الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كان حِمْلاً، ولعبد الله يوم توفي خمس وعشرون سنة.
وجميع ما خلَّفه عبدُ الله: خمسة جمال، وجارية حبشية اسمها بركة، وكنيتها أم أيمن، وهي حاضنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين (1)، لعشر ليال خلون من ربيع الأول، وقيل: لاثنتي عشرة، وكان قدوم أصحاب الفيل قبل ذلك في النصف من المحرم، فبين الفيل وبين مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس وخمسون ليلة (2)، وهي السنة الثانية (3) والأربعون من ملك كسرى أنوشروان، وهي سنة إحدى وثمانين وثماني مئة لغلبة الإسكندر على دارا، وهي سنة ألف وثلاث مئة وست عشرة لبختنصر، وهي سنة ستة آلاف ومئة وثلاث وستين من هبوط آدم على حكم التوراة اليونانية المعتمدة - على ما تقدم شرحه -.
ولد صلى الله عليه وسلم مختوناً مسروراً، ففرح به عبد المطلب، وحظي عنده، وقال: لَيكونَنَّ لابني هذا شأن، فكان له شأن وأيُّ شأن صلى الله عليه وسلم.
* * *
ذكر رضاع النبي صلى الله عليه وسلم
-
أولُ من أرضع رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ثويبةُ بلبن ابنٍ لها يقال له: مسروح
(1) انظر: "صحيح مسلم"(1162).
(2)
انظر: "المسند" للإمام أحمد (4/ 215).
(3)
انظر: "المختصر"(1/ 110)، وفيه:"السنة الثامنة".
أياماً، قبل أن تقدم حليمة، وكانت قد أرضعت قبلَه حمزةَ بنَ عبد المطلب، وأرضعت بعدَه أبا سلمةَ بنَ عبد الأسد المخزومي، فحمزةُ عمُّ النبي صلى الله عليه وسلم، وأبو سلمةَ أَخَوا رسولِ الله صلى الله عليه وسلم من الرضاع.
ثم قدمت حليمة إلى مكة، وكانت المراضع يقدمْنَ من البادية إلى مكة يطلبن أن يُرضعن الأطفال، فقدمت عِدَّةٌ منهن، ولم تجد حليمةُ طفلاً تأخذه غيرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يتيماً، فلذلك لم يرغبن في أخذه، فأخذته حليمةُ بنتُ أبي ذؤيبِ بنِ الحارث السعديةُ، وتسلَّمته من أمه آمنة، ومضت به إلى بلادها، وهي باديةُ بني سعد، فوجدت من الخير والبركة ما لم تعهده من قبل ذلك، ولما خرجت به حليمة إلى بلادها، قالت آمنة بنت وهب بن عبد مناف:
أُعِيذُهُ بِاللهِ ذِي الجَلالِ
…
مِنْ شَرِّ مَا مَرَّ عَلَى الجِبَالِ
حَتَّى أَرَاهُ حَامِلَ الكلالِ
…
وَيفْعَلُ العُرْفَ إلى الموَالي
وَغَيْرِهِمْ مِنْ حِشْوَةِ الرِّجَالِ (1)
يقال: من حشوة بني فلان - بكسر الحاء -؛ أي: من رذالتهم.
وبعد سنتين من مولده صلى الله عليه وسلم: ولد أبو بكر الصديق صلى الله عليه وسلم.
ثم قدمت به حليمةُ إلى مكة، وهي أحرصُ الناس على مكثه عندها، فقالت لأمه آمنة: لو تركتِ ابني عندي حتى يغلُظَ؛ فإني أخشى عليه وباءَ
(1) انظر: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (1/ 111).
مكة، ولم تزل بها حتى تركته معها، فأخذته، وعادت به إلى بلاد بني سعد، وبقي هناك.
ولما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع سنين: كان يغدو مع أخيه وأخته في البُهْم قريبًا من الحي، فأتاه الملكان هناك، فشقا بطنه، واستخرجا عَلَقَة سوداء، فطرحاها، وغسلا بطنه بماء الثلج في طَسْت من ذهب.
قال الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه في "مسنده" بسند متصل إلى عتبة بن عبد السلمي: إن رجلًا سأل رسول الله: كيف كان أولُ شأنك يا رسول الله؟ قال: "كانت حاضنتي من بني سعدِ بنِ بكر، فانطلقتُ أنا وابنٌ لها في بُهْم لنا، ولم نأخذْ معنا زادًا، فقلتُ: يا أخي! اذهبْ فأْتِنا بزادٍ من عندِ أُمِّنا، فانطلق أخي، ومكثتُ عندَ البُهْم، فأقبل طائرانِ أبيضانِ كأنهما نَسْران، فقال أحدُهما لصاحبه: أهو هو؟ قال: نعم، فأقبلا يَبْتَدِراني، فأخذاني فأضجعاني، وشَقَّا بطني، ثم استخرجا قلبي، وأخرجا منه عَلَقَتين سَوْدَاوينِ، فقالَ أحدُهما لصاحبه: ائتني بماءٍ وثلجٍ، فغسلا به جَوْفي، ثم قال: ائتني بماءِ بَرَدٍ، فغسلا به قلبي، ثم قال: ائتني بالسَّكِينة، فذراها في قلبي، وختما بين كتفيَّ بخاتمِ النبوة، وقال أحدُهما لصاحبه: اجعلْه في كِفَّة، واجعل الفًا من أمته في كِفَّة، فإذا أنا أنظرُ إلى الألفِ فوقي أُشْفِقُ أن يَخِرَّ عَلَيَّ بعضُهم. ثم قال: لو أن أمته وُزِنتَ به، لمال بهم، ثم انطلقا وتركاني، وقد فرقْتُ فَرَقا شديدًا، ثم انطلقتُ إلى أمي، فأخبرتها بالذي لقيتُه، فأشفقتْ عليَّ، فقالت: أعيذُك بالله، وحملتني على الرحل، وركبَتْ خلفي حتى بلغَتْ إلى أمي، فقالت: أَدَّيْتُ أمانتي وذِمَّتي،
وحَدَّثتها بالذي لقيتُ، فلم يَرُعْها ذلك، وقالت: إني رأيتُ حينَ خرجَ مني نورًا أضاءتْ منه قصورُ الشام" (1).
ثم رجعت به حليمة - أيضًا -، فكان عندها سنة أو نحوَها، لا تَدَعُه يذهب مكانا بعيدًا، ثم رأت غمامة تُظِلُّه، إذا وقف، وقفت، وإذا سار، سارت، فأفزعها ذلك من أمره، فذهبت به إلى أمه لتردَّه وهو ابن خمس سنين، قالت: فبينما أنا ذاهبة به، وهو معي بمكة، إذ سمعت هَدَّة عظيمة، فالتفتُّ فلم أجد محمدًا، فصرت كالوالهة، وأنا أنادي في الناس: من رأى لي ولدًا كالبدر في تمامه، والغصن في قَوامه؛ فلقيني عبد المطلب جدُّه، فقال: مالك يا حليمة؟ فقلت: يا عبد المطلب! إن محمدًا قد ذهب مني، فصعد على الصفا، ونادى: يا صباحاه! فاجتمعَتْ إليه رؤساء قريش، ففرقهم في أركان مكة وما حولها يطلبون محمدًا، فلم يجدوه، فرجع عبد المطلب إلى بيته، فلبس أثوابه، وأتى إلى الكعبة، فطاف وهو يقول:
رُدَّ إِلَيَّ وَلَدِي مُحَمَّدَا
…
ارْدُدْهُ رَبِّي وَاصْطَنِعْ عِنْدِي يَدَا
فلم يلبث أن جاء محمد، فلما رآه عبد المطلب، ضمه إلى صدره، وقال: يا بني! حزنت عليك حزنا لا يفارقني أبدًا (2).
ثم قدمت حليمةُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد تزوج خديجةَ بنتَ خويلد،
(1) رواه الإمام أحمد في "المسند"(4/ 184).
(2)
انظر: "السيرة الحلبية"(1/ 154).
فشكَتْ جدبَ البلاد، وهلاكَ الماشية، فكلَّم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم خديجةَ فيها، فأعطتها أربعين شاة وبعيرًا، وانصرفت إلى أهلها.
ثم قدمت حليمةُ وزوجُها الحارثُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدَ النبوة، فأسلمتْ هي وزوجُها الحارث (1).
