الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
اللهمَّ عَمِّرني طويلًا في طاعتك، ممتَّعًا بالعافية، فما استتمّ كلامه حتى سمع غلامًا يقول لغلام آخر: الأجلُ بيني وبينك شهران، وخمسة أيام، فتطَيَّر، وقال: حسبي اللهُ، لا قوةَ إلا بالله، عليه توكلتُ، وبه أستعين، فما هي إلا أيام حتى أخذته الحمَّى، واتصل مرضه، فمات - رحمه الله تعالى - بعد شهرين وخمسة أيام، وكانت وفاته بالأنبار، في يوم الأحد، في ذي الحجة، سنة ست وثلاثين ومئة، وله اثنتان وثلاثون سنة، وقيل: ثلاث وثلاثون سنة، وكانت خلافته أربع سنين، وتسعة أشهر من حين بويع، ومن لدن قتل مروان أربع سنين، ولما مات، صلى عليه عمُّه عيسى بن علي.
وخلّف تسع جباب، وأربعة أقمصة، وخمس سراويلات، وأربعة طيالسة، وثلاثة مطارف خز.
وقد كان له ولد يدعى: محمدًا، مات صغيرًا، وابنة اسمها: ريطَة، تزوجها المهديُّ.
وزيراه: أبو سلمةَ حفصُ بن سليمان الخلَاّل، وخالدُ بن بَرْمَك.
وكان قاضيه يحيى بن سعيد الأنصاري، وحاجبه أبو غسان.
* * *
*
خلافة أبي جعفر عبد الله بن محمد بن علي المنصور *
هو أبو جعفر، عبدُ الله بنُ محمدِ بن علي بنِ عبدِ الله بنِ عباس، وأمُّه سلامة بنت بشير.
مولدُه سنة ثلاث وتسعين من الهجرة، في خلافة الوليد بن عبد الملك.
وكان أسمر، نحيف البدن، خفيف العارضين، يخضِب بالسواد، وقيل: إنه كان يغيّر شيبه بألف مثقال من المسك في كلِّ شهر.
بويع له يوم مات أخوه، وكان يومئذ بمكة، وقام عمُّه عيسى بن علي ببيعته، وأتته الخلافة وهو بطريق مكة.
وكان حازمَ الرأي، قد عركته الأيام والتجارب، وكان كثير اليقظة والتبصر في الأمور، قد جال في الأرض، وكتب الحديث، وتصرَّف في الأعمال، وكان من أحسن الناس خُلُقًا ما لم يخرجْ إلى الناس، فإذا خرج، اربدَّ لونه، واحمرَّت عيناه، ولم يُر في داره لهو، ولا شيء يشبه اللهو.
وكان المنصور يجلس صدرَ نهاره في إيوانه للأمر والنهي، والولايات والعزل، والخراج، وغير ذلك، ثم يتغدى، ويصلي الظهر، وَيقيل، فإذا صلى العصر، جلس لأهل بيته، ومن أحبَّ أن يسامره، فإذا صلى العشاء، نظر فيما ورد عليه من كتب الثغور والآفاق، وشاور سُمّاره في بعض ذلك، فإذا مضى ثلث الليل، قام إلى فراشه، وانصرف سمّارُه، فإذا مضى ثلثا الليل، قام من فراشه، وأسبغ الوضوء، وانتصب في محرابه حتى يطلع الفجر، فيخرج، فيصلي بالناس، ثم يدخل، فيجلس في إيوانه.
وحج غيرَ مرة، وزار بيت المقدس، ووسّع المسجدَ الحرام ناحيةَ باب الندوة، سنة سبع وثلاثين ومئة، وبنى مسجد الخيف.
وفي أيامه فُتحت مدائنُ كثيرة، وبني له مجلسٌ على طاق باب خراسان من مدينته التي سماها: المنصورية، وهي مشرفة على الدجلة، وهي مدينة بغداد، وقيل: إن مقدار ما أنفق المنصور في بناء بغداد وسورها وخندقها وأسواقها ودورها أربعةُ آلاف ألف، وثمان مئة، وثلاثة وثلاثون ألف دينار.
وكان الأستاذ من الصناع يعمل يومَه بقيراط فضة، وكان يعمل في بنائها في كل يوم خمسون ألف رجل.
وكان المنصور قد استشار أصحابه، منهم: خالد بن برمك في نقض المدائن، وإيوان كسرى، ونقل نقض ذلك إلى بغداد، فقال خالد: لا أرى ذلك؛ لأنه علَم من أعلام الإسلام، وفيه مصلَّى علي بن أبي طالب - كرم الله وجهه -، فقال له المنصور: أبيتَ يا خالدُ إلا الميلَ لأصحابك العجم، وأمر بنقض القصر الأبيض، فنقضت ناحية، وحُمل نقضه، فنظروا، فإذا الذي لزمهم في ذلك أكثرُ من ثمن ما نقضوه، فدعا خالدَ بنَ برمك، فأعلمه بذلك، فقال: إني كنتُ قلتُ لمولانا أمير المؤمنين أن يتركه، والآن ما ينبغي الترك؛ لئلا يقال: عجز عنه، فأعرض عنه.
ونَقَل أبوابَ واسط، فجعلها على بغداد، وباب جيء به من الشام، وباب آخر جيء به من الكوفة، كان عَمِلَه خالدُ بنُ عبد الله القَسْري.
وجعل المدينةَ مدوَّرةَ الشكل؛ لئلا يكون بعض الناس أقربَ إلى السلطان من بعض، وعمل لها سورين، الداخلُ أعلى من الخارج، وبنى
قصره في وسطها، والمسجد الجامع بجانب القصر، وكان اللَّبِن الذي يُبنى به ذراعًا في ذراع.
ولما فرغ من بنائها، وتم، حاسب المنصورُ القواد، فألزمَ كلَّ واحد بما بقي عنده، وأخذه، حتى خالدُ بنُ الصلت بقي عليه خمسةَ عشرَ درهمًا، فأخذها منه.
ونُقل عن المنصور أمورٌ تدل على الشحِّ، ونقل عنه ضدُّ ذلك من السخاء والإعطاء.
وكان الابتداء في عمارة بغداد سنة خمس وأربعين ومئة.
وأراد المنصور أبا حنيفة على القضاء لما امتنع منه، وقال: لا أصلُح، فقال: أنت أبو حنيفة الفقيه، فكيف لا تصلح؟ ! فقال: إما أن أكون صادقًا، فيجب أن تقبل قولي، وإما أن أكون كاذبًا، فقاضٍ لا يكون كذابًا، فضربه، وحبسه، ومات في حبسه، وصلى عليه المنصور، سنة خمسين ومئة.
وكان مولده سنة سبعين، وقيل: سنة ثمانين، وهو الصحيح.
وفي أيامه ولد الإمام الشافعي رضي الله عنه بعد موت أبي حنيفة رضي الله عنه، ولِد بغزة، وأقام بها سنتين، وسار إلى مكة، فنشأ بها.
وفي أيامه تناثرت الكواكب في سنة سبع وأربعين ومئة.
وتوفي جعفر الصادق رضي الله عنه، وتوفي معن بن زائدة، والأوزاعي، وأبو عمرو بن العلاء.