الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وهذا الباب أكثرُ من أن يُحاط به.
* ومنها: إخبارُه بمصارع المشركين، فلم يَعْدُ أحدًا منهم مصرعُه، وإخبارُه قريش عن بيت المقدس، ووصفه لهم.
* ومنها: أن الملأ من قريش تعاقدوا على قتله، فخرج عليهم، فخفضوا أبصارهم، فأقبل حتى قام على رؤوسهم، فقبض قبضة من تراب، وقال:"شاهَتِ الوُجُوهُ"، وحَصَبَهم بها، فما أصاب رجلًا منهم شيء من ذلك الحصا، إلا قتل يوم بدر (1).
وبالجملة: فمعجزاته صلى الله عليه وسلم لا تُحصى، ولا يحاط بها، ولا يُستقصى، ومن ذا يحيط بالبحر الزخار، ولو أجهدَ نفسَه آناءَ الليل وأطرافَ النهار؟ ! زاده الله شرفًا، وغفر لنا ببركته وعفا.
* * *
*
ذكر أوصافه وأخلاقه وشمائله صلى الله عليه وسلم
- *
قال الله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4].
قالت عائشة رضي الله عنها: كان خُلُقُه القرآن (2)، يغضب لغضبه،
(1) رواه الإمام أحمد في "المسند"(1/ 303)، وابن حبان في "صحيحه"(6502)، عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما.
(2)
رواه الإمام أحمد في "المسند"(6/ 91)، والطبراني في "المعجم الأوسط"(72).
ويرضى لرضاه - يعني: التأدب بآدابه، والتخلق بمحاسنه، والالتزام لأوامره وزواجره -، فهو صلى الله عليه وسلم لا ينتقم لنفسه، ولا يغضب لها، إلا أن تُنتهك حُرْمَةُ من حرمات الله، فيكون لله ينتقم.
وكان أحسنَ الناس خُلُقًا، وأرجحَهم حلمًا، ولما كُسرت رَباعِيَتُه، وشُجَّ وجهُه يوم أحد، شقَّ ذلك على أصحابه، وقالوا: لو دعوتَ عليهم، فقال:"إني لم أُبعث لَعّانًا، ولكني بُعِثْت دَاعِيًا ورَحْمَةً، اللَّهُمَّ اهْدِ قَوْمِي فَإِنَّهُمْ لا يَعْلَمُوَن"(1).
وكان أعظم الناس عفوًا، ولقد عفا عن اليهودية التي سمَّته بعد اعترافها على الصحيح.
وكان أسخى الناس كفًا، لا يبيت عنده دينار ولا درهم، لا يُسأل شيئًا إلا أعطاه.
وكان أشجع الناس، وكان أشد حياء من العذراء في خدرها، وإذا كره شيئًا، عُرف في وجهه، وإذا بلغه عن أحد ما يكرهه، لم يقل: ما بال فلان يقول: كذا وكذا؟ ولكن يقول: "ما بالُ أقوامٍ يصنَعون أو يقولون كذا؟ "، ينهى عنه، ولا يسمى فاعله.
ولم يكن فاحشًا ولا متفحِّشًا، ولا صَخَّابا في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح.
(1) رواه مسلم (2599)، عن أبي هريرة صلى الله عليه وسلم مختصرًا.
وكان أوسعَ الناس صدرًا، وأصدَقَهم لهجة، وألينَهم عريكة، وأكرمَهم عِشْرة.
وكان يخصف النعل، ويرقع الثوب، ويخدم في مهنة أهله، ويجيب الدعوة، ويقبل الهدية، ويكافح عليها، ويأكلها، ولا يأكل الصدقة.
وكان يعصب الحجر على بطنه من الجوع، يأكل ما حضر، ولا يأكل متكئًا، ولا على خِوان، منديله باطن قدميه، لم يشبع من خبزِ بُرٍّ ثلاثة أيام متوالية حتى لقي الله تعالى، يجيب الوليمة، ويعود المرضى، ويشهد الجنائز، متواضعًا، خاتمه يلبسه في خنصره الأيمن، وربما لبسه في الأيسر، يُرْدِف خلفه عبدَه، أو غيره، يركب ما أمكنه، ومرة يمشي حافيًا، يمزح ولا يقول إلا حقًا.
وقالت عائشة رضي الله عنها: سابقتُه فسبقتُه، فلما كثر لحمي، سابقتُه فسبقني، ثم ضرب كتفي، وقال:"هَذِهِ بِتِلْكَ"(1).