وقال بعض المؤرخين: إنه لا يُعرف لها صحبة ولا إسلام، وقد وَهَلَ فيها غير واحد، فذكروها في الصحابة.
وَهَلَ في الشيء؛ أي: غلط فيه.
وإخوة رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرضاع: عبد الله، وأنيسة، وجذامة - وهي الشيماء، غلب ذلك على اسمها -، وأمُّهم حليمةُ السعدية، وأبوهم الحارثُ ابنُ عبد العُزَّى السعدي، وهو أبو رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرضاع.
وفي سنة خمس من مولده قدم كاهن إلى مكة، فنظر إليه الكاهن مع جده عبد المطلب، فقال: يا معشر قريش! اقتلوا هذا الصبي؛ فإنه يفرقكم، ويقتلكم، فهرب به عبد المطلب، فلم تزل قريش تخشى ما كان الكاهن حذَّرهم (2).
فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ست سنين: خرجت به أمه إلى أخواله بني عَدِيِّ بنِ النجَّار بالمدينة تزورهم به، ومعه أُم أيمن تحضنه، وهم على بعيرين، فنزلت به في دار النابغة، فأقامت به عندهم شهرًا، ثم رجعت به
(1) انظر: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (1/ 114).
(2)
انظر: "المنتظم" لابن الجوزي (2/ 271).
أمه إلى مكة، فلما كان بالأبواء، توفيت أمه آمنة، فَقَبْرُها هناك، فرجعت به أم أيمن إلى مكة، فضم عبدُ المطلب رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، ورَقَّ عليه رقةً لم يرقَّها على ولده، فلما حضرت عبدَ المطلب الوفاةُ، أوصى أبا طالب بحفظِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وحياطتهِ.
ولسبعة مضت من عمره: خرج به عبد المطلب يستسقي، وقد كانت تتابعتْ على قريش سنون أقحلَتِ الضرعَ، وأدقَّت العظمَ، فصعِدَ عبدُ المطلب أعلى ذروة الجبل، ومعه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فدعا الله، فتفجرت السماء بمائها، واكتظَّ الوادي بثجيجه، فهُنئَ عبدُ المطلب من أكابر قريش (1).
وأنشدَ بعضُهم يمدح رسولَ الله صلى الله عليه وسلم:
وَأَبْيَضَ يُسْتَسْقَى الغَمَامُ بِوَجْهِهِ
…
ثِمَالُ الأَيَامَى عِصْمَةٌ لِلأَرَامِل
وفي هذه السنة خرج عبدُ المطلب لتهنئة سيفِ بنِ ذي يزن بالظفر لمَّا ملكَ أرضَ اليمن، وقتلَ الحبشَ وأبادهم، وبشَّر سيفًا عبدَ المطلب بأنه سيظهر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم من نسله.
وفي سنة ثمانية من مولده: كان موتُ عبد المطلب، وهو ابن اثنتين وثمانين سنة، وقيل: مئة وعشر سنين، وقيل: مئة وعشرين سنة.
(1) انظر: "المنتظم"(2/ 273).
وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتذكر موتَ عبد المطلب؟ قال: "نعم، كنتُ ابنَ ثمانِ سنينَ"(1).
وضمه أبو طالب، وكان فقيرًا لا مالَ له، وكان إذا أكل عيالُه جميعًا، أو فرادى، لم يشبعوا، فإذا أكل معهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فَضَلَ من طعامهم، فيقول أبو طالب: إنه لمبارك، وأَحبَّه حبًا شديدًا.
وفي هذه السنة: كان هلاك حاتم الطائي، وهو حاتم بن عبد الله بن سعد بن الحشرج بن امرئ القيس، وأمه عتبة بنتُ عفيف بن طيء، ويكنى: أبا سفانة، وكان حاتم الطائي شاعرًا جوادًا.
* * *
ولمّا صار لرسول الله صلى الله عليه وسلم اثنتا عشرة سنة وشهران: ارتحل أبو طالب إلى الشام، فحمل معه النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فلما نزل الركبُ بِبُصْرى من أرض الشام، وبها راهبٌ يقال له: بَحيرا في صومعة له، وكان ذا علم في النصرانية، وكان كثيرًا ما يمرون عليه، ولا يكلمهم، حتى إذا كان ذلك العام، ونزلوا منزلًا قريبا من صومعته، كانوا ينزلونه قبل ذلك كلما مروا، فصنع لهم طعاما، ثم دعاهم، وكان قد رآهم حين طلعوا، وغمامةٌ تُظِلُّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم من بين القوم، حتى نزلوا تحت الشجرة، ثم نظر إلى تلك الغمامة قد أظلَّت تلك الشجرة، واخضرَّتْ أغصانُ الشجرة حين استظل
(1) رواه ابن سعد في "الطبقات الكبرى"(1/ 119).
تحتَها، فنزلَ بحيرا من صومعته، وأمر بذلك الطعام، فأُتي به، وأرسل إليهم، وقال: إني صنعت لكم طعامًا يا معشر قريش، وأنا أحبُّ أن تحضروا كلكم، ولا يتخلف منكم صغير ولا كبير، ولا حر ولا عبد؛ فإن هذا شيء تكرموني به، فقال رجل: إن لك لشأنًا يا بحيرا.
ثم اجتمعوا إليه، وتخلَّفَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، لحداثة سنه، فلما نظر بحيرا إلى القوم، لم ير الصفة التي يجدها عنده، ورأى الغمامة متخلفةً على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال بحيرا: يا معشر قريش! ألم أقل لكم: لا يتخلف أحد عن طعامي؟ قالوا: ما تخلف إلا غلام حَدَث، قال: ادعوه فليحضُرْ طعامي، مع أني أراه من أنفَسكم، قالوا: هو - والله - من أوسطنا نسبًا، وهو ابنُ أخي هذا الرجل - يعنون: أبا طالب -، فقام إليه الحارث بن عبد المطلب، فاحتضنه، وأقبل به حتى أجلسه على الطعام، والغمامةُ تسير على رأسه، فجعل بَحيرا يلحظه لحظا شديدًا، وينظر إلى أشياء من جسده قد كان يجدُها عنده من صفته.
فلما تفرقوا عن الطعام، قام إليه الراهب، وقال: يا غلام! أسألك باللات والعزى إلا أخبرتني عما أسألك عنه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا تَسْأَلْني بالَّلاتِ والعُزَّى، فَوَاللهِ! ما أبغضْتُ شَيْئًا بُغْضَهَا".
قال: فبالله! إلا أخبرتني عما أسألك عنه، قال:"سَلْني عَمَّا بَدَا لَكَ"، فجعل يسأله عن أشياء من حاله، ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم يخبره، فيوافقُ ذلك ما عنده، ثم جعل ينظر بين عينيه، ثم كشف عن ظهره، فرأى خاتم النبوة بين كتفيه، فقبَّلَ موضعَ الخاتم.
وقال لأبي طالب: ما هذا الغلام منك؟ قال: ابني، قال: ما هو بابنك، وما ينبغي أن يكون أبوه حيًّا، قال: ابنُ أخي، قال: ما فعل أبوه؟ قال: هلك وأُمُّه حُبلى، قال: فما فعلَتْ أُمُّه؟ قال: توفيت قريبًا، قال: صدقْتَ، ارجعْ بابن أخيك إلى بلده، واحذرْ عليه اليهود، فوالله! لئن رأوه، وعرفوا منه ما عرفتُ، ليَبْغِينَّهُ بغيًا؛ فإن لابن أخيك شأنًا عظيمًا، واعلمْ أني قد أديت إليك النصيحةَ.
فرجع به أبو طالب بعد ما فرغوا من تجارتهم، وما خرج به سفرًا بعد ذلك خوفًا عليه (1).
وشبَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ، وكان أعظمَ الناس مروءة وحلمًا، وأحسنَهم جوابًا، وأصدقَهم حديثًا، وأعظمَهم أمانة، وأبعدَهم عن الفحش، حتى صار اسمُه في قومه: الأمين؛ لما جمع الله فيه من الأمور الصالحة.
وحضر مع عمومته حربَ الفُجَّار وعمُره أربعَ عشرةَ سنة: وهي حرب كانت بين قريش وكنانة، وبين هوازن، وسميت بالفجار؛ لما انتهكت فيها هوازنُ حرمةَ الحرم، وكانت الكَرَّة في هذه الحرب أولًا على قريش وكنانة، ثم كانت على هوازن، وانتصرت قريش.
* * *
(1) رواه ابن سعد في "الطبقات الكبرى"(1/ 153).
وفي سنة خمس عشرة من مولده: كان قيام قُسِّ بنِ ساعدة الإياديِّ بسوق عكاظ: وهو سوق كانوا يبيعون فيه ويشترون، وكان قُسٌّ خطيبًا بليغًا حكيمًا.
روى ابن عباس رضي الله عنهما: لما وَفَدَ وَفْدُ إيادٍ على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال لهم:"ما فعلَ قُسُّ بنُ ساعِدَةَ؟ "، قالوا: مات، قال:"كَأَنِّي أنظُرُ إليهِ بسوقِ عُكاظٍ على جملٍ أَوْرَقَ يتكلَّمُ بكلام له حلاوةٌ، ما أجِدُني أحفَظُه"، فقال رجل من القوم: أنا أحفظه يا رسول الله، سمعته يقول: أيها الناس! احفظوا وعوا، من عاش مات، ومن مات فات، وكل ما هو آتٍ آت، ليلٌ داج، وسماءٌ ذات أبراج، وبحارٌ تزخر، ونجوم تزهر، وضوءٌ وظلام، وبرٌّ وآثام، ومطعمٌ ومشربٌ، وملبسٌ ومركبٌ، مالي أرى الناس يذهبون فلا يرجعون؟ أَرَضُوا بالمقامِ فأقاموا، أم تُركوا فناموا؟ وإلهِ قُسٍّ! ما على وجه الأرض دينٌ أفضل من دينٍ قد أَظَلَّكم زمانُه، وأدرككم أوانُه، فطوبى لمن أدركه فاتَّبعه، وويل لمن خالفه، ثم أنشأ يقول:
في الذَّاهِبِينَ الأَوَّلِيـ
…
ـنَ مِنَ الْقُرُونِ لَنَا بَصَائِرْ
لَمَّا رَأَيْتُ مَوَارِدًا
…
لِلْمَوْتِ لَيْسَ لَهَا مَصَادِرْ
وَرَأَيْتُ قَوْمِي نَحْوَهَا
…
تَمْضِي الأَصاغِرُ وَالأكَابِرْ
لا يَرْجِعُ الماضِي إِلَيَّ
…
وَلا مِنَ الباقِينَ غَابِرْ
أَيْقَنْتُ أَنِّي لَا مَحَا
…
لَة حَيْثُ صَارَ القَوْمُ صَائِرْ
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يرحمُ اللهُ قُسًّا، إِنِّي لأَرْجُو أَنْ يبعَثَهُ اللهُ أُمَّةً وَحْدَهُ"(1).
* * *
وفي سنة عشرين من مولده صلى الله عليه وسلم: كان حِلْفُ الفُضول، وحضره رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وسببه: أن قيسَ بنَ شيبة (2) السلميَّ باع متاعًا من أُبَيِّ بنِ خَلَفٍ الجُمَحِيِّ، فلواه، وذهبَ بحقه، فاستجار برجل من بني جُمَح، فلم يقم بجواره، فقال قيس:
يَالَ قُصَيٍّ كَيْفَ هَذَا فِي الحَرَمْ
…
وَحُرْمَةِ البَيْتِ وَأَخْلاقِ الكَرَمْ
أُظْلَمُ وَلَا يُمْنَعُ مِنِّي مَنْ ظَلَمْ
فقام إليه العباسُ وأبو سفيان حتى ردًّا عليه ظلامته، فاجتمعت قريش في دار عبد الله بن جدعان، وتحالفوا على ردِّ المظالم بمكة، وأن لا يُظلم أحدٌ إلا منعوه.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَقَدْ شَهِدْتُ حِلْفًا في دارِ ابنِ جُدْعَانَ ما أُحِبُّ أَنَّ لي به حُمْرَ النَّعَمِ، ولو دُعِيتُ به لأَجَبْتُ"(3).
* * *
(1) رواه ابن عدي في "الكامل في الضعفاء"(6/ 145)، والطبراني في "المعجم الكبير"(12561)، والخطيب في "تاريخ بغداد"(2/ 281)، وابن الجوزي في "الموضوعات"(1/ 152)، وهو حديث منكر، آفته محمد بن الحجاج اللخمي.
(2)
في الأصل: "شبيبة".
(3)
رواه ابن سعد في "الطبقات الكبرى"(1/ 129)، عن جبير بن مطعم.
وفي سنة خمس وعشرين من مولده صلى الله عليه وسلم: كان خروجه في تجارة خديجة، وتزويجه بها، وذلك أن خديجة كانت ذات شرف ومال، فلما بلغها صدقُ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمانتُه، عرضت عليه الخروج في تجارتها إلى الشام، فأجاب إلى ذلك، وخرج ومعه غلامها مَيْسَرَة، وجعل عمومتُه يوصون به أهلَ العير، وساروا حتى وصلوا بُصْرى من أرض الشام، فنزلا في ظل شجرة، فرآه راهبٌ يقال له: نَسْطورا، فعرفه بالعلائم، وقال لميسرة: هذا - والله - الذي تجده أحبارُنا منعوتًا في كتبهم.
فلما رجعوا، ودخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخبرها بما ربحوا، فسرَّتْ بذلك، ودخل عليها ميسرةُ، وأخبرها بما رأى منه، وبما قال له الراهب نسطورا، فأرسلَتْ دسيسًا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتحدَّث له في تزويجها.
وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعه حمزةُ بنُ عبد المطلب، وأبو طالب، وغيرُهما من عمومته، حتى دخل على خُوَيْلِدِ بنِ أَسَدٍ، فخطبها إليه، فزوَّجها منه، وهو ابنُ خمسٍ وعشرين سنة، وخديجةُ يومئذ ابنةُ أربعين سنة، وأصدَقَها عشرين بكرةً، وهي أولُ امرأة تزوجها، ولم يتزوج غيرها حتى ماتت، ولم يتزوج بِكْرًا غيرَ عائشة.
وولدت له خديجة أولاده كلَّهم إلا إبراهيم؛ فإنه من مارية القِبْطية، وبقيةُ الأولاد من خديجة، وهم: زينب، ورُقَية، وأم كلثوم، وفاطمة الزهراء، والقاسم، وبه كان يُكنّى، وعبد الله، والطاهر، والطيب.
فأما القاسم والطاهر، فماتا قبل الإسلام، وقيل: إن عبد الله وُلِد في
الإسلام، وهو الطيب، وأما بناته، فكلهن أدركْنَ الإسلام، فأسلَمْن، وهاجرن معه، وكان الرسولُ بين خديجة والنبي صلى الله عليه وسلم نفيسةَ بنت مُنْيَة - أخت يعلى بن مُنْية - أسلمت يوم الفتح، فبرّها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأكرمها.
ومنية - بالنون الساكنة، والياء المثنّاة من تحتها -، وهي أمُّها، والله أعلم.
* * *
* وفي سنة خمس وثلاثين من مولده صلى الله عليه وسلم: هدمَتْ قريشٌ الكعبة، وكان سببُ هدمهم إياها: أنها كانت رضمة فوقَ القامة، فأرادوا رفعَها وسَقْفَها، فلما أرادوا هدمَها، قام أبو وهب بن عمرو بن عائذ بن عمران ابن مخزوم، فتناول حجرًا من الكعبة، فوثب من يده حتى رجع إلى موضعه، فقال: يا معشر قريش! لا تُدخلوا في بنائها إلا طيّبًا، ثم إن الناس هابوا هدمَها، فقال الوليد بن المغيرة: أنا أبدؤكم به، فأخذ المعول فهدَم، وتربَّص الناسُ تلك الليلة، وقالوا: ننظر، فإن أُصيب، لم نهدم منها شيئًا، فأصبح الوليد سالما، وغدا إلى عمله، فهدم الناسُ معه حتى انتهى الهدم إلى الأساس، ثم أَفْضَتْ إلى حجارة خُضْرٍ أَخذٍ بعضُها ببعض، فأدخل رجل من قريش عتلتين بين حجرتين منها؛ ليقلع أحدهما، فلما تحرك الحجر، انتفضت مكةُ بأسرها، فتركه، ثم جمعوا الحجارة لبنائها، وبنوا حتى بلغ البنيانُ موضعَ الحَجَر الأسود، فأراد كلُّ قبيلة رفْعَه إلى موضعه، حتى تخالفوا وتواعدوا القتال، فقرَّبَتْ بنو عبد الدار جَفْنَةً