الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والمراد بالكتاب القرآن المتعبد بتلاوته، والسنة ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم من أقواله، وأفعاله، وتقريره.
قال ابن بطال (1): لا عصمة لأحد إلا في كتاب الله، أو سنة رسوله، أو في إجماع العلماء على معنى في أحدهما. انتهى.
وبه تعرف أنَّ المراد وجوب الاعتصام بما ذكر، فإنه لا عصمة لغير الكتاب والسنة، فهو يجب على كل مكلف معرفة ما يجب عليه مما دلاّ عليه.
[وفيه بابان](2):
الباب الأول: (في الاستمساك بهما)
أقول: في "القاموس"(3): مسك به، وأمسك، وتماسك، واستمسك، ومسك احتبس واعتصم به.
والمصنف أخذ الترجمة من لفظ الحديث الآتي:
53/ 1 - عَنْ مَالِكٍ أنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: "تَرَكْتُ فِيكُمْ أَمْرَيْنِ لَنْ تَضِلُّوا مَا تَمسَّكْتُمْ بِهِمَا: كتَابَ الله وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم"(4). [صحيح لغيره].
(1) في شرحه لـ "صحيح البخاري"(10/ 328).
(2)
زيادة من التيسير.
(3)
"القاموس المحيط"(ص 1230).
(4)
أخرجه مالك في "الموطأ"(2/ 899 رقم 3) بسند ضعيف لإعضاله، لكن للحديث شواهد.
منها: حديث ابن عباس، أخرجه ابن نصر في "السنة"(ص 25 رقم 68) والحاكم (1/ 93) والبيهقي في "السنن الكبرى"(10/ 114) وفي "دلائل النبوة"(5/ 449) وابن حزم في الإحكام (6/ 82) بسند حسن.
ومنها: مرسل عروة بن الزبير عند البيهقي في "دلائل النبوة"(5/ 448).
ومنها: مرسل موسى بن عقبة عند البيهقي في "دلائل النبوة"(5/ 448).
والخلاصة: أن حديث ابن عباس حديث صحيح لغيره بمجموع شواهده.
قوله: إنه بلغه.
أقول: رواية البلاغ مرسلة، مجهول صحابيها.
قوله: "لن تضلّوا".
الضلال في "النهاية": الضياع، ومنه:{ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} وعبارة القاموس: الضلال: محركة ضد الهدى.
وقوله: "كتاب الله وسنة رسوله":
منصوبان بدلين من أمرين، ويصح رفعهما على الاستئناف، كأنه قيل: ما بهما ولا ريب أن الاعتصام بهما يؤمن معه من الضلال، وينال به الهدى، وإنما عبّر بعدم الضلال؛ لأنه الأمر المخوف؛ إذ به هلاك الدارين، فخصه ليعلم الأمر منه، ويعلم الطريق المقابلة، واللزوم أنهم يهتدون بهما إلى طريق النجاة.
54/ 2 - وعَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إِنِّي تَارِكٌ فِيكُمْ مَا إِنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِ لَنْ تَضِلُّوا بَعْدِي: أَحَدُهُمَا أَعْظَمُ مِنَ الآخَرِ كِتَابُ الله حَبْلٌ مَمدُودٌ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ، وَعِتْرَتِي أَهْلُ بَيْتِي، وَلَنْ يَتَفَرَّقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَىَّ الْحَوْضَ، فَانْظُرُوا كيْفَ تَخْلُفُونِي فِيهَما". أخرجه الترمذي (1)[صحيح لغيره].
وقوله: الحديث الثاني: "أحدهما أعظم من الآخر وهو كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض".
في "النهاية"(2) أي: نُور مَمْدُود يعني: نُورَ هُدَاه، والعرب تُشبه النُّور الممتدّ بالخيط، والحبل. انتهى.
(1) في "السنن" رقم (3788) وقال: هذا حديث حسن غريب، وهو حديث صحيح لغيره.
(2)
"النهاية في غريب الحديث"(1/ 332).
وقد شمل ما فيه الكتاب تخليفه السنة؛ لأن الكتاب دل على الاهتداء بها: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (1).
وقوله: وعدم الضلال لمن [52/ ج] تمسك بهما واضح، فإنَّ الله أنزل كتابه نوراً وهدىً ورحمة:{إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} (2) فكلُّ أخذ به قد أمن من الضلال، ووصل إلى الهدى، ومن الاهتداء به اتباع السنة، فإنه دلَّ على أنها بيان له، وإيضاح ليبين للناس ما نزل إليهم، وقد أكمل الله الدين بهما قال الله:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (3).
فلم ينقل الله رسوله إلى دار البقاء إلا بعد كمال الدين، وإتمام النعمة ممن اتبع الهدى من غير الكتاب والسنة، فقد ضلَّ عن سواء السبيل، وكأنه يقول: الدين لم يتم، بل توفيته بآرائنا وتقليد علمائنا، كان خالف الكتاب والسنة، وعدم الضلال به لا يكون بمجرد وجود ألفاظه بين الأمة، بل باستخراج الأحكام الشرعية منه، ومعرفة المراد به، والعمل عادل عليه، والانتهاء بنواهيه، والائتمار بأوامره، وجعله إماماً يهتدى بهديه في كل ما دلّ عليه، ويدل له ما يأتي في صفته في حديث الترمذي الآتي في حرف التاء في التفسير (4) من ابتغى الهدى في غيره أضله الله، وهو حديث جليل سيأتي إن شاء الله تعالى، وإذا عرفت أنه لم يتركه صلى الله عليه وسلم بمجرد تلاوة ألفاظه، وإقامة حروفه والإعراض عن استنباط أحكامه، واقتباس أنواره، بل الأهم منه أن يوجد منه الأحكام، ويستخرج منه الشرائع، ويكون قدوة وإماماً.
(1) سورة الحشر: (7).
(2)
سورة الإسراء: (9).
(3)
سورة المائدة: (3).
(4)
سيأتي تخريجه.
وأمَّا قول من قال: إنه يعد للاجتهاد، فيأتي تحقيق ذلك في كتاب التفسير إن شاء الله تعالى.
وقوله: "أهل بيتي" بدل من عترتي، ففي "القاموس" (1) العِتْرة بكسر: نَسْل الرجُل ورهْطُه، وعشيرته الأدْنَوْن مِمَّن مَضَى وغَبَر. انتهى وفيه (2) أن الآل أهل الرجل، وأتباعه وأوليائه. انتهى.
فعلى تقييده العترة لمن مضى وغبر قد قيده لفظ: "أهل بيتي" لما أبدله منه بالموجودين. ثم إنه اختلف العلماء قديماً وحديثاً من أراد بأهل بيته، ويأتي ذكر الخلاف فيه والأقوال في حرف الفاء إن شاء الله عند ذكر فضائل أهل بيته صلى الله عليه وسلم، وأما هنا فقد كفانا الراوي، وهو زيد بن أرقم فإنه فسرهم لما قيل له: من أهل بيته يا زيد! أليس نساؤه من أهل بيته؟ فقال: إن نساءه من أهل بيته، ولكن أهل بيته من حرم الصدقة بعده، قال له السائل: ومن هم؟ قال: هم آل علي، وآل عقيل، وال جعفر، وآل العباس، قال له: أكل هؤلاء حرم عليهم الصدقة؟ قال: نعم. وقد ثبت أحاديث: "إن الصدقة لا تحل لآل محمد وأهل بيته"(3) وآل محمد بمعنى: واحد هنا.
(1)"القاموس المحيط"(ص 560).
(2)
أي: في "القاموس المحيط"(ص 1245).
(3)
وهو حديث صحيح.
أخرجه أحمد (6/ 8 - 9) وأبو داود رقم (1650) والنسائي رقم (2612) والترمذي رقم (657) وقال: هذا حديث صحيح.
وأخرجه ابن خزيمة رقم (2344) وابن حبان رقم (3293) والطيالسي رقم (972) والبغوي في "شرح السنة" رقم (1607) من حديث أبي رافع.
وقوله: "لن يفترقا" كذا في الجامع (1) وفي الترمذي (2): "ولن" بزيادة الواو.
واعلم أن حديث زيد بن أرقم سيأتي للمصنف في حرف الفاء فضل أهل البيت من رواية مسلم في صحيحه (3) وفيه زيادة، وقد اختلف العلماء في المراد من التوصية بهم وبالكتاب.
فأما الكتاب فالاتفاق واقع بأنه توصية بالعمل به والانقياد لأحكامه والاتعاظ بمواعظه وغير ذلك من توقيره وتعظيمه وتلاوته وتعلمه وتعليمه، وأنه حجة يَنجي من الضلالة [والردة](4) أو يهدي إلى السلامة في الأولى والأخرى، وأن المتمسك به لا يضل أبداً.
وأما أهل البيت فحمله طائفة كبيرة على أن المراد بالتوصية [53 أ/ ج] والإخبار بأن المتمسك بهم لن يضل أبداً هو المتمسك بما أجمعوا عليه (5)، وأنه حجة يجب اتباعهم، ولا يجوز العدول عنها، قالوا: بدليل أن أفرادهم غير معصومين، وبدليل أنه لا حجة قائل بأن الواحد منهم حجة، وإن قيل به في علي عليه السلام، وأن كلامه حجة، لكن الحكم في الحديث عام لكل فرد منهم. قالوا: ومعنى أنهم لا يفارقون الكتاب أن إجماعهم حجة أبداً، وأنهما لن يفترقا في
(1)"جامع الأصول"(1/ 278) رقم (66).
(2)
في "السنن" رقم (3788).
(3)
رقم (2408).
(4)
في المخطوط (ج): والرد.
(5)
لا حجة في إجماع أهل البيت لأنهم جزء من الأمة.
وكذلك إجماع أهل المدينة، أو إجماع أهل الحرمين مكة والمدينة أو إجماع المصرين: البصرة، والكوفة، أو إجماع الأئمة الأربعة، وهذا على رأي جمهور الأصوليين.
انظر كتابي: "مدخل إرشاد الأمة إلى فقه الكتاب والسنة"(ص 193 - 194).
صحبة كل واحد منهم إلى آخر دار التكليف وعبر بقوله صلى الله عليه وسلم: "حتى يردا عليَّ الحوض" مبالغة، والمسألة مبسوطة في أصول الفقه سيما في الهداية شرح الغاية.
وقال آخرون: بل التوصية بأهل البيت توصية بتوقيرهم وتعظيمهم ومحبتهم والإحسان إلى محسنهم، والتجاوز عن مسيئهم واغتفار زلاتهم، كل ذلك لأجل قرابتهم من أشرف خلق الله كما يقال:
لعين تعدَّ ألف عين وتفتدى
…
وتكرم ألف للحبيب المكرم
بل قيل ما هو أبلغ من هذا:
أحب لحبها السودان حتى
…
أحب لحبها سود الكلاب
وقيل: رأى المجنون كلباً ذات يوم فمدَّ له من الإحسان ذيلاً فلاموه عليه وعنفوه، وقالوا: لم مددت إليه ذيلاً؟ فقال لهم:
دعوني إن عيني رأته
…
مرة بفناء ليلى
فيا هذا! إذا كانت تحب وتكرم الكلاب لأجل مشابهة لونها لون الأحباب أو لأجل أنها رؤيت في عفا أبوابهم والأعتاب فكيف لا يكرم ابني المختار ويحبون حباً في الجهر والإسرار، ويكرمون لإكرامه، ويعظمون لاستعظامه، وتغفر لهم كل زلة ويتأول لكل زلة منهم عذراً وعلة، وهذا القول أقرب من الأول، وأعم لكل أفرادهم، وأشمل وأتم في توقير المصطفى، وأدخل وأعظم في امتثال أمره، وأبتل.
ويراد في قوله: "ما تمسكتم بهما" أن التمسك بالكتاب هو ما عرفته، والتمسك بالآل هو الاعتصام بحبهم ومعرفة حقهم كما سردناه، وأن رعاية حقهم سبب للهداية واللطف من أسباب الضلالة والغواية، ويدل على أن هذا المعنى المراد قوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث في رواية
زيد بن أرقم عند مسلم (1): "أذكركم الله في أهل بيتي .. أذكركم الله في أهل بيتي" كررها ثلاثاً؛ فإنها توصية تُنادي على طلب رعايتهم لا على أن إجماعهم حجة، وأي ملائمة لذلك للتذكير بالتكرير؟ ويدل له أيضاً حديث:"أحبوا أهل بيتي لمحبتي"(2) لأنه قد أعلمه الله لما ينال آله من الأمة، وما اتفق عليهم ما علمه كل من له في العلم بالسير همة.
وأشار في الهمزية (3) إلى شيء من ذلك حيث قال عند ذكر الحسنين عليهما السلام:
وبريحانتين طيبهما منـ .... ـك الذي حملتهما الزهراء
من شهيدين ليس ينسى الـ
…
طف مصابهما ولا كربلاء
ما رعى فيهما ذمامك مرؤ
…
س وقد خان عهدك الرؤساء
أبدلوا التودد والحفيظة في القر
…
بى وأبدت صنابها النافقاء [53 ب/ ج]
وقست منهم قلوب على من
…
بكت الأرض فقدهم والسماء
فابكهم ما استطعت إن قليلاً
…
في عظيمٍ من المصاب البكاء
كل يوم وكل أرض بكربي
…
منهم كربلا وعاشوراء
غير أني فوضت أمري إلى
…
الله وتفويض الأمور براء
وقد ثبت أن الله أخبر رسوله صلى الله عليه وسلم أن أمته تقتل ولده الحسين، وتذيقه، ومن معه كؤوس الحين، فلذا كرر التوصية بهم والتذكير فهذا وجه الأحاديث الواسعة والكلمات الجامعة منها ما ساقه ابن حجر في شرح الهمزية حيث قال:
(1) في "صحيحه" رقم (2408).
