الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وصلَّى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلَّم.
* * *
*
خلافة أمير المؤمنين جعفر بن المعتصم المتوكل على الله *
هو أبو الفضل، جعفرُ بنُ المعتصم، وأمه تركية، اسمها: شجاع.
وكان مربوعًا، أسمر اللون، خفيف العارِضَين.
بويع له لستٍّ بقين من ذي الحجة، سنة اثنتين وثلاثين ومئتين.
ولما تولى، أظهر العدل، وأحيا السنة، وأمر بالقبض على محمد ابن عبد الملك الزيات، وعلى ابن أبي دُؤاد اللذين كانا يقولان بخلق القرآن، وحبس ابنَ عبد الملك الزيات في التنور إلى أن مات، وأخذ جميع ضياع ابن أبي دؤاد وأمواله، وأطلق جميع من كان اعتُقل بسبب القول بخلق القرآن، ونهى عن الجدل، وأظهر القولَ بالسنة، وطعن علي الواثق، ومَنْ كان قبله فيما كانوا يقولونه من خلق القرآن، وولَّى القاضي يحيى بنَ أكثم قضاءَ القضاة، وكان القاضي يحيى بن أكثم من أئمة الدين، وعلماء السنة، ومن المعظِّمين للكتاب والسنَّة.
وكان قد ولَّى من جهته حَيَّانَ بنَ بشرٍ قضاءَ الجانب الشرقي، وسوارَ ابنَ عبد الله قضاءَ الجانب الغربي، وكلاهما كان أعور، فقال في ذلك بعضُ أصحاب ابن أبي دؤاد:
رَأَيْتُ مِنَ العَجَائِبِ قَاضِيَيْنِ
…
هُمَا أُحْدُوثَةٌ فِي الخَافِقَيْنِ
هُمَا اقْتَسَمَا العَمَى نِصْفَيْنِ فَذًّا
…
كَمَا اقْتَسَمَا قَضَاءَ الجانِبَيْنِ
وَتَحْسَبُ مِنْهُمَا مَنْ هَزَّ رَأْسًا
…
لِيَنْظُر في مَوَارِيثٍ وَدَيْن
كَأَنَّكَ قَدْ وَضَعْتَ عَلَيْهِ دَنًا
…
فَنَحْنُ نُرَى لَهُ مِنْ فَرْدِ عَيْنِ
لَقَدْ قَالَ الزَّمَانُ بِهُلْكِ يَحْيَى
…
إِذِ افْتَتَحَ القَضَاءَ بِأَعْوَرَيْنِ
وفي السنة الرابعة والثلاثين بعد المئتين: في أيامه كانت الزلازل المهولة بدمشق، دامت ثلاث ساعات من ارتفاع الضحى، وسقطت الجدران، فقُتل خلق كثير، وانكفأت قرية من عمل الغوطة على أهلها، فلم ينجُ منهم أحد سوى رجل واحد.
وهبت ريح شديدة لم يعهَد مثلُها، وتغير ماءُ دجلة إلى الصفرة، فبقي ثلاثة أيام، ففزع الناس لذلك، ثم صار في لون الورد، وسمع أهل أخلاط صيحةً من السماء، فمات خلق كثير، وهاجت النجوم في السماء، وجعلت تتطاير بشرر من قبل غروب الشفق إلى قرب الفجر.
ووقع طائر أبيضُ دونَ الرخمة، وفوقَ الغراب بحلبَ، فصاح: يا معشر الناس! اتقوا الله الله الله، حتى صاح أربعين صوتًا، ثم طار، وجاء من الغد، فصاح أربعين صوتًا.
ومات إنسان في بعض كور الأهواز، فسقط طائر أبيض على نعشه، فصاح بالفارسية: إن الله قد غفر لهذا الميت، ولمن شهد جنازته.
وزلزلت بلاد المغرب، حتى تهدمت الحصون والقناطر، فأمر المتوكل بتفرقة ثلاثة آلاف ألف في اللذين أُصيبت منازلهم، وكل ذلك بأمر الله وقضائه وقدره، ولا رادَّ لأمره، ولا مُعَقِّب لحكمه.
وفي السنة الخامسة والثلاثين بعد المئتين: أمر المتوكل على الله أهلَ الذمة أن يتميزوا عن المسلمين، في لباسهم وعمائمهم، وفي دخولهم الحمام بالجلاجل، وأن لا يركبوا الخيل ولا يسرج، ونهى أن يُستعملوا في الدواوين، وأن لا تتعلم أولادهم في مكاتب المسلمين، وأن تسوَّى قبورُهم بالأرض.
وفي أيامه حجَّت شجاع، وفعلت الخير الجزيل.
وفي السنة الحادية والأربعين: في أيامه توفي الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه، وكان قد امتُحن بالقول بخلق القرآن، فلم يجب إلى ذلك، وذلك أن المأمون كان اجتمع عليه جماعة من المعتزلة، فأزاغوه عن طريق الحق إلى الباطل، وزينوا له القولَ بخلق القرآن، واتفق خروجُ المأمون إلى طرسوس لغزو بلاد الروم، فعنّ له أن كتبَ إلى نائب بغداد إسحاقَ ابن إبراهيم بن مصعب، أمره أن يدعو الناس إلى القول بخلق القرآن،
واتفق ذلك في آخر عمره قبل موته بيسير، فاستدعى جماعةً من أئمة الحديث، فدعاهم إلى ذلك، فامتنعوا، فهددهم، فأجاب أكثرُهم مُكرَهين.
