الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
*
السنة الخامسة من الهجرة *
* وفيها: كانت غزوة الخندق: وكانت في شوال من هذه السنة (1)، وكان من حديثها: أن نفرًا من اليهود - وهم الذين حرّضوا الأحزاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم خرجوا حتى قدموا على قريش بمكة، يدعونهم إلى حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا: إنا سنكون معكم عليه حتى نستأصله، وقالوا: دينُكم خيرٌ من دينه، وأنتم أَوْلى بالحقِّ منه، فأنزل الله تعالى فيهم:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا (51) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ} الآية إلى قوله: {وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا} [النساء: 51 - 55](2).
ولما سمع رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بهم، وما أجمعوا عليه، أمر بحفر الخندق حولَ المدينة، قيل: إنه بإشارة سلمانَ الفارسيِّ، وهو أولُ مشهد شهدَه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وظهرت في حفر الخندق عدة معجزات:
* منها: ما رواه جابر، قال: اشتدَّت عليهم كديةٌ - أي: صخرة -،
(1) انظر: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (2/ 65).
(2)
رواه الطبري في "تاريخه"(2/ 90)، والبيهقي في "دلائل النبوة"(3/ 408)، عن محمد بن كعب القرظي.
فدعا النبيُّ صلى الله عليه وسلم بماءٍ، وتفل فيه، ونضحه عليها، فانهالت تحت المساحي (1).
* ومنها: أن أُبية بنتَ بشير بن سعيد الأنصاري، وهي أخت النعمان ابن بشير، بعثتها أمها بقليل تمر غداء أبيها بشير، وخالِها عبدِ الله بن رواحة، فمرّت برسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعاها، وقال:"هاتي ما مَعَك يا بُنَيَّة"، فصبّتْ ذلك التمر في كَفَّي رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فما امتلأتا، ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بثوب، وبدَّدَ ذلك التمر عليه، ثم قال لإنسان:"اصرخْ في أهلِ الخندقِ أَنْ هَلُمُّوا إلى الغداءِ"، فجعلوا يأكلون منه، وجعل يزيدُ حتى صدر أهلُ الخندق عنه، وإنه ليسقطُ من أطراف الثوب.
* ومنها: ما رواه جابر، قال: كانت عندي شُوَيْهَةٌ غيرُ سمينة، فأمرتُ امرأتي أن تخبز قرصَ شعير، وأن تشوي تلكَ الشاةَ لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وكنا نعملُ في الخندق نهارًا، وننصرفُ إذا أمسينا، فلما انصرفنا من الخندق، قلت: يا رسول الله! صنعتُ لكَ شويهةً، ومعها شيءٌ من خبز الشعير، وأنا أحبُّ أن تنصرفَ إلى منزلي، فأمر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم من يصرخُ في الناس: أنِ انصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيتِ جابر.
قال جابر: إنا لله وإنا إليه راجعون - وكان ظنَّ أن يمضي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وحده -، وأقبل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم والناسُ معه، وقدَّمنا له ذلك، فبرَّكَ وسمّى، ثم أكل، وتواردها الناس، كلما صدر عنها قوم، جاء ناس،
(1) رواه البخاري (3875).
حتى صدر أهل الخندق عنها (1).
وروى سلمان الفارسي، قال: كنت قريبًا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا أعمل في الخندق، فتغلظ عليَّ الموضعُ الذي كنت أعمل فيه، فلما رأى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، أخذ المِعولَ، وضرب ضربة لمعت تحت المِعول بَرْقَةٌ، ثم ضرب أخرى، فلمعت برقةٌ أخرى، ثم ضرب أخرى، فلمعت برقة أخرى، قال فقلت: بأبي أنت وأمي! ما هذا الذي يلمع تحت المعول؟ فقال: "أرأيتَ ذلكَ يا سلمانُ؟ "، فقلت: نعم. قال: "أَمَّا الأُولى، فإنَّ الله فتحَ عَلَيَّ بها اليَمَنَ، وأَمَّا الثانيةُ، فإن الله فتحَ عَلَيَّ بها الشَّامَ والمَغْرِبَ، وأَمَّا الثالثةُ، فإنَّ الله فتحَ عَلَيَّ بها المَشْرِقَ"(2).
وعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخندق ترغيبًا للمسلمين في الأجر، وعمل معه المسلمون، وفرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخندق.
وأقبلت قريش في أحابيشها ومَنْ تبعها من كنانةَ في عشرة آلاف، وأقبلت غَطَفان ومن تبعها من أهل نجد، وكان بنو قريظة وكبيرُهم كعبُ ابنُ أسدٍ قد عاهد النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فما زال عليهم أصحابهم من اليهود حتى نقضوا العهد، وصاروا مع الأحزاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وعَظُم عند ذلك الخَطْبُ، واشتد البلاء، حتى ظن المؤمنون كل الظن، ونَجَمَ النفاق، حتى قال معتب بن قشير: كان محمد يعدنا أن نأكل
(1) رواه الإمام أحمد في "المسند"(3/ 377).
(2)
رواه البيهقي في "دلائل النبوة"(3/ 419)، عن عمرو بن عوف المزني رضي الله عنه.
كنوزَ قيصر، وأحدُنا اليومَ لا يأمَنْ على نفسه أن يذهب إلى الغائط (1).
وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم والمشركون بضعًا وعشرين ليلة، ولم يكن بين القوم حربٌ إلا الرمي، وتقدم فوارسُ من قريش يلتمسون القتال، فأقبلوا حتى وقفوا على الخندق، فلما رأوه، قالوا: والله! إن هذه لمَكَيدةٌ، ما كانت العربُ تكيدها، ثم قَتَل عليُّ بن أبي طالب رضي الله عنه عَمْرَو بن عبدِ ودٍّ، وخرجتْ خيلُ قريش منهزمةً، وقال علي رضي الله عنه في ذلك:
نَصَرَ الْحِجَارَةَ مِنْ سَفَاهَةِ رَأْيِهِ
…
وَنَصَرْتُ دِينَ مُحَمَّدٍ بِضِرَابِ
فَصَدَدْتُ حِينَ تَرَكْتُهُ مُتَجَدّلًا
…
كَالجِذْعِ بَيْنِ دَكادِكٍ وَرَوَابي
لا تَحْسَبُنَّ الله خَاذِلَ دِيِنهِ
…
وَنبِيِّهِ يا مَعْشَرَ الأَحْزَابِ
ثم نصر الله نبيَّه على المشركين، وخذَلهم، واختلفت كلمتُهم، ثم إن الله تعالى أهبَّ ريح الصَّبا، كما قال الله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا} [الأحزاب: 9]، فجعلت الريح تقلِب آنيتهم، وتَكْفَأُ قُدورهم، وانقلبوا خاسرين.
(1) رواه البيهقي في "دلائل النبوة"(3/ 435)، عن عثمان بن كعب القرظي.
وبلغ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أمرُهم، وأنهم عادوا راجعين إلى بلادهم، وقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:"الآنَ نَغْزُوهُمْ، وَلا يَغْزُوناَ"(1)، فكان كذلك حتى فتحِ مكة، والله أعلم.
* وفيها: كانت غزوة بني قريظة في ذي القعدة: ولما عاد النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة من غزوة الأحزاب، وضع المسلمون السلاح، فلما كان الظُّهر أتى جبريلُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فقال: أقدْ وضعتَ السلاح؟ قال: "نعم"، قال: ما وضعت الملائكةُ السلاح، إن الله عز وجل يأمرُك بالمسير إلى بني قريظَة (2)، فإني عامدٌ إليهم، فَمُزَلْزِلٌ بهم (3).
فأمر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مناديًا، فنادى: مَنْ كان سامعًا مطيعًا، فلا يصلينَّ العصرَ إلا في بني قريظة، وقدَّم عليًا رضي الله عنه إليهم برايته، ثم تلاحق الناسُ، ونزل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وحاصرهم خمسًا وعشرين ليلة، وقذفَ الله في قلوبهم الرعبَ، ولما اشتد بهم الحصار، نزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فردَّ الحكمَ فيهم إلى سعد بن معاذ، فحكَمَ أن تُقتل المقاتلة، وتُسبى الذرية والنساء، وتقسم الأموال، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لَقَدْ حَكَمْتَ بِحُكْمِ الله مِنْ فَوْقِ سَبْعَةِ أَرْقِعَةٍ"(4).
(1) رواه البخاري (4109)، عن سليمان بن صرد رضي الله عنه.
(2)
رواه البخاري (2658)، ومسلم (1769)، عن عائشة رضي الله عنها.
(3)
رواه ابن سعد في "الطبقات الكبرى"(2/ 74).
(4)
رواه البخاري (3592)، ومسلم (1768)، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، واللفظ لابن سعد في "الطبقات الكبرى"(2/ 75).
ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وحبس بني قريظة في دار بنت الحارث: امرأة من بني النجار، ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سوق المدينة، فخندقَ بها خنادقَ، ثم بعث إليهم، فضرب أعناقهم في تلك الخنادق، وكانوا ست مئة، أو تسع مئة، وقيل: ما بين الثمان والسبع مئة.
ثم قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم الأموال، فكان للفارس ثلاثة أسهم: للفرس سهمان، ولفارسه سهم، وللراجل سهم، وكانت الخيل يومئذ ستة وثلاثين فرسًا.
ثم قسم سبايا بني قريظة، فأخرج الخمس، واصطفى لنفسه ريحانةَ بنتَ عمرٍو، فكانت في ملكه حتى مات.
واستُشهد في غزوة بني قريظة خلادُ بن زيد بن ثعلبة، شهد العقبة وبدرًا وأُحدًا والخندق ويوم بني قريظة، وقُتل يومئذ شهيدًا، دلَّت عليه امرأةٌ من بني قريظة رَحًى، شَدَخَتْ رأسه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"له أَجْرُ شهيدينِ"(1)، وقتلها به (2)، ولم يستشهد في غزوة بني قريظة غيره.
وفي هذه السنة: توفي سعد بن معاذ بن النعمان بن زيد بن عبد الأشهل رضي الله عنه، ولما مات، نزل جبريل عليه السلام على النبيِّ صلى الله عليه وسلم معتجرًا بعمامة من إِستبرق، وقال: يا محمد! مَنْ هذا الذي فُتحت له
(1) رواه أبو داود في "سننه"(2488)، عن قيس بن شماس رضي الله عنه.
(2)
رواه ابن سعد في "الطبقات الكبرى"(3/ 530).