(2)
أخرجه الترمذي رقم (3789) وقال: حديث حسن غريب، وهو حديث ضعيف من حديث ابن عباس.
(3)
ابن حجر في شرح الهمزية.
وفي الحديث: "والذي نفسي بيده! لا يؤمن عبد حتى يحبني، ولا يحبني حتى يحب ذويَّ أنا حرب لمن حاربهم سلم لن سالمهم، وعدو لن عاداهم، ألا من آذى قرابتي فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله تعالى" وغيره مما في معناه.
قوله: "أخرجه الترمذي"(1) قلت: وقال: حسن غريب، ولكنه يأتي حديث زيد بن أرقم (2) هذا بأبسط لفظ، وأصح إسناداً كما أشرنا إليه.
55/ 3 - وعَن الْعِرْبَاضَ بْنَ سَارِيَةَ (3) رضي الله عنه قَالَ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَوْمٍ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا فَوَعَظَنَا مَوْعِظَةً بَلِيغَةً ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ، فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ الله! كَأَنَّ هَذِهِ مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ فَمَاذَا تَعْهَدُ إِلَيْنَا؟ فَقَال: "أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى الله، وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، وَإِنْ عَبْدًا حَبَشِيًّا، فَإِنَّهُ مَنْ [90/ ب] يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِى فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كثيرًا، فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الْمَهْدِيَّينَ الرَّاشِدِينَ، تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ، فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكلَّ بِدْعَةٍ (4) ضَلَالَةٌ".
(1) في "سننه" رقم (3788)
(2)
عند مسلم في "صحيحه" رقم (2408).
(3)
انظر ترجمته في "الاستيعاب"(ص 590 رقم 2030).
(4)
قلت: لا بد من تعريف البدعة لغة وشرعاً، ومن ثم أن البدعة الدينية لا تقسم إلى الأحكام الخمسة، وكذلك الرد على محسني البدعة، وبيان أسباب انتشارها.
1 -
معنى البدعة لغةً:
البدعة لغة لها معنيان:
أحدهما: الشيء المخترع على غير مثال سابق.
قال الراغب الأصفهاني (أ): الإبدَاعُ إنشاء صنعةٍ بلا احتذاء واقتداء ومنه قيل: ركية بديع أي جديدة الحفر، وإذا استعمل في الله تعالى فهو إيجادُ الشيء بغير آلة ولا مادةٍ ولا زمانٍ ولا مكان، وليس ذلك إلا لله، والبديع يقال: للمبدع نحو قوله: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [البقرة: 117]،، ويقال: للمبدع نحو ركية بديعٌ، =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= وكذلك البدع يقال: لهما جميعاً بمعنى: الفاعل والمفعول، وقوله تعالى:{قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف: 9] قيل: معناه مبدعاً لم يتقدمني رسولٌ، وقيل: فيما أقوله.
الثاني: التعب والكلال، يقال: أُبدعت الإبلُ إذا بركت في الطريق من هزال أو داء أو كلال، وقد لا يكون الإبداع إلا بظلع، يقال: أبدعتْ به راحلته إذا ظلعت إلا أن المعنى الثاني يعود إلى المعنى الأول، لأن معنى أبدعت الراحلة بدأ بها التعب بعد أن لم يكن بها، وقد أشار ابن منظور إلى هذا المعنى فقال: كأنه جعل انقطاعها عما كانت مستمرة عليه من عادة السير إبداعاً. أي: إنشاء أمر خارج عما اعتيد منها (ب).
ومما سبق يتبين أن البدعة اسم هيئة من الإبداع، وهي كل مما أحدث غير مثال سابق، وهي تطلق في عالم الشر والخير، وأكثر ما تستعمل عرفاً في الذم (جـ).
2 -
معنى البدعة شرعاً:
اختلف العلماء في تحديد معنى البدعة شرعاً:
فمنهم: من جعلها في مقابل السنة.
ومنهم: من جعلها عامة تشمل كل ما أحدث بعد عصر الرسول صلى الله عليه وسلم، سواءً كان محموداً أو مذموماً، ولعل أفضلها وأجمعها: هي طريقة في الدين مخترعة، تضاهي الشريعة، يقصد بها التقرب إلى الله، ولم يقم على صحتها دليل شرعي صحيح أصلاً أو وصفاً (د).
قلت: بقصد التقرب إلى الله خرجت البدع الدنيوية: كتصنيف الكتب في علم النحو، وأصول الفقه، ومفردات اللغة، وسائر العلوم الخاصة للشريعة، والسيارات، والأسلحة والآلات الزراعية والصناعية، فكلها وسائل مشروعة؛ لأنها تؤدي إلى ما هو مشروع بالنص، وهي التي تقبل التقسيم إلى الأحكام الخمسة: 1 - واجبة. 2 - ومندوبة. 3 - ومباحة. 4 - ومكروهة. 5 - ومحرمة.
3 -
الأدلة الواضحة على أن البدعة الدينية لا تقسم إلى الأحكام الخمسة: =
_________
(أ) في "المفردات"(ص 38 - 39) ط: "المعرفة".
(ب)"لسان العرب"(8/ 8) ط: صادر.
(جـ) لسان العرب (8/ 6) ط: صادر.
(د)"الاعتصام" للشاطبي (1/ 37) ط: المعرفة.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= الأول: قول الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3].
قال الشيخ أحمد محمد شاكر في "عمدة التفسير"(أ): هذه أكبر نعم الله تعالى على هذه الأمة، حيث أكمل تعالى لهم دينهم، فلا يحتاجون إلى دين غيره، ولا إلى نبي غير نبيهم صلوات الله وسلامه عليه، ولهذا جعله الله تعالى خاتم الأنبياء، وبعثه إلى الإنس والجن، فلا حلال إلا ما أحله الله، ولا حرام إلا ما حرمه الله، ولا دين إلا ما شرعه، وكل شيء أخبر به فهو حق وصدق، لا كذب فيه ولا خلف، كما قال تعالى:{وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا} [الأنعام: 115] أي: صدقاً في الإخبار، وعدلاً في الأوامر والنواهي، فلما أكمل لهم الدين تمت عليهم النعمة، ولهذا قال تعالى:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3] أي: فارضوه أنتم لأنفسكم فإنه الدين الذي أحبه الله ورضيه، وبعث به أفضل الرسل الكرام، وأنزل به أشرف كتبه. اهـ.
الثاني: حديث العرباض بن سارية الآتي رقم (55/ 3).
وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عبد الله قَالَ: كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم إِذَا خَطَبَ احْمَرَّتْ عَيْنَاهُ، وَعَلَا صَوْتُهُ وَاشْتَدَّ غَضَبُهُ، حَتَّى كَأنَّهُ مُنْذِرُ جَيْشٍ، يَقُولُ:"صَبَّحَكُمْ وَمَسَّاكُمْ". وَيَقُولُ: "بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةَ كَهَاتَيْنِ". وَيَقْرُنُ بَيْنَ إِصْبَعَيْهِ السَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى وَيقُولُ: "أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ خَيْرَ الحدِيثِ كِتَابُ الله، وَخَيْرُ الْهُدَى هُدَى مُحَمَّدٍ، وَشَرُّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ"(ب).
قال شيخ الإسلام (جـ): ولا يحل لأحد أن يقابل هذه الكلمة الجامعة من رسول الله صلى الله عليه وسلم الكلية، وهي قوله:"كل بدعة ضلالة" بسلب عمومها، وهو أن يقال: ليست كل بدعة ضلالة، فإن هذا إلى مشاقة الرسول أقرب منه إلى التأويل. اهـ. =
_________
(أ) المجلد الثاني الجزء الرابع (ص 75).
(ب) أخرجه مسلم رقم (867) وابن ماجه رقم (45).
(جـ) في كتابه: "اقتضاء الصراط المستقيم"(ص 274 ط: المعرفة).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= وقال الحافظ ابن رجب الحنبلي (أ): فقوله صلى الله عليه وسلم: "كل بدعة ضلالة" من جوامع الكلم لا يخرج عنه شيء، وهو أصل عظيم من أصول الدين، وهو شبيه بقوله صلى الله عليه وسلم:"من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد"(ب)، فكل من أحدث شيئاً ونسبه إلى الدين ولم يكن له أصل من الدين يرجع إليه فهو ضلالة والدين بريء منه، وسواءً في ذلك مسائل الاعتقادات أو الأعمال، أو الأقوال الظاهرة والباطنة، وأما ما وقع في كلام السلف من استحسان بعض البدع فإنما ذلك في البدع اللغوية لا الشرعية. اهـ.
الثالث: عن سلمان قال: قيل له: - أي من قبل اليهود -: قد علَّمَكُم نبيُّكم كلَّ شيء حتى الخِرَاءة قال: فقال: أجل. "لقد نهانا أن نستقبل القبلة بغائط أو بول، أو أن نستنجي باليمين، أو أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار، أو أن نستنجي برجيع أو بعظم"(جـ).
قلت: بهذا يتضح لكل ذي لبّ أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يدع صغيرة ولا كبيرة في شأن الدين إلا أوضح حكمها، وعلمها للمسلمين مما أثار دهشة وإعجاب أعدائه في القديم، وكذلك في العصر الحديث.
الرابع: عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم، كل بدعة ضلالة (د).
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: الاقتصاد في السنة أحسن من الاجتهاد في البدعة (هـ). =
_________
(أ) في "جامع العلوم والحكم"(ص 252).
(ب) وفي رواية: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد" أخرجه البخاري تعليقاً بصيغة الجزم في "صحيحه"(4/ 355 - مع الفتح) ووصله البخاري رقم (2697) ومسلم رقم (1718) وأبو داود رقم (4606) وابن ماجه رقم (14) وهو حديث صحيح.
(جـ) أخرجه مسلم رقم (262) وأبو داود رقم (7) والترمذي رقم (16) وأحمد في "المسند"(5/ 437، 439) والبيهقي في "السنن الكبرى"(1/ 91، 102، 112)، وهو حديث صحيح.
(د) أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير"(ج 9 رقم 8770) وأورده الهيثمي في "مجمع الزوائد"(1/ 181) وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح.
وقال الألباني في تحقيق كتاب "العلم" لزهير بن حرب النسائي (ص 122 رقم 54) إسناده صحيح.
(هـ) أخرجه الحاكم في المستدرك (1/ 103) والدارمي (1/ 72) والبيهقي (3/ 19) وقال الحاكم: صحيح على شرطهما ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في "صحيح الترغيب والترهيب"(1/ 21 رقم 37).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= الخامس: عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله حجب التوبةَ عن كل صاحب بدعةٍ" وهو حديث صحيح (أ).
قال الشيخ علي محفوظ (ب):
قد وصفت البدعة وأهلها في لسان الشرع وأهله بصفات محذورة ومعان مذمومة، تقضي بأن يكون معناها ما ذهب إليه أصحاب الطريقة الأولى، وهو: أن يكون الابتداع مشاركة للشارع في التشريع، ومضاهاة له في سن القوانين وإلزام الناس السير على مقتضاها. اهـ.
أقول:
بما قدمت من الأدلة، وبما جرى عليه أفهام السلف الصالح تعلم أن البدعة في الدين لا تقسم إلى الأحكام الخمسة، وأن المبتدع معاند للشرع، ومشاق له، لأن الشارع قد عين لمطالب العبد طرقاً خاصة على وجوه خاصة، وقصر الخلق عليها بالأمر والنهي، والوعد والوعيد، وأخبر أن الخير فيها، وأن الشر في تعديها إلى غير ذلك، لأن الله يعلم ونحن لا نعلم، وأنه إنما أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين، فالمبتدع رادٌ لهذا كله، فإنه يزعم أن ثم طرقاً أخر، ليس ما حصره الشارع بمحصور، ولا ما عينه بمتعين، كأن الشارع يعلم، ونحن أيضاً نعلم، بل ربما يفهم من استدراكه الطرق على الشارع، أنه علم ما لم يعلمه الشارع.
وهذا إن كان مقصوداً للمبتدع فهو كفر بالشريعة والشارع، وإن كان غير مقصود، فهو ضلال مبين (جـ).
4 -
شبهات محسني البدع والرد عليها: الأولى: احتج بعض الناس بالأثر الذي صح عن ابن مسعود رضي الله عنه أن في الدين بدعة حسنة: أما الأثر: عن ابن مسعود رضي الله عنه فقوله: "إن الله نظر في قلوب العباد فوجد قلب محمَّد صلى الله عليه وسلم خير قلوب العباد فاصطفاه لنفسه فابتعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمَّد صلى الله عليه وسلم فوجد =
_________
(أ) أخرجه الطبراني في "الأوسط" رقم (4202) وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد"(10/ 189): ورجاله رجال الصحيح غير هارون بن موسى الفروي وهو ثقة، وصححه الألباني في "صحيح الترغيب"(1/ 25 رقم 52).
وانظر "الصحيحة" رقم (1620) والبدع لابن وضاح رقم (149).
(ب) في كتابه: "الإبداع في مضار الابتداع"(ص 108).
(جـ)"الاعتصام" للشاطبي (1/ 49) ط: المعرفة.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= قلوب أصحابه خير قلوب العباد، فجعلهم وزراء نبيه يقاتلون على دينه، فما رأى المسلمون حسناً فهو عند الله حسن، وما رأوا سيئاً فهو عند الله سيء" (أ).
الرد على الشبهة الأولى:
1 -
إن الأثر صحيح عن ابن مسعود، ولكن لا يجوز أن يحتج في معارضة النصوص القاطعة كقوله صلى الله عليه وسلم:"إياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة"(ب) وقوله صلى الله عليه وسلم: "فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمَّد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة"(جـ).
2 -
على افتراض صلاحية الاحتجاج بالأثر الصحيح، فإنه لا يعارض تلك النصوص لأمور كثيرة:
منها: أن المراد بالأثر إجماع الصحابة وأتفاقهم على أمر، كما يدل عليه السياق، ويؤيده استدلال ابن مسعود على إجماع الصحابة على انتقاء أبي بكر رضي الله عنه خليفة، كما في رواية الحاكم، وعليه فاللام في المسلمون ليس للاستغراق كما يتوهمون، بل للعهد.
ومنها: إذا سلمنا أنه للاستغراق، فلا نسلم أن المراد به قطعاً كل فرد من المسلمين، ولو كان جاهلاً لا يفقه من العلم شيئاً، فلا بد إذن من أن يحمل على أهل العلم منهم بلا خلاف.
3 -
وخلاصة القول: أن الأثر لا متمسك به لمن قال: إن في الدين بدعة حسنة، كيف وابن مسعود رضي الله عنه أشد الصحابة محاربة للبدعة، والنهي عن اتباعها، وقد أوردت طرفاً من أقواله رضي الله عنه فيما سبق (د). =
_________
(أ) أخرجه أحمد في "المسند"(1/ 379) والبزار رقم (130 - كشف) والطبراني في "المعجم الكبير"(ج 9 رقم (8582) وأبو نعيم في "الحلية"(1/ 375) والطيالسي رقم (69) وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد"(1/ 177 - 178): رجاله موثقون.
وأورده السخاوي في "المقاصد الحسنة"(ص 581) وقال عقبة: وهو موقوف حسن.
والخلاصة: أنه موقوف حسن، ولا أصل له في المرفوع.
(ب) أخرجه أحمد (4/ 126 - 127) وأبو داود رقم (4607) والترمذي رقم (2676) وقال: حديث حسن صحيح، وابن ماجه رقم (43، 44) وهو حديث صحيح.
(جـ) أخرجه مسلم في "صحيحه" رقم (867) وابن ماجه رقم (45).
(د) انظر "الضعيفة" للألباني (2/ 17 - 19) فهو مفيد في هذا.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= الثانية: واحتج بعض الناس بالأثر الذي صح عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه على أن في الدين بدعة حسنة.
أما الأثر: عن عبد الرحمن بن عبد القاري، أنه قال: خرجت مع عمر بن الخطاب في رمضان إلى المسجد، فإذا الناس أوزاع متفرقون يصلى الرجل لنفسه، ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط، فقال عمر: والله إني لأراني لو جمعت هؤلاء على قارئ واحدٍ لكان أمثل، فجمعهم على أبي بن كعب قال: ثم خرجت معه ليلة أخرى، والناس يصلون بصلاة قارئهم، فقال عمر: نعمت البدعة هذه والتي تنامون عنها أفضل من التي تقومون يعني آخر الليل، وكان الناس يقومون أوله (أ).
الرد على الشبهة الثانية:
1 -
إن الأثر صحيح عن عمر رضي الله عنه، لكن قول الصاحب ليس حجة إذا خالف الحديث الصحيح.
2 -
إن صلاة القيام مشروعة بنص حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرغب في قيام رمضان من غير أن يأمرهم فيه بعزيمة، فيقول:"من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه" فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم والأمر على ذلك؛ ثم كان الأمر على ذلك في خلافة أبي بكر، وصدراً من خلافة عمر على ذلك (ب).
3 -
كما أن صلاة القيام جماعة مشروعة بنص حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فعن عائشة رضي الله عنها أخبرت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: خرج ليلة من جوف الليل فصلى في المسجد، وصلى رجال بصلاته، فأصبح الناس فتحدثوا، فاجتمع أكثر منهم، فصلى فصلوا معه فأصبح الناس فتحدثوا فكثر أهل المسجد من الليلة الثالثة، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بصلاته، فلما كانت الليلة الرابعة عجز المسجد عن أهله حتى خرج لصلاة الصبح، فلما قضى الفجر أقبل على الناس فشهد، ثم قال:"أما بعد: فإنه لم يخف عليَّ مكانكم، ولكني خشيت أن تفرض عليكم فتعجزوا عنها" فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم والأمر على ذلك (جـ).
قلت: لقد اتضح من الحديثين السابقين أن صلاة القيام في رمضان مشروعة وصلاتها جماعة مشروعة، وإنما ترك النبي صلى الله عليه وسلم الحضور في الليلة الرابعة مخافة أن تفرض على المسلمين، فلما انقطع الوحي بموت رسول الله =
_________
(أ) أخرجه مالك في "الموطأ"(1/ 114) والبخاري في "صحيحه"(2010).
(ب) أخرجه مالك في "الموطأ"(1/ 113 - 114) والبخاري رقم (2008) ومسلم رقم (174/ 759).
(جـ) أخرجه البخاري رقم (2012) ومسلم رقم (178/ 761).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= صلى الله عليه وسلم أمن ما خاف منه الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن العلة تدور مع المعلول وجوداً وعدماً، فبقيت السنة للجماعة لزوال العارض، فجاء عمر رضي الله عنه، أمر بصلاتها جماعة إحياء للسنة التي شرعها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبهذا تعلم أن مفهوم البدعة لا ينطبق على فعل عمر رضي الله عنه.
ويقول ابن تيمية رحمه الله: أكثر ما في هذا تسمية عمر تلك بدعة مع حسنها، وهذه تسمية لغوية لا تسمية شرعية (أ).
الثالثة: احتج بعض الناس بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من سنّ في الإِسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده، من غير أن ينقص من أجورهم شيء" على أن في الدين بدعة حسنة.
أما الحديث: عن جرير بن عبد الله قال: جاء ناسٌ من الأعراب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم الصوف فرأى سوء حالهم قد أصابتهم حاجة، فحث الناس على الصدق، فأبطؤا عنه، حتى رؤي ذلك في وجهه.
قال: ثم إن رجلاً من الأنصار جاء بصرة من ورقٍ، ثم جاء آخر، ثم تتابعوا حتى عرف السرور في وجهه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من سن في الإِسلام سنة حسنة فعمل بها بعده، كتب له مثل أجر من عمل بها، ولا ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإِسلام سنة سيئة، فعمل بها بعده كتب عليه مثل وزر من عمل بها، ولا ينقص من أوزارهم شيء"(ب).
الرد على الشبهة الثالثة:
أقول: من سياق الحديث تعلم أن ما فعله الأنصاري إنما هو ابتداؤه الصدقة في تلك الحادثة، والصدقة مشروعة من قبل بالنص.
فالسنة الحسنة هي إحياء أمر مشروع أهمل الناس العمل به، ففي عصرنا الحاضر لو أن إنساناً أحيا سنة مهجورة يقال: أتى بسنة حسنة، ولا يقال أتى ببدعة حسنة.
والخلاصة: أن الحديث لا متمسك به لمن قال: أن في الدين بدعة حسنة.
الرابعة: حمل بعض الناس قوله صلى الله عليه وسلم: "كل بدعة ضلالة" على المعاصي التي نهى عنها الشارع الحكيم، مثل: الزنى، والسرقة، والقتل وغيرها. =
_________
(أ) انظر كتاب "اقتضاء الصراط المستقيم" لابن تيمية (ص 275 - 277).
(ب) أخرجه مسلم (4/ 2059 رقم 1017).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= الرد على الشبهة الرابعة:
هذا الحمل فيه تعطيل لفائدة الحديث، وهو نوع من التحريف، وفيه من المفاسد أشياء:
1 -
سقوط الاعتماد على هذا الحديث، فإن المنهي عنه علم حكمه بذلك التخصيص.
2 -
إن اسم البدعة يكون عدم التأثير.
3 -
مساواة البدع بالمعاصي، وغالباً أن البدع شر من المعاصي.
4 -
أن قوله: "كل بدعة ضلالة، وإياكم ومحدثات الأمور" إذا أراد بهذا ما فيه نهي خاص، كان قد أحالهم في معرفة المراد بهذا الحديث على ما لا يكاد يحيط به أحد، ولا يحيط بأكثره إلا خواص الأمة، ومثل هذا لا يجوز بحال (أ).
الخامسة: زعم بعض الناس أن جمع القرآن وكتابته في المصحف والاقتصار على مصحف عثمان رضي الله عنه بدعة في الدين أحدثها الصحابة والتابعون، وهذا دليل على استحسان البدع.
الرد على الشبهة الخامسة:
1 -
ملائمة ما فعله الصحابة رضي الله عنهم لمقاصد الشرع بحيث لا تنافي أصلاً من أصوله، ولا دليلاً شرعياً من دلائله.
2 -
إن جمع القرآن لم يأت به الصحابة رضي الله عنهم من تلقاء أنفسهم، بل هو تحقيق لوعد الله بحفظه، قال تعالى:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)} [الحجر: 9]، وكذلك تحقيق لوعد الله بحفظه وتأليفه، قال تعالى:{إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17)} [القيامة: 17](ب) ومن الآيتين يتبين لنا أن الذي شرع الغاية لم ينس الوسيلة، فكما أن حفظ القرآن غاية شرعها الله كذلك جمعه وسيلة بينها الله.
فكان القرآن على عهد النبوة مكتوباً في الصحف التي هي الرقاع والعسب (جـ) واللخاف (د) وكذلك صدور الرجال، فلما رأى الصحابة أن القتل استحر بالقراء يوم اليمامة لجأوا إلى الوسائل الأخرى التي كان القرآن مكتوباً فيها فجمعوها، وكان ذلك إيذاناً من الله بتحقيق جمع القرآن وحفظه. =
_________
(أ) انظر كتاب "اقتضاء الصراط المستقيم"(ص 272 - 274).
(ب) انظر كتاب "جامع البيان عن تأويل آي القرآن" لابن جرير الطبري (14/ 599).
(جـ) العسيب: جريدة من النخل مستقيمة دقيقة يُكشط خوصها اهـ "لسان العرب"(1/ 599).
(د) اللخاف: بالكسر حجارة بيض رقاق واحدتها (لُخفةٌ) بوزن صَحْفَة، مختار الصحاح (248). اهـ.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
3 - إن اتفاق الصحابة رضي الله عنهم وقع على جمع القرآن، وذلك إجماع منهم وهو حجة بلا ريب (أ).
4 -
إن حاصل ما فعله الصحابة رضي الله عنهم هو من المصالح المرسلة وليس من البدع (ب) كما هو من وسائل حفظ أمر ضروري، أو دفع ضرر اختلاف المسلمين في القرآن، والأمر الأول من باب:"درء المفاسد وسد الذرائع" وهي قواعد أصولية مستنبطة من الكتاب والسنة.
5 -
إن الله تعالى سمى القرآن كتاباً في كثير من الآيات (جـ) فأفاد ذلك وجوب كتابته كله، ولذلك اتخذ النبي صلى الله عليه وسلم كتاباً للوحي (د) وتفريق الصحف المكتوبة لا يعقل أن يكون مطلوباً للشارع حتى يحتاج جمعها إلى دليل خاص، ولم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بجمعها في حياته لاحتمال المزيد، وكذلك احتمال النسخ في كل سورة ما دام حياً كما قال العلماء. =
_________
(أ) قال الإِمام الشوكاني في "إرشاد الفحول"(ص 18):
إجماع الصحابة حجة بلا خلاف، وقال الشيخ محمَّد أبو زهرة في كتاب "تاريخ المذاهب الإِسلامية" (ص 291): اتفق جمهور الفقهاء والأئمة الأربعة والزيدية على أن إجماع الصحابة رضي الله عنهم حجة يجب الأخذ بها.
(ب) انظر كتاب "الاعتصام" للشاطبي (2/ 111 - 118) في الفرق بين البدع والمصالح المرسلة والاستحسان، ثم ذكر المؤلف أمثلة على المصالح المرسلة، وأولها جمع القرآن في مصحف.
وانظر تعريف: "المصلحة المرسلة ليتم التفريق بينها وبين البدعة في كتابي "مدخل إرشاد الأمة إلى فقه الكتاب والسنة" (ص 281 - 286).
(جـ) قال تعالى في سورة لقمان الآية (2): {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (2)} .
وقال تعالى في سورة البقرة الآية (2): {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2)} .
وفي سورة النساء الآية (104): {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} .
وفي سورة المائدة الآية (48): {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} ، وللزيادة انظر المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، وضع محمَّد فؤاد عبد الباقي (ص 592 - 595).
(د) انظر كتاب: "المصباح المضي في كتاب النبي الأمي ورسله إلى ملوك الأرض من عربي وعجمي" محمَّد بن علي بن أحمد بن حديدة الأنصاري المتوفى سنة (783 هـ (1/ 27/ 192).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
5 - ضرورة معرفة البدع الدينية:
إن مما ينبغي العلم به معرفة البدع التي أدخلت في الدين، لأنه لا يتم للمسلم التقرب إلى الله تعالى إلا باجتنابها، ولا يمكن ذلك إلا بمعرفة مفرداتها إذا كان لا يعرف قواعدها وأصولها، وإلا وقع في البدعة وهو لا يشعر، فالبدع من الشر الذي ينبغي معرفته لا لإتيانه بل لاجتنابه.
وهذا المعنى مستقى من السنة النبوية، فقد قال حذيفة بن اليمان رضي الله عنه: كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنتُ أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله! إنا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير شر؟ قال:"نعم" فقلت: هل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: "نعم، وفيه دخن" قلت: وما دخنه؟ قال: "قوم يستنون بغير سنتي، ويهدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر" فقلت: هل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: "نعم، دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها" فقلت: يا رسول الله! صفهم لنا. قال: "نعم، قوم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا
…
الحديث" (أ).
6 -
بعض أسباب انتشار البدع:
1 -
أحاديث ضعيفة لا يجوز الاحتجاج بها، ولا نسبتها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو مذهب جماعة من أهل العلم (ب).
2 -
أحاديث موضوعة، أو لا أصل لها، خفي أمرها على بعض الفقهاء فبنوا عليها أحكاماً هي من صميم البدع ومحدثات الأمور.
3 -
اجتهادات واستحسانات صدرت من بعض الفقهاء خاصة المتأخرين منهم، لم يدعموها بأي دليل شرعي، بل ساقوها مساق المسلمات من الأمور، حتى صارت سنناً تتبع! ولا يخفى على المتبصر في دينه أن ذلك مما لا يسوغ اتباعه، إذ لا شرع إلا ما شرعه الله تعالى (جـ) وحسب المستحسن - إن كان مجتهداً - أن يجوز له هو العمل بما استحسنه وأن لا يؤاخذه الله به، أما أن يتخذه الناس ذلك شريعة وسنة فلا، ثم لا، فكيف وبعضها مخالفاً للسنة.
_________
(أ) أخرجه البخاري رقم (3606) ومسلم رقم (51/ 1847).
ولهذا كان من الضروري تنبيه المسلمين على البدع التي دخلت في الدين، فلذا سنذكر في نهاية كل باب من أبواب هذا الكتاب أهم البدع التي نبه عليها العلماء في ذلك الباب غالباً.
(ب) انظر كتابي: "مدخل إرشاد الأمة"(ص 92 - 96) بعنوان: "ترك العمل بالحديث الضعيف".
(جـ) انظر كتابي: "مدخل إرشاد الأمة"(271 - 273) بعنوان: "التحليل والتحريم حق الله وحده.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
4 - عادات وخرافات لا يدل عليها الشرع، ولا يشهد لها عقل، وإن عمل بها بعض الجهال واتخذوها شرعة لهم، ولم يعدموا من يؤيدهم ولو في بعض ذلك ممن يدعي أنه من أهل العلم، ويتزيا بزيهم (أ).
وأختم الفائدة الرابعة بنصيحة أقدمها إلى القراء من إمام كبير من علماء المسلمين الأولين، وهو الشيخ: حسن ابن علي البربهاري من أصحاب الإِمام أحمد رحمه الله تعالى المتوفى سنة (329 هـ) قال: واحذر صغار المحدثات من الأمور، فإن صغار البدع تعود حتى تصير كباراً، وكذلك كل بدعة أحدثت في هذه الأمة كان أولها صغيراً يشبه الحق فاغتر بذلك من دخل فيها، لم ثم يستطع المخرج منها، فعظمت، وصارت ديناً يدان به. فانظر رحمك الله كل من سمعت كلامه من أهل زمانك خاصة، فلا تعجلن، ولا تدخلن في شيء منه حتى تسأل وتنظر، هل تكلم فيه أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أو أحدٌ من العلماء؟ فإن أصبت فيه أثراً عنهم فتمسك به، ولا تجاوزه لشيء ولا تختر عليه شيئاً فتسقط في النار.
واعلم رحمك الله أنه لا يتم إسلام عبد حتى يكون متبعاً مصدقاً مسلماً، فمن زعم أنه قد بقي شيء من أمر الإِسلام لم يكفوناه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كذبهم، وكفى بهذا فرية وطعناً عليهم، فهو مبتدع ضال مضل، محدث في الإِسلام ما ليس فيه (ب).
_________
(أ) انظر: "مناسك الحج والعمرة" للمحدث الألباني (ص 45).
(ب) المنهج الأحمد في تراجم أصحاب الإِمام أحمد لأبي اليُمْن مجير الدين عبد الرحمن بن محمَّد العليمي، تحقيق محمَّد محيي الدين عبد الحميد (2/ 27 - 28).
أخرجه أبو داود (1) والترمذي (2).
(1) في "سننه" رقم (4607).
(2)
في "سننه" رقم (2676) وقال: حديث حسن صحيح.
قلت: وأخرجه أحمد (4/ 126 - 127) وابن ماجه رقم (43، 44) والدارمي (1/ 44 - 45) والحاكم (1/ 95 - 97) وقال: هذا حديث صحيح ليس له علة، ووافقه الذهبي.
وابن أبي عاصم في "السنة"(1/ 17، 29)(19، 30) والآجري في "الشريعة"(ص 46 - 47) وابن عبد البر في "جامع بيان العلم وفضله"(2/ 181 - 182) من طرق. =
ومعنى: "عضوا عليها بالنواجذ" أي: تمسكوا بها كما يتمسك العاضُّ بجميع أضراسه.
الثالث: "وعن العرباض" بكسر العين المهملة، وسكون الراء فضاد معجمة بزنة سارية بالمهملة فراء فمثناة تحتيه.
في "الاستيعاب": أنه يكنى أبا يحيى كان من أهل الصفة، وسكن الشام وبها مات سنة خمس وسبعين، وقيل: مات في فتنة ابن الزبير.
روى عنه من الصحابة أو رهم، وأبو أمامة، وروى عنه جماعة من تابعي أهل الإِسلام انتهى.
قوله: "صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم".
أقول: لفظ الترمذي تعيين الصلاة بأنها صلاة الغداة أوله في الجامع، قال عبد الرحمن ابن عمرو السلمي وحجر بن حجر: أتينا العرباض بن سارية - وهو ممن نزل فيه: {وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ} (1) وقلنا: أتيناك رائدين وعائدين ومقتبسين، فقال العرباض:"صلى بنا".
وقوله: "ذرفت" في "النهاية"(2): ذَرَفت تذرف جرى دمعها. وفي "القاموس"(3): ذَرَفَ الدَّمْعُ يذرِفُ ذَرْفَاً وذُروفاً وتَذْرافاً، سال وعينه سال دمْعها، انتهى. فهو من باب ضرب.
= قال الألباني في "تخريج المشكاة"(1/ 58): وصححه جماعة منهم الضياء المقدسي في اتباع "السنن" واجتناب البدع (ق 79/ 1).
(1)
سورة التوبة: (92).
(2)
"النهاية في غريب الحديث"(2/ 159).
(3)
"القاموس المحيط"(1048).
والوجل: المخافة وجل كهرج، والظاهر أن سيلان الدمع يقع بعد الوجل، لأن الوجل لأن الواو لا تقتضي الترتيب وكأنه فرقه لظهوره بخلاف الوجل والوعظ التذكير ما يؤثر في القلوب من ترغيب وترهيب.
وقوله: "وإن كان" أي: المسموح له والمطاع عبداً حبشياً فيه وجوب الطاعة للأمراء كما سلف، وأنه كان ليس من ذوي الأمراء المستحقين له فلا ينافيه حديث:"الأئمة من قريش"(1) وكأنه قيل: أو يكون ذلك؟
فقال: "فإنه من يعش منكم" أيها المخاطبون بعدي بعد وفاتي.
"فسيرى اختلافاً كثيراً" هذا من أعلام النبوة فقد وقع بعد وفاته اختلافاً كثيراً وسفكاً للدماء، وتغييراً للأمور. وكأنه قيل: فماذا نصنع حينئذ؟
فقال: "فعليكم بسنتي" طريقتي. "وسنة الخلفاء الراشدين المهديين" أي: طريقتهم إغراء للمخاطبين بالاهتداء بهديه، والتمسك بسنته والمراد بالخلفاء الأربعة وكل خليفة على طريقتهم وسنتهم، وليس لهم سنة غير سنته صلى الله عليه وسلم، وإنما هو إخبار بأنهم لا يفارقون سنته إذ لو فارقوها وابتدعوا [54/ أ/ ج] سنة منهم لم يكونوا راشدين ولا مهديين فكأنه قال صلى الله عليه وسلم: فعليكم بسنتي التي سلكها واستن بها الخلفاء الموصوفون بما ذكر.
(1) وهو حديث صحيح. أخرجه ابن أبي عاصم في كتاب "السنة" رقم (1120) وقد خرَّج طرق هذا الحديث الألباني في "الإرواء" رقم (520).
• أخرج البخاري رقم (3501) ومسلم رقم (1820).
عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي منهم اثنان".
• وأخرج البخاري رقم (3500) من حديث معاوية إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن هذا الأمر في قريش، لا يعاديهم أحدٌ إلا كبه الله على وجهه، ما أقاموا الدين".
وفي رواية للبخاري أيضاً رقم (7139): "لا يعاديهم أحد إلا كبه الله في النار على وجهه".
وقد وهم في الحديث من زعم أنَّ ما ابتدعه الخلفاء الأربعة فهو سنة، ولذا قالوا: جماعة التراويح سنة؛ لأنه قد سنها عمر أحد الخلفاء، فهي داخلة تحت الحديث وهو غلط، فإن عمر رضي الله عنه صرح بأنها بدعة (1) كما يأتي إن شاء الله في قيام رمضان.
وأما قوله: "ونعمة البدعة"(2) فهي دعوى منه، وإلا فما في البدع ما يمدح، ولو كان ما فعلوه سنة كسنته صلى الله عليه وسلم لما خالفهم الصحابة، فإنهم خالفوا عمر في نهيه عن متعة الحج، فتمنعوا وخالف علي عليه السلام عثمان في متعة القرآن، فأهلَّ بها، وقال: سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وبالجملة فلا يدعي أن ما سنوه كسنته صلى الله عليه وسلم إلا جاهل، ولذا حذر بعد ذلك من محدثات الأمور فهو احتراز عن وهم أن للخلفاء سنة يشتغلون بها، بل كل ما خالف سنته صلى الله عليه وسلم فهو من محدثات الأمور التي هي بدع وهي ضلالات، فلله در الكلام النبوي ما أشرفه وأوفاه وأسلمه عن الاشتباه.
ويحتمل: أن يراد سنتهم سيرتهم في الرعية، وقسمتهم بالسوية، وتقيدهم للشريعة النبوية في كل مسألة ظاهرة وخفية.
(1) تقدم الرد على هذه الشبهة عند شرح وتحقيق الحديث رقم (55/ 3) من كتابنا هذا: الرد على الشبهة الثانية.
(2)
قال ابن تيمية في "اقتضاء الصراط المستقيم"(ص 275 - 277) ط: "المعرفة": وهذه تسمية لغوية لا تسمية شرعية.
قلت: لما ثبت في الأحاديث الصحيحة أن قيام رمضان مشروع، والصلاة جماعة مشروعة وإنما ترك النبي صلى الله عليه وسلم الحضور في الليلة الرابعة مخافة أن تفرض على المسلمين، فلما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وانقطع الوحي أمن ما خاف منه رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن العلة تدور مع المعلول وجوداً وعدماً، فبقيت السنة للجماعة لزوال العارض، وبهذا تعلم أن مفهوم البدعة لا ينطبق على فعل عمر رضي الله عنه.
والبدعة في "القاموس"(1): الحَدَثُ في الدين بعدَ الإكمَالِ، أو ما استُحْدِث بعد النبيَّ صلى الله عليه وسلم من الأقوال والأعمال. انتهى.
وفسر ابن الأثير (2) محدثات الأمور بقوله: ما لم يكن معروفاً في كتابٍ ولا سنةٍ ولا إجماع، وقال (3): الابتداع إن كان في خلاف ما أمر الله به ورسوله، فهو في حيِّز الذمَّ والإنكار، وإن كان واقعاً تحت عموم ما نَدَبَ الله [إليه](4) وحضَّ عليه أو رسوله، فهو في حيِّز المدح، وإن لم يكن فمثاله موجود كنوعٍ من الجود والسخاء، وفعل المعروف، فهذا فعل من الأفعال المحمودة، وإن لم يكن الفاعل قد سُبِق إليه، ولا يجوز أن يكون ذلك في خلاف ما وردَ به الشرع لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جعل له في ذلك ثواباً فقال:"من سنَّ سنةً حسنة فإن له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة"(5) وقال في ضده: "من سنَّ سنةً سيئةً كان عليه وزرها ووزر من عمل بها"(5) وذلك إذا كان في خلاف ما أمر الله به ورسوله، قال (6): ويعضدُ ذلك قول عمر بن الخطاب في صلاة التراويح: "نعمة البدعة هذه" لما كانت من أفعال الخير وداخلة في حيز المدح فسماها بدعة ومدحها، انتهى.
قلت: أما مدحها فدعوى (7)، وقد قال صلى الله عليه وسلم:"كل بدعة ضلالة" بلفظ عام لا يخصص منه شيء من البدع إلا بنص نبوي لا باجتهاد، وإلا كان كل مبتدع لا يأتي ببدعة إلا وقد زينها
(1) القاموس المحيط" (ص 906).
(2)
في "جامع الأصول"(1/ 280).
(3)
أي: ابن الأثير في "جامع الأصول"(1/ 280 - 281).
(4)
زيادة من "جامع الأصول".
(5)
أخرجه مسلم في "صحيحه" رقم (1017) من حديث جرير.
(6)
أي: ابن الأثير في "جامع الأصول".
(7)
انظر الرد على محسني البدع في تخريج وتحقيق الحديث رقم (55/ 3) من كتابنا هذا.
باجتهاده لموافقة مراده وفعل الخير قد أمر الله به فقال: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77)} (1) فتمثيله في الجود والسخاء هو من فعل الخير إن كان من حلِّه في محله على قدره، وإلا فهو من المنهي عنه، فإن الله لا يقبل صدقة من غلول ولا من ذي الإسراف إن جاوز.
