وأسامةُ وشقرانُ يصبون الماء، وعليٌّ يغسله بيده.
واختلفوا في موضع دفنه، هل يكون في مسجده، أو مع أصحابه؟ فقال أبو بكر: ادفنوه في الموضع الذي قُبِض فيه، فإن الله تعالى لم يقبض روحَه إلا في مكان طيب، فعلموا أنه قد صدق.
ولما فرغ من جهازه يوم الثلاثاء، - وكانت وفاته يوم الاثنين كما ذكرنا -، قال علي: لقد سمعنا همهمة، ولم نر شخصًا، سمعنا هاتفًا يقول: ادخُلوا - رحمكم الله -، فصلُّوا على نبيكم، ثم دفن من وسط الليل، ليلة الأربعاء، وهو الأصح.
وكانت مدة شكواه ثلاثَ عشرةَ ليلة.
وقال أنس بن مالك رضي الله عنه: لَمَّا كان اليوم الذي دخل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يعني: المدينة -، أضاء منها كلُّ شيء، فلما كان اليوم الذي مات فيه، أظلمَ منها كل شيء (1).
وروي: أنه صلى الله عليه وسلم قال: "أَنَا فَرَطٌ لأُمَّتي، لَنْ يُصَابُوا بِمِثْلِي"(2).
ورثاه جماعة، منهم: أبو بكر الصديق، وعلي، وفاطمة، وعمَّتُه صفية رضي الله عنهم أجمعين -.
(1) رواه الترمذي (3618)، وابن ماجة (1631).
(2)
رواه الترمذي (1062)، عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما.