الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث [الخامس عشر](1): حديث علي:
69/ 17 - وعَن عَلي رضي الله عنه قال: تُرِكْتمْ على الجَادَّة، منهجٌ عليه أمُّ الكتاب (2). أخرج هذه الآثار الخمسَةَ: رزين رحمه الله[96/ ب].
قوله: "الجادة" في "القاموس"(3) الجادة: معظم الطريق جمعها: جواد.
وفيه (4) أيضاً: النَّهْجُ: الطريقُ الواضِحُ كالمَنْهَجِ أو المِنْهاج.
وفيه (5) أم الكتاب: أصلَه، أو اللَّوْح المحفوظ، أو الفاتِحةُ أم القرآن جميعه. انتهى.
والمعنى: ترككم رسول الله صلى الله عليه وسلم على معظم الطريق الواضحة الذي أصله القرآن، وكل ما سلف من الأحاديث والآثار حث على الاعتصام بالكتاب والسنة.
قوله: "أخرج هذه الآثار الخمسة رزين".
أقول: لفظ الجامع: وهذه أحاديث وجدتها في رزين، ولم أجدها في الأصول. انتهى.
وقد قدمنا لك أن قول المصنف أخرج رزين لا أخرجها كما بيناه سابقاً.
الباب الثاني: (في الاقتصاد في الأعمال)
أقول: القصد استقامة الطريق والاعتماد، واللام قصده وإليه، وله يقصده، وضد الإفراط كالاقتصاد، والمراد به الوسط بين الطرفين طرفي الإفراط والتفريط، ويتناسبه مدح الله لمن اعتمد أوساط الأمور، كقوله: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ
(1) في المخطوط الحديث الرابع عشر، والصواب ما أثبتناه.
(2)
أخرجه رزين كما في "جامع الأصول"(1/ 293) رقم (83) وسكت عليه.
(3)
"القاموس المحيط"(ص 347).
(4)
أي: في "القاموس المحيط"(266).
(5)
أي: في "القاموس المحيط"(1391).
بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (67)} (1) كما قال عمر بن عبد العزيز: "الحسنة بين السيئتين" وقوله: " {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} (2) الآية".
70/ 1 - وعَن أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: جَاءَ ثَلَاثَةُ رَهْطٍ إِلَى بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِي صلى الله عليه وسلم يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَته، فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا، فَقَالُوا: أَيْنَ نَحْنُ مِنْ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم وَقَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ؟ قَالَ أَحَدُهُمْ: أَمَّا أَنا فَأُصَلّي اللَّيْلَ أَبَدًا. وَقَالَ الآخَرُ: وأنا أَصُومُ الدَّهْرَ وَلَا أُفْطِرُ. وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ ولَا أتزَوَّجُ أَبَدًا. فَجَاءَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم إلِيْهمْ فَقَالَ "أَنْتُمُ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا؟ أَمَا وَالله إِنِّي لأَخْشَاكُمْ لله وَأَتْقَاكُمْ لَهُ، لَكِنِّى أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ، وَأتزَوَّجُ النَّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي" أخرجه الشيخان (3) والنسائي (4)[97/ ب]، [صحيح]
قوله: "ثلاثة رهط" الرهط: منه إلى تسعة اسم جمع لا واحد له من لفظه، ووقع عند عبد الرزاق (5) من مرسل سعيد بن المسيب تعيين الثلاثة: أنهم علي بن أبي طالب عليه السلام، وعبد الله بن عمر، وعثمان بن مظعون، ووقع في غير هذه الرواية زيادة على الثلاثة.
قوله: "عن عبادة رسول الله صلى الله عليه وسلم" زاد مسلم [58 ب/ ج]"في السر".
(1) سورة الفرقان الآية: (67).
(2)
سورة الإسراء الآية: (29).
(3)
البخاري رقم (5063) ومسلم رقم (1401) باختلاف.
(4)
في "سننه"(6/ 60).
(5)
عزاه إليه الحافظ في "الفتح"(9/ 104).
قوله: "تقالُّوها" بتشديد اللام المضمومة، أي: استقلوها، وأصل تقالّوها، أي: رأى كل منهم أنها قليلة. قال ابن الأثير: كأنهم استقلوا ذلك لأنفسهم من العمل، فأرادوا أن يكثروا منه.
قوله: "قد غفر له" هي إحدى روايات البخاري، والأخرى:"غفر الله" والمراد أن من لم يعلم بحصول المغفرة له يحتاج إلى المبالغة في العبادة عسى أن يحصل له بخلاف من حصل له.
قوله: "فأصلي الليل أبداً" قيد الليل لا لأصلي.
وقوله: "فلا أتزوج أبداً" وقع التأكيد بالأبدية في أصلي، ولا أتزوج دون الصوم.
قال الحافظ في "الفتح"(1): لم يؤكده به لأنه لا بد من فطر الليالي، وكذا أيام العيد.
قلت: الصيام اسم لترك المفطرات نهاراً، وليس فطر الليالي من مسماه، فطرها شرط فيه، وإلا كان مواصلاً، وهو منهي عنه، والأحسن أن يقال: ترك التقييد فيه لأنه يعلم بالقياس على أخويه إلا أنه يتعدد بعدد المتكلمين لأنه لا يفيد أحد بكلام غيره، ووجه قيام الليل والصوم عبادة ظاهرة، وأما مجرد ترك الزواج، ففي كونه عبادة تأمل إلا أنه لما دل على أن مراده ليتفرغ للعبادة، وأن التزوج أحد الأسباب المانعة عن التفرغ، والتوفر عليها عُدَّ عبادة.
قوله: "أما والله" بالتخفيف الميم حرف تنبيه. "إني لأخشاكم لله" أكد بالقسم زيادة في الحث على الاقتداء به، وكالرد لما يظنونه من أن من غفر له لم يبق وجه لمخافته لدينه وخشيته من ربه، فأخبرهم مع كونه غير مبالغ في العبادة بأنه أخشاهم لله وأتقاهم له، وتأتي زيادة على هذا في النكاح.
(1) في "فتح الباري"(9/ 105).
وقوله: "ولكني" استدراك من شيء مطوي دل عليه السياق كأنه قال: أنا، وأنتم بالنسبة إلى العبودية سواءً، لكن أنا أعمل كذا، فمن رغب عن سنتي، عن طريقتي بالإعراض إلى غيرها، فليس مني، بمعنى: ليس على طريقتي، ولا يلزم أن يخرج عن الملة.
قلت: وترجم له البخاري (1) باب: الترغيب في النكاح، وهذا يدل أيضاً على الترغيب في الصيام أحياناً، والفطر أحياناً، وعلى القيام تارة، والنوم أخرى، والكل طريقته صلى الله عليه وسلم وهي أشرف الطرائق إلى الله وأعلاها، وخيرها وأولاها، والمراد من قوله:"أصلي وأرقد" أي: كل ليلة أفعل الأمرين، ولعل البخاري خصه بالدلالة على التزويج لأنه صلى الله عليه وسلم لم يقل، وأدع الزواج، فدل على أن ترك الزواج ليس من سننه بخلاف الفطر والنوم فإفطاره طاعة ليتقوى على الصوم ونومه طاعة ليتقوى على القيام، وهو دليل على فضل الاقتصاد في العبادة، وعدم الإفراط فيها، ودلَّ على ذم التفريط في فرض العبادات الواجبة، ولذا قال لمن أقسم أن لا يزيد عليه ولا ينقص، "دخل الجنة إن صدق"(2). أو"أفلح" كما سلف.
قوله: "الشيخان والترمذي".
أقول: هذا وهم أو سبق، فلم من المصنف فالذي في الجامع: الشيخان، والنسائي وقع هذا على نسخة من التيسير فيها لفظ الترمذي، ثم وجدنا غيرها بلفظ: النسائي على الصواب كما هو في الجامع (3) إلا أنه قال فيه: وهذا لفظه، أي: النسائي: "أن نفراً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال بعضهم: لا أتزوج، وقال بعضهم: لا آكل اللحم، وقال بعضهم: لا أنام على فراش، وقال بعضهم: أصوم ولا أفطر، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "ما بال أقوام يقولون كذا وكذا، لكني أصلي، وأنام، وأصوم، وأفطر، وأتزوج النساء"
(1) في "صحيحه"(9/ 104 رقم الباب 1).
(2)
أخرجه البخاري رقم (1891) ومسلم رقم (11) من حديث طلحة بن عبيد الله.
(3)
في "جامع الأصول"(1/ 294).
"ما بال أقوام يقولون كذا وكذا، لكني أصلي، وأنام، وأصوم، وأفطر، وأتزوج النساء" انتهى لفظ الجامع [59/ أ/ ج].
فالعجب نسبة المصنف الرواية للترمذي، والعجب نسبة المصنف رواية النسائي، مثل لفظ الشيخين، وفيها زيادة رابع قال: لا آكل اللحم، وترك أكل اللحم أخص من مداومة الصيام، وخامس أيضاً، وهو النوم على الفراش، فإنه أخص من استغراق الليل بالصلاة، وسيأتي كلام المصنف يشعر بأن لفظ النسائي كلفظ الشيخين.
الحديث الثاني:
71/ 2 - وَعنْ عَائِشَةُ رضي الله عنها قَالَتْ: صَنَعَ رسول الله صلى الله عليه وسلم شَيْئًا فَرَخَّصَ فِيهِ فَتَنَزَّهَ عَنْهُ قَوْمٌ فَبَلَغَ ذَلِكَ فَخَطَبَ فَحَمِدَ الله وأثْنَى عَلَيه. ثُمَّ قَالَ: "مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَتَنَزَّهُونَ عَنِ الشَّيءِ أَصْنَعُهُ، فَوَالله! إِنِّي لأَعْلَمُهُمْ بِالله وَأَشَدُّهُمْ لَهُ خَشْيَةً" أخرجه الشيخان (1). [صحيح].
قوله: "فتنزه".
أقول: التنزه: التباعد عن الشيء. أي: أنهم تركوه ولم يعملوا به، ولا اقتدوا برسول الله صلى الله عليه وسلم فيه.
الثالث عن عائشة أيضاً:
72/ 3 - عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالتْ: بَعَثَ رسول الله صلى الله عليه وسلم إِلَى عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ أَرَغِبْتَ عَنْ سُنَّتِي؟ فَقَال: لَا وَالله يَا رَسُولَ الله! وَلَكِنْ سُنَّتَكَ أَطْلُبُ. فقَالَ النبي صلى الله عليه وسلم: "فَإِنِّي أَنَامُ وَأُصَلِّى، وَأَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأنكِحُ النِّسَاءَ، فَاتَّقِ الله يَا عُثْمَانُ! فَإِنَّ لأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ
(1) البخاري رقم (6101) ومسلم رقم (2356).
لِضَيْفِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، فَصُمْ وَأَفْطِرْ وَصَلِّ وَنَمْ" أخرجه أبو داود (1)[صحيح].
وزاد رزين (2) رحمه الله: وكانَ حلفَ أن يقومَ الليلَ كلهُ ويصومَ النهارَ، ولا ينكِحُ النساء فسأل عن يمينه فنزل:{لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُم} (3) ويُروى أنه نوى ذلك ولم يعزم (4). وهو أصح [98/ ب].
قوله: "بعث إليَّ عثمان بن مظعون" في البخاري (5) من حديث سعد بن أبي وقاص: ردَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم -على عثمان بن مظعون التبتل، ولو أذن له لاختصينا.
التبتل هنا: الانقطاع عن النكاح، وما يتبعه من الملاذ إلى العبادة.
(1) في "سننه" رقم (1369)، وهو حديث صحيح.
(2)
كما في "جامع الأصول"(1/ 296).
(3)
سورة البقرة الآية (225).
(4)
للعلماء في المراد باللغو ها هنا خمسة أقوال:
أحدها: أن يحلف على الشيء يظن أنه كما حلف، ثم يتبين له أنه بخلافه.
والثاني: أنه قول الرجل: لا والله، وبلى والله من دون قصد لعقد اليمين.
والثالث: أنه يمين الرجل وهو غضبان.
والرابع: أنه حلف الرجل على معصية فليحنث، وليكفر ولا إثم عليه.
والخامس: أن يحلف الرجل على شيء ثم ينساه.
"زاد المسير" لابن الجوزي (1/ 254 - 255).
(5)
في "صحيحه" رقم (5073) ومسلم رقم (1402) من حديث سعد بن أبي وقاص.
والتبتل الذي أراده عثمان بن مظعون تحريم النساء والطيب، وكل ما يلتذ به، فلهذا أنزل في حقه:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} (1).
فإن قلت: كيف يرده صلى الله عليه وسلم وقد قال الله تعالى: {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (8)} (2)؟ قلت: هذا التبتل المأمور فسره مجاهد، فقال:"أخلص له إخلاصاً" وهو تفسير بالمعنى، وإلا فالتبتل الانقطاع، والمراد انقطع إليه انقطاعاً، ولكن لما كان حقيقة الانقطاع، لا تتم إلا بالإخلاص فسره به.
قوله: "فإن لأهلك عليك حقاً": علل صلى الله عليه وسلم أمره لعثمان بما ذكر بأن هذا الاجتهاد في العبادة تضيع به حقوقاً لأهله ولضيفه، ولنفسه، وتضييعها حرام، ولذا قال له:"اتق الله" فالمراد أمره بتقواه في عدم تضييع الحقوق بفعل ما نواه.
قوله: "زاد رزين، وكان حلف.
أقول: أخرجها عبد الرزاق (3) والطبراني (4) عن عائشة قالت: دخلت امرأة عثمان بن مظعون واسمها: خولة بنت حكيم عليَّ وهي باذَّة الهيئة، فسألتها ما شأنك؟ فقالت: زوجي يصوم النهار، ويقوم الليل، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فلقي النبي صلى الله عليه وسلم عثمان، فقال:"يا عثمان إن الرهبانية لم تكتب علينا أما لك فيَّ أسوة؟ "فوالله! إني لأخشاكم لله وأحفظكم بحدوده"، والروايات واسعة في هذا المعنى عن عثمان تضمنها الدر المنثور.
(1) سورة المائدة (87).
(2)
سورة المزمل: (8).
(3)
في "المصنف"(6/ 167 - 168 رقم (10375).
(4)
في "المعجم الكبير" رقم (8319).
قلت: وأخرجه البزار رقم (1458 - كشف) وابن حبان رقم (9)، بسند صحيح، وهو حديث صحيح.
الحديث الرابع: عن عبد الله بن عمرو:
73/ 4 - وعَن عبد الله بْنَ عَمْرٍو رضي الله عنهما قَالَ: أُخْبِرَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم أَنِّي أَقُولُ: وَالله! لأَصُومَنَّ النَّهَارَ، وَلأَقُومَنَّ اللَّيْلَ، مَا عِشْتُ. فَقَالَ: أَنْتَ الَّذِي تَقُولُ ذَلِكَ؟ فَقُلْتُ لَهُ: قَدْ قُلْتُهُ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يا رسول الله! قَالَ: "فَإِنَّكَ لَا تَسْتَطِيعُ ذَلِكَ، فَصُمْ وَأَفْطِرْ، وَقُمْ وَنَمْ، وَصُمْ مِنَ الشَّهْرِ ثَلَاثَةَ أيامٍ، فَإِنَّ الْحَسَنَةَ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، وَذَلِكَ مِثْلُ صِيَامِ الدَّهْرِ" قُلْتُ: إِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ. قَالَ: "فَصُمْ يَوْمًا وَأَفْطِرْ يَوْمَيْنِ" قُلْتُ: إِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ. قَالَ: "فَصُمْ يَوْمًا، وَأَفْطِرْ يَوْمًا، فَذَلِكَ صِيَامُ دَاوُدَ عليه السلام وَهْوَ أَفْضَلُ الصِّيَامِ" فَقُلْتُ: فإِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ. قَالَ لَا أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ" أخرجه الخمسة إلا الترمذي (1)[99/ ب].
وفي أخرى (2): "أَلَمْ أُخْبَرْ أَنَّكَ تَصُومُ الدَّهْرَ، وَتَقْرَأُ الْقُرآنَ كُلَّ لَيْلَةٍ". قُلْتُ: بَلَى يَا نَبِيَّ الله! وَلَمْ أُرِدْ بِذَلِكَ إِلَاّ الْخَيْرَ، وَفِيه قَالَ لي: وَأقْرَأ الْقُرآنَ في كُلِّ شَهْرٍ". قَالَ: قُلْتُ: يَا نَبِيَّ الله! إِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ قَالَ: "فَاقْرَأْهُ في كُلِّ عِشْرِينَ". قَالَ: قُلْتُ: يَا نَبِيَّ الله! إِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ. قَالَ: "فَاقْرَأْهُ في كُلِّ عَشْرٍ". قلت: إِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ. قَالَ: "فَاقْرَأْهُ في كُلِّ سَبْعٍ وَلَا تَزِدْ عَلَى ذَلِكَ، وقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إِنَّكَ لَا تَدْرِي لَعَلَّكَ يَطولُ بِكَ عُمْرٌ". قَالَ: فَشَدَّدْتُ فَشُدِّدَ عَلَيَّ، فَلَما كَبِرْتُ وَدِدْتُ أَنِّي قَبِلْتُ رُخْصَةَ نَبِيِّ الله صلى الله عليه وسلم. [صحيح].
وفي أخرى (3) نحوه، وفيه:"فإِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ هَجَمَتْ لَه الْعَيْنُ وَنَفِهَتْ لَهُ النَّفْسُ، لَا صَامَ مَنْ صَامَ الأبّد"[صحيح].
(1) أخرجه البخاري رقم (1976) و (3418) ومسلم رقم (181/ 1159) وأبو داود رقم (2427) والنسائي رقم (2392) و (2394) و (2395) و (2397).
(2)
أخرجه البخاري رقم (1974، 1975، 5199، 6134) ومسلم رقم (182/ 1159).
(3)
للبخاري رقم (1979) ولمسلم رقم (187/ 1159).
وفيه (1): "فَصُمْ صَوْمَ دَاوُدَ عليه السلام[100/ ب] كَانَ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا، وَلَا يَفِرُّ إِذَا لَاقَى"[صحيح].
وفي أخرى (2): "أَحَبَّ الصِّيَامِ إِلَى الله تَعالى صِيَامُ دَاوُدَ عليه السلام، وَأَحَبَّ الصَّلاة إلى الله صَلَاةُ دَاوُدَ: كَانَ يَنَام نِصفَ اللَّيْلِ ويَقُومُ ثُلُثَهُ، وَيَنَامُ سُدُسَهُ، وَكَانَ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا"[صحيح].
أقول: ذكر المصنف أربع روايات في حديث عمرو: ففي الأولى نزله صلى الله عليه وسلم في الصوم إلى ثلاثة إلى صوم يوم وإفطار يومين، ثم إلى صيام يوم، وإفطار يوم، وهو صوم داود، وهو أفضل الصيام وأعدله، وأنه لا أفضل منه.
قال الحافظ ابن حجر (3): ليس فيه نفي المساواة صريحاً، ولأن غيره قد أفاد نفي الأفضلية مطلقاً.
وفي الثانية نزله في قراءة القرآن إلى شهر، ثم إلى عشر، ثم إلى سبع، ونهاه عن أقل منها، وأخبره صلى الله عليه وسلم أنه لعله يطول به عمر، أي: فيعجز عن ما وطن نفسه عليه أيام الشباب، وثياب القوة، لذا قال: وددت أني قبلت رخصة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال النووي (4): معناه: أنه كبر وعجز عن المحافظة على ما التزمه ووطن نفسه عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فشق عليه، ولم يعجبه أن يتركه لالتزامه له، فتمنى أن لو قبل الرخصة بالأخذ بالأخف.
وفي الثالثة: علل إدامة الصوم.
(1) للبخاري رقم (1979) ولمسلم رقم (187/ 1159).
(2)
للبخاري رقم (1131) ولمسلم رقم (189/ 1159).
(3)
في "الفتح"(4/ 220).
(4)
في شرحه لـ "صحيح مسلم"(8/ 40).
وفي الرابعة: ذكر أحب الصيام وأحب القيام، وهكذا فرقهما في الجامع بزيادات وسببه أنها رويت من طرق هكذا [59 ب/ ج] وقطعه البخاري فأورده مختصراً ومطولاً في بابين من كتاب الصوم، وفي كتاب الأدب وفضائل القرآن وغيره.
قال الحافظ (1): إنه رواه جماعة من الكوفيين والبصريين والشاميين عن عبد الله ابن عمرو مطولاً ومختصراً، وفيهم من اقتصر على قصة الصلاة، وفيهم من ساق القصة كلها.
وأما ألفاظه فقوله: "هجمت له العين".
قال ابن الأثير (2): هجمت العين: إذا غارت ودخلت في نُقرتها من الضعف والمرض.
وقوله: "نَفِهَت" بالنون ففاء مكسورة فهاء، أي: أعيت وكلَّت.
قال الخطابي (3): محصل قصة عبد الله بن عمرو أن الله لم يتعبد عبده بالصوم خاصة، بل تعبده بأنواع من العبادة، فلو استفرغ جهده بالصوم لفتر في غيره، فالأولى الاقتصاد فيه ليستبقي وبعض القوة لغيره، وقد أشير إلى ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم في داود عليه السلام:"كان لا يفر إذا لاقى، لأنه كان يتقوى بالفطر للجهاد" انتهى.
والحديث واضح فيما ترجم به المصنف غاية الوضوح، ولو قال في فصل الاقتصاد في الأعمال له لأئمة الحديث على ذلك لحديث عائشة.
"يحتجز" بالمهملة فمثناه فوقية فزاي. قال ابن الأثير (4): يتخذه حُجْرة وناحية يتفرد عليه فيها، ويأتي للمصنف تفسيره.
"ويثوبون" بالمثلثة، أي: يرجعون إليه ويجتمعون عنده.
(1) في "الفتح"(4/ 217).
(2)
في "جامع الأصول"(1/ 302).
(3)
ذكرها الحافظ في "الفتح"(4/ 221).
(4)
في "جامع الأصول"(1/ 306).
وقوله: "لا يمل حتى تملوا" فجرى مجرى قولهم: حتى يشيب الغراب، ويَبْيَضَّ القَار أي: لا أفعله أبداً. وقيل: معناه: أن الله لا يطرحكم حتى تتركوا العمل له، وتزهدوا في الرغبة فسمَّي الفعلين مَللاً وكلاهما ليس بملَلٍ، على جهة الإرادة كقوله تعالى:{فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ} (1) وقوله تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} (2) وهو شائع في العربية وكثير في القرآن. انتهى.
قوله: "وكان آل محمد" هذا مدرج في الحديث، قيل: والمراد من آل محمَّد هو نفسه، ويحتمل أن يراد أهله وأزواجه وعائشة الراوية منهم فهي مخبرة عن إقدامهم ببره وحولها النبوة، أي: داوموا عليه الحديث.
قوله: "سددوا" في "النهاية"(3) أي: اطلبوا بأعمالكم الاستقامة والسداد وهو القصد في الأمر والعدل فيه، وقاربوا اطلبوا المقاربة، وهي القصد في الأمور الذي لا غلو فيه ولا تقصير.
قوله: "واغدوا وروحوا" أي: اعملوا في الغداة، وهي أول اليوم والرواح آخره.
"الدُّلجةُ" - بضم الدال المهملة وتخفيفها وتشديدها - سير الليل والمراد به العمل في الليل.
وقوله: "سباق المدلجة" إشارة إلى تعليله.
وقوله: "والقصد .. القصد" أي: العدل في القول والعمل، والوسط بين الطرفين، وهو إغراء فهما منصوبان، أي: السير بالرفق والتوسط، فهم بلاغ العبد إلى الخير.
(1) سورة البقرة: (194).
(2)
سورة الشورى: (40).
(3)
في "النهاية"(2/ 352).
قوله: "يسر" هو مأخوذة: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (1) و {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ} (2).
وقوله: "إن شادَّ" بالشين المعجمة وتشديد الدال المهملة في "النهاية"(3) وفيه من شاد الدين يغلبه، أي: ما يُقَاويه وَيُقَاومُه، ويكلف نفسه من العبادة فوق طاقته، والمشادة الموالية، وهو مثل الحديث الآخر:"إن هذا الدين متين، فأوغل فيه برفق"(4) انتهى.
وقوله: "يتغمدني الله برحمته"[60 أ/ ج] بالغين المعجمة، أي: يلبسنها ويسترني بها مأخوذ من غمد السيف، وهو غلافه يقال: غمدت السيف وأغمدته.
فإن قلت: ظاهر قوله تعالى: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32)} (5) يقتضي أن دخولها بالعمل؟
(1) سورة الحج الآية: (78).
(2)
سورة البقرة الآية: (185).
(3)
"النهاية"(2/ 45).
(4)
أخرجه أحمد في "المسند"(3/ 199) والضياء في "لمختارة" رقم (2115) بسند ضعيف، من حديث أنس. وله شاهد من حديث عبد الله بن عمرو بن العاصي عند البيهقي (3/ 19) وابن المبارك في "الزهد" رقم (1334) بسند منقطع.
وله شاهد ثانٍ من حديث محمَّد بن المنكدر عن النبي مرسلاً. أخرجه وكيع في "الزهد" رقم (234) والحسين المروزي في زوائد زهد ابن المبارك رقم (1178) بسند منقطع أيضاً.
وفي الباب عند البخاري رقم (39) من حديث أبي هريرة ولفظه: "إن الدين يسر، ولن يشادّ الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا، وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة".
والخلاصة: أن حديث أنس حديث حسن بشواهده.
(5)
سورة النحل: (32).
قلت: قد تكلم ابن القيم على المسألة في كتابه: "حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح"(1) فقال: فصل: ومما يجب التنبيه عليه هو أن الجنة إنما تدخل تحت رحمة الله تعالى ليس عمل العبد مستقلاً بدخولها، وإن كان سبباً، وقد أثبت الله دخولها بالأعمال في قوله:{بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32)} (2) ونفى رسول الله صلى الله عليه وسلم دخولها بالأعمال في قوله: "لن يدخل أحد منكم الجنة" ولا تنافي بين الأمرين لوجهين: أحدهما: ما ذكره سفيان وغيره قال: كانوا يقولون: النجاة من النار بعفو الله، ودخول الجنة برحمته. واقتسام المنازل والدرجات بالأعمال، ويدل على هذا حديث أبي هريرة:"إن أهل الجنة إذا دخلوها نزلوا فيها بفضل أعمالهم" رواه الترمذي (3).
والثاني: أنَّ الباء التي نفت الدخول هي بالمعاوضة التي يكون فيها أحد العوضين مقابلاً للآخر، والباء التي أثبتت الدخول هي بالسببية التي تقتضي سببية ما دخلت عليه لغيره، وإن لم يكن مستقلاً بحصوله. انتهى.
74/ 5 - وعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: كَانَ لِرَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم حَصِيرٌ يَحتَجِزُهُ في اللَّيْلِ فَيُصَلِّي فِيهِ، وَيَبْسُطُهُ في النَّهَارِ فيَجلس عليه، فَجَعَلَ النَّاسُ يثوبون إليه يُصَلُّونَ بِصَلَاتِهِ حَتَّى كَثْروا فأقبلَ علَيْهم فقال:"يَا أَيُّهَا النَّاسُ! خُذُوا مِنَ الأَعمالِ مَا تُطِيقُونَ، فَإِنَّ الله لَا يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا، وَإِنَّ أَحَبَّ الأَعْمَالِ إِلَى الله مَا دَامَ وَإِنْ قَلَّ" وَكَان [101/ ب] آلُ محمدٍ صلى الله عليه وسلم إذا عَمِلوا عَمَلاً أثْبَتُوه" أخرجه الستة (4)[صحيح].
(1)(ص 124).
(2)
سورة النحل: (32).
(3)
أخرجه الترمذي في "السنن" رقم (2549) وقال: حديث غريب، وهو حديث ضعيف.
(4)
البخاري رقم (730) ومسلم رقم (215/ 782) ومالك في "الموطأ" بلاغاً: (1/ 118) وأبو داود رقم (1368) والنسائي رقم (762).
وفي رواية للبخاري (1) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: سَدِّدُوا وَقَارِبُوا، وَاغْدُوا وَرُوحُوا، وَشَيْءٌ مِنَ الدُّلْجْةِ. وَالْقَصْدَ الْقَصْدَ تَبْلُغُوا، واعْلَمُوا أنَّهُ لَن يُدْخِلُ أَحَدكُم عَمَلُهُ الْجَنَّةَ" قَالُوا: وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ الله! قَالَ: "وَلَا أَنَا إِلَاّ أَنْ يَتَغَمَّدَنِي الله تَعَالَى بِمَغْفِرَةٍ ورَحْمَةٍ"[صحيح].
وفي أخرى للبخاري (2) والنسائي (3): "إِنَّ هَذَا الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَاّ غَلَبَهُ" يحتجزه بالزاي يجعله كالحجزة. [صحيح].
75/ 6 - عن أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "يَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا، وَبَشِّرُوا وَلَا تُنَفِّرُوا"، وفي رواية:"وَسَكِّنُوا وَلَا تُنَفِّرُوا" أخرجه الشيخان (4)[صحيح].
76/ 7 - وعَن سَهْلَ بْنَ أَبِي أُمَامَةَ رضي الله عنه: أَنَّهُ دَخَلَ هُوَ وَأَبُوهُ عَلَى أَنَسِ رضي الله عنه فإِذا هُوَ يُصَلّي صَلَاةً خَفِيفَةً كَأَنَّهَا صَلَاةُ مُسَافِرٍ فَلَمَّا سَلَّمَ قَالَ أَبِي: يَرْحَمُكَ الله. أَرَأَيْتَ هَذِهِ الصَّلَاةَ الْمَكْتُوبَةَ أَوْ شَيْءٌ تَنَفَّلْتَهُ قَالَ: إِنَّهَا الْمَكْتُوبَةُ، وإنَّهَا لَصَلَاةُ رَسُولِ الله [102/ ب]صلى الله عليه وسلم: مَا أَخْطَأْتُ إِلَاّ شَيْئًا سَهَوْتُ عَنْهُ، ثُم قًالَ: إِنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَال: "لَا تُشَدِّدُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ فَيُشَدَّدَ عَلَيْكُمْ، فَإِنَّ قَوْمًا شَدَّدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ فَشَدَّدَ الله عَلَيْهِمْ فَتِلْكَ بَقَايَاهُمْ في الصَّوَامِعِ وَالدِّيَارِ. {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} " أخرجه أبو داود (5)[ضعيف].
قوله: سَهْل بن أبي أمامة بن سَهْل بن حُنَيْف (6).
(1) في "صحيحه" رقم (6463) ومسلم رقم (2816).
(2)
في "صحيحه" رقم (39).
(3)
في "سننه" رقم (5034).
(4)
البخاري رقم (69) ومسلم رقم (8/ 1734).
(5)
في "سننه" رقم (4904) وهو حديث ضعيف.
(6)
قال ابن حجر في "التقريب" رقم الترجمة (2650): ثقة.
يعد في التابعين سمع أنس بن مالك، وروى عن أبيه عن جده، وحُنَيف - بضم الحاء المهملة وفتح النون -.
قوله: خفيفة.
زاد في "الجامع"(1): دقيقة بالدال المعجمة والقاف، أي: خفيفة، لا إطالة فيها، ولا رياء.
قوله: "فَيُشدَّدَ عليكم".
أقول: بأن تحدثوا، فيعجزوا عن القيام بما قد أمروا، واستدل بذلك.
"فإن قوماً" يريد بهم فرقة من النصارى شددوا على أنفسهم بالغلو في العبادة والإتيان بما لم يكتب عليهم، كما قال الله تعالى:{وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} (2) فهو أيضاً نهي عن الغلو، وأمر بالاقتصاد، وتحذير من المبالغة، والرهبانية: ترك الملاذ من المطعم، والمشرب، والملبس، والمنكح، والمسكن الحلال، والانقطاع في الصوامع، كما يفعله رهبان النصارى.
زاد في الجامع (3) بعد قوله: صلاة مسافر، أو قريب منها، وزاد في آخره:"ثم غدا من الغد، فقال: ألا تركب لننظر ونعتبر، قال: نعم، فركبوا جميعاً، فإذا هم بديارٍ بَادَ أهلُها، وانقضوا، وفَنُوا، خاوية على عروشها، قال: تعرف هذه الديار، قال: ما عرفين بها وبأهلها هؤلاء أهل ديار، أهلكهم البغي والحسد، إنَّ الحسد يطفئ نور الحسنات والبغي يصدق ذلك، أو يكذبه" الحديث.
(1) في "جامع الأصول"(1/ 310) و (311).
(2)
سورة الحديد: (27).
(3)
في "جامع الأصول"(1/ 310 رقم 92).
77/ 8 - وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قال دَخَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَإِذَا حَبْلٌ مَمْدُودٌ بَيْنَ السَّارِيَتَيْنِ فَقَالَ: "مَا هَذَا الْحَبْلُ؟ " قَالُوا: هَذَا حَبْلٌ لِزَيْنَبَ فَإِذَا فَتَرَتْ تَعَلَّقَتْ به. فَقَالَ: لَا، حُلُّوهُ، لِيُصَلَّ أحَدُكُمْ نَشاطَهُ، فَإِذَا فتَرَ فَلْيَقْعُدْ" أخرجه البخاري (1) وأبو داود (2) والنسائي (3)[صحيح].
وقوله: "فإذا فترت"(4).
أقول: قد طوى منه.
قوله: يصلي حديث أنس.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا" حرف نهي، أو نفي حذف مدخوله وتقديره: لا يفعل، وأمرهم بحله، ثم أمر بأن يصلي أحدهم نشاطه، وإذا ذهب نشاطه بالفتور، فقد أمره صلى الله عليه وسلم أن يقعد.
قوله: أخرجه البخاري (5) وأبو داود (6) والنسائي (7).
(1) في "صحيحه" رقم (1150) قلت: ومسلم رقم (784).
(2)
في "سننه" رقم (1312) وقد ذكر حمنة بنت جحش والصحيح: زينب بنت جحش، كما عند البخاري ومسلم والنسائي.
(3)
في "سننه" رقم (1643) وهو حديث صحيح.
(4)
الفتور: ضد النشاط والخفة.
(5)
في "صحيحه" رقم (1150) قلت: ومسلم رقم (784).
(6)
في "سننه" رقم (2/ 13) وقد ذكر حمنة بنت جحش والصحيح: زينب بنت جحش، كما عند البخاري ومسلم والنسائي.
(7)
في "سننه" رقم (1643) وهو حديث صحيح.
قلت: لكن في الجامع أنَّ رواية أبو داود (1): فقال صلى الله عليه وسلم "ما هذا الحبل" فقيل: يا رسول الله! حمنة بنت جحش تصلي، فإذا أَعْيَتْ تَعَلَّقَتْ به، فقال:"حُلُّوهُ لتصلَّ ما أطاقت، فإذا أعْيت لتجلس".
وفي رواية له (2): فقالوا: زينب تصلي، فإذا كَسِلْتْ أو فَتَرت أمسكت به، فقال:"حلوه ليصلّ أحدكم نشاطه، فإذا كسل أو فتر، فليقعد" انتهى.
ففي تعيين المصلية ثلاث روايات، ويمكن الجمع بأن كل واحدة اتفق لها ذلك.
حديث عائشة:
78/ 9 - عَنْ عَائِشَةَ رضي لله عنها قَالَتْ: كَانَتْ عِنْدِي امْرَأَةٌ مِنْ بَنِي أَسَدٍ، فَقَالَ:"مَنْ هَذِهِ" قُلْتُ: فُلَانَةُ لَا تَنَامُ بِاللَّيْلِ. فَقَالَ: "مَهْ عَلَيْكُمْ مَا تُطِيقُونَ مِنَ الأَعْمَالِ، فَإِنَّ الله لَا يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا، وكانَ أحبُّ الدين إليهِ مَا دَاوَم عَليْه صاحبه" أخرجه الثلاثة (3) والنسائي (4)[103/ ب]، [صحيح].
قوله فيه: وعندي امرأة من بني أسد.
ورواية مسلم: "أنها الحَوْلاء بِنْتَ تُوَيْت".
قوله: أخرجه الثلاثة.
أقول: الشيخان، ومالك، لكن مالك أخرجه مرسلاً، وبلاغاً عن إسماعيل بن أبي حكيم أنه بلغه بلفظ: مقارب لألفاظ الشيخين. الحديث.
(1) في "سننه" رقم (2/ 13) وقد ذكر حمنة بنت جحش والصحيح: زينب بنت جحش، كما عند البخاري ومسلم والنسائي.
(2)
أي: لأبي داود رقم (1312).
(3)
البخاري رقم (43) ومسلم رقم (785) ومالك في "الموطأ"(1/ 118).
(4)
في "سننه" رقم (1642).
حديث أبي هريرة:
79/ 10 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ شِرَّةً، وَلِكُلِّ شِرَّةٍ فَتْرَةً، فَإِنْ صَاحِبُهَا سَدَّدَ وَقَارَبَ فَارْجُوهُ، وَإِنْ أُشِيرَ إِلَيْهِ بِالأَصَابعِ فَلَا تَعُدُّوهُ" أخرجه الترمذي (1) وصححه.
"الشرَّة" النشاط والرغبة. [حسن].
قوله: شِرَّةٍ.
بكسر الشين المعجمة، وتشديد الراء، هي النشاط، ويقال: شِرَّةُ النَّار أوَّله، والفترة ضد النشاط والخفة، وتقدم تفسير:"سددوا وقاربوا".
وقوله: "وإن أشير إليه بالأصابع".
كناية عن عدم التسديد، بل بالغ مبالغة يعرفها الناس، وعظمت في أعينهم حتى أشير إليه تعظيماً لا تفرد به من العبادة.
وقوله: "فلا تَعُدُّوه".
أي: ممن ترجى له النجاة كما قال في الأول، فأرجوه، أي: أرجو له النجاة مداومة على ما هو عليه، وهذا لا يرجوه لما هو عليه من العجب والرياء، وترك ما هو بصدده، وهذا من أعلام النبوة، قد شاهدنا وشاهد الناس الفريقين.
قوله: أخرجه الترمذي وصححه.
قلت: وقال: حسن صحيح غريب، فكان الأحسن زيادة وغربه.
80/ 11 - وعَن أَبِي جُحَيْفَةَ رضي الله عنه قَالَ: آخَى رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم بَيْنَ سَلْمَانَ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ فَزَارَ سَلْمَانُ أَبَا الدَّرْدَاءِ فَرَأَى أُمَّ الدَّرْدَاءِ مُتَبَذِّلَةً، فَقَالَ: مَا شَأْنُكِ؟ قَالَتْ: أَخَوكَ أَبَو الدَّرْدَاءِ
(1) في "سننه" رقم (2453) وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب، وهو حديث حسن.
لَيْسَ لَهُ حَاجَةٌ فِي الدُّنْيَا. فجَاءه أَبُو الدَّرْدَاءِ فَصَنَعَ لَهُ طَعَامًا وقَالَ لَهُ: كُلْ فَقَال: إِنِّي صَائِمٌ. فقَالَ سَلْمان مَا أَنَا بِآكِلٍ حَتَّى تَأْكُلَ، فَأَكَلَ، فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ ذهبَ أَبُو الدَّرْدَاءِ يَقُومَ فَقَالَ: نَمْ. فَنَامَ، ثُمَّ ذهبَ يَقُومُ فَقَالَ لَهُ نَمْ. فَنَامَ فَلَمَّا كَانَ مِنْ آخر الليل قَالَ سَلْمَانُ: قُمِ الآنَ فَصَلَّيَا، فَقَالَ لَهُ سَلْمَان: إِنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وإِنْ لِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، ولأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ. فَذَكَرَا ذَلِكَ لرسول الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لَهُ:"صَدَقَ سَلْمَانُ". أخرجه البخاري (1) والترمذي (2)[صحيح].
وزاد الترمذي رحمه الله: "ولضيفك عليك حقًا"[104/ ب].
قوله: "أبو جحيفة"(3).
هو السُّوائي: وهب بن عبد الله، ويقال: وهب بن وهب الخير.
نزل أبو جحيفة الكوفة، وابتنى بها داراً، وكان من صغار الصحابة، توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبلغ الحلم، لكنه سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم وروى عنه، وجعله علي عليه السلام على بيت المال بالكوفة، وشاهد معه المشاهد كلها.
ساق ابن عبد البر سنده إلى أبي جحيفة أنه قال: "أكلت ثريد" بلحم، وأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا أتجشأ، فقال:"اكفف أو احبس عنا جشاك أبا جحيفة! فإن أكثر الناس شبعاً أطولهم جوعاً يوم القيامة"(4) قال: فما أكل أبو جحيفة ملأ بطنه حتى فارق الدنيا كان إذا تعشى لا يتغدَّى، وإذا تغدى لا يتعشى. انتهى
وليس من حديثه ما نتكلم عليه. الحديث.
(1) في "صحيحه" رقم (1968).
(2)
في "سننه" رقم (2413) وقال: هذا حديث صحيح، وهو حديث صحيح.
(3)
انظر ترجمته في "الاستيعاب"(ص 750) رقم (2702).
(4)
أخرجه الذهبي في "الميزان"(4/ 343) رقم الترجمة (9391) بسند ضعيف.
81/ 12 - وعَنْ حَنْظَلَةَ بِن الرَّبيع الأُسَيِّدِىِّ (1) كَاتِب رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنه قَالَ: لَقِيَنِي أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه فَقَالَ: كَيْفَ أَنْتَ؟ فَقُلْتُ: نَافَقَ حَنْظَلَةُ! فَقَالَ: سُبْحَانَ الله مَا تَقُولُ؟ فقُلْتُ: نَكُونُ عِنْدَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالْجَنَّةِ حَتَّى كَأَنَّا رَأْىَ عَيْنٍ، فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِه عَافَسْنَا الأَزْوَاجَ وَالأَوْلَادَ وَالضَّيْعَاتِ وَنَسِينَا كَثِيرًا، قَالَ: وَالله إِنّي لأجِدُ مِثْلَ هَذَا. فَانْطَلَقْا إلى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم وذَكرا له ذلك. فَقَالَ: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ! لَوْ تَدُومُونَ عَلَى مَا تَكُوُنونَ عِندِي، وَفِي الذِّكْرِ لَصَافَحَتْكُمُ الْمَلَائِكَةُ عَلَى فُرُشِكُمْ وَفِي طُرُقِكُمْ، وَلَكِنْ يَا حَنْظَلَةُ! سَاعَةً وَسَاعَةً" ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. أخرجه مسلم (2) والترمذي (3)[صحيح].
"المعافسة": المعالجة والممارسة والملاعبة.
"حنظلة بن الربيع الأسيدي":
يقال له: الكاتب؛ لأنه كتب الوحي لرسول صلى الله عليه وسلم وانتقل إلى مكة، ومات بفرقيسا في زمن معاوية، روى عنه أبو عثمان النهدي - بفتح النون وبالدال المهملة - ويزيد بن الشخير - بكسر الشين المعجمة وتشديد الخاء المعجمة وكسرها - نافق حنظلة.
قال ابن الأثير (4): النفاقُ: ضد الإخلاص، وأراد به في هذا الحديث أنني في الظاهر إذا كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم أخصلتُ، فإذا انفردت عنه رغبت في الدنيا، وتركتُ ما كنت عليه،
(1) الأُسَيْدي: ضبطوه بوجهين أصحهما وأشهرهما: ضم الهمزة وفتح السين وكسر الياء المشددة، والثاني: كذلك إلا أنه بإسكان الياء، وهو منسوب إلى بني أسيد بطن من بني تميم. "جامع الأصول"(1/ 315) حاشية رقم (2). وانظر "الاستيعاب"(ص 138 - 139) رقم (393).
(2)
في "صحيحه" رقم (2750).
(3)
في "سننه" رقم (2514) وقال: هذا حديث حسن صحيح.
وأخرجه ابن ماجه رقم (4239) وهو حديث صحيح.
(4)
في "جامع الأصول"(1/ 317) وانظر "النهاية"(5/ 98).
فكأنه نوع من الظاهر، والباطن، وما كان يرضى أَنْ يُسامِحَ نفسَهُ، وكذلك كان الصحابة رضي الله عنهم يؤاخذون أنفسهم بأقلَّ الأشياء.
قوله: "رأي عين".
يقال: جعلتَ الشَّيء رأيَ عيْنِك، أي: بمرأى منك، وفي مقابلتك، وهو منصوب بإضمار "نرى" ويأتي تفسير المعَافَسَة بضم الميم بعين مهملة وسين مهملة.
و"الضيعات": جمع ضَيْعَة، وهي الصناعةُ والحِرفَةُ.
وقوله: "ولكن ساعة وساعة".
أي: ساعة لله عز وجل، ولذكر الوعد والوعيد، وساعة لأنفسكم، وما لا بدَّ لكم منه.
قوله: "مسلم والترمذي".
قلت: وقال صحيح، إلا أنه قال:"ساعة وساعة .. ساعة وساعة" الحديث.
حديث عائشة:
82/ 13 - وعَن مَالِكُ (1) أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها: كَانَتْ تُرْسِلُ إِلَى بَعْضِ أَهْلِهَا بَعْدَ الْعَتَمَةِ تَقُولُ: أَلَا تُرِيحُونَ الْكُتَّابَ. [موقوف ضعيف].
قوله: "ألا تريحون الكتاب".
جمع: كاتب، وأرادت الحفظة الكرام الكاتبين، وذلك حثَّا لهم على ترك العمل، وطلب الاقتصاد (2).
(1) في "الموطأ"(2/ 987 رقم 9) بلاغاً.
قلت: وأخرجه البيهقي في "شعب الإيمان" رقم (4991) من طريق القعنبي عن مالك به. وإسناده ضعيف لإعضاله. والخلاصة: أنه موقوف ضعيف، والله أعلم.
(2)
"جامع الأصول"(1/ 318).
83/ 14 - وعَنْ ابْن عَبَّاس رضي الله عنهما قَالَ: أخْبَرَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عن مولاة له تقوم الليل وتصومُ النَّهار فقال: "لِكُلِّ عَامِل شرَّةٌ، ولكل شرةٍ فَتْرَةٌ، فَمَنْ صَارَت فترتُه إلى سُنْتِي فَقَد اهْتَدى، ومن أخْطأ فَقَد ضَلَّ"(1)[حسن].
84/ 15 - وعَنْ أِبي هُرَيْرَة رضي الله عنه قَالَ: "قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خَيرُ الأمورِ أوْسَاطَها" أخرجهما رزين (2)[105/ ب].
قوله: "وخير الأمور أوساطها".
فقال ابن الأثير (3): معناه: أن لكل خصلة محمودة، فإنَّ لا طرفين مذمومين، مثل: أنَّ السَّخاء وسطٌ بين البخل والتَّبذير [61 أ/ ج] والشجاعة وسط بين الجبن والتهوُّر، والإنسان مأمورٌ أن يتجنَّب كلَّ وصفٍ مذمومٍ، وتجنُّبه بالتَّعرِّي منه، والتَّبعُّد عنه، فكلما ازدادوا منه بعداً ازدادوا منه تعرياً، وأبعد الجهات والأماكن والمقادير من كل طرفين، فإنما هو وسطها. لأنَّ الوسط فيه تعري عن الأطراف المذمومة بقدر الإمكان، فلهذا خير الأمور أوساطها. اهـ.
(1) وهو بمعنى حديث أبي هريرة المتقدم برقم (79/ 10) من كتابنا هذا.
فانظر تخريجه هناك، وهو حديث حسن.
(2)
أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى"(3/ 273) وقال: هذا منقطع.
وفي "الشعب" رقم (5819 - الرشد) وقال: هذا مرسل.
وفي "الآداب" رقم (727) والخطيب في "الجامع"(1/ 382 رقم 885)، وانظر مزيد كلام على هذا الحديث في تخريجي:"للفوائد المجتمعة" للشوكاني برقم (743) وهو حديث ضعيف جداً.
(3)
في "جامع الأصول"(1/ 319).
قوله: "أخرجهما رزين".
قدمنا لك أنَّ هذه العبارة لا تجري على طريقة المحدثين، وأن الأولى إهمالهما، وعبارة ابن الأثير، وهذه وجدتها في كتاب رزين، ولم أجدها في الأصول، وساق هذين الحديثين، وزاد بالثاء عن معاذ.
[الكتاب الثالث](1): كتاب الأمانة
يأتي تفسيرها.
85/ 1 - عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ رضي الله عنه قَالَ: حَدَّثَنَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم حَدِيثَيْنِ (2) قَدْ رَأَيْتُ أَحَدَهُمَا وَأَنَا أَنْتَظِرُ الآخَرَ، حَدَّثَنَا:"أَنَّ الأَمَانَةَ نَزَلَتْ في جَذْرِ قُلُوبِ الرِّجَالِ، ثُمَّ نَزَلَ الْقُرْآنُ فَعَلِمُوا مِنَ الْقُرْآنِ وَعَلِمُوا مِنَ السُّنَّةِ". ثُمّ حَدَّثَنَا عَن رَفْعِ الأَمَانَةِ قَالَ: "يَنَامُ الرَّجُلُ النَّوْمَةَ فَتُقْبَضُ الأَمَانَةُ مِنْ قَلْبِهِ فَيَظَلُّ أثرُهَا مِثْلَ أثر الْوَكْتِ، ثُمَّ يَنَامُ نَوْمَةً، فَتُقْبَضُ الأمانَةُ مِنْ قَلبِهِ فَيَظَلُّ أَثَرُهَا مِثْلَ أثر الْمَجْلِ كَجَمْرٍ دَحْرَجْتَهُ عَلَى رِجْلِكَ فَنَفِطَتْ فَتَرَاهُ مُنْتَبِرًا وَلَيْسَ فِيهِ شَيءٌ". ثُمَّ أَخَذَ حَصَاةً فَدَحْرَجَهَ عَلَى رِجْلِهِ فَيُصْبِحُ النَّاسُ يَتبَايَعُونَ فَلَا يَكَادُ أَحَدُهُمْ يُؤَدِّي الأَمَانَةَ حَتَّى يُقَالَ: إِنَّ فِي بَنِي فُلَانٍ رَجُلاً أَمِينًا وَحَتَّى يُقَالَ لِلرَّجُلِ: مَا أَجْلَدَهُ! وَمَا أَظْرَفَهُ! وَمَا أَعْقَلَهُ! وَمَا في قَلْبِهِ مِثْقَّالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ" وَلَقَدْ أتى عَلَيَّ زَمَانٌ وَمَا أُبَالِي أَيُّكُمْ بَايَعْتُ، لَئِنْ كَانَ مُسْلِمًا لَيَرُدَّنَّهُ عَلَىَّ دِينُهُ، وَلَئِنْ كَانَ [106/ ب] نَصْرَانِيًّا أَوْ يَهُودِيًّا لَيَرُدَّنَّهُ عَلَىَّ سَاعِيهِ، وأَمَّا الْيَوْمَ فَمَا كُنْتُ لأُبَايعَ مِنْكُمْ إِلا فُلَانًا وَفُلَانًا" أخرجه الشيخان (3) والترمذي (4)[صحيح].
"الوكتُ" الأثر في الشيء من غير لونه كالنقطة.
و"المجلُ" ما يظهرُ في اليدِ شِبَه البُثر من معاناة الأشياء الصلبةِ الخشنة.
و"المُنْتَبرُ" المنتفخ.
(1) زيادة من "جامع الأصول"(1/ 319).
(2)
أي: في باب الأمانة إذ له أحاديث كثيرة وأولهما: في نزول الأمانة، وثانيهما: في رفعها.
(3)
البخاري رقم (6497) ومسلم رقم (143).
(4)
في "سننه" رقم (2179) وقال: هذا حديث حسن صحيح.
قلت: وأخرجه ابن ماجه رقم (4053)، وهو حديث صحيح.
قوله: "حديثين".
أقول: أي: فيما يتعلق بالأمانة، وإلا فالأحاديث الذي حدثهم صلى الله عليه وسلم كثيرة، والتي رواها حذيفة كثيرة.
الأول منها قوله: "حدثنا أن الأمانة".
اختلف في تفسيرها، قال ابن التين: الأمانة كلما يخفى، ولا يعلمه إلا الله تعالى من المكلف، وعن ابن عباس: هي الفرائض التي أمروا بها، ونهوا عنها.
وقيل: هي الطاعة. وقيل: التكاليف كلها، وقيل: هو العهد الذي أخذه الله على العباد.
وهذه الأخلاق وقع في تفسير الآية: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ} (1) وقال ابن العربي (2): المراد بالأمانة في حديث حذيفة: الإيمان.
وتحقيق ذلك فيما ذكر من رفعها أنَّ الأعمال السيئة لا تزال تضعف الإيمان حتى إذا ثناها الضعف لم يبق إلا أثر الإيمان، وهو التلفظ باللسان، والاعتقاد الضعيف في ظاهر القلب، فشبهه بالأثر في ظاهر البدن.
وكني عن ضعف الإيمان بالنوم، وضرب مثلاً لزهوق الإيمان عن القلب حالاً فحالاً بزهق الحجارة عن الرجل حتى يقع بالأرض. انتهى.
قوله: "ثم نزل القرآن".
فيه أنهم كانوا يعلمون القرآن قبل علمهم بالسنن، وفيه دليل أن نزول الأمانة على أصل القلوب لبني آدم كان مثل نزول القرآن، ولذا أتى بثمَّ.
(1) الأحزاب الآية: (72).
(2)
في "عارضة الأحوذي"(9/ 24).
وقوله: "الرجال".
مفهوم الذكور والإناث، وإنما خص قلوب الرجال؛ لأنهم الأصل في التكاليف، والذي يظهر عندي أنه أريد بالأمانة: الفطرة التي فطر الله العباد عليها، كما قدمنا، وأنه نزل القرآن مقرراً لها، فعلموا منه، ومن السنة ما يوافق الفطرة.
وقوله: حدثنا.
هذا هو الحديث الثاني الذي ذكر أنه ينتظره، وكأنه كان بين المحدثين نزل، فأتى بثمَّ.
وقوله: "عن رفع الأمانة".
أي: من القلوب، وتقدم معنى ينام الرجل، وأنه كناية.
قلت: ويحتمل أنَّ المراد بالنوم الغفلة عن فعل الطاعات التي بها يزيد الإيمان قوة، ويقيناً، والمراد من الأمانة الإيمان الكامل، وأن كل غفلة تضعفه، فينقص الإيمان، أي: الكامل من قلبه، ويبقى فيه أضعفه وأقلّه.
"والوكت" بفتح الواو وسكون الكاف فمثناة فوقية يأتي تفسيره للمصنف.
"والمجل" بفتح الميم وسكون الجيم كذلك، ثم تزداد غفلته على ما ذكرناه، فيزداد ضعف إيمانه حتى لا يبقى فيه شيء، أي: من كمال الإيمان، ثم مثل لهم المعقول بالمحسوس زيادة في إيضاحه بالحصى التي دحرجها على رجله.
وقوله: "يتبايعون".
مثل لرفعهما، وأنه يظهر أثره بها المعاملات الدنيوية، وأنه لا يكاد أحد منهم يؤدي أمانته [61 ب/ ج] في تجارته لضعف إيمانه.
قوله: "ما في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان".
هو دليل على أنه أريد بالأمانة أولاً الإيمان، ولا بدّ من حمله على الكامل، أي: مثقال حبة من إيمان كامل، وإنما أولناهُ بالكامل؛ لأنَّه من المعلوم أنه لا يخرج من الملة من لا أمانة له،
ولا يصير مرتداً، ويرشد إليه حديث:"المؤمن من أمنه الناس"(1) أي: الكامل الإيمان، وهو المشار إليه بقوله: إنه يقال: إنَّ في بني فلان رجلاً أميناً، وإلى هنا اللفظ النبوي، وهذا الذي اشتهر بالأمانة في بني فلان لعله الذي يقال له: ما أجلده .. إلخ.
هو الذي اشتهر شهرةً باطلة؛ لأنَّه ليس في قلبه مثقال حبة خردلة من إيمان، فشهرته إمَّا لأنَّه كان يتكلف الأمانة ليجعلها مكسباً ليأمنه الناس، ولا بد أن ينال شيئاً من دنياهم بإظهاره الأمانة، فلم يكن إظهارها عن ديانة أو لأنه كان لا يخلو عن خيانة لكنه بالنسبة إلى أهل عصره خير موجود فيهم، فكان سبب شهرته.
وقوله: "ولقد أتى علي زمان".
هذا مدرج من كلام حذيفة.
وقوله: "بايعت".
في بيع السلع ونحوها لا بيعة الخلافة، كما قيل: فإنه وهمٌ يذكرهُ اليهود والنصارى، وفيه أنه حمل حذيفة الأمانة على الأموال والمعاملات، لا على الإيمان، إلا أنه قد يقال: أراد المثال، أي: مثلاً، أو لأن عدم الأمانة في المعاملات من فروع ضعف الإيمان، وذكر أهل الملتين إعلامٌ منه بأنه قد عمَّ رفع الأمانة في المعاملات كلّ فرقة.
وقوله: "ساعيه".
أي: واليه.
قوله: وأمَّا اليوم: أي: حين تكلّمه هذا، فقد قسم الناس فريقين: فريق يرده إسلامه، وفريق يرده ساعيه إن كان ملياً.
(1) وهو جزء من حديث أنس أخرجه أحمد (3/ 154) والحاكم في "المستدرك"(1/ 11) والبزار رقم (21 - كشف) وأبو يعلى رقم (4187) وابن حبان رقم (510) وابن أبي الدنيا في "الصمت" رقم (28) والقضاعي في مسند الشهاب رقم (874) بسند صحيح، وهو حديث صحيح.
والفريق الثالث: الموجودون حال تكلّمه، فإنه عرف اثنين بالأمانة لا غير، فهما اللذان يبايعهما.
وفيه أنه تغير الإِسلام بضعفه، فلا يرده إسلامه، فرفعت الأمانة، ثم تغير - أيضاً - سعاة اليهود، والنصارى فلم ينصفوا من
…
(1) إشارة إلى أنَّ التغير عمَّ أفراد الفرق جميعاً.
وفيه أنه وقع هذا الذي كان ينتظره مما حدثه به النبي صلى الله عليه وسلم.
واعلم أنَّ حذيفة بقي إلى خلافة أمير المؤمنين علي عليه السلام وبايعه، وقام في نصرته، وتوفي في أوائل خلافته، ولا ريب أنه كان قد تغير الناس مما كانوا عليه، فكيف بِنَا الآن في أواخر القرن الثاني عشر بعد المائة والألف؟!
قوله: الترمذي.
قلت: وقال: حسن صحيح.
الحديث الثاني:
86/ 2 - وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إِذَا ضُيِّعَتِ الأَمَانَةُ فَانْتَظِرِ السَّاعة" قَيلَ: وَكَيْفَ إِضَاعَتُهَا؟! قَالَ: "إِذَا وسِّدَ الأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ" أخرجه البخاري (2)[صحيح].
"وُسِّدَ" أسند.
قوله: "إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة".
سبب الحديث: أنَّ أعرابياً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قيام الساعة وهو القائل: وكيف إضاعتها؟ ولفظه في الجامع (3): بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلسٍ يُحَّدثُ القوم؛ فقال بعض القوم:
(1) بياض في الأصل مقدار كلمة.
(2)
في "صحيحه" رقم (59).
(3)
في "جامع الأصول"(1/ 321 رقم 103).
سمع ما قال، فكره، وقال بعضهم: لم يسمع حتى إذا قَضَى حديثَه قال: "أين السائل عن الساعة؟ " قال: هأنذا يا رسول الله! الحديث.
فقال: "إذا وسَّدَ" يأتي تفسيره للمصنف، وهو مبني للمفعول، والمراد بالأمر، الأمر المتعلق بالدين، كالخلافة والقضاء، والإمارة، والإفتاء، ونحو ذلك.
وقوله: "فانتظر الساعة".
الفاء: تفريعية، أي: جواب شرط حذف، أي: إذا كان الأمر كذلك، فانتظر.
قال ابن بطال (1): معنى وُسَّد الأمر إلى غير أهله: أنَّ الأئمة قد ائتمنهم الله على عباده، وفرض عليهم النصيحة لهم، فينبغي لهم تولية أهل الدين، فإذا قَلَّدوا غير أهل الدين، فقد ضيعوا الأمانة التي قلدهم الله إياها.
وهذا من أشراطها، وقد وقع هذا من إلحاق مثل إعصار في جميع الأقطار، فعليك للساعة بالانتظار.
وفيه بيان نوع من أنواع الأمانة، وهي تضييع ما أمر الله به عباده من أن يكون سادتهم، والعالمون [62 أ/ ج] بأمور الدين هم علماؤهم، وأفضالهم الآمرون بالمعروف، والناهون عن المنكر، فإذا ضيعت الأمة ذلك، وأسندوا أمر الدين إلى أهل الجهالة، ومشيدي أركان الضلالة فهي أشراط الساعة، فإن قلت: الأمر وسد إلى غير أهله من بعد الثلاثين سنة التي قال فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الخلافة ثلاثون سنة، ثم يكون ملكاً عضوضاً"(2) وإلى الآن زيادة على ألف عام منذ وسد أمر الأمة إلى غير أهله، فكيف يقول صلى الله عليه وسلم:"فانتظر الساعة".
(1) في شرحه لـ "صحيح البخاري"(1/ 138).
(2)
أخرجه أحمد (5/ 220) وفي فضائل الصحابة رقم (789) و (1027) وصححه الخلال في السنة رقم (636).
قلت: يحتمل أنَّ المراد إذا وسد كل أمر إلى غير أهله، ولا نسلم أن قد وقع ذلك في كل أمرٍ من أمور الدين، فإنه وإن كان ولي الخلافة من ليس من أهلها، فإنه يبقى علماء يفتون بالحق، وحكام يحكمون به ومجاهدون يجاهدون لتكون كلمة الله هي العليا، ومن نظر في سير الماضين عرف ذلك.
ويحتمل أن يراد بإذا وسد، أي: إذا أجمع أهل الحق والعقد على تولية خليفة ليس أهلاً للخلافة، واتفقوا عليه جميعاً، وهذا لا يقع، فإنَّ غالب الخلفاء الذين ليسوا بأهل للأمر تغلبوا بالسيف، فلم يقع ما ذكر في الحديث.
الحديث الثالث:
87/ 3 - وعنه رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَدِّ الأَمَانَةَ إِلَى مَنِ ائْتَمَنَكَ وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ" أخرجه أبو داود (1) والترمذي (2)[حسن].
"أدِّ الأمانة إلى من ائتمنك".
عام لكل أمانة في الأموال، والأقوال، والأفعال، ولكل مؤتمن من مسلم وغيره.
"ولا تخن من خانك".
أي: لا تكافئ بالخيانة الخيانة، وتقول: فلان خانني فيما أمنته عليه، فأكافئه بالخيانة فيما أمنني عليه لا سيما مع عموم قوله:{وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} و {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} (3).
(1) في "سننه" رقم (3535).
(2)
في "سننه" رقم (1264) وقال: هذا حديث حسن غريب، وهو حديث حسن.
انظر تخريجه بشكل موسع في تحقيقي لسبل السلام (5/ 175).
(3)
سورة الشورى الآية: (40).
فيكون هذا الحديث مخصصاً للآيات، وقد بسطنا البحث في ذلك في "سبل السلام"(1)
قوله: أخرجه أبو داود والترمذي.
قلت: قال الترمذي (2): حسن غريب، وصححه الحاكم (3)، وقال الشافعي: إنَّ الحديث غير ثابت، وقال أحمد بن حنبل: إنه باطل لا يعرف عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجه صحيح، وأعلَّه ابن حزم، وابن القطان، والبيهقي بقيس بن الربيع (4)، وشريك (5)، وغيرهما.
الرابع: حديث أبي موسى:
88/ 4 - وَعَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ الْخَازِنَ الْمُسْلِمَ الأَمِينَ الَّذِي يُعْطِى مَا أُخْرَجه كَامِلاً مُوَفَّرًا طَيَّبَةً بِهِ نَفْسُهُ أَحَدُ الْمُتَصَدِّقَيْنِ" أخرجه الخمسة إلا الترمذي (6).
وزاد النسائي في أوله: "الْمُؤْمِنَ لِلْمُؤْمِنِ كالْبُنْيَانِ، يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا"[107/ ب]، [صحيح].
(1)(5/ 175 - 177) بتحقيقي.
(2)
في إثر الحديث (1264).
(3)
في "المستدرك"(2/ 46).
(4)
قال الحافظ (2/ 128): صدوق تغيَّر لما كبر، أدخل عليه ابنه ما ليس من حديثه فحدَّث به.
قلت: ومثل حديث هذا يقبل في المتابعات، وقد توبع.
(5)
قال الحافظ (1/ 351): صدوق يخطئ كثيراً، تغير حفظه منذ ولي القضاء بالكوفة، وكان فاضلاً عابداً شديداً على أهل البدع.
قلت: ومثل حديث هذا يقبل في المتابعات، وقد توبع.
وانظر الصحيحة (1/ 708، 709 رقم 423).
(6)
أخرجه البخاري رقم (1438) و (2319) و (2260) ومسلم رقم (79/ 1023) وأبو داود رقم (1684) والنسائي رقم (2560)، وهو حديث صحيح.
قوله: أحد المتصدقين.
والآخر الآمر له، وهو خبر إنَّ، والحديث واضح المراد.
قوله: وزاد النسائي.
أقول: لفظه مخالف لما ساقه المصنف، فإن لفظه:"المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً".
وقال: "الخازِنُ الأمينُ الذي يُعطى ما أُمِرَ به طيبةً به نفسه أحد المتصدقين".
هكذا في الجامع (1)، وفيه الإخبار بأنَّ أهل الإيمان يتعاضدون، ويتساندون على فعل الخيرات، وأنَّ انضمام المؤمن إلى المؤمن في نشر الخير، وكفّ الشر يقوى به جانب كل منهما، كما أنَّ أحجار البنيان ولبنها يشدّ بعضها بعضاً، وتستقيم به العمارة، وتقوى بها الجُدران، وإذا أُحيل حجر منها أحيل البناء، وقد ينهدم الجدار، فكذلك المؤمنون إذا لم ينصر بعضهم بعضاً، ويشدّ كل واحدٍ أخاه، ويعينه على ما أمر الله به، وارتضاه، وإلا انهدم الدين، وقوي جانب المفسدين، وضاع الإيمان، وتهدمت منه الأركان [62 ب/ ج].
والحديث مأخوذ من قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ (4)} (2)، وقال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ} (3) الآية.
(1) في "جامع الأصول"(1/ 324).
(2)
سورة الصف الآية: (4).
(3)
سورة النساء الآية: (135).
وفي الآية الأخرى: {كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ} (1) وما هدم الشرائع وأضاع الأحكام، وضعضع قواعد الإِسلام، إلا عدم تعاون العباد، وتعاضدهم وتخاذلهم، وتحاسدهم، وتنازعهم الذي تفرّع عليه ذهاب ريح الدين، وتصديق قول الله تعالى:{وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} (2).
(1) سورة المائدة الآية: (8).
(2)
سورة الأنفال الآية: (46).
[الكتاب الرابع](1): كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
المعروف في "التعريفات"(2): هو كل ما يحسن شرعاً، قاله الشريف.
قال: والمنكر ما ليس فيه رضى الله تعالى من قول، ولا فعل، والمعروف: ضده.
قال النووي في "شرح مسلم"(3): قد تطابق على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الكتاب والسنة، وإجماع الأمة، وهو - أيضاً - من النصيحة التي هي الدين، ووجوبه بالشرع، لا بالعقل خلافاً للمعتزلة.
وأمَّا قوله تعالى: {لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} (4) فليس مخالفاً لما ذكرنا، لأن المذهب الصحيح عند المحققين في الآية: أنكم إذا فعلتم ما كلفتم به فلا يضركم تقصير غيركم مثل قوله: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} (5)، وإذا كان كذلك، فمما كلّف به الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإذا فعله، ولم يمتثل المخاطب، فلا عيب بعد ذلك على الفاعل؛ لكونه أدّى ما عليه، فإنما عليه الأمر، والنهي، لا القبول، ثم إنه فرض على الكفاية إذا قام به بعض الناس سقط الحرج عن الباقين.
فإذا تركه الجميع أثم كل من تمكن منه، بلا عذرٍ، ولا خوف، ثم إنه قد يتعين، كما إذا كان في موضع لا يعلم به إلا هو، ولا يتمكن من إزالته إلا هو.
(1) زيادة من "جامع الأصول"(1/ 324).
(2)
في "التعريفات" للجرجاني (ص 237).
(3)
في شرحه لـ "صحيح مسلم"(2/ 22).
(4)
سورة المائدة الآية: (105).
(5)
سورة الأنعام الآية: (164).
قال العلماء: ولا يسقط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لكونه لا يفيد في ظنه، بل يجب عليه فعله، فإنَّ الذكرى تنفع المؤمنين.
وقد قدمنا أنَّ الذي عليه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا القبول كما قال تعالى: {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ} (1).
قال العلماء: ولا يشترط في الآمر الناهي أن يكون كامل الحال ممتثلاً ما يأمر به مجتنباً ما ينهى عنه، بل عليه الأمر، وإن كان مخلاً بما أمر به، والنهي، وان كان متلبساً بما ينهى عنه، فإنه يجب عليه شيئان؛ أن يأمر نفسه، وينهاها، ويأمر غيره، وينهاه، وإذا أخلّ بأحديهما كيف يحلُّ له الإخلال بالآخر.
قالوا: ولا يختص الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بذوي الولايات، بل ذلك ثابت لآحاد المسلمين.
قال إمام الحرمين: والدليل عليه إجماع المسلمين، فإن غير الولاة في الصدر الأول، والعصر الذي يليه كانوا يأمرون الولاة بالمعروف، وينهوهم عن المنكر من غير ولاية.
قلت: ومثاله: حديث الباب، فإنَّ الذي أنكر على مروان فرد من أفراد رعيته، وصوبه أبو سعيد، فاستدل له بالحديث، ثم قال: واعلم [63 أ/ ج]: أنَّ هذا الباب، أعني: باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قد ضيع أكثره من أزمان متطاولة، ولم يبق منه في هذه الأزمان، إلا رسوم قليلة جداً، وهو باب عظيم، وقوام الأمر، وملاكه، وإذا كثُر الخبث عمَّ العقاب الصالح، والطالح.
(1) سورة المائدة الآية: (99).
وإذا لم يأخذوا على يد الظالم أوشك أن يعمهم الله العقاب: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63)} (1).
فينبغي لطالب الآخرة، والساعي في تحصيل رضي الله أن يعتني بهذا الباب، فإنَّ نفعه عظيم لا سيما وقد ذهب معظمه، ويخلص نيته، ولا ينافق من ينكر عليه لارتفاع مرتبته، فإن الله قال:{وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} (2)، وقال:{وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (101)} (3)، وقال:{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} (4).
واعلم أنَّ الآجر على قدر النصب، ولا يتركه - أيضاً - لصداقته ومودته ومداهنته، طلب الوجاهة عنده ودوام المنزلة لديه، فإن صداقته ومودته توجب له حرمة وحقاً، ومن حقه أن ينصحه ويدله إلى مصالح آخرته، وينقذه من مضارها، وصديق الإنسان، ومحبّه هو من سعى في عمارة آخرته، وإن أدى ذلك إلى نقص دنياه، وعدوه من سعى في ذهاب دينه، ونقص آخرته، وإن حصل بذلك صورة بيع في دنياه، وينبغي للآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يرفق ليكون أقرب إلى تحصيل المطلوب له، ومما يتساهل فيه كثير من الناس من هذا الباب أنهم إذا رأوا إنساناً يبيع متاعاً معيباً أو نحوه فإنهم لا ينكرون ذلك، ولا يُعرَّفون المشتري بعيب وهذا خطأ ظاهر.
وقد نص العلماء أنه يجب على من علم ذلك أن ينكر على البائع، وأن يعلم المشتري به. انتهى باختصار يسير.
(1) سورة النور الآية: (63).
(2)
سورة الحج الآية: (40).
(3)
سورة آل عمران: (101).
(4)
سورة العنكبوت الآية: (69).
واعلم أنَّ الأمر بالمعروف تبع لما يؤمر به، فإن كان المأمور به. واجباً فواجب الأمر به، وإن كان ما يؤمر به مندوباً فمندوب الأمر به، والمنكر إن كان (1) حراماً وجب النهي عنه، وإن كان مكروهاً كان النهي عنه مندوباً، وشرطه: أنه لا يؤدي إلى الفتنة، فإن علم أنه يؤدي إليها لم يجب، ولا يندب، بل ربما كان حراماً، بل يلزمه أنه لا يحصر المنكر، ويعتزل في بيته لئلا يراه، ولا يخرج إلا لضرورة.
الحديث الثالث:
89/ 1 - عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ: أنَّ أَوَّلُ مَنْ بَدَأَ بِخُطْبَةِ يَوْمَ الْعِيدِ قَبْلَ الصَّلَاةِ مَرْوَانُ، فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ فَقَالَ: الصَّلَاةُ قَبْلَ الْخُطْبَةِ. فَقَالَ: قَدْ تُرِكَ مَا هُنَالِكَ. فَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الخُدْرِي: أَمَّا هَذَا فَقَدْ قَضَى مَا عَلَيْهِ سَمِعْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيمَانِ" أخرجه الخمسة إلا البخاري (2)، وهذا لفظ مسلم. [صحيح].
وعند الترمذي (3): فقام رجل فقال: يا مروانُ! خالفت السنة.
زاد أبو داود (4): أخرجْتَ المنبرَ في يومِ عيدٍ ولم يكنْ يُخرجُ فيه، وبَدأت بالخطبةِ قبل الصلاةِ، وليسَ عندَ النسائِي إلا المسند فقط [108/ ب].
قوله: عن طارق بن شهاب (5).
(1) في المخطوط مكررة.
(2)
أخرجه مسلم رقم (49) وأبو داود رقم (1140) و (4340) والترمذي رقم (2172) والنسائي رقم (5008) و (5009) واللفظ لمسلم.
(3)
في "سننه" رقم (2172).
(4)
في "سننه" رقم (1140).
(5)
انظر ترجمته في "الاستيعاب"(ص 367 رقم 1281).
أقول: هذا أبو عبد الله طارق بن شهاب بن عبد شمس الأحمسي البجَلي الكوفي أدرك الجاهلية، ورأى النبي صلى الله عليه وسلم وليس له سماع منه إلا شاذاً، وغزا في خلافة أبي بكر وعمر ثلاثاً وثلاثين أو أربعاً وثلاثين بين غزوة وسرية، ومات سنة اثنتين وثمانين.
قوله: "مروان".
هو ابن الحكم بن أبي العاص الأموي.
قوله: "رجل".
في المبهمات أنه عمارة بن رويبة، وفي البخاري (1) أنَّ أبا سعيد هو الذي أنكر، قال الحافظ (2): يحتمل أن تكون القصة تعددت.
وفي رواية البخاري (3): أنه قال أبو سعيد لمروان: غيرتم والله! هذا.
وقال القاضي عياض (4): نقل أول من بدأ بالخطبة يوم العيد عثمان، وقيل: عمر بن الخطاب لما رأى الناس يذهبون عند تمام الصلاة، ولا ينتظرون الخطبة، وقيل: بل ليدرك [63 ب/ ج] الصلاة من تأخر، وبَعُدَ منزلُه.
وقيل: أول من فعله معاوية، وقيل: ابن الزبير (5).
(1) في "صحيح البخاري" رقم (956).
(2)
في "الفتح"(2/ 45).
(3)
رقم (956) وقد تقدم.
(4)
في "إكمال المعلم بفوائد مسلم"(1/ 288).
(5)
قال الحافظ في "الفتح"(2/ 452): وإلا فما في الصحيح أصح.
قلت: يشير إلى الحديث. أخرجه البخاري رقم (962) عن ابن عباس قال: شهدت العيد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم، فكلهم كانوا يصلون قبل الخطبة. =
قوله: فقد قضى ما عليه.
أي: من وجوب الإنكار الدال عليه الأمر في الحديث الذي رواه أبو سعيد من وجوب التعبير بأحد الجارحتين، فعبر باللسان كأنه لعدم الاستطاعة على التعبير باليد.
وأمَّا التعبير بالقلب، فإنما هو كراهة المنكر، واعتقاد قبحه، وإثم من فعله، فليس فيه تعبير، كما في اليد، واللسان، وإنما سماه تعبيراً من باب التغليب، وفي قول أبي سعيد في محضر من الناس، وجمع عظيم دليل على استقرار السنة عندهم على خلاف ما فعله مروان.
قال النووي (1): فيه دليل على أنه لم يعمل به خليفة قبل مروان (2)، وإنما حكي عمن ذكرنا بالأصح.
قلت: أما عن عثمان: فروى ابن المنذر بإسناد صحيح إلى الحسن البصري قال: أول من خطب قبل الصلاة عثمان (3).
= وكذلك حديث ابن عمر عند البخاري رقم (957) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي في الأضحى والفطر، ثم يخطبُ بعد الصلاة.
(1)
في شرح "صحيح مسلم"(2/ 21).
(2)
قال الحافظ في "الفتح"(2/ 452): فهذا يشير إلى أن مروان إنما فعل ذلك تبعاً لمعاوية لأنه كان أمير المدينة من جهته، وروى عبد الرزاق في "المصنف" (3/ 284) رقم (5646) عن ابن جريج عن الزهري قال: أول من أحدث الخطبة قبل الصلاة في العيد معاوية.
وروى ابن المنذر عن ابن سيرين: أن أول من فعل ذلك زياد بالبصرة.
قال عياض: ولا مخالفة بين هذين الأثرين، وأثر مروان؛ لأنه كلاً من مروان وزياد كانا عاملاً لمعاوية فيحمل على أنه ابتدأ ذلك وتبعه عماله، والله أعلم. اهـ
(3)
ويرد على هذا حديث ابن عباس المتقدم عند البخاري رقم (962): فما في الصحيح أصح.
قال الحافظ ابن حجر: وكذلك روى عن عمر (1) بإسناد صحيح، رواه عبد الرزاق، وابن أبي شيبة، قال: ويحتمل أنّهما فعلا ذلك نادراً، وفعله مروان مستمراً، فنسب إليه، وأنكر عليه.