والابتداع المذموم ما كان في الدين وهو قسمان:
ابتداع بزيادة أو نقصان مما شرعه الله وجد الكتاب مسوق لذم الابتداع في الدين، ولذا قال:"عليكم بسنتي وسنة الخلفاء" وسنته صلى الله عليه وسلم كلها دين وطريقته كلها هذا، وما خالفها بزيادة أو نقصان فهو من محدثات الأمور، وقد جعلها قسماً للسنة وجعلها بدعة، وجعل البدعة ضلالة، وهذا الابتداع في الدين هو الذي ملأ البقاع وعاد به الدين غريباً يصك منه بالبدع الأسماع، وإنما عظم شأن البدعة، وصارت ضلالة؛ لأنها رد [54 ب/ ج] لقول الله تعالى:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} (2) الآية.
وكقوله: "تركتم على"(3)"كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد"(4) والمبتاع بالزيادة في الدين يقول بلسان حاله: ما كمل الدين، بل نكمله بالابتداع، وليس ما لم يكن عليه أمره صلى الله عليه وسلم مردود، بل مقبول والمبتدع بالنقصان لقول ما كمل الدين إلا بالنقص منه، فهذا النقص هو الكمال، ورد الحديث كالأول، ولهذا كثرت الأحاديث في ذم الابتداع والتحذير منه، وأنه لا يقبل لصاحبه عمل، ولنذكر شطراً من ذلك فهذا محله.
(1) سورة الحج: (77).
(2)
سورة المائدة (3).
(3)
يشير إلى الحديث الذي أخرجه أحمد في "المسند"(4/ 126) والحاكم في المستدرك (1/ 96) من حديث العرباض بن سارية وفيه: "قد تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك
…
"، وهو حديث صحيح بطرقه وشواهده.
(4)
وهو حديث صحيح من حديث عائشة، وقد تقدم تخريجه.
أخرج الشيخان (1) من حديث عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" ويأتي في التفسير قريباً.
وأخرج مسلم (2) وابن ماجه (3) وغيرهما من حديث جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمَّد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة".
وأخرج الطبراني (4) قال المنذري (5): بإسناد حسن من حديث أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله حجب التوبة عن كل صاحب بدعة حتى يدع بدعته".
ورواه ابن ماجه (6) وابن أبي عاصم في كتاب السنة (7) من حديث ابن عباس، ولفظه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يقبل الله لصاحب بدعة صوماً، ولا حجاً، ولا عمرة، ولا جهاداً، ولا صرفاً ولا عدلاً، يخرج من الإِسلام كما تخرج الشعرة من العجين".
والأحاديث في الباب واسعة، ومفاسد الابتداع بحر لا يبلغ قعره كتابة يراع، وقد فاض بحره حتى غلب السنة وأشرع في نحرها الأسنة، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
(1) البخاري رقم (2697) ومسلم رقم (1718).
قلت: وأخرجه أبو داود رقم (4606) وابن ماجه رقم (14).
(2)
في "صحيحه" رقم (43/ 867).
(3)
في "سننه" رقم (45).
(4)
كما في "مجمع الزوائد"(10/ 189) وقال الهيثمي: أخرجه الطبراني في الأوسط رقم (4202) ورجاله رجال الصحيح غير هارون بن موسى الفروي، وهو ثقة.
(5)
في الترغيب والترهيب (1/ 86): رواه الطبراني وإسناده حسن.
وقال الألباني في "صحيح الترغيب والترهيب"(1/ 25 رقم 52 ط: المكتب الإِسلامي" صحيح وانظر "الصحيحة" رقم (1620).
(6)
في "سننه" رقم (50).
(7)
في السنة رقم (39) بسند ضعيف. وهو حديث ضعيف. انظر "الضعيفة" رقم (1492).
ولنذكر مقالاً من ذلك ليكون قدوة للمناظر وعبرة للناظر، وهو أنه قد ثبت في جميع كتب الحديث الصحيحة وغيرها أنه لما أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم:{إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (56)} (1) سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال بشير بن سعد: يا رسول الله! أخبرنا الله أن نصلي عليك فكيف نصلي عليك؟ فسكت، ثم قال:"قولوا: اللهم! صل على محمَّد وعلى آل محمَّد كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمَّد وعلى آل محمَّد كما باركت على آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد" رواه مسلم (2).
فانقسم الناس طائفتان: طائفة ابتدعت في هذا اللفظ بالنقص، وهم أكثر أهل الدنيا: الحرمين والشام، ومصر، فأسقطوا منه لفظ الآل، فلا يقولون في خطبهم وتدريسهم وتأليفهم إلى صلى الله عليه وسلم ولا تفوه بالصلاة المشروعة إنسان، ولا يعرف لها وجود (3) في لسان، فهذه بدعة النقصان التي لا يأتي لغيرها في جميع ما ذكرناه من الأقطار أحد من الأعيان.
وابتدعت الطائفة الأخرى بدعة الزيادة في هذه الدعوات النبوية، والصلاة المحمدية فنصوا على أربعة من أعيان الآل، وأطالوا في ذكرهم الأوصاف، وخرجوا عن المشروع، وألهبوا نار الخلاف لما يعرضون به من الألفاظ مما فيه للشر إيقاظ، وهذه بدعة الزيادة حديث في اليمن في المساجد من نحو ثلاثين سنة، وإلا فإنهم كانوا يأتون بالألفاظ التي ليس فيها زيادة ولا نقصان، بل يذكرون آل محمَّد صلى الله عليه وسلم كما أمروا به.
(1) سورة الأحزاب الآية: (56).
(2)
في "صحيحه" رقم (65/ 405) من حديث أبي مسعود الأنصاري.
(3)
مكررة في المخطوط.
فهذه قطرة من الابتداع زيادة ونقصان، وقس عليها غيرها مما يزيدك إيضاحاً وبياناً لتغيير العباد لأنواع من العبادات بالابتداع، وفيه ما سمعته من الزجر الذي ملأ الأسماع، فلهذا قال صلى الله عليه وسلم[55 أ/ ج] هنا:"أن كل بدعة ضلالة"، {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63)} (1).
قوله: "أخرجه أبو داود والترمذي":
أقول: لفظ الجامع (2) بعد سياقه للفظ المصنف هنا: أخرجه أبو داود وأخرجه الترمذي.
ولم يذكر الصلاة، وفي آخره تقديم وتأخير.
قلت: وقال: حسن صحيح، ولكنه قال أبو محمَّد بن حزم: إنه حديث لا يصح؛ لأنه مروي عن مولى لربعي مجهول، وعن المفضل الضبي وليس بحجة، انتهى.
قلت: تتبعت رجال الترمذي فلم يكن فيها من ذكره نعم فيهما بقية بن الوليد، وفيه لأئمة الحديث مقال، وتتبعت رجال أبي داود فلم أجد فيهم مولى ربعي ولا المفضل الضبي كما قاله أبو محمَّد بن حزم، فلا يعتبر ما قاله (3).
(1) سورة النور الآية: (64).
(2)
في "جامع الأصول"(1/ 279).
(3)
وهو كما قال محمَّد بن إسماعيل الأمير: فقد نظرت في تجريد أسماء الرواة الذين تكلم فيهم ابن حزم جرحاً وتعديلاً مقارنة مع أقوال أئمة الجرح والتعديل.
وكتاب الجرح والتعديل عند ابن حزم الظاهري أحكام ابن حزم على أكثر من (1300) راوٍ، وفهارس المحلى لابن حزم فهرس الرواة الذين تكلم فيهم ابن حزم بجرح أو تعديل (1/ 235 - 402) والله أعلم.
الحديث الرابع:
56/ 4 - عَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِ كَرِبَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "أَلَا هَلْ عَسَى رَجُل يَبْلُغُهُ الْحَدِيثُ عَنِّي، وَهُوَ مُتَّكِئٌ عَلَى أَرِيكَتِهِ فَيَقُولُ: بَيْنَنَا وَبَيْنكُمْ كِتَابُ الله فَمَا وَجَدْنَا فِيهِ حَلَالاً اسْتَحْلَلْنَاهُ، وَمَا وَجَدْنَا فِيهِ حَرَامًا حَرَّمْنَاه، وَإِنَّ مَا حَرَّمَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم كَمَا حَرَّمَه [91/ ب] الله" أخرجه أبو داود (1) والترمذي (2). [حسن].
وزاد أبو داود (3) رحمه الله في أوله: "أَلَا إِنِّي أُوتِيتُ الْكِتَابَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ" وذكر معناه.
وزاد (4) أيضاً: "أَلَا لَا يَحِلُّ لَكُم الْحِمَارُ الأَهليُّ، وَلَا كُلُّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ، وَلَا لُقَطَةُ مُعَاهِدٍ إِلَاّ أَنْ يَسْتَغْنِىَ عَنْهَا صَاحِبُهَا، وَمَنْ نَزَلَ بِقَوْمٍ فَعَلَيْهِمْ أَنْ يَقْرُوهُ، فَإِنْ لَمْ يَقْرُوهُ فَلَهُ أَنْ يُعْقِبَهُمْ بِمِثْلِ قِرَاهُ"[حسن].
"الأريكةُ" السريرُ في الحجلة، وقيل: هوَ كلُّ ما اتُّكئ عليه: "والقرى": الضيافة.
"وعن المقدام بن معدي كرب" في الاستيعاب (5) بعد سياقه نسبه الكندي هو أحد الوافدين وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم من كندة يُعدُّ في الشاميين، وبالشام مات سنة تسع وثمانين، وهو ابن إحدى وتسعين سنة.
(1) في "سننه" رقم (4604).
(2)
في "سننه" رقم (2664) وقال: هذا حديث حسن.
قلت: وأخرجه ابن ماجه رقم (12) وهو حديث حسن.
(3)
في "سننه" رقم (4604) وهو حديث حسن.
(4)
أي أبو داود رقم (4604) و (3804).
(5)
في "الاستيعاب"(ص 702 - 703) رقم (2502).
قوله: "هل عسى رجل يبلغه الحديث عني وهو متكئ على أريكته".
أقول: عسى (1) تأتي للترجي والإشفاق، وهي هنا للإشفاق، والأرِيكة: السرير في الحُجلة، وهي بالتحريك تكون كالعهن يستر بالثياب، وبها أراد كبار، ويجمع على حجال، ولا يسمى منفرداً أريكة. وقيل: هو كلما اتكأ عليه ويقال: أوشك إذا أسرع وقرب إيشاكاً. أي: لقرب رجل يقول هذا القول، لكنه لا يقوله إلا مترف قاعد في بيته في حجلته لا يطلب العلم ولا يسأل عنه.
وقوله: "فإنما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما حرم الله" أي: وما حلله كما حلل الله، وإنما اقتصر على أحد الأمرين للعلم بأن مقابلة مثله إذ لا يكون قوله صلى الله عليه وسلم حجة في التحريم دون التحليل، وخص التحريم؛ لأنه المخالف للأصل إذ الأصل في الأشياء الحل، والحديث مأخوذ من قوله تعالى:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (2)، ومن قوله:{وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} (3)، ومن المعلوم يقيناً أن الأحكام المأخوذة من السنة يجب العمل بها.
قوله: "أخرجه أبو داود والترمذي":
قلت: وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه. انتهى.
قوله: "وذكر بمعناه" ولفظه جميعاً: "ألا وإني أوتيت الكتاب ومثله معه، ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول: "عليكم بهذا القرآن، فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه ألا لا يحل".
(1) انظر "النهاية"(1/ 40) و"القاموس المحيط"(ص 1202).
(2)
سورة الحشر الآية: (7).
(3)
سورة الأعراف الآية: (157).
أقول: قال الخطابي (1) في شرح هذا الحديث: أوتيت الكتاب ومثله، يحتمل وجهين من التأويل: أحدهما: أن معناه أنه أوتي من الوحي الباطن غير المتلو مثل ما أوتي من الظاهر المتلو.
والثاني: أنه الكتاب وحياً، وأوتي من البيان مثله، أي: أذن له أن يبين ما في الكتاب فيعم، ويخص ويزيد عليه ويشرع ما ليس في الكتاب، فيكون في وجوب العمل به ولزومه، فقوله كالظاهر المتلو من القرآن. انتهى.
قلت: وهذا الثاني هو مسألة التفويض المعروفة في أصول الفقه، وفيها خلاف ولا ريب أنه معلوم يقيناً أنه صلى الله عليه وسلم أوتي القرآن، وأكثر أحكامه مجملة، ووكل الله إليه البيان، وقال:{لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (2) وانظر في حكم واحد ورد في القرآن في غاية الإجماع ما بينه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قوله: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} (3) فإن هذين حكمان ما يعرف قدرهما عدداً ولا كيفية ولا وقتاً، إلا من بيانه صلى الله عليه وسلم بأقواله وأفعاله، وأظن - والله أعلم - أنه قد أراد بهذه الطائفة الخوارج (4) الذين كفروا الصحابة، فلا يقبلون رواية، ويقولون: يكفينا كتاب الله.
(1) في "معالم السنن"(5/ 10 - مع السنن) عند شرح الحديث (4604).
(2)
سورة النحل الآية: (44).
(3)
سورة البقرة الآية (43).
(4)
الخوارج في اللغة: جمع خارج وخارجي اسم مشتق من الخروج، وقد أطلق علماء اللغة كلمة الخوارج في آخر تعريفاتهم اللغوية في مادة:"خرج" على هذه الطائفة من الناس معللين ذلك بخروجهم على الدين، أو على الإِمام علي، أو لخروجهم على الناس.
"تهذيب اللغة"(7/ 50) تاج العروس (2/ 30).
والخوارج جمع خارجة وهم الذين نزعوا أيديهم عن طاعة ذي السلطان من أئمة المسلمين، بدعوى ضلاله وعدم انتصاره للحق، ولهم في ذلك مذاهب ابتدعوها وآراء فاسدة اتبعوها. =
وفي قوله: "يوشك" وما شعر بذلك، فإنهم خرجوا في خلافة أمير المؤمنين علي عليه السلام، فقد صدق أنهم أسرع خروجهم، وقولهم: لا حكم إلا لله، ووجدت في "التمهيد" (1) لابن عبد البر ما لفظه بعد سياقه بسنده [55 ب/ ج] عن أبي نضرة أو غيره قال: كنا عند عمران بن حصين، وكنا نتذاكر العلم قال: فقال رجل: لا تحدثوا إلا بالقرآن، فقال عمران بن حصين: إنك لأحمق أو حدث في القرآن صلاة الظهر أربع ركعات، والعصر أربع لا تجهر في شيء منها، والمغرب ثلاث تجهر بالقراءة فيها في ركعتين، ولا تجهر في ركعة، وذكر العشاء والفجر، فعرفت أن قال: قيل: بما ذكره صلى الله عليه وسلم ، فالحديث من أعلام النبوة.
قال الخطابي (2): إنه صلى الله عليه وسلم يحذر بهذا الحديث القول من مخالفة السنن التي سنها مما ليس في القرآن.
قوله: "ألا لا يحل الحمار الأهلي" هذا مما حرمه رسول الله صلى الله عليه وسلم زيادة على ما في القرآن في قوله: {لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا
= والخوارج لا يقلون عن عشرين فرقة منها: الأزارقة، النجدات والصفرية الخازمية، والشعبية، والمعلومية، والمجهولية، الحمزية، والشمرافية، والإبراهيمية، الواقفة والإباضية.
ويقال لهم: الشراة والحرورية، والنواصب المارقة.
وأول من خرج على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب جماعة ممن كان معه في حرب صفين، وأشدهم خروجاً عليه، ومروقاً من الدين: الأشعث بن قيس الكندي ومسعر بن فدكي التميمي، وزيد بن حصين الطائي.
"الملل والنحل"(1/ 131 - 135).
(1)
في "التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد مرتباً على الأبواب الفقهية للموطأ"(10/ 354 - الفاروق).
(2)
في "المعالم"(5/ 11 - مع السنن).
مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ} الآية، وقد وقع الإجماع على تحريم الحمار الأهلي، إلا ما يقال عن ابن عباس، وكأنه ما بلغه الخبر، ومثله في الزيادة.
قوله: "وكل ذي ناب من السباع": أي: ولا يحل لكم. في "النهاية"(1): السباع يقع على الأسد والذئاب والنمور وغيرها، وكل ذي ناب من السباع، وهو ما يفترس من السباع، ويأكل قسراً، وذكر مثلما ذكره أولاً.
قوله: "لقطة معاهد" اللقطة ما وجدتم من مساقي الأرض لا يعرف له صاحباً، والمعاهد: الذي بينك وبينه عهد وموادعة، والمراد به من كان بينه وبين المسلمين معاهدة وموادعة، ومهادنة، فلا يجوز أن يملك لقطته؛ لأنه معصوم المال يجري حكمه مجرى حكم الذمي.
وقوله: "إلا أن يستغنى عنها صاحبها" معناه: أن يتركها صاحبها لن أخذها استغناءً عنها. هذا وقد قدمنا تفسير السباع، وقال الشافعي (2): ذو الناب المحرم هو الذي يعدو على الناس كالأسد، والنمر، والذئب، ويؤكل الضبع والثعلب، وخالفه مالك وقال: لا يؤكلا. قال ابن وهب: وكان الليث بن سعد يؤكل الهر والثعلب، وحجة مالك على الجميع عموم حديث النهي، وحديث الضبع انفرد به عبد الرحمن بن أبي عمار، وليس بمشهور، ولا يحتج بما انفرد به إذا خالف من هو أثبت منه.
قال ابن عبد البر (3): وقد روى النهي عن أكل كل ذي ناب من السباع من طرق متواترة.
(1)"النهاية"(2/ 337).
(2)
انظر "الأم"(3/ 642 - 643).
(3)
انظر "التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد"(10/ 346).
وقوله: "يقروه" القرى: ما يعد للضيف من النزول، وفيه دليل على وجوب الضيافة لمن نزل بقوم بدليل قوله:"فعليهم".
وقوله: "أن يعقبهم": قال ابن الأثير (1): إنه مشدد ومخفف قال: ومعناه أن يأخذ منهم، ويغنم من أموالهم، بمقدار قِراه، ومثله قوله تعالى:{وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ} (2) أي: فكانت الغلبة لكم فغنمتم منهم. اهـ
قال الخطابي (3): هذا في حال المضطر الذي لا يجد طعاماً، أو يخاف التلف على نفسه فله أن يأخذ من مالهم بقدر قِراه عوض ما حرموه من القرى، انتهى.
وادعى بعضهم أن هذا كان قبل فرض الزكاة، ثم نسخ.
قلت: ويأتي تحقيقاً البحث عند ذكر الضيافة إن شاء الله.
الخامس:
57/ 5 - وعَنْ أَبِي مُوسَى عبد الله بن قيس الأشعري رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَثَلُ مَا بَعَثَنِي الله بِهِ مِنَ الهدَى وَالْعِلْمِ كَمَثَلِ الغَيْث الْكَثِيرِ أَصَابَ أَرْضًا، فكَانَت مِنْهَا طَائِفة طَيِّبة قَبِلَتِ الْمَاءَ، فَأَنْبَتَتِ الْكَلأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ [92/ ب]، وَكَانَتْ مِنْهَا أَجَادِبُ (4) أَمْسَكَتِ
(1) في "جامع الأصول"(1/ 282).
(2)
سورة الممتحنة الآية (11).
(3)
في "معالم السنن"(5/ 11).
(4)
"أجادب" قال أبو عبد الله الحميدي - صاحب كتاب "الجمع بين الصحيحين" في شرح غريب كتابه الذي رأيناه من الروايات في هذا الحديث: أجادب، بدال قبل باء قال: وحكاه الهروي في "الجمع بين الغريبين" أجارد براء قبل دال يقال: مواضع منجردة من النبات ويقال: مكان أجرد، وأرض جرداء إذا لم تنبت، والحديث يدل على أن المراد به: الأرض الصلبة التي تمسك الماء. =
الْمَاءَ، فَنَفَعَ الله بِهَا النَّاسَ، فَشَرِبُوا وَسَقَوْا وَزَرَعُوا، وَأَصَابَتْ مِنْهَا طَائفَةً أُخْرَى، إِنَّمَا هِي قِيعَانٌ لَا تُمْسِكُ مَاءً، وَلَا تُنْبِتُ كَلأً، فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقِهَ في دينِ الله تعالى وَنَفَعَهُ مَا بَعَثَنِي الله تعالى بِهِ، فَعَلِمَ وَعَلَّمَ، وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا، وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى الله الَّذِي أرْسِلْتُ بِهِ" (1)[صحيح].
= قلت: وقال الجوهري في كتاب "الصحاح": يقال: فضاء أجرد، لا نبات به، والجمع أجارد إلا أن لفظة الحديث في الروايات:"أجادب" ولعل لها معنى لم يعرف، والله بلطفه يهدي إليه.
قلت: وذكر الهروي رحمه الله أيضاً في كتابه في موضع آخر: "وكانت فيها إخاذات أمسكت الماء" وقال: الإخاذات: الغدران التي تأخذ ماء السماء فتحبسه على الشاربين واحدتها: إخاذة، وهذا مناسبٌ للفظ الحديث، فإنه قال:"وكان منها أجادب أمسكت الماء، فنفع الله به الناس، وشربوا منه" والله أعلم.
قال الخطابي: وأما: "أجادب" فهو غلط وتصحيف قال: وقد روي أحادب بالحاء المهملة والباء من "جامع الأصول"(1/ 286 - 287).
(1)
أخرجه البخاري رقم (79) ومسلم رقم (2282). قال القرطبي في "المفهم"(6/ 83 - 84) في شرح هذا الحديث: ضرب مثل لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من العلم والدين، ولمن جاءهم بذلك، فشبه ما جاء به بالمطر العام الذي يأتي الناس في حال إشرافهم على الهلاك يحييهم، ويُغيثهم، ثم شبه السامعين له: بالأرض المختلفة؛ فمنهم: العالم العامل المعلم، فهذا بمنزلة الأرض الطيبة شربت، فانتفعت في نفسها، وأنبتت، فنفعت غيرها، ومنهم الجامع للعلم، الحافظ له، المستغرق لزمانه في جمعه ووعيه؛ غير أنه لم يتفرغ للعمل بنوافله، ولا ليتفقه فيما جمعَ، لكنه أداه لغيره كما سمعه، فهذا بمنزلة الأرض الصلبة التي يستقر فيها الماء فينتفع الناس بذلك الماء، فيشربون ويسقون، وهذا القسم هو الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم:"نضر الله امرأً سمع مني حديثاً فبلغه غيره، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه ورب حامل فقه ليس بفقيه"(أ). لا يقال: فتشبيه هذا القسم بهذه الأرض التي أمسكت على غيرها، ولم تشرب في نفسها يقتضي ألا تكون عملت بما لزمها من العلم، ولا من الدين، ولم يقم بما وجب عليه من أمور الدين، فلا ينسب للعلماء ولا للمسلمين؛ لأنا نقول: القيام بالواجبات ليس خاصاً بالعلماء، بل يستوي فيها العلماء وغيرهم. ومن لم يقم بواجبات علمه كان من الطائفة الثالثة التي لم تشرب، ولم تمسك؛ لأنه لما لم يعمل بما وجبَ عليه لم ينتفع بعلمه؛ ولأنه عاصٍ فلا يصلح للأخذ عنه. =
_________
(أ) أخرجه أحمد (1/ 437) والترمذي رقم (2657) وابن ماجه رقم (232) من حديث ابن مسعود، وهو حديث صحيح.
قوله: "وعن أبي موسى".
أقول: قدم أبو موسى (1) مكة ثم أسلم، وهاجر إلى الحبشة، ثم قدم مع مهاجرة الحبشة ورسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر، وقيل: بل أسلم ورجع إلى بلاده، ثم قدم مع من قدم من الحبشة ولاه عمر بن الخطاب البصرة بعد أن عزل عنها المغيرة، فافتتح الأهواز، ولم يزل على البصرة إلى خلافة عثمان فعزله، فانتقل إلى الكوفة، ثم ولاه عثمان الكوفة، ولم يزل عاملاً حتى قتل عثمان [56 أ/ ج] ثم بعد التحكيم سكن مكة إلى أن مات سنة خمسين، وقيل: قبلها.
قوله: "إن مثله"[يقال](2): بكسر الميم وسكون المثلثة مثل شبه لفظاً ومعنى وبفتحهما مثل شبه، والمراد بالمثل الصفة العجيبة، والقول السائر ومثله.
وقوله: "من الهدى" أي: الدلالة الموصلة إلى المطلوب والعلم المراد به معرفة الأدلة الشرعية.
= وقوله: "وأصاب طائفة أخرى" هذا مثل للطائفة الثالثة التي بلغها الشرع فلم تؤمن، ولم تقبل وشبَّهها بالقيعان السبخة التي لا تقبلُ الماء في نفسها وتفسده على غيرها، فلا يكون منها إنباتٌ ولا يحصل بما حصل فيها نفعٌ و"القيعان" جمع قاع، وهو ما انخفض من الأرض، وهو المستنقع أيضاً، وهذا يعمُّ ما يفسد فيه الماء، وما لا يفسدُ، لكن مقصود الحديث: ما يفسد فيه الماء.
وقوله: "سَقَوا ورَعُوا" يقال: سقى وأسقى بمعنى واحد. وقيل: سقيته ناولته ما يشربُ وأسقيته: جعلت له سقياً، ورعَوا من الرعي، وقد رويته عن بعض المقيدين: زرعوا من الزرع، وكلاهما صحيح.
وقوله: "فذلك مثل من فقه في دين الله، ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم" هذا مثال الطائفة الأولى.
وقوله: "ومثل من لم يقبل هدى الله الذي أرسلت به" مثال الطائفة الثالثة، وسكت عن الثانية إما لأنها قد دخلت في الأولى بوجهٍ؛ لأنها قد حصل منها نفعٌ في الدين، وإما لأنه أخبر بالأهم فالأهم، وهما الطائفتان المتقابلتان: العليا، والسفلى، والله تعالى أعلم. اهـ.
(1)
انظر ترجمته في "الاستيعاب"(ص 432 - 433 رقم 1476) و (ص 851 - 852) رقم (3137).
(2)
في المخطوط مكررة.
قوله: "قبلت الماء" بفتح القاف وكسر الموحدة من القبول. "والكلأ" بالهمزة مقصور.
قوله: "والعشب" هو من عطف الخاص على العام، لأن الكلأ يطلق على النبت الرطب واليابس والعشب للرطب فقط.
وقوله: "الكثير" صفة للعشب، وقد حذفت صفة الكلأ؛ لأنه إذا كان الخاص كثير فبالأولى العام له ولغيره.
وقوله: "وكان منها" أي: من الأرض التي أصابها الغيث.
قوله: "أجادب": في رواية البخاري لغير أبي ذر، وفي رواية مسلم بالجيم والدال المهملة بعدها موحدة جمع جدب بفتح الدال المهملة على غير قياس، وهي الأرض الصلبة التي لا ينضب منها الماء، وفي (1) رواية أبي ذر للبخاري:"إجاذات" بكسر الهمزة والحاء والدال المعجمتين وآخره مثناة من فوق قبلها ألف جمع إجاذة، وهي الأرض التي تمسك الماء، وقال الهروي (2): هي العذرات التي تأخذ ماء السماء، فتمسك على الشاربين. قال الهروي: وهذا المناسب للفظ الحديث.