وكان صلى الله عليه وسلم يضحك من غير قهقهة، يرى اللعب المباح ولا يُنكره، وهو أُميٌّ لا يقرأ ولا يكتب، وإذا سئل الدعاء على أحد: مسلمٍ أو كافر، أو خاصٍّ أو عام، عدلَ عن الدعاء عليه، ودعا له، وما خُيِّر بين شيئين إلا اختار أيسرَهما، إلا أن يكون فيه إثم، أو قطيعةُ رحم، فيكون أبعدَ الناس من ذلك، مولده بمكة، ومهاجره بطيبة، وملكُه بالشام.
وكان من خُلُقِه عليه الصلاة والسلام: أن يبدأ من لَقِيَه بالسلام،
(1) رواه أبو داود (2578)، والنسائي في "السنن الكبرى"(4691).
ومن فاوضَه لحاجة صابَرَهُ حتى يكون هو المنصرفَ.
ولا يجلس إليه أحد وهو يصلي، إلا خفف صلاته، وأقبل عليه، وقال:"ألكَ حاجةٌ؟ "، فإذا فرغ من حاجته، عاد إلى صلاته.
يُكرِم من يدخل عليه، وُيؤثر الداخلَ عليه بالوسادة، حتى التي تكون تحته، فإن أبى أن يقبلها، عَزَم عليه حتى يفعل.
وما استصغاه أحد، إلا ظن أنه أكرمُ الناس عليه، حتى يعطي كلَّ من جلس إليه نصيبه من وجهه.
أرأفُ الناسِ، وخيرُهم، لا تُرفَع في مجلسه الأصوات، إذا قام من مجلسه، قال:"سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، أشهدُ أن لا إلهَ إلا أنت، أَستغفرُكَ وأتوبُ إليك"(1).
طويل السكوت، لا يتكلم في غير حاجة، ويعظُ بالجدِّ والنصيحة، ويقول:"لا تَضْرِبوا القرآنَ بعضَه ببعضٍ، فإنه أُنزلَ على وجوه"(2).
وإذا نزل به الأمر، فوّض وتبرأ من الحول والقوة.
وأَحبُّ الطعام إليه ما كثرت عليه الأيدي، وإذا وضعت المائدة،
(1) رواه أبو داود (4860) عن أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه، والترمذي (3433)، عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
قال العراقي في "تخريج أحاديث الإحياء"(1/ 639): رواه الطبراني من حديث عبد الله بن عمرو بإسناد حسن.
قال: "بسم الله، اللهمَّ اجعلْها نعمةً مشكورةً نَصِلُ بها نعيمَ الجنة"(1).
وإذا جلس يأكل، جَمَع بين ركبتيه وبين قدميه كما يصلي المصلي، إلا أن الركبة تكون فوق الركبة، والقدم فوق القدم، ويقول:"إنما أَنا عبدٌ آكُلُ كما يأكلُ العبد، وأجلسُ كما يجلسُ العبد"(2).
ولا يأكلُ الحار، ويقول:"إنه غيرُ ذي بركة"(3)، و"إن الله لم يطعمنا نارًا، فأبردوه"(4).
وكان أحبُّ الفواكه إليه الرُّطَب، والبطيخ، والعنب، وأكثرُ طعامه التمر والماء، وأحبُّ الطعام إليه اللحم، ويقول:"هو يزيدُ في السَّمْعِ، وهو سيدُ الطعامِ في الدنيا والآخرة، ولو سألتُ رَبِّي أَنْ يُطْعِمَنيهِ كُلَّ يومٍ، لَفَعَلَ"(5).
(1) انظر: "إحياء علوم الدين" للغزالي (2/ 369).
(2)
رواه عبد الرزاق في "مصنفه"(19554)، وابن سعد في "الطبقات الكبرى"(1/ 371)، عن يحيى بن أبي كثير مرسلًا، وأبو يعلى في "مسنده"(4920)، عن عائشة رضي الله عنها.
(3)
رواه الطبراني في "المعجم الأوسط"(6209)، عن أبي هريرة رضي الله عنه، والحاكم في "المستدرك"(7125)، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه.
(4)
رواه الطبراني في "المعجم الأوسط"(7012)، و"المعجم الصغير"(934)، عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(5)
انظر: "إحياء علوم الدين" للغزالي (2/ 371)، وعزاه إلى أبي الشيخ من رواية ابن سمعان.
وكان يحب القرع، ويقول:"إنها شجرةُ أخي يونس عليه السلام "(1).
وكان لا يأكل الثوم، ولا البصل، ولا الكُرَّاث. وإذا فرغ، قال:"اللهمَّ لك الحمدُ، أَطْعَمْتَ، وسقيتَ، وآوْيتَ، لكَ الحمدُ غيرَ مكفورٍ، ولا مُوَدَّعٍ، ولا مُسْتَغْنًى عنُه"(2).