قوله: "منكراً".
أدخل هذا الفعل تحت عموم: "من رأى منكم منكراً" وسماه منكراً؛ لأنه خلاف السنة، وهو دليل أن كل ما خالف السنة فعلاً أو قولاً فهو منكر؛ لأنه بدعة، وأنه لا اعتداد بخلاف من يخالف السنة ولو باجتهاد كما وقع لعمر، وعثمان، فإنهما لا يخالفانها، إلا لاجتهاد عندهما، وهذا يقوي ما قدمناه لك في حديث:"عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين بعدي"(2) في أنَّ المراد من سنتهم هي: ما بقوا عليه من التمسك بسنته صلى الله عليه وسلم، لا أنّ لهم سنة يشرعونها ويُتبعون عليها إذا أريد ذلك لما خالفهم الصحابة ما خالفوا السنة النبوية بدعة، ومنكراً، ولومهم هذا أخذ من الحديث لبادر مروان إلى الرد على من نهاه.
وقال: هذه سنة الخليفتين الراشدين، بل سلم أنها بدعة. واعتذر بما في رواية البخاري أنَّه قال: إنَّ الناس لم يكونوا يجلسون لنا بعد الصلاة، فجعلنها، أي: الخطبة قبل الصلاة.
قال الحافظ (3): وهذا يشعر بأنّ مروان فعل ذلك باجتهاد منه.
قال: وأمَّا عثمان فإنما فعله لعلة.
(1) ويرد على هذا حديث ابن عباس المتقدم عند البخاري رقم (962): فما في الصحيح أصح.
(2)
تقدم تخريجه. فقد أخرجه أحمد (4/ 126 - 127) وأبو داود رقم (4607) والترمذي رقم (2676) وقال: حديث حسن صحيح. وابن ماجه رقم (43) وغيرهم.
(3)
في "الفتح"(2/ 452).
قلت: وإنما كان الناس لا يجلسون لسماع الخطبة؛ لأنَّ بني أمية كانوا يسبون علياً عليه السلام فكان الناس لا يبقون لسماع ذلك، فكيف يقال: إنَّه اجتهاد، بل هو إكراه للناس على البقاء لسماع ما يحرم سماعه.
فإن قلت: لم لَمْ ينكر الصحابة على عمر، وعثمان، كما أنكروا على مروان.
قلت: عدم النقل إلينا لا يدل على عدم وقوع الإنكار، ثم فرق بين الأمرين، فإن عثمان كان له عذر بالعلة، وعمر قدمها ليدرك بعيد الدار عن المصلى الصلاة، ثم إنهما كانا يخطبان بما لا ذنب في سماعه، ولا إثم في إيقاعه، ومروان يخطب بسبَّ أمير المؤمنين، ورأس المجاهدين، وأخي الرسول الأمين (1) الذي لا يحبه إلا مؤمن، ولا يبغضه إلا منافق بالنص الثابت (2) عن ختام رسل الله أجمعين [64 أ/ ج] ومن هنا يظهر لك وجه في أن الإنكار في تقدم الخطبة إنما هو إنكار لما فيها من القبائح، لكنه وجه الإنكار إلى تقديمها؛ لأنَّه لا يمكنه إنكار ما فيها من القبائح صريحاً، فلا يتوجه السؤال بأنهم لم ينكروا على الشيخين؛ لأنَّ غاية ما فعلاه تقديم الخطبة الشرعية التي على الطريقة النبوية، وتقديمها ليس بمنكر؛ لأنَّ الذي وقع منه تأخيرها فعلاً، ولم يأتِ أمر منه بوجوب التأخير غايته أنه أولى للتأسي، وفهم الشيخان جواز تقديمها،
(1) يشير إلى الحديث الذي أخرجه الترمذي رقم (3720) عن ابن عمر قال: آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أصحابه، فجاء علي تدمع عيناه فقال: يا رسول الله! آخيت بين أصحابك، ولم تؤاخ بيني وبين أحد، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أنت أخي في الدنيا والآخرة" قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب.
وهو حديث ضعيف.
(2)
يشير إلى الحديث الذي أخرجه مسلم رقم (78) والترمذي رقم (3736) والنسائي رقم (5018) و (5022) وابن ماجه رقم (114) عن زر بن حبيش، قال: سمعت علياً رضي الله عنه يقول: "والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة! إنه لعهدُ النبي الأمي إليَّ: إنه لا يحبني إلا مؤمن، ولا يبغضني إلا منافق"، وهو حديث صحيح.
والعذر صحيح لا كعذر مروان أنه كان لا يُقعد له ليملأ أسماعهم بسب من يجب على كل مؤمن محبته، وموالاته والترضي عنه والترحم، فتأمل فإنه وجه لا يحمله عليه إلا نبيه.
قوله: "فليغيره بيده".
أقول: رواية البخاري (1): أنَّ أبا سعيد جبذ بثوب مروان لمَّا أراد أن يصعد المنبر، فقد غير بيده.
قوله: "وذلك أضعف الإيمان".
قال النووي (2): معناه - والله أعلم -: أقلّه ثمرةً، قال القاضي عياض (3): أصلٌ في صفة التغيير، فحق المغير أن يغيره بكل وجه أمكنه زواله به قولاً كان أو فعلاً، فيكسر آلات الباطل، ويريق المسكر بنفسه، أو يأمر من يفعله، وينزع المغصوب ويردها إلى أصحابها بنفسه أو يأمره إذا أمكنه، ويرفق في التغيير جهده بالجاهل، وبذي العزة الظالم المخوف شره.
ثم استوفى مباحث في الباب نافعة لم نطول بنقلها.
قوله: فقال: يا مروان! خالفت السنة.
أقول: فيه إثبات السنة بالأفعال، وإن لم تصحبها أقوال، فإنَّ تقديم الصلاة كان فعله دائماً، ولم يقل صلوا قبل الخطبة، ويحتمل أنه شمله:"صلوا كما رأيتموني أصلي"(4).
(1) في "صحيحه" رقم (956).
(2)
في شرحه لـ "صحيح مسلم"(2/ 25).
(3)
في "إكمال المعلم بشرح مسلم"(1/ 290).
(4)
أخرجه البخاري رقم (631) ومسلم رقم (24/ 391) وأبو داود رقم (589) والترمذي رقم (205) والنسائي (2/ 77) وابن ماجه رقم (979) من حديث مالك بن الحويرث إلا أن مسلماً عنده أصله.
قوله: "أخرجت المنبر":
يدل أنه أخرج منبر المدينة، وقد روي أنه لما أنكر عليه تركَ إخراجه، وأمر بمنبر من لبن وطين.
وفي البخاري (1): أنه صلى الله عليه وسلم كان ينصرف من صلاة العيد فيقوم قائماً. أي: يقابل الناس.
وفي رواية لابن خزيمة (2): خطب يوم عيد على رجليه. وهو مشعر بأنه لم يكن في مصلاه صلى الله عليه وسلم يومئذٍ [منبر](3).
فإن قلت: لا يخفى أنه صلى الله عليه وسلم لم يخرج المنبر كما قاله، وهذا ترك منه صلى الله عليه وسلم، والترك لا يعد سنة؛ لأنها الأقوال والأفعال، والتقرير بخلاف تقديمه الخطبة، فإنه خالف فعله صلى الله عليه وسلم.
قلت: التأسي به صلى الله عليه وسلم يجري في الأفعال والتروك، ولذا عدّ بعض علماء الأصول التروك أفعالاً، ولأنَّ المراد أنه خالف طريقته صلى الله عليه وسلم وهديه، وهو كافٍ في سببية الإنكار، وعلى ما قررنا، فإنه إنما توسل إلى إنكاره ما هو منكر بالإجماع من سبّه لأمير المؤمنين، وإقسارهم على سماع سبه.
وفيه دليل على أنه إذا وقع إنكار المنكر، ولم يؤثر فلا يجب على المنكر فراق موقف الطاعة، وإن سمع فيه، أو رأى ما يحرم مما أنكره؛ لأنه قد قام بالواجب عليه من الإنكار، فسماعه لما يحرم لا إثم عليه فيه سيما إذا خاف تفرق العباد، وزيادة الفساد، وإلا فإن ابن عمر لما دخل مسجداً لصلاة الظهر، وسمع من يثوب في أذانه، أو إقامته خرج من المسجد لما فيه من الابتداع، ولا يقال: هؤلاء أفراد من الصحابة، لا دليل في أفعالهم، لأنا نقول: هم منزهون عن فعل المنكر وسماعه بعد إنكاره.
(1) في "صحيحه" رقم (956).
(2)
في "صحيحه" رقم (2/ 348 - 349).
(3)
بياض في الأصل بمقدار كلمة ولعلها ما أثبتناه.
قوله: "وليس عند النسائي إلا المسند".
يريد قوله: "من رأى منكم منكراً" وهو بلفظ: [64 ب/ ج] قريب مما تقدم.
والأولى أن يقول: المرفوع، فإنَّه ما أخبر به الصحابي عن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأمَّا المسند فإنه خلاف المرسل، وهو الذي اتصل إسناده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسند قد يكون متصلاً ومنقطعاً في أصول علوم الحديث.
الحديث الثاني: حديث ابن مسعود:
90/ 2 - وعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم: "مَا مِنْ نَبِيٍّ بَعَثَهُ الله تَعَالَى فِي أُمَّةٍ قَبْلي إِلَاّ كَانَ لَهُ مِنْ أُمَّتِهِ حَوَارِيُّونَ وَأَصْحَابٌ يَأْخُذُونَ بِسُنَّتِهِ وَيَقْتَدُونَ بِأَمْرِهِ، ثُمَّ إِنَّهَا تَخْلُفُ مِنْ بَعْدِهِمْ خُلُوفٌ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ وَيَفْعَلُونَ مَا لَا يُؤْمَرُونَ، فَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِيَدِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِلِسَانِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِقَلْبِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنَ الإِيمَانِ حَبَّةُ خَرْدَلٍ" أخرجه مسلم (1)[صحيح].
"حواري الرجل" خاصتُه وناصروُهُ.
"والخلوف" جمع: خلْف بسكون اللام، وهمُ الذين يأتونَ بعدَ من مضى ويكونونَ شراً منهم.
قوله: "حَوَاريُّون":
قال في "شرح مسلم"(2): قال الأزهري: هم خلصان الأنبياء وأصفياؤهم، والخلصان الذين نُقوا من كل عيب.
وقال غيره: هم أنصارهم، وقيل: المجاهدون الذين يصلحون للخلافة بعدهم. انتهى.
(1) في "صحيحه" رقم (50).
(2)
أي: النووي في شرحه لـ "صحيح مسلم"(2/ 28).
وقوله: "ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف":
الضمير في إنّها هو ضمير القصة والشأن، والمراد من تخلف - بضم اللام - أي: تحدث من بعدهم خُلوف - بضم الخاء - هو جمع خلْف بإسكان اللام، وهو الخالف بشر، وأمَّا بفتح اللام فإنه الخالف بخير، هذا هو الأشهر، قال بعض أئمة اللغة: هما واحد بالفتح والإسكان.
قوله: "فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن":
أي: من غير ما أتوا من البدع بيده مع إمكانه، كما يأتي قوله: ثم يقدرون على أن يغيروا.
قوله: "ومن جاهدهم بلسانه":
وذلك عند تعذر الجهاد باليد، فهو مؤمن، وذلك بالإنكار عليهم ما يأتونه، والقلم أحد اللسانين، فمن جاهدهم به فقد جاهدهم بلسانه.
قوله: "ومن جاهدهم بقلبه":
وذلك بكراهة ما يأتونه، فهو مؤمن؛ لأنَّ هذه الثلاث هي الوظائف التي اعتبرها الشارع في الباب، وجهاد القلب مصاحب للأولين لا ينقل عنهما.
الحديث الثالث:
91/ 3 - وعَنْه رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "لمَّا وَقَعَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ في الْمَعَاصِي نَهَتْهُمْ عُلَمَاؤُهُمْ فَلَمْ يَنْتَهُوا، فَجَالَسُوهُمْ في مَجَالِسِهِمْ وَوَاكلُوهُمْ وَشَارَبُوهُمْ، فَضَرَبَ الله قُلُوبَ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ، وَلَعَنَهُمْ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ الآية، ثُمَّ جَلَسَ وَكَانَ مُتَّكِئًا فَقَالَ: "لَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ! حَتَّى تَأْطِرُوهُمْ عَلَى الْحَقِّ أَطْرًا" (1).
ومعنى: "تأطروهم" تعطفوهم وتردوهم [109/ ب]، [ضعيف].
(1) أخرجه أبو داود رقم (4336) و (4337) والترمذي رقم (3047) وقال: هذا حديث حسن غريب. وابن ماجه رقم (4006)، وهو حديث ضعيف، لأن في سنده انقطاع، فأبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود لم يسمع من أبيه كما ذكره غير واحد.
قوله: "وعنه": أي: ابن مسعود.
قوله: "قال: لما وقعت": لفظه في "الجامع"(1) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو حديث مرفوع، والمصنف ذكره موقوفاً على ابن مسعود.
قوله: "نهتهم علماؤهم".
فيه: أنَّ النهي يقوم به العلماء، فإنَّ العالم هو خليفة الرسول، والرسل إنما بعثت للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ ولأن العلماء هم الذين يعرفون المنكر، ويعلمون المعروف؛ ولأنهم الذين يتأتى لهم الإنكار [....](2) بالإتيان بالقول اللين أولاً، ثم بالأغلظ، ولذا خصهم بقوله:{لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (63)} (3). فالعلماء هم الذين يخاطبون بإصلاح الناس، فإذا فسدوا وأعرضوا عما به أمروا [....](4) محتاجين إلى من يصلحهم، ولذا قيل:
يا علماء السوء يا ملح البلد
…
ما يصلح الملح إذا الملح فسد
ولسنا نريد بالعلماء الأئمة المجتهدين، بل كل من علم أن هذا الشيء منكر يُنهى عنه، وأنَّ هذا معروف يُؤمر به، وإن كان من يأمره وينهاه أعرف منه سيما بسأله عن وجه تركه المعروف وفعله المنكر تدرجاً إلى نهيه وأمره.
(1) في "جامع الأصول"(1/ 327 رقم 109).
(2)
كلمة غير مقروءة في المخطوط.
(3)
سورة المائدة: (63).
(4)
كلمة غير مقروءة في المخطوط.
ويجب ان يكون المأمور والمنهي متقياً، ولأوامر الله ممتثلاً لمن أمره أو نهاه، ولا يكون من الذين إذا قيل له: اتقِ الله أخذته العزة بالإثم، فقد توعده الله بقوله:{فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (206)} (1).
قوله: فجالسوهم
…
إلى آخره:
لفظ الترمذي بزيادة: "في مجالسهم" وهو لفظه في "الجامع"(2)، ولا بد منها لإفادتها أنَّ العلماء هم الذين أتوا إلى مجالس العصاة، وقصدوهم، لا أنَّ العصاة قصدوا أهل العلم، ففيه زيادة وتضمين على العلماء، لا [65 أ/ ج] يفيده إلا هذه الزيادة، فما كان يحسن من المصنف إسقاطها.
وخص الأكل والشرب؛ لأنهما من أعظم التأنيس لمن يواكل، ويشارب، ولذا جعل الشارع من حقوق المسلم على المسلم إجابة دعوه لأنَّ عدم إجابتها فيه إيحاش له، والمسلم مأمور بتأنيس أخيه المسلم منهي عن إيحاشه، فمواكلة الظالم من أعظم التأنيس له، وأعظم دلالة على موالاته، فلذا خصهما صلى الله عليه وسلم من بين سائر الأنواع.
