الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وكان قدومُهم في ذي الحجة، فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بقيةَ ذي الحجة، والمحرم، وصفر.
* * *
ذكر الهجرة الشريفة النبوية - على صاحبها أفضلُ الصلاة والسلام
-
وهي ابتداء التاريخ الإسلامي.
أما لفظة التاريخ، فإنها محدَثَة في لغة العرب؛ لأنه لفظ مُعَرَّب من (ماه روز)؛ لأن عمر رضي الله عنه قصد التوصُّل إلى الضبط من رسوم الفُرْس، فاستحضر الهرمزانَ، وسأله عن ذلك، فقال: إن لنا به حسابًا، نسميه:(ماه روز)، ومعناه: حساب الشهور والأيام، فعرَّبوا الكلمة فقالوا: مؤرخ، ثم جعلوا اسمه:(التاريخ)، واستعملوه، ثم طلبوا وقتا يجعلونه أولًا لتاريخ دولة الإسلام، واتفقوا على أن يكون المبدأ سنة هذه الهجرة.
وكانت الهجرة من مكة إلى المدينة - شرفها الله تعالى - وقد تَصَرَّمَ من شهور هذه السنة وأيامها المحرمُ، وصفرُ، وثمانيةُ أيام من ربيع الأول، فلما عزموا على تأسيس الهجرة، رجعوا القهقرى ثمانيةً وستين يومًا، وجعلوا مبدأ التاريخ أولَ المحرم من هذه السنة.
ثم أحصوا من أول يوم المحرم، إلى آخر يوم من عُمْرِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فكان عشر سنين، وشهرين، وأيامًا، إذا حسب عمره من الهجرة، فيكون قد عاش بعدها تسع سنين، وأحدَ عشرَ شهرًا، واثنين وعشرين يومًا.
وأما ما كان من حديث الهجرة، فإن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم هاجر إلى المدينة في شهر ربيع الأول.
ثم أمر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أصحابه بالمهاجرة إلى المدينة.
فكان أولَ من قدمها: أبو سَلَمَة بنُ عبدِ الأسد، ثم هاجر من بعده عامرُ بن ربيعة، معه امرأتُه ليلى بنتُ أبي خيثمة، ثم عبدُ الله بن جحش وأخوه، وجميعُ أهله، وتتابع الصحابة، ثم هاجر عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فلما تتابع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أقام هو بمكة، ينتظر ما يؤمر به، وتخلف معه أبو بكر الصديق، وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه.
فلما رأت قريش ذلك، حذروا خروجَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاجتمعوا في دار الندوة - وهي دار قُصَيِّ بنِ كِلابٍ - وأجمعوا على مكيدةٍ يفعلونها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنجاه الله من مكرهم، وأنزل الله تعالى في ذلك:{وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الأنفال: 30] الآية. وأمره بالهجرة.
وكان اتفاق الكفار أن يأخذوا من كل قبيلة رجلًا؛ ليضربوه بسيوفهم ضربة واحدة، ليضيع دمُه في القبائل، وبلغ ذلك النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فأمر عليًّا أن ينام على فراشه، وأن يَتَّشِح ببردِه الأخضر، وأن يتخلَّف عنه؛ ليؤدِّي ما كان عندَ رسول الله صلى الله عليه وسلم من الودائع إلى أربابها.
وكان الكفار قد اجتمعوا على باب النبيِّ صلى الله عليه وسلم يرصدونه؛ ليثبوا عليه، وأخذ النبيُّ صلى الله عليه وسلم حفنةً من تراب، وتلا أولَ {يس} {يس: 1]، وجعل ذلك الترابَ على رؤوس الكفار، فلم يروه، فأتاهم آتٍ، وقال: إن محمدًا
خرج، ووضعَ على رؤوسكم الترابَ، وجعلوا ينظرون، فيرون عليًّا عليه بُرْدَةُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فيقولون:[إن] محمدًا نائم، فلم يبرحوا كذلك حتى أصبحوا، فقام عليٌّ، فعرفوه.
وأقام عليٌّ بمكة حتى أَدَّى ودائعَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم.
وقصد النبيُّ صلى الله عليه وسلم لما خرج من داره دار أبي بكر رضي الله عنه، وأعلمه أن الله تعالى قد أذن في الهجرة، فقال أبو بكر: الصحبةَ يا رسول الله، قال:"الصحبة"، فبكى أبو بكر رضي الله عنه فرحًا، واستأجرَ عبدَ الله بنَ أُريقط - وكان مشركًا - ليدلَّهما على الطريق، ومضى النبيّ صلى الله عليه وسلم وأبو بكر إلى غارٍ بثورٍ - وهو جبل أسفل مكة -، فأقاما فيه، ثم خرجا من الغار بعد ثلاثة أيام، وتوجها إلى المدينة، ومعهما عامرُ بنُ فُهيرةَ مولى أبي بكر الصديق، وعبدُ الله بنُ أُريقط الدليلُ، وهو كافر.
وجدّتْ قريشٌ في طلبه، فتبعه سُراقَةُ بن مالكٍ المُدْلِجِيُّ، فلحق النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فقال أبو بكر: يا رسول الله! أدركنا الطلب، فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم:"لا تحزنْ إنَّ اللهَ معنا"، ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على سُراقة، فارتطمت فَرَسُه إلى بطنها في أرض صلبة، فقال سراقة: ادعُ اللهَ يا محمدُ؛ لتخلصني، ولكَ أن أردَّ الطلبَ عنك، فدعا له النبيّ صلى الله عليه وسلم، فخلص، ثم تبعه، فدعا عليه النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فارتطمت ثانية، وسأل الخلاصَ، وأن يردَّ الطلبَ عن النبي صلى الله عليه وسلم، فأجابه النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ودعا له، وقال:"كيفَ بكَ يا سُراقَةُ إذا سُوِّرْتَ بِسِوارِ كِسْرى برويز؟ "، فرجع سراقة، وردَّ كلَّ من لقيه عن الطلب،
بأن يقول: كفيتم ما هاهنا (1).
وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم لاثنتي عشرةَ ليلةً خلت من ربيع الأول، من سنة إحدى، وذلك يوم الاثنين، الظهر، فنزل قباء على كُلْثوم بنِ الهَدْمِ، وأقام بقباء: الاثنين، والثلاثاء، والأربعاء، والخميس، والجمعة، وأسّس مسجدَ قُباء، وهو الذي نزل فيه:{لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ} [التوبة: 108].
ثم خرج من قباء يومَ الجمعة، وأدركَتْ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم الجمعةُ في بني سالمِ بنِ عوفٍ، فصلاها في المسجد الذي ببطن الوادي، وكانت أولَ جمعةٍ صلَّاها بالمدينة.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: ولد النبي صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين، وهاجر يوم الاثنين، وقُبض يوم الاثنين (2).
واختلف العلماء في مقامه بمكة، بعد أن أوحي إليه، فقال أنس (3)، وابن عباس (4) - في رواية -: إنه أقام بمكة عشر سنين، وقيل: أقام ثلاثَ عشرةَ سنة.
ولعل الذي قال: عشر سنين، أراد: بعد إظهار الدعوة؛ فإنه بقي
(1) رواه البخاري (3452)، ومسلم (2009)، عن البراء بن عازب رضي الله عنه.
(2)
رواه الإمام أحمد في "المسند"(1/ 277).
(3)
رواه ابن سعد في "الطبقات الكبرى"(1/ 244).
(4)
رواه أبو داود الطيالسي في "مسنده"(1/ 207).
ثلاثَ سنين يُسِرُّها، ومما يؤيد هذا قولُ أبي قيس بنِ الأسلت:
ثَوَى في قُرَيْشٍ بِضْعَ عَشْرَةَ حِجَّةً
…
يُذَكِّرُ لَوْ يَلْقَى صَدِيقًا مُوَاتِيا
فهذا يدل على أن مقامه ثلاثَ عشرةَ سنة (1).
ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم رحل من قباء، يريد المدينة، فما مر على دار من دور الأنصار، إلا قالوا: هَلُمَّ يا رسولَ الله إلى العدد والعدة، ويعترضون ناقته، فيقول:"خَلُّوا سَبيلَها، فإنّهَا مَأْمورَةٌ" حتى انتهت إلى موضع مسجدِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فبركت هناك، ووضعت جِرانَها، فنزل عنها النبيُّ صلى الله عليه وسلم، واحتمل أبو أيوبَ الأنصاريُّ الناقةَ إلى بيته (2).
وكان موضعُ المسجد مِرْبَدًا لسهلٍ وسُهيلٍ ابني عمرٍو، يتيمين في حِجْر معاذِ بنِ عفراءَ، وقيل: بل كان لبني النجَّار، وكان فيه نخلٌ، وخِرَبٌ، وقبور المشركين.
وأقام النبي صلى الله عليه وسلم عند أبي أيوب، حتى بنى مسجدَه ومساكنَه، وكان قبلَه يصلِّي حيث أدركته الصلاة، ويناه هو والمهاجرون والأنصار رضي الله عنهم أجمعين -.
* * *
(1) انظر: "الكامل" لابن الأثير (2/ 8).
(2)
رواه ابن سعد في "الطبقات الكبرى"(1/ 237)، عن شرحبيل بن سعد.