قال الخطابي (2): وأما أجاديب فهو غلط وتصحيف.
وقوله: "ينفع الله بها" أي: بالأجادب، وفي رواية للبخاري به، أي: الماء.
قوله: "ورعوا" من الرعي، وفي رواية للبخاري:"وزرعوا" بزيادة زاي من الزرع. قال النووي (3): كلاهما صحيح.
(1) في المخطوط مكررة.
(2)
ذكره ابن الأثير في "الجامع"(1/ 286 - 287).
(3)
في شرح "صحيح مسلم"(15/ 47).
قوله: "وأصاب": أي: الغيث طائفة منها، أي: الأرض. "طائفة أخرى" أي: قطعة: "إنما هي قيعان" جمع قاع، وهو المستوي من الأرض الملساء التي لا تنبت، وقد فسرها قوله صلى الله عليه وسلم:"لا تمسك ماءً ولا تنبت كلأ".
قوله: "فذلك" أي: مثل من فقُه بضم القاف، وصار فقيهاً.
قوله: "ونفعه ما بعثني الله به مثله وعلم إلا أجر" قال القرطبي (1) وغيره: ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم لما جاء به من الدين مثلاً بالغيث العام الذي يأتي الناس في حال حاجتهم إليه، وكذا كان حال الناس قبل مبعثه، فكما أن الغيث يحيي البلد الميت، فكذا علوم الدين تحيي القلب الميت، ثم شبه السامعين له بالأرض المختلفة التي ينزل الغيث عليها، فمنهم العالم العامل فهو بمنزلة الأرض الطيبة شربت فانتفعت في نفسها، وأنبتت، فنفعت غيرها، ومنهم الجامع للعلم المستغرق لزمانه فيه غير أنه لم يعمل بنوا فله، أو لم ينفعه ما جمع لكنه، أداة لغيره، فهو بمنزلة الأرض التي يستقر فيها الماء، فينتفع الناس به، وهو المشار إليه بقوله صلى الله عليه وسلم:"نضر الله امرءٌ سمع مقالتي فأداها كما سمعها"(2) ومنهم من سمع العلم فلا يحفظه ولا يعمل به، ولا ينقله إلى غيره، فهو بمنزلة الأرض السبخة الملساء التي لا تقبل الماء، ويفسده على غيرها، وإنما جمع في المثل بين الطائفتين الأولتين المحمودتين لاشتراكهما في الانتفاع بهما [56 ب/ ج] وأفرد الثالثة المذمومة لعدم النفع بها، وانتفاعها في نفسك.
قلت: ولذا ذكر في أصل المثل ثلاثة طوائف، وفي التفريع اقتصر على طائفتين لأنه جعل الأولين في التفريع شيئاً واحداً هو المنتفع بما بعث به الرسول صلى الله عليه وسلم، وإن اختلف النفع قد جمعهما حصول أصله، فكلهما شيئاً واحداً.
(1) في "المفهم"(6/ 83 - 84).
(2)
أخرجه أحمد (1/ 437) والترمذي رقم (2657) وابن ماجه رقم (232)، وهو حديث صحيح.
والحديث السادس:
58/ 6 - وعَنه رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّمَا مَثَلِي وَمَثَلُ مَا بَعَثَنِي الله بِهِ كمَثَلِ رَجُلٍ أَتَى قَوْمه فَقَالَ: إِنِّي رَأَيْتُ الْجَيْشَ بِعَيْنَي، وَإِنِّي أنا النَّذِيرُ الْعُريَانُ فَالنَّجَاءَ. فَأَطَاعَهُ طَائِفَةٌ مِنْ قَوْمِهِ فَأَدْلُجوا، وَانْطَلَقُوا عَلَى مَهَلِهِمْ فَنَجَوْا، وَكَذَّبَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ فَأصْبَحُوا مَكَانَهُمْ، فَصَبَّحَهُمُ الْجَيْشُ، فَأَهْلَكَهُمْ وَاجْتَاحَهُمْ، فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ أَطَاعَنِي، فَاتَّبَعَ مَا جِئْتُ بِهِ، وَمَثَلُ مَنْ عَصَانِي وَكَذَّبَ بِمَا جِئْتُ بِهِ مِنَ الْحَقِّ" أخرجه الشيخان (1). [93/ ب][صحيح].
قوله: "إن مثلي".
أقول: الأول ذكر صلى الله عليه وسلم فيه مثل ما بعثه الله به، وهذا مثله نفسه باعتبار ما بعثه به.
قوله: "النذير العريان" هو بضم العين المهملة وسكون الراء، وهو الذي لا ثوب عليه خصه لأنه أبينُ في العين، وأصل هذا أن الرجل منهم كان إذا أنذر قوماً وجاء من بلد بعيد انسلخ من ثيابه ليكون أبين للعين قاله ابن الأثير (2).
وقوله: "فالنجاء": بالمد والهمز نصب على الإغراء. أي: اطلبوا الخلاص لأنفسكم، ولفظ النجاء مكرر في لفظ الجامع (3) وهو لفظ الشيخين، فكأنه سقط من قلم المصنف.
"أدْلجُوا" إذا جُفِّف من أدلج يُدْلج - بمعنى: سار الليل كله - وإذا ثقل من أدلَج يَّدلج كان إذا سار من آخر الليل، و"مهلهم" بفتح الميم والهاء، أي: إناتهم وتؤدهم.
وقوله: "فذلك": اتحافاً ذكر من المثلين الأول للأولى، والثاني للثاني.
(1) البخاري رقم (6482) ومسلم رقم (2283).
(2)
في "جامع الأصول"(1/ 287).
(3)
(1/ 285 رقم 71).
والحديث السابع:
59/ 7 - وعَن أبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّمَا مَثَلي وَمَثَلُكم كمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَوْقَدَ نَارًا، فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ جَعَلَ الْفَرَاشُ وَهَذ الدَّوَابُّ الَّتِي تَقَعُ في النَّارِ يَقَعْنَ فِيهَا، فَجَعَلَ يَنْزِعُهُنَّ وَيَغْلِبْنَهُ، فَيَقْتَحِمْنَ فِيهَا، فَأنَا آخُذُ بِحُجَزِكُمْ عَنِ النَّارِ، وَأَنْتُمْ تَقْتَحِمُونَ فِيهَا" أخرجه الشيخان (1) والترمذي (2)، واللفظ للبخاري. [صحيح].
قوله: "الفراش" هو الطائر الذي يرمي نفسه في اللهب: "والحجز" بضم المهملة وفتح الجيم جمع حجزة بضمها وسكون الجيم، وهي معقد منتهى الإزار. "والاقتحام" في الشيء إلقاء النفس.
فيه: أنه لا نجاة عن النار إلا باتباعه صلى الله عليه وسلم، والاعتصام بما جاء به.
قوله: "واللفظ للبخاري": قلت: كذا في الجامع (3) إلا أن لفظه: "مثلي ومثل الناس" لا مثلكم كما قاله المصنف.
نعم، في مسلم في آخره:"فذلك مثلي ومثلكم أنا آخذ بحجزكم عن النار هلم عن النار .. هلم عن النار فتغلبوني وتقتحمون فيها".
الحديث الثامن:
60/ 8 - وعَن ابْنِ مَسْعُود رضي الله عنه قال: "إِنَّ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابُ الله، وَأَحْسَنَ الهدْىِ هَدْىُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وَشَرَّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَإِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ، وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ" أخرجه البخاري (4)[صحيح].
(1) البخاري رقم (3426) ومسلم رقم (2284).
(2)
في "سننه" رقم (2874) وقال: هذا حديث حسن صحيح.
(3)
(1/ 288).
(4)
في "صحيحه" رقم (7277).
قوله: "إن أحسن الحديث".
قد سمى الله كلامه حديثاً في قوله: {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (185)} (1).
وتقدم بقية ما في الأثر، وقد أخرجه الأخرى مرفوعاً بلفظ:"أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمَّد، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار" أخرجه من حديث جابر بن عبد الله (2) وأخرجه مرفوعاً أيضاً عن أبي هريرة.
وقوله: "الهدي" بفتح الهاء وسكون الدال لأكثر رواة البخاري وللبعض منهم بضم الهاء مقصور ومعنى الأول الهيئة والطريقة، والثاني ضدُّ الضلال.
هذا قال الحافظ (3): إن قوله: "وأحسن الهدي هدي محمد" له حكم الرفع؛ لأنه إخبار عن صفة من صفاته، وهو أحد أقسام المرفوع، وقلَّ من نبَّه على ذلك. وفيه: الاقتباس من القرآن.
التاسع حديث عائشة:
61/ 9 - وعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَحْدَثَ في أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ" أخرجه الشيخان (4) وأبو داود (5). [صحيح].
وفي رواية (6): "مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ"[94/ ب].
(1) سورة المرسلات الآية (50).
(2)
أخرجه مسلم رقم (867) وابن ماجه رقم (45)، وقد تقدم.
(3)
في "الفتح"(13/ 252).
(4)
البخاري رقم (2697) ومسلم رقم (1718).
(5)
في "سننه" رقم (4606)، وهو حديث صحيح.
(6)
لمسلم في "صحيحه" رقم (18/ 1718).
وقوله: "في أمرنا" أراد به الأمر الذي جاء به صلى الله عليه وسلم من الأوامر والنواهي وغيرهما، "ما ليس فيه" أي: ما لا دليل عليه من كلام الله ولا كلام رسوله.
وقوله: "فهو رد" أي: مردود، فلا حكم له، ولا قبول، ولا نفوذ.
وهذا حديث جليل دلَّ بمفهومه على أن كل ما كان من أوامره صلى الله عليه وسلم فهو مقبول نافذ الحكم، وكل ما كان على غير أمره فهو مردود لا نفوذ له ولا قبول.
وقوله: وفي لفظ: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد" هو مقيد بما أفاده الأول، وهو واضح في وجوب الاعتصام [57 أ/ ج] بالكتاب والسنة.
[العاشر](1):
62/ 10 - وعَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ شِبْرًا فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَةَ الإِسْلَامِ مِنْ عُنُقِهِ" أخرجه أبو داود (2)[صحيح لغيره].
(1) في المخطوط التاسع والصواب ما أثبتناه.
(2)
في سنن أبي داود رقم (4758).
قلت: وأخرجه أحمد في "المسند"(5/ 180) وابن أبي عاصم في "السنة" رقم (1054)، وفي سندهم خالد بن وهبان مجهول.
لكن يشهد له حديث الحارث الأشعري الطويل وفيه: فإنه من فارق الجماعة قيد شبر، فقد خلع ربقة الإِسلام من عنقه إلا أن يراجع".
أخرجه أحمد (4/ 130) والترمذي رقم (2863) والحاكم (1/ 422) قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
وقال الحاكم: صحيح على شرطهما، ووافقه الذهبي.
وصححه ابن خزيمة رقم (1895) وابن حبان رقم (6233)، فحديث الحارث الأشعري صحيح.
وحديث أبي ذر حديث صحيح لغيره، والله أعلم.
قوله: "من فارق الجماعة شبراً" في النهاية (1) مفارقة الجماعة ترك السنة واتباع البدع.
وقوله: "فقد خلع ربقة الإِسلام من عنقه" الربقة في الأصل: عروة تجعل في عنق البهيمة أو يدها تمسكها، فاستعارها للإسلام بمعنى: ما شد به المسلم نفسه من عرى الإسلام. أي: حدوده وأحكامه وأوامره ونواهيه، انتهى.
وفيه: أن مخالفة السنة توجب خروج مخالفها عن الإِسلام، ويسمي متابعها جماعة، ولو كان فرداً واحداً.
قلت: وفي سنن أبي داود (2): وفي حديث افتراق الأمة إلى ثلاث وسبعين ثنتان وسبعون في النار، وواحدة في الجنة، وهي الجماعة، انتهى.
ففسر الفرقة الناجية بالجماعة، وهم أتباع الكتاب والسنة.
[الحادي عشر](3): حديث علي عليه السلام:
63/ 11 - وعَنْ عَلِي رضي الله عنه قَالَ: اقْضُوا كَمَا كُنْتُمْ تَقْضُونَ، فَإِنِّي أَكْرَه الِاخْتِلَافَ حَتَّى يَكُونَ النَّاسِ جَمَاعَةٌ، أَوْ أَمُوتَ كَمَا مَاتَ أَصْحَابِي.
وَكَانَ ابْنُ سِيرِينَ رحمه الله يَرَى أَنَّ عَامَّةَ مَا يُرْوَى عَلَى عَلِيٍّ الْكَذِبُ.
أخرجه البخاري (4)[صحيح].
وقوله: "اقضوا كما كنتم تقضون" قاله في بيع أمهات الأولاد، فإنه كان يرى بيعهن، وكان عمر يرى في خلافته عدم بيعهن ووافقه علي، ثم رجح عنده بيعهن، ثم أمر في خلافه
(1) في "النهاية"(3/ 439).
(2)
في "سننه" رقم (4597) من حديث معاوية بن أبي سفيان، وهو حديث حسن.
(3)
في المخطوط: العاشر والصواب ما أثبتناه.
(4)
في "صحيحه" رقم (3707).
بالقضاء بما كانوا يقضون به من بيعهن (1) أفاد معناه في التوشيح، وعلله بقوله:(فإني أكره الخلاف) فإني لا يأتي الخلاف إلَاّ بالشر والتفرق، ولذا قال:"حتى يكون الناس جماعة لا يفرق بينهم" وقد كان الصحابة يكرهون الخلاف حتى أنه لما أتم عثمان صلاة الرباعية في منى أنكر ذلك ابن مسعود، ثم صلى تماماً، فقيل له: أنكرت على عثمان، وصليت كما صلَّى، فقال:"الخلاف شر كله" ونحو هذه العبارة.