فيه تحريم مخالفة من نُهي عن المنكر، ولم ينته عنه، وأن الواجب اعتزاله، والإعراض عنه، وهجره إعلاناً بقبيح ما هو عليه، وإظهاراً لعدم موالاته؛ لأنَّ المجالسة والمواكلة دليل على الموالاة لهم، وهجر العصاة واجب سيما بعد نهيهم، وإصرارهم على معاصيهم، فإن قلت: أيحرم ذلك؟
قلت: الحديث أفاد تحريمه، كيف وقد أخبر أنَّ الله لعنهم على لسان أنبيائه، أي: مبلغاً سبحانه لعنه إياهم على لسان رسله فضرب الله قلوب بعضهم ببعض، كأنَّ المراد طمس على
(1) سورة البقرة الآية: (206).
(2)
في "جامع الأصول"(1/ 328).
قلوبهم وختم عليها، وأنزل بها القسوة والغفلة، وصارت قلوب الناهي والمنهي شيئاً واحداً قلوباً غلفاً عقوبة لهم وأيّ عقوبة، فإن عقوبات (1) القلوب سلب إيمانها وإدراكها الحق أعظم العقوبات، كما عاقب الله ثعلبة بن حاطب (2) فإنَّه لما أخلف الله ما وعده، ومنع ما أوجب عليه، وتولى معرضاً أعقبه نفاقاً إلى يوم يلقاه.
قوله: "ولعنهم على لسان داود" الآية:
أقول: أي: اقرءوا الآية، وهي قوله:{لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ} (3) الآية.
والآية دلت على أنَّ المذكورين من علمائهم كفروا، وأن نهيهم الذي نهوه أولاً لا يخرجون به من عهده الواجب عليهم؛ لأنهم والوهم بعد ذلك.
فلذا قال: {كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ} فلم يعدّ نهيهم الأول شيئاً، ويحتمل أنه أريد بالكفر كفر نعمة العلم الذي أعطاهم الله، ثم يحتمل أنهم عند المخاللة، والمواكلة لم يبق في قلوبهم إنكار لما هم عليه، أو أنه كانوا قادرين على التغيير باليد أو اللسان، أو أنه كان تكليف بني إسرائيل في النهي أشدّ من تكليف هذه الأمة، وأنه لا يكفي إنكار القلب.
(1) في المخطوط مكررة.
(2)
انظر كتاب "ثعلبة بن حاطب الصحابي المفترى عليه" تأليف: عراب بن محمود الحمش، وكتاب:"الشهاب الثاقب في الذب عن الصحابي الجليل ثعلبة بن حاطب" تأليف: أبي أسامة سليم الهلالي.
(3)
سورة المائدة الآية (78 - 79).
وقوله: "ثم جلس، وكان متكئاً".
إنما جلس لزيادة الاهتمام فيما سيقوله، ولذا ابتدأ خطابه بالقسم زيادة، وفيه دليل أنه سيكون في أمته ما كان في بني إسرائيل من الأمور التي ذكرها، وأنه يجب على علماء أمته أن يعطفوا على الحق ويردوه عنه، وإلا أصابهم ما أصاب بني إسرائيل.
واعلم أنه اشتهر في العرف أنَّ الظالم هو الذي يتأمر على العباد، ويأكل أموالهم بالباطل، ويبغي في الأرض الفساد، فلا يتبادر عند إطلاقه إلا هذا الفرد، ولا ريب أنه أعظم أفراد الظلمة، ولكن الظالم المراد هنا في الأحاديث العاصي، كما قال أبو البشر آدم عليه السلام:{رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا} (1) الآية، أي: بالمعصية بأكل الشجرة، وقال: ذو النون عليه السلام: {لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87)} (2).
وفي الدعاء الذي علمه النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر أن يقوله في صلاته، وفيه:"إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً"(3) حديث صحيح سيأتي.
وانظر إلى قوله في أول هذا الحديث: "لما وقعت بنو إسرائيل في المعاصي" إذا عرفت هذا عرفت أن كل من واكل أيّ عاصٍ وجالسه وخَالَله بعد نهيه له [65 ب/ ج] ولم ينته، ويتوب، ولو كان ولده أو أخوه أو امرأته، أو خادمه، فإنه داخل في هذا الوعيد فتنبه للمراد، ولا تكن غافلاً عما أفاد.
(1) سورة الأعراف الآية: (23).
(2)
سورة الأنبياء الآية: (87).
(3)
أخرجه أحمد (1/ 4، 7) والبخاري رقم (834) ومسلم رقم (2705) والترمذي رقم (3531) والنسائي (3/ 53) وابن ماجه رقم (3835) وغيرهم، وهو حديث صحيح.
قوله: "والذي نفسي بيده! حتى تأطروهم":
أقول: هو غاية المقدار، أي: لا يؤمنون، ولا يكونوا آمرين ناهين حتى يعطفوهم، أي: يعطفون الذين يرتكبون المعاصي، ويردوهم عنها بالقهر، وهو مقيد بالاستطاعة، أي: إن قدرتم، وإلا فإنه يكفي الإنكار باللسان، وإلا فالقلب.
وفيه ما يشعر أنَّ علماء بني إسرائيل كانوا قادرين على رد العصاة عن معاصيهم.
قوله: "أخرجها أبو داود والترمذي":
لكن هذا لفظ الترمذي، ولذا قال ابن الأثير (1): ورواية الترمذي، وساق اللفظ الذي ساقه المصنف، وقد كان قدم رواية أبي داود بلفظ: آخر يقارب لفظ الترمذي.
الحديث الرابع:
92/ 4 - وعَنْ قَيْسٍ بِن أبِي حازم قَالَ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه بَعْدَ أَنْ حَمِدَ الله تَعَالَى وَأَثْنَى عَلَيْهِ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ! إِنَّكُمْ تَقْرَءُونَ هَذِهِ الآيَةَ وَتَضَعُونَهَا عَلَى غَيْرِ مَوضِعِهَا: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} (2) وَإِنَّا سَمِعْنَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِنَّ النَّاسَ إِما رَأَوُا الظَّالمَ فَلَمْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمُ الله بِعِقَابٍ" وإنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَا مِنْ قوْمٍ يُعْمَلُ فِيهِمْ بِالْمَعَاصِي، ثُمَّ يَقْدِرُونَ عَلَى أَنْ يُغَيِّرُوا، فَلَمْ يُغَيِّرُوا إِلَاّ يُوشِكُ أَنْ يَعُمَّهُمُ الله مِنْهُ بِعِقَابٍ" أخرجهما أبو داود (3) والترمذي (4)[صحيح].
(1) في "جامع الأصول"(1/ 328).
(2)
سورة المائدة الآية: (105).
(3)
في "سننه" رقم (4338).
(4)
في "سننه" رقم (2168) و (3057). =
ومعنى: "يوشك" يقرُبُ ويُسرعُ.
قوله: "قيس بن أبي حازم"(1):
أقول: بالمهملة والزاي، وقيس هو أبو عبد الله الأحمسي البجلي أدرك الجاهلية، وأسلم وجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليبايعه، فوجده قد توفي، يعدُّ في تابعي الكوفة، وقد عد في أسماء الصحابة مع اتفاقهم أنه لم ير النبي صلى الله عليه وسلم.
شهد النهروان مع علي بن أبي طالب عليه السلام قال ابن عيينة: ما كان في الكوفة أروى عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من قيس بن أبي حازم، وطال عمره، وجاوز المائة، وتوفي سنة ثمان أو ست وتسعين.
قوله: "وتضعونها في غير موضعها":
أقول: كأنَّه يريد ما أخرجه ابن جرير (2) عن جُبير بن نفير قال: كنتُ في حلقةٍ فيها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وإني لأصغرُ القوم فتذاكروا الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، فقلت: أليس الله يقول: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} (3) فاقبلوا عليَّ بلسان واحد، فقالوا: تنزع كلمة من كتاب الله لا نعرفها، ولا ندري ما تأويلها حتى تمنيت أن لم أكن تكلمت، ثم تحدثت فكأنَّ أبا بكر خطب بعد هذا.
قوله: "فلم يأخذوا على يده":
هو كناية عن منعه عن الظلم نحو قوله: "حتى تأطروهم على الحق أطراً".
= قلت: وأخرجه ابن ماجه رقم (4005)، وهو حديث صحيح.
(1)
انظر ترجمته في "الاستيعاب"(ص 615 - 616) رقم (2133).
(2)
في "تفسيره "جامع البيان" (9/ 46 - عالم الكتب). وذكره ابن كثير في تفسيره (398 - 399).
(3)
سورة المائدة الآية: (105).
قوله: "تقدرون على أن تغيروا":
فيه اعتبار القدرة على التغيير، والمراد باليد، أو باللسان، أو بالقلب مقدر أبداً، كما قدمنا، ثم إنه أفاد أبو بكر أنَّ آية:{لَا يَضُرُّكُمْ} مقيدة بعد أن يأتوا بواجب الأمر والنهي.
واعلم أن للصحابة كلام في الآية:
فأخرج ابن جرير (1)، وابن مردويه (2) عن عمر أنه قيل له: لو جلستَ هذه الأيام، فلم تأمُرْ ولم تنهَ، فإن الله يقول:{عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} ؟ قال: إنها ليست لي، ولا لأصحابي، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"ليبلغ الشاهد الغائب" فكنا نحن الشهودَ، وأنتم الغيب، ولكنَّ هذه الآية لأقوام يجيئون من بعدِنا إنْ قالوا لم يقبل منهم.
وأخرج عبد الرزاق (3)، وابن جرير (4) من طريق قتادة عن رجلٍ قال: كنت في خلافة عمر بن الخطاب بالمدينة في حلقة فيها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا فيهم شيخ حسبت أنه قال: أبي بن كعب فقرأ: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} فقال: إنما تأويلها آخر الزمان.
وأخرج ابن مردويه (5) عن معاذ بن جبل أنه قال: يا رسول الله! أخبرني عن قول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} ، فقال: "يا
(1) في تفسيره "جامع البيان"(9/ 44 - عالم الكتب).
(2)
عزاه إليه السيوطي في "الدر المنثور"(3/ 216 - 217).
(3)
في تفسيره (1/ 192 - 193 رقم 759 - "المعرفة").
(4)
في تفسيره "جامع البيان"(9/ 45 - 46 - عالم الكتب).
قلت: وأخرجه الطبراني (ج 9 رقم 9072) من طرق عن الحسن عن ابن مسعود به.
وأورده الهيثمي في "مجمع الزوائد"(7/ 22) وقال: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح، إلا أن الحسن البغوي لم يسمع من ابن مسعود.
(5)
عزاه إليه السيوطي في "الدر المنثور"(3/ 217).
معاذ! مروا بالمعروف، وتناهوا عن المنكر، فإذا رأيتم شحاً مطاعاً، وهوى متبع، وإعجاب كل [66 أ/ ج] ذي رأي برأيه فعليكم أنفسكم لا يضركم ضلالة غيركم، فإنّ من ورائكم أيام صبر المتمسك فيها بدينه مثل القابض على الجمر، فللعامل منهم يومئذ مثل عمل أحدكم اليوم كأجر خمسين منكم" قلت: يا رسول الله! خمسين منهم؟ قال: "بل خمسين منكم أنتم".
وقريب منه أخرج الترمذي من حديث أبي ثعلبة الخشني، وحديث حذيفة قال فيه الترمذي: حسن.
قوله: أخرجه الترمذي.
أقول: يعني: حديث قيس بن أبي حازم، وقال الترمذي (1): هذا حديث حسن صحيح، وقد رواه غير واحد عن إسماعيل بن أبي خالد نحو هذا مرفوعاً، وروى بعضهم عن قيس عن أبي بكر.
قوله: ولم يرفعوه.
الحديث الخامس: حديث حذيفة:
93/ 5 - وَعَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَده! لتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلتَنْهَوُنَّ عنِ الْمُنْكَرِ، أَوْ لَيُوشِكَنَّ الله أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عِقَابًا مِنْهُ، ثُمَّ تَدْعُونَهُ فَلَا يسْتَجَيبُ لكمْ" أخرجه الترمذي (2).
قوله: "لتأمرن بالمعروف":
الأمر في الثلاثة الأفعال مفتوحة؛ لأنها جواب قسم بعد رأى والله لتأمرن، أو والله! ليقرب أن يبعث عليكم عقاباً لترككم ما أوجبه عليكم من الأمر والنهي.
(1) في "سننه" عقب الحديث رقم (2168).
(2)
في "سننه" رقم (2169) وقال: هذا حديث حسن، وهو كما قال.
قوله: "ثم تدعونه":
ليكشف عنكم العقاب.
"فلا يستجيب" دعاءكم.
الحديث السادس: حديث ابن مسعود:
94/ 6 - وَعَنْ عبد الله بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: [110/ ب] قَالَ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّكُمْ مَنْصُورُونَ وَمُصِيبُونَ، وَمَفْتُوحٌ لَكُمْ، فَمَنْ أَدْرَكَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَلْيَتَّقِ الله! وَلْيَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَلْيَنْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَمَنْ كَذَبَ عَلَىَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ"(1)[حسن].
قوله: "إنكم منصورون":
فيه البشرى بأنَّ الأمة تنصر على من عاداها، وتصيب من حاربها، وتفتح بلاد من ناداها.
وقد وقع كل ما ذكره صلى الله عليه وسلم، فهو من أعلام النبوة وقوع الغيب الذي أخبر به، ثم أمرهم بتقوى الله؛ لأنَّ الفتح والنصر والغلبة من أسباب البطر والأشر، وعدم القيام بواجب الشكر، ولهذا يقول الله سبحانه وتعالى:{كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7)} (2).
ثم خص من أنواع التقوى الآمر بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع أنهما قد دخلا تحت الأمر بتقوى الله؛ لأنهما عمدة التقوى، ولأنَّه عند انفتاح الدنيا، والنصر على الأعداء،
(1) أخرجه الترمذي في "سننه" رقم (2257) وقال: وهذا حديث حسن صحيح. وهو حديث حسن.
• وأخرج الترمذي رقم (2659) وابن ماجه رقم (30) شطره الأخير: "من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار" وهو حديث صحيح.
(2)
سورة العلق الآية: (6).
وسعة المال، والرخاء يعرض الناس عن هذين الواجبين بخصوصهما لما فيهما من السعة على النفوس.
وأمَّا قوله: "ومن كذب عليَّ متعمداً" فيأتي الكلام عليه.
الحديث السابع:
95/ 7 - وَعَنِ عُرْسِ بْنِ عَمِيرَةَ الْكِنْدِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِذَا عُمِلَتِ الْخَطِيئَةُ في الأَرْضِ كانَ مَن شَهِدَهَا فأنْكَرَهَا كَمَنْ غَابَ عَنْهَا، وَمَنْ غَابَ عَنْهَا فَرَضِيَهَا كانَ كمَنْ شَهِدَهَا" أخرجهما أبو داود (1)[حسن].
قوله: "العُرْسُ بن عَمِيرة"(2):
أقول: بضم العين المهملة وسكون الراء، وعميرة - بفتح العين المهملة وكسر الميم وبالراء -.
قوله: "من شهدها": حضرها.
قوله: "فأنكرها": بلسانه، أو بقلبه، أو بيده إن أمكن.
قوله: "كمن غاب":
في أنه غير آثم.
قوله: "فرضيها كان كمن شهدها":
راضياً بها، فالإثم يتعلق بالكراهة، والرضى.
(1) في "سننه" رقم (4345) وهو حديث حسن.
(2)
انظر ترجمته في "الاستيعاب"(ص 586 رقم 2012).
الحديث الثامن:
96/ 8 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ الجهَادِ كَلِمَةَ عَدْلٍ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ". أخرجه أبو داود (1) والترمذي (2). [111/ ب]، [حسن].
