الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والله! لا تقلَّدْتُ أمرًا بين اثنين أبدًا، ثم لم يلبث أن مات بعد أيام رحمه الله، ورضي عنه -.
ولما حضرته الوفاة، اجتمع إليه مواليه، فقيل: اعهدْ إلى من رأيت من أهل بيتك، فجمع الناس، وقال: قد ضعفتُ عن أمركم، ولم أجد مثلَ عمرَ بنِ الخطاب لأستخلفه، ولا مثل أهل الشورى، فأنتم أولى بأمركم، فاختاروا مَنْ أحببتم.
وقال: والله! ما ذقت حلاوة خلافتكم، فكيف أتقلد وِزْرَها؟ اللهمَّ إني بريء منها، مُتخلٍّ عنها، ثم دخل منزله، وتغيَّب فيه حتى مات رحمه الله، ودُفِن بدمشق إلى جانب أبيه، وصلَّى عليه الوليدُ بن عتبةَ ابنِ أبي سفيان ليكون الأمر له من بعده، فلما كبر الثانيةَ، طُعِن، فسقط ميتًا قبل تمام الصلاة، وزال الأمر عن بني حرب، فلم يكن فيهم من يرومها، وصلَّى عليه مروان بن الحكم.
ولم يكن لمعاوية هذا عَقِبٌ، وكانت خلافته ثلاثة أشهر، وقيل: أربعين يومًا، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وصلَّى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلَّم.
(خلافة عائذ بيت الله عبد الله بن الزبير)
لما مات يزيد بن معاوية، بايع الناسُ بمكة عبدَ الله بن الزبير، وكان مروان بن الحكم بالمدينة، فقصد المسيرَ إلى عبد الله بن الزبير ومبايعتَه،
ثم توجه مع من توجَّه من بني أمية إلى الشام.
وقيل: إن ابن الزبير كتب إلى عامله بالمدينة أن لا يترك بها من بني أمية أحدًا.
ولو سار ابن الزبير مع الحصين إلى الشام، أو صانعَ بني أميةَ ومروانَ، لاستقرّ أمره، ولكن لا مردّ لما قدّره الله تعالى.
ولما بويع عبدُ الله بن الزبير بمكة، وكان عبيد الله بن زياد بالبصرة، فهرب إلى الشام، وبايع أهلُ البصرة ابنَ الزبير، واجتمعت له العراقُ والحجاز واليمن، وبَعَث إلى مصر، فبايعه أهلُها، وبايع له في الشام سرًا الضحّاكُ بن قيس، وبايع له بحمص النعمانُ بن بشير الأنصاريُّ، وبايع له بقنسرين زُفَرُ بن الحارث الكلابي، وكاد يتمُّ له الأمر بالكلِّية.
وكان عبد الله بن الزبير شجاعًا، كثير العبادة، وكان به البخل، وضعفُ الرأي.
ثم أرسل ابن الزبير المختارَ بن عُبيد إلى الكوفة؛ ليستخرج له من أهلها جندًا، فنزل ناحية منها، وانضاف إليه جماعةٌ من أهلها، وابتنى لنفسه دارًا، واتخذ بستانا، أنفق عليه أموالًا عظيمة، أخرجها من بيت مال المسلمين، وفرّق الأموال على الناس تفرقة واسعة، وكتب إلى ابن الزبير أن يعتد له بما أنفق من بيت المال، فأبى ابن الزبير ذلك عليه، فخلع المختارُ طاعتَه، وجحد بيعتَه، وكتب إلى عليِّ بن الحسين يعرفه أنه يبايعه، ويبايع له الناس، ويظهر دعوته، فأبى عليُّ بن الحسين قبولَ ذلك.
فكتب المختار إلى محمد بن الحنفية في ذلك، فاستشار ابنَ عباس، فقال: لا تفعل، فأطاعه.
واشتد أمرُ المختار بالكوفة، واتبع قتلَةَ الحسين، فقتلهم، وقتل شِمْرَ بنَ ذي جَوْشَن الذي تولى قتلَ الحسين، ثم قتل عمرَ بنَ سعدِ بنِ أبي وقاص صاحبَ الجيش الذين (1) قتلوا الحسين، وهو الذي أمر أن يُداس صدرُ الحسين وظهرُه بالخيل، ثم أرسل الجنود لقتال عبيد الله بن زياد، وكان قد استولى على الموصل، وقدم على الجيش إبراهيم بن الأشتر النخعي، فاقتتلوا قتالًا شديدًا، وهُزمت أصحاب ابن زياد، وقُتل عبيد الله بن زياد، قتله إبراهيم بن الأشتر في المعركة، وأخذ رأسه، وأحرق جثته، وانتقم الله للحسين بالمختار، وإنْ لم تكن نيةُ المختار جميلة، فمال أهل الكوفة إلى المختار، وأحبوه.
وشرع ابن الزبير في بناء الكعبة - شرفها الله -، وكان ذلك في سنة أربع وستين، وكانت حيطانها قد مالت من ضرب المنجنيق، فهدمها، وحفر أساسها، وشهد عنده سبعون من شيوخ قريش: أن قريشًا حين بنت الكعبة، عجزت نفقتهم، فنقصوا من سعة البيت سبعةَ أذرع من أساس إبراهيم الخليل عليه السلام الذي أسّسه هو وإسماعيل عليهما السلام، فبناه عبد الله بن الزبير، وزاد فيه السبعة أذرع، وأدخل الحِجْر فيها، وأعادها على ما كانت عليه أولًا، وجعل لها بابين: بابًا يُدخل منه،
(1) في الأصل: "الذي".
وبابًا يخرج منه.
فلم يزل البيت على ذلك حتى قَتَلَ الحجاجُ ابنَ الزبير، وبعث إلى عبد الملك بن مروان يُعْلِمُه بما زاد ابن الزبير، فأمر عبدُ الملك بهدمه وردِّه إلى ما كان عليه في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويجعل له بابًا واحدًا، ففعل الحجاج ذلك.
ويأتي ذكرُ مقتل ابن الزبير، وما فعله الحجاج في البيت الحرام في ترجمة عبد الملك بن مروان - إن شاء الله تعالى -.
وخلاصة الأمر: أن سيدنا إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام بنى الكعبة، - وهي بيت الله الحرام - كما تقدم ذكره، وذكرُ ولدِه سيدنا إسماعيل عليه السلام بعدَ مضيِّ مئة سنة من عمر إبراهيم، واستمر بناؤه نحو ألفي سنة، وسبع مئة سنة، وخمسة وسبعين سنة، إلى أن هدمته قريش في سنة خمس وثلاثين من مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبنوه - كما تقدم في السيرة الشريفة -، وهو البناء الثاني، واستمر نحو اثنتين وثمانين سنة، ثم هدمه الحُصَين، وأحرقه في أيام يزيد بن معاوية - كما تقدم في ترجمة يزيد -، وذلك في سنة أربع وستين من الهجرة، ثم بناه عبد الله بن الزبير على قواعد إبراهيم، وهذا البناء الثالث، واستمر نحو تسع سنين، ثم هدمه الحجاج، وقتلَ ابنَ الزبير في سنة ثلاث وسبعين من الهجرة، ثم بناه الحجاج على ما كان عليه في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو البناء الرابح، واستمر على ما هو عليه إلى هذا التاريخ، وهو أواخر سنة ست وتسعين وثمان مئة.