قوله: "كذباً" يريد ما يروى عنه عليه السلام مما يخالف كلامه هذا، فإنه قد كذب عليه عليه السلام ما لم يكذب على غيره.
[الثاني عشر](2): حديث أنس:
64/ 12 - عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: مَا أَعْرِفُ شَيْئًا مِمَّا كَانَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، قِيلَ: الصَّلَاةُ. قَالَ: أَليْسَ صَنَعْتُم ما صَنَعْتُم فِيهَا. أخرجه البخاري (3) والترمذي (4)[صحيح].
"ما أعرف شيئاً" ذكره البخاري في باب تضييع الصلاة عن وقتها (5).
وقوله: "الصلاة" أي: قيل له: الصلاة هي شيء مما كان على عهده، وهي باقية فكيف يصح هذا السلب العام، فأجاب: بأنهم غيروها أيضاً بأن أخرجوها من الوقت، وأخرج أحمد أن القائل له أبو رافع، قال: يا أبا حمزة! ولا الصلاة؟ قال له أنس: "قد علمتم ما صنع الحجاج في الصلاة".
(1) انظر "الدراري المضية" للشوكاني (2/ 162 - 164) بتحقيقي.
(2)
في المخطوط: الحادي عشر والصواب ما أثبتناه.
(3)
في "صحيحه" رقم (529) و (530).
(4)
في "سننه" رقم (2447) وقال: هذا حديث حسن غريب، وهو حديث صحيح.
(5)
رقم الباب (7).
وقوله: "صنعتم" بالمهملتين والنون لأكثر رواة البخاري، ولبعضهم: بالمعجمة وتشديد الياء.
وفي رواية الترمذي: "أو لم تصنعوا في الصلاة ما قد علمتم؟ ".
وروى ابن سعد في "الطبقات"(1) سبب قول أنس لهذا، فأخرج في ترجمته أنس بطريقه إلى ثابت البناني قال:"كنا مع أنس بن مالك فأخر الحجاج الصلاة، فقام أنس يريد أن يكلمه، فنهاه إخوانه شفقة عليه منهم، فخرج فركب دابته فقال في مسيره ذلك: والله ما أعرف شيئاً مما كنا عليه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا شهادة أن لا إله إلا الله، فقال له رجل: فالصلاة يا أبا حمزة! قال: قد جعلتم الظهر عند المغرب، أتلك صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! ".
فائدة: في البخاري (2) في باب: إثم من لم يتم الصفوف (3). عن أنس أنه قدم المدينة، فقيل له: ما أنكرت منا منذ عهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: "ما أنكرت شيئاً إلا أنكم لا تقيمون الصفوف". انتهى.
فهذا إنكار آخر على أهل المدينة هو عدم إقامة الصفوف، والأول تأخر الصلاة عن وقتها، وذلك كان بالشام، وهذا بالمدينة، قاله الحافظ في "الفتح"(4).
قوله: "والترمذي" وقال: حسن غريب.
(1) لم أقف عليه في "الطبقات" في ترجمة أنس بن مالك (7/ 17 - 26).
(2)
في "صحيحه" رقم (724).
(3)
الباب رقم (75).
(4)
في "فتح الباري"(2/ 210).
الحديث [الثالث عشر](1):
وعَن أَبِي هُريْرَة رضي الله عنه: أنه دَخَل السوق فقال: أراكم ههنا وميراث محمدٍ صلى الله عليه وسلم يُقْسَم في المسجِد؟ فذَهبُوا وقالوا: ما رأيْنَا شيئاً يُقْسَم؟ رأينا قَوْمَاً يقرءون القرآن. قال: فذَلكم ميراثُ نبيكم صلى الله عليه وسلم (2)[95/ ب]، [إسناد حسن].
قوله: "ميراث محمَّد يقسم في المسجد".
أقول: قد ثبت في حديث أبي الدرداء عند أبي داود (3) والترمذي (4) وابن ماجه (5) وابن حبان في صحيحه (6)، وفيه:"وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر" انتهى [57 ب/ ج] وأحسن من قال:
العلم ميراث النبي كذا أتى
…
في النص والعلماء هم وراثه
ما خلف المختار غير حديثه
…
فينا فذاك متاعه وأثاثه
فلنا الحديث وراثة نبوية
…
ولكل محدث بدعةٍ إحداثه
(1) في المخطوط: الثاني عشر، والصواب ما أثبتناه.
(2)
أخرجه الطبراني في "الأوسط" رقم (1429) بسند حسن.
وأورده الهيثمي في "مجمع الزوائد"(1/ 123 - 124) وقال: إسناده حسن.
(3)
في "سننه" رقم (3641).
(4)
في "سننه" رقم (2682).
(5)
في "سننه" رقم (223).
(6)
في "صحيحه" رقم (88).
قلت: وأخرجه أحمد (5/ 196) والدارمي (1/ 98).
ومدار الحديث على داود بن جميل عن كثير بن قيس وهما مجهولان، لكن أخرجه أبو داود رقم (3642) من طريق أخرى عن أبي الدرداء بسند حسن.
وانظر "صحيح الترغيب والترهيب" و"صحيح ابن حبان"(1/ 290)، وخلاصة القول: أن الحديث حسن.
الحديث [الرابع عشر](1): حديث ابن مسعود:
66/ 14 - وعن ابن مَسْعود رضي الله عنه أنه قَالَ: مَنْ كَانَ مُسْتَنَّاً فليستنَّ بمن قَدْ مَاتَ، فإنَّ الحَيَّ لا تُؤمَنْ عَلِيْه الفِتْنَة، أولَئكَ أصحابُ محمدٍ صلى الله عليه وسلم كانوا أفضلَ هذه الأمةِ أبرَّها قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً، اختارهم الله تعالى لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم ولإقامة دِيْنِه، فأعْرِفُوا لَهُم فَضْلُهُمْ، واتْبِعوهم على أثَرِهُم، وتُمَسَّكُوا بما اسْتَطعتُم من أخلاقهم وسِيرهم، فَإنهم كَانُوا على الهُدَى المستقيم (2).
فيه الأمر بالاستنان والاقتداء بمن قد مات وفسرهم بالصحابة الذين توفوا؛ لأنهم كانوا أفضل هذه الأمة، وذكر صفاتهم الثلاث، وخص على معرفة قدرهم، وأمرنا بالتمسك بهم والتخلق بأخلاقهم وسيرهم، وليس المراد التقليد لهم، فالاستنان اتباع الطريقة المرضية والاقتداء.
حديث ابن عباس: [الخامس عشر](3):
67/ 15 - وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: من تعلم كتابَ الله تعالى، ثم اتبعَ مَا فِيه هداهُ الله تعالى من الضلالةِ في الدنيا ووقاهُ سوء الحساب في الآخرِة (4).
"وأن من تعلم القرآن واتبع ما فيه هداه الله من الضلالة" وهذا معلوم قال الله تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} (5) فتنجوا من الضلالة، ومن شر الحساب في الآخرة.
(1) في المخطوط بياض، وهو الحديث الرابع عشر.
(2)
أخرجه ابن عبد البر في "جامع بيان العلم وفضله" رقم (948) بسند حسن، وهو حديث صحيح.
(3)
بياض في الأصل وهو الحديث الخامس عشر.
(4)
أخرجه رزين كما في "جامع الأصول"(1/ 292) رقم (81) وسكت عليه.
(5)
سورة الإسراء: (9).
حديث عمر رضي الله عنه: [السادس عشر](1):
68/ 16 - وعن عمرَ بِن الخَطَّاب رضي الله عنه قال: "تُرَكْتُمْ عَلى الْوَاضِحَةِ، لَيْلُهَا كَنَهارِهَا، كُوْنُوا عَلى دِيْنِ الأَعْرَابِ، وَالْغِلْمَانِ في الْكِتَاب"(2).
قوله: "تركتكم على الواضحة" أخرج ابن سعد والحاكم من رواية سعيد بن المسيب أن عمر لما قدم المدينة من الحج خطب الناس، فقال: يا أيها الناس! قد فرضت لكم الفرائض، وسنت لكم السنن الواضحة، وليس فيه زيادة ليلها كنهارها إلى آخره، وهو كلام صحيح إذ الوضوح يستلزم تساوي الأوقات في وضوحها.
وقوله: "كونوا على دين الأعراب والغلمان في الكتاب" الأعراب: جمع أعرابي، وهم سكان البادية والعرب كما في "القاموس"(3) خلاف المعجم مؤنث، وهم سكان الأنصار، أو عام، والأعراب منهم سكان البادية، انتهى.
وفيه (4): الغلام الطارُّ الشارِب والكَهْلُ ضِدُّ أو من حين يولَدُ إلى حين يَشِبّ.
وفيه (5): الكُتَّاب، كَرُمَّانٍ الكاتبونَ، والمكتبُ كمقعَدٍ موضِعُ التعليم، انتهى
ومراد عمر بهذه الوصية المنع عن الخوض في تأويل المتشابهات من الآيات والصفات، وأنه لا يخاض في ذلك، بل يجب الإيمان بما سمعه من كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا يتعرض لتأويل ولا لقال، ولا قيل كما أن الأعراب الذين في البوادي يؤمنون بما يسمعونه من ذلك، ولا يخطر لهم تأويل ولا إشكال، بل يؤمنون بما يسمعونه من المقال، ومثله الغلمان في
(1) بياض في الأصل، وهو الحديث السادس عشر.
(2)
أخرجه رزين كما في "جامع الأصول"(1/ 292 رقم 82) وسكت عليه.
(3)
في "القاموس المحيط"(145).
(4)
أي: في "القاموس المحيط"(ص 1475).
(5)
أي: في "القاموس المحيط"(ص 165).
الكُتَّاب، فإنهم يتعلمون آيات الكتاب، ويؤمنون بفطرهم كإيمان المكلفين من أولي الألباب، بل هذه الطريقة رجع إليها المحققون من علماء الأمة بعد أن تغلطوا، وولجوا كل طريقة مدلهمة كابن الخطيب الرازي، فقال: لقد تأملت الكتب الكلامية والمناهج الفلسفية فما رأيناها تشفي عَليلاً، ولا تروي غليلاً.
قال: واعلم أني بعد التوغل في هذه المضائق والتعمق في الاستكشاف عن هذه الحقائق رأيت الأصوب الأصلح طريقة القرآن العظيم، والفرقان الكريم، وهو ترك التعمق والاستدلال بأقسام السموات والأرضين على وجود رب العالمين. إلى آخر كلامه.
وقال أبو المعالي الجويني: لقد قرأت خمسين ألفاً في خمسين ألفاً، ثم خليت أهل الإِسلام بإسلامهم وعلومهم الظاهرة، وركبت البحر العظيم، وخضت في الذي نهى عنه أهل الإِسلام، وكل ذلك في طلب الحق، وكنت أهرب في سالف الدهر من التقليد، والآن قد رجعت من الكل إلى كلمة الحق عليكم بدين العجائز، فإن لم [58 أ/ ج] يدركني الحق بلطيف بره، فأموت على دين العجائز، وكم عافية أمري عند الرحيل على طريقة أهل الحق، وكلمة الإخلاص لا إله إلا الله، فالويل لابن الجويني - يريد نفسه - إن لم يختم له بخير، ومثله قال ابن دقيق العيد:
تجاوزت حد الأكثرين إلى العلا
…
وسافرت واستفتيتهم في المراكز
وخضت بحاراً ليس يدرك قعرها
…
وألقيت نفسي في فسيح المفاوز
ولججت في الأفكار حتى يراجع
…
اختياري، واستحسان دين العجائز
والحاصل: أن كل محقق رجع إلى وصية عمر رضي الله عنه وكان عمر يعاقب من خاض في ذلك كما أخرج البزار (1) والدارقطني في الأفراد (2) وابن مردويه (2) وابن عساكر (3) عن سعيد ابن المسيب قال: جاء صبيغ التميمي إلى عمر بن الخطاب قال: أخبرنا عن الذاريات ذرواً؟ قال: هي الرياح ولولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله ما قلته. قال: فأخبرني عن: (الْحَامِلَاتِ وِقْرًا) قال: هي السحاب، ولولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله ما قلته. قال: فأخبرني عن: {فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا (3)} ؟ قال: هي السفن، ولولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله ما قلته. قال: فأخبرني عن: {فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا (4)} ؟ قال: هي الملائكة، ولولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله ما قلته، ثم أمر به فضرب مائة، وجعل في بيت، فلما برأ دعاه فضربه مائة أخرى، وحمله على قتب، وكتب إلى أبي موسى الأشعري امنع الناس من مجالسته، فلم يزالوا كذلك حتى أتى أبا موسى، فحلف له الأيمان المغلظة ما يجد في نفسه مما كان يجد شيئاً، فكتب إلى عمر، فكتب عمر ما أخاله إلا قد صدق، فخل بينه وبين مجالسته الناس.
(1) في "المسند"(2259 - كشف) قال البزار: لا نعلمه مرفوعاً من وجه إلا من هذا، وإنما أتى من أبي بكر بن أبي سبرة فيما أحسب؛ لأنه لين الحديث، وسعيد بن سلام لم يكن من أصحاب الحديث، وقد بينا علته إذ لم نحفظه إلا من هذا الوجه.
وأورده الهيثمي في "المجمع"(7/ 113) وقال: رواه البزار، وفيه أبو بكر بن أبي سبرة وهو متروك.
(2)
عزاه إليه السيوطي في "الدر المنثور"(7/ 614).
(3)
عزاه إليه السيوطي في "الدر المنثور"(7/ 614 - دار الفكر).
وخلاصة القول: أن الحديث ضعيف جداً، والله أعلم.