واستمر الإمام أحمد على الامتناع، فحمله على بعير، وسيرّه إلى الخليفة، فلما قربوا من جيش المأمون، وأُنزلوا دونَه بمرحلة، فبلغ الإمامَ أحمدَ توعُّدُ الخليفة له بالقتل إن لم يُجبه إلى القول بخلق القرآن، فتوجَّه الإمام أحمدُ إلى الله بالدعاء، فجاءهم الصريخ بموت المأمون في الثلث الأخير من الليل، ففرح الإمام أحمد بذلك.
ثم جاء الخبر بأن المعتصم ولي الخلافة، وقد انضم إليه أحمدُ بن أبي دؤاد، وأن الأمر شديد، فردُّوه إلى بغداد في سفينة مع بعض الأسارى، فوصل بغداد وهو مريض في رمضان، فأودع في السجن نحو ثمانية وعشرين شهرًا.
ثم أُخرِج إلى الضرب بين يدي المعتصم، فدُعي إلى القول بخلق القرآن ثلاثةَ أيام، بحضور جماعة أحضرهم الخليفة، وكان المعتصب عليه أحمد بن أبي دؤاد، كل ذلك والإمام أحمد يقول: أعطوني شيئًا من كتاب الله، وسنةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أقولَ به، فما زال ابن أبي دؤاد وغيرُه يُغرون الخليفة عليه، ويقولون: هذا كافرٌ مُضِلٌّ، حتى اشتدَّ غضبُه، فأمر بضربه، فضُرِب بالسياط، وكان جملة ما ضرب نيفًا وثمانين سوطًا.
ووقع له في هذه المحنة أخبارٌ كثيرة، وكرامات ظاهرة؛ من ستر عورته لمّا انحل سراويله، وغير ذلك مما هو مشهور، فلما عوفي، فرح المعتصم والمسلمون بذلك، وجعل الإمام أحمد كلَّ من سعى في أمره
في حِلٍّ، إلا أهلَ البدعة، وكان يتلو في ذلك قوله تعالى:{وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور: 22].
وقال أبو الوليد الطيالسي: لو كان هذا في بني إسرائيل، لكان أُحدوثة.
وقال المزني: أحمدُ بن حنبل يومَ المحنة، وأبو بكر يوم الردَّة، وعمر يوم السقيفة، وعثمان يوم الدار، وعلي يوم صِفِّين.
ومناقبه رضي الله عنه أكثرُ من أن تُحصر، وأشهر من أن تُذكر، ولم يزل الإمام أحمد على ذلك مدة خلافة المعتصم، وأيام الواثق، فلما ولي المتوكل، استبشر الناس بولايته؛ فإنه كان محبًا للسنة وأهلِها، ورفعَ المحنة عن الناس، وكتب إلى نائبه ببغداد - وهو إسحاق بن إبراهيم -: أن يبعث إليه بالإمام أحمد بن حنبل، فاستدعى إسحاقُ بن إبراهيم الإمام أحمد، فأكرمه، وعظَّمه، وجهزه إلى الخليفة المتوكل بِسُرَّ من رأى، فأكرمه المتوكل غايةَ الإكرام، وأمر له بخلعة سنية، فاستحى منه، ولبسها إلى الموضع الذي كان نازلًا فيه، ثم نزعها نزعًا عنيفًا، وهو يبكي رحمه الله، ثم أرسل إليه المتوكل مالًا جزيلًا، فأبى أن يقبله، فقيل له: إن رددتَه، وَجَدَ عليك في نفسِه، ففرَّقَه على مستحقِّيه، ولم يأخذ منه شيئًا، وجعل كلَّ يوم يرسل إليه من طعامه الخاص، ويظن أنه يأكل منه، وكان رضي الله عنه لا يأكل منه لقمة.
وارتفعت السنَّة في أيام المتوكل جدًا، وكان لا يولِّي أحدًا إَلا بمشورة الإمام أحمد بن حنبل، وكان مسيرُ أحمدَ إليه في سنة سبع وثلاثين
ومئتين، ثم مكث إلى حين وفاته، قَلَّ أن يأتي يوم إلا ورسالةُ المتوكل تنفذ إليه في أمور يشاوره فيها، ويستشيره.
ثم إن الإمام أحمد رضي الله عنه مرض مرضه الذي مات فيه، وكان مرضه في أول شهر ربيع الأول، سنة إحدى وأربعين ومئتين، ثم كتب وصيته:
(بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أوصى أحمد بن محمد بن حنبل: أوصى أنه يشهد أنه لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، وأن محمدًا عبدُه ورسوله، أرسلَه بالهدى ودين الحق، ليظهرَه على الدين كلِّه، ولو كره المشركون، وأوصى من أطاعه من أهله وقرابته: أن يعبدوا الله تعالى في العابدين، وأن يحمَدوه في الحامدين، وأن ينصحوا لجماعة المسلمين).
ثم استدعى بالصبيان من ذُرِّيته، فجعل يدعو لهم، ثم توفي يوم الجمعة، لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأول، سنة إحدى وأربعين ومئتين.
وأخبار جنازته مشهورة، ورئي له منامات صالحة - رحمه الله تعالى، ورضي عنه، وعن جميع أئمة المسلمين -.
وفي السنة الثالثة والأربعين بعد المئتين: توجَّه المتوكل من العراق طالبًا مدينة دمشق؛ ليجعلَها دارَ إقامته، فتأسّف أهلُ العراق على ذلك، وكان للمتوكل أربعةُ آلاف سُرِّيَّة، يقال: إنه وطئ الجميع، والله أعلم.
وقتله ولدُه المنتصر، وهو في خَلْوَة مع وزيره الفتحِ بنِ خاقَان، وذلك أن المتوكل قد كان بايع الخلافة لولده المنتصر، ثم أراد عزله،