قوله: "كلمة عدل عند سلطان جائر - أو أمير جائر":
هو شك من الراوي، وإنما كانت أعظم الجهاد، أو فضله على لفظ أبي داود، والنسائي (3)، فإنه عندهما لفظ:"أفضل"؛ لأنه تكلم بحق في موقف لا يؤمن، وورد الحديث بلفظ:"كان أحب وأفضل" لما فيه من الإعلان بالحق والصدوع به، وإيثار مرضاة الله على مرضاة عباده، والمخاطرة بالنفس لإعلاء كلمة الحق، وإنما كان أفضل من الجهاد بملاقاة الأقران؛ لأنَّ ذلك فيه مظنة الظفر، والغلبة، والسلب، والنفس قوية في الدفع عن دمها بخلاف المتكلم عند السلطان الجائر، فإنَّ بنفسه وماله مخاطرة، وليس فيه شيء مما ذكرناه في ملاقاة الأقران.
وفيه دليل أنَّ أحب الأعمال وأفضلها أشقها على النفس، وأنَّ التعرض للشهادة مع القطع بعدم الغلبة جائز.
(1) في "سننه" رقم (4344).
(2)
في "سننه" رقم (2174) وقال: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه.
وأخرجه ابن ماجه رقم (4011) وهو حديث حسن.
(3)
في "سننه" رقم (4209) من حديث طارق بن شهاب بلفظ: "أي الجهاد أفضل؟ قال: كلمة حق عند سلطان جائر" بسند صحيح.
وفيه أنه لا يشترط [66 ب/ ج] في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الأمان على النفس؛ لأنَّ هذا الموقف مظنة عدم السلامة.
وقد بسطناه في "التنوير"(1) في بحث "أحب الجهاد" أخرجه بهذا اللفظ أحمد، والطبراني من حديث أبي أمامة.
(1) في "التنوير شرح الجامع الصغير" رقم الحديث (210) بتحقيقي.
أخرجه أحمد (5/ 251) والطبراني في "المعجم الكبير" رقم (8080) والبيهقي في "السنن الكبرى"(10/ 91). وله شاهد من حديث طارق بن شهاب البجلي عند أحمد في "المسند"(4/ 314) بسند صحيح رجاله ثقات رجال الشيخين. وطارق بن شهاب رأى النبي صلى الله عليه وسلم ولم يسمع منه، فروايته عنه مرسل صحابي.
[الكتاب الخامس](1): كتاب الاعتكاف
الاعتكاف لغة كما في "النهاية"(2) بلفظ: الاعتِكاف، والعُكوف: الإقامة على الشيء، وبالمكان ولزومهما.
ويقال: عكَف يَعْكُف، ويَعْكِف عُكُوفاً، فهو عَاكِف، واعْتكفَ.
ومنه قيل لِمَن لازَم المسجدَ، وأقام على العِبادَة عاكِف، ومُعْتكِف. انتهى.
ويسمى جواراً، كما يأتي في أحاديث الكتاب.
والاعتكاف يستحب إجماعاً، ويتأكد استحبابه في العشر الأواخر من رمضان.
الحديث الأول: عن عائشة:
97/ 1 - عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالت. كَانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ حَتَّى تَوَفَّاهُ الله تَعالى، ويَقُول:"تَحَرَّوْا لَيْلَةَ الْقَدْرِ في الْوِتْرِ مِنَ الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ"، ثُمَّ اعْتكفَ أَزْوَاجُهُ مِنْ بَعْدِهِ. أخرجه الستة (3)[صحيح].
وفي رواية (4): كَانَ يَعْتَكِفُ فِي كُلِّ رَمَضَانَ، فإِذَا صَلَّى الْغَدَاةَ جَاء مَكَانَهُ الَّذِي اعْتَكَفَ فِيهِ - قَالَ - فَاسْتَأْذَنَتْهُ عَائِشَةُ رضي الله عنها أَنْ تَعْتَكِفَ، فَأَذِنَ لَهَا فَضَرَبَتْ فِيهِ قُبَّةً، فَسَمِعَتْ بِهَا حَفْصَةُ رضي الله عنها، فَضَرَبَتْ قُبَّةً، وضَرَبَتْ زَيْنَبُ رضي الله عنها أُخْرَى، فَلَمَّا انْصَرَفَ مِنَ الْغَداة أَبْصَرَ أَرْبَعَ قِبَابٍ،
(1) زيادة من "جامع الأصول"(1/ 334).
(2)
"النهاية في غريب الحديث"(3/ 284).
(3)
أخرجه البخاري رقم (2026) ومسلم رقم (5/ 1172) وأبو داود رقم (2462) والترمذي رقم (790) دون قوله: "ثم اعتكف أزواجه من بعده" ومالك في "الموطأ"(1/ 316)، وهو حديث صحيح.
(4)
للبخاري رقم (2033) ولمسلم رقم (6/ 1172) والنسائي رقم (709) وأبو داود رقم (2464) والترمذي مختصراً رقم (791).
فَقَالَ: "مَا هَذَا؟ " فَأُخْبِرَ بذلك، فَقَالَ:"مَا حَمَلَهُنَّ عَلَى هَذَا الْبِرُّ؟ (1) انْزِعُوهَا فَلَا أَرَاهَا" فَنُزِعَتْ، فَلَمْ يَعْتَكِفْ فِي رَمَضَانَ حَتَّى اعْتَكَفَ فِي آخِرِ الْعَشْرِ مِنْ شَوَّالٍ. [صحيح].
وفي رواية (2): أَمَرَ بِخِبَائِهِ فقُوَّض وتركَ الاِعْتِكَافَ شَهْر رَمَضَان حَتَّى اعْتَكَفَ فِي الْعَشْرِ الأَوَّلِ مِنْ شَوَّالٍ. [صحيح].
"الخباء" بيت من وبر أو صوف، لا من شعر.
و"تقويضه" رفعه. [112/ ب].
أقول: هذا لفظها في البخاري ومسلم.
وقوله: في رواية عائشة: "كان يجاورهن" لفظ البخاري وحده.
وكذا الرواية الثالثة: "كان يعتكف في كل رمضان" هي لفظ البخاري (3) وحده.
قوله: "جاء مكانه".
لفظه في البخاري (4): "فيصلي الصبح، ثم يدخله" وفي رواية له (5): "فإذا صلّى الغداة دخل" وفي لفظ: "حل" ولم أجد فيه لفظة: "جاء" واستدل لهذا على أنَّ نية الاعتكاف أول النهار، وهو قول الأوزاعي، والثوري.
وقال الأربعة الأئمة: أوله قبل غروب الشمس، وتأولوا الحديث على أنه كان قبل المغرب معتكفاً لابثاً بين أهله بعد صلاة الغداة انفرد بنفسه في قبة.
(1) آلبّر: اسم جامع للخير كله، ومنه قوله تعالى:{وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} [البقرة: 177].
(2)
للبخاري رقم (2034) ولمسلم رقم (6/ 1173).
(3)
في "صحيحه" رقم (2044) و (2041).
(4)
في "صحيحه" رقم (2033).
(5)
في "صحيحه" رقم (2041).
وفيه دليل على جواز اتخاذه موضعاً في المسجد ينفرد به مدة اعتكافه ما لم يضيق على الناس، وينبغي أن يكون في آخر المسجد، وفي الخالي منه لئلا يضيق على غيره.
قوله: "فاستأذنته عائشة":
هو من وضع الظاهر موضع الضمير، أي: استأذنته؛ لأنها الراوية.
قوله: "فضربت فيه":
أي: في المسجد المعلوم.
"قبة" هي: الخباء، وهو بكسر الخاء المعجمة، ثم موحدة بيت صغير من شعر.
قوله: "أربع قباب":
أي: بقبته صلى الله عليه وسلم.
قوله: "آلبر":
بهمز واستفهام ممدود، وغير ممدود، ولفظ البر مرفوع فاعل لفعل محذوف، أي: حملهن البرد دلَّ عليه.
قوله: "حملهنَّ":
وفي لفظ: "البرّ تردن" والبرَّ بالنصب مفعول تردن قدم عليه؛ لأنه المسؤول عنه، والقاعدة في علم المعاني والبيان أنه الهمزة المسؤول عنه، فلذا قدم.
وقوله: "تردن":
بضم أوله، قال النووي (1): وسبب إنكاره صلى الله عليه وسلم ذلك فإنه خاف أن يكنّ غير مخلصات في الاعتكاف، بل أردن القرب منه لغيرتهن عليه، أو لغيرته عليهن، كذا قيل، والأول ظاهر.
وأمَّا غيرته صلى الله عليه وسلم فالمراد أنهن كرهن أن يشتغل قلبه بالغيرة عليهنَّ إذا بعدن عنه.
(1) في شرحه لـ "صحيح مسلم"(8/ 69).
فلذا قربن منه، وأردن الاعتكاف فكره ملازمتهن المسجد مع أنه مجمع الناس، ويحضره الأعراب والمنافقون، وهنَّ محتاجات إلى الخروج والدخول لما يعرض لهنَّ فاعتذر لهنَّ لذلك، أو لأنه صلى الله عليه وسلم رَآهنَّ عنده في المسجد وهو في اعتكافه، فصار كأنه في منزله لحضوره مع أزواجه، فيذهب المهم من الاعتكاف وهو التخلي عن الأزواج ومتعلقات الدنيا. انتهى.
قوله: "في آخر العشر من شوال":
أقول: وفي رواية للبخاري [67 أ/ ج](1): "في العشر الأول من شوال".
يأتي للمصنف ذكرها، وجمع الحافظ (2) بينهما، فقال: ويمكن الجمع بينهما بأنَّ المراد من قوله: آخر العشر من شوال انتهاء اعتكافه.
قلت: وفيه نظر؛ لأنه إذا اعتكف العشر الأولى من شوال انتهى اعتكافه في أول الثلث الثاني من شوال.
وأخذ منهما الإسماعيلي جواز الاعتكاف بغير صوم؛ لأنَّ أول شوال يوم الفطر، وصيامه حرام.
وأخذ من الخبر استحباب قضاء النوافل المعتادة إذا فاتت، وأخذ منه المالكية وجوب قضاء العمل لمن شرع فيه، ثم أبطله ورد بأنه إنما قضاه استحباباً، لا وجوباً بدليل أنه لم ينقل أن نساؤه اعتكفن معه في شوال.
وفيه جواز الخروج من الاعتكاف بعد الدخول فيه، وأنه لا يلزم بالنية، ولا بالشروع فيه، ويستنبط منه ذلك في سائر التطوعات، ويدل له أنَّ المتطوع أمير نفسه.
وفيه ترك الأفضل للمصلحة، وأنَّ من خشي على عمله الرياء جاز له تركه، وقطعه.
(1) في "صحيحه" رقم (2034).
(2)
في "الفتح"(4/ 276 - 277).
قلت: بل يحرم عليه الاستمرار فيه؛ لأنه استمرار في معصية، ولا يخفى أنه إن أراد أنه صلى الله عليه وسلم خشي ذلك فقطع اعتكافه، فهو غير صحيح؛ لأنه لم يقطع اعتكافه خشية ذلك.
وإن أراد أنه قطع اعتكافه نسائه لخشية الرياء عليهن فعبارته لا تؤدي هذا، ثم الذي تقدم أنه صلى الله عليه وسلم إنما خشي أنهن قصدن القرب منه، لا إخلاص العبادة، فالأولى أن يعلل أمره صلى الله عليه وسلم بتقويض قبب نسائه؛ لأنه لم يكن أذن إلا لواحدة، وغيرها خرج من بيته صلى الله عليه وسلم بغير إذنه، وهو لا يجوز للمرأة الخروج من بيت زوجها إلا بإذنه، ثم عمّم التقويض لقبة من أذن لها، فلأنها كانت سبب خروجهن بغير إذنه، وأمّا قبته فلأنه متطوع فهو أمير نفسه.
قوله: "فقوض":
بضم القاف وتشديد الواو المكسورة بعدها ضاد معجمة، أي: نقض ورفع، وبه فسره المصنف.
واعلم أنَّ المصنف نسب اللفظ الأول من حديث عائشة إلى الستة، فأوهم كلامه أنَّ اللفظ لهم، وليس كذلك، بل قد فصل ابن الأثير ألفاظ الروايات، فهذا اللفظ الذي أتى به المصنف برمته مجمع من ألفاظ، فلا نطول بالروايات، إلا أنَّه قال ابن الأثير لفظ الموطأ (1) أي: عن عائشة أنَّه صلى الله عليه وسلم أراد أن يعتكف، فلما انصرف إلى المكان الذي أراد أن يعتكف فيه وجد أخبية خباء عائشة، وحفصة، وزينب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"آلبرَّ تَقُولُونَ بهنَّ" ثم انصرفَ، ولم يعتكف حتى اعتكف عشراً من شوال.
وأخرجه الترمذي (2) عن عائشة، وأبي هريرة معاً مختصراً، قال:"كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى قبضه الله عز وجل".
(1) في "الموطأ"(1/ 316).
(2)
في "سننه" رقم (790) وقال: حديث حسن صحيح.
قلت: وقال: حسن صحيح، ثم ذكر رواية الترمذي آخراً، ثم ذكر رواية أبي داود (1)، وفيها:"ثم أخّر الاعتكاف إلى العشر الأول - يعني من شوال".
وفي رواية (2): قال: "اعتكف عشرين من شوال" انتهى.
وبه تعرف ما في رواية التفسير من الإجمال، والإبهام، والإهمال على أنّ ابن الأثير اختصر ما في أبي داود، ففيه:"ثم أخر الاعتكاف إلى العشر الأول - يعني: من شوال" قال أبو داود (3): رواه ابن إسحاق، والأوزاعي عشراً، والمحفوظ عن يحيى بن سعيد نحوه، ورواه مالك (4)[67 ب/ ج].
98/ 2 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنه قَالَ: اعْتَكَفْنَا مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم الْعَشْرَ الأَوْسَطَ، فَلَمَّا كَانَ صَبِيحَةَ عِشْرِينَ نَقَلْنَا مَتَاعَنَا فَقَالَ:"مَنْ كَانَ اعْتكَفَ فَلْيَرْجعْ إِلَى مُعْتكفِهِ فَإِنِّي رَأَيْتُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ، ورَأَيْتُنِي كَأنِّي أَسْجُدُ في مَاءٍ وَطِينٍ" فَلَمَّا رَجَعَ إِلَى مُعْتكفِهِ، وَهَاجَتِ السَّمَاءُ مِنْ آخِرِ ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَكَانَ الْمَسْجِدُ عَلى عَرِيشً، فَلَقَدْ رَأَيْتُ عَلَى أَنْفِهِ وَأَرْنَبَتِهِ أَثَرَ الْمَاءِ وَالطِّينِ وذَلِك ليلةَ الحادِي والعِشْرِين" أخرجه الشيخان (5)[صحيح].
99/ 3 - وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: "كَانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يَعْتكِفُ في كُلِّ رَمَضَانَ عَشْرَةَ أَيَّامٍ، فَلَمَّا كَانَ الْعَامُ الَّذِي قُبِضَ فِيهِ اعْتكَفَ عِشْرِينَ".
(1) في "سننه" رقم (2462).
(2)
لأبي داود في "سننه" رقم (2466).
(3)
في إثر الحديث رقم (2464).
(4)
سقطت من المخطوط (ج) صفحة.
(5)
البخاري رقم (2016) و (2036) و (2040) ومسلم رقم (1167).
أخرجه البخاري (1) وأبو داود (2)[صحيح].
100/ 4 - وَعَن أنس وأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رضي الله عنهما قال: "كَانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ، فَلَمْ يَعْتَكِفْ عَامًا فَلَمَّا كَانَ الْعَامُ الْمُقْبِلُ اعْتكفَ عِشْرينَ" أخرجه أبو داود (3) عن أبي، والترمذي (4) عن أنس. [صحيح].
101/ 5 - عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها: أَنَّهَا كَانَتْ تُرَجِّلُ النَّبِيَّ [11/ ب]صلى الله عليه وسلم وَهِيَ حَائِضٌ، وَهْوَ مُعْتَكِفٌ فِي الْمَسْجِدِ وَهْيَ فِي