وكان يشرب في ثلاث دفعات، له فيها ثلاث تسميات، وفي آخرها ثلاث تحميدات.
وكان يعجبه الثياب الخضر، وكان أكثر ثيابه البياض، ويقول:"أَلْبِسوها أحياءَكُم، وكَفِّنوا فيها موتاكم"(3).
وكان صلى الله عليه وسلم تنام عيناه ولا ينام قلبه، وكان ينظر في المرآة، وربما نظر في الماء في حجرة عائشة وسوَّى جبهته.
وكان يقول: "لا يُبَلِّغُني أحدٌ منكم عن أحدٍ من أصحابي شيئًا، فإني
(1) المرجع السابق.
(2)
رواه الإمام أحمد في "المسند"(4/ 236)، والطبراني في "المعجم الكبير"(3372)، عن الحارث بن الحارث رضي الله عنه، وروى البخاري (5143) نحوه، عن أبي أمامة رضي الله عنه.
(3)
رواه أبو داود (3878، 4061)، والنسائي (1896، 5323)، والترمذي (994، 2810) وابن ماجة (3566)، عن عبد الله بن عباس وسَمُرة بن جُندُب رضي الله عنهم.
أحبّ أن أخرجَ إليكُمْ وأنا سَليمُ الصَّدْرِ" (1).
وأما زهده صلى الله عليه وسلم في الدنيا، وعبادته وخوفه من ربه: فقد توفي صلى الله عليه وسلم ودرعُه مرهونةٌ عند يهودي في نفقة عياله، وما ترك دينارًا ولا درهمًا، ولا شاةً ولا بعيرًا، وعُرض عليه أن يجعل له بطحاء مكة ذهبًا، فقال:"لا يا ربِّ، بل أجوعُ يومًا، وأشبعُ يومًا، فأما اليوم الذي أجوعُ فيه، فاتضرَّعُ إليكَ وأدعوك، وأما اليومُ الذي أشبعُ فيه، فأَحْمَدُكَ واثني عليك"(2).
وكان صلى الله عليه وسلم يستاك بالأرك، وكان إذا قام من النوم، يَشُوصُ فاه بالسواك، ويستاك في الليل ثلاث مرات: قبل النوم، وبعده، وعند القيام لورده، وعند الخروج لصلاة الصبح.
ونذكر ها هنا شيئًا من آداب السواك فإن الحاجة ماسة لذلك: فمن فضيلته: قوله صلى الله عليه وسلم: "لولا أن أَشُقَّ على أُمَّتي، لأَمرتُهم بالسواكِ عندَ كلِّ صلاة"(3).
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: في السواك عشرُ خصال: يُذهِب الحُفَر، ويجلو البصر، ويشدُّ اللّثَة، وينقِّي البلغم، ويطيِّب الفم، وتفرح له
(1) رواه أبو داود (4860)، والترمذي (3896)، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
(2)
رواه الترمذي (2347)، والإمام أحمد في "المسند"(5/ 254)، عن أبي أمامة رضي الله عنه.
(3)
رواه البخاري (847)، ومسلم (252)، عن أبي هريرة رضي الله عنه.
الملائكة، ويرضي الربَّ تبارك وتعالى، ويوافقُ السُّنَّة، ويزيد في حسنات الصلاة، وُيصِحُّ الجسمَ.
زاد الحكيم الترمذيُّ (1): ويزيد الحافظَ حفظًا، ويُنبت الشعر، ويصفِّي اللون.
وعن الشافعي رضي الله عنه: أربعٌ تزيد في العقل: تركُ الكلام من الفضول، والسواك، ومجالسة العلماء والصالحين، والعمل بالعلم.
وعن كعب رضي الله عنه: أنه قال: من أحبَّ أن يُحبه الله، فليكثِرْ من السواكِ والتخلُّل، والصلاةِ بهما.
ويستاك عرضًا؛ فإن الشيطان يستاك طولًا، ويبدأ من الجانب الأيمن.
ويتأكد استحبابُه عند الصلاة، والوضوء، وقراءة القرآن، والانتباه من النوم، وتغير الفم.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحتجم في الأخدعين، وبين الكتفين.
وهو خاتم النبيين، وسيد المرسلين، وآتاه الله علمَ الأولين والآخرين، وفضَّلَه على سائر الخلق أجمعين، ولا يُحصي مناقبه أحدٌ من العالمين، صلى الله عليه وسلم، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى أزواجه الطاهرات أمهاتِ المؤمنين، وعلينا معهم يا ربَّ العالمين، صلاة دائمة إلى يوم الدين.
* * *
(1) في الأصل: "الترمذي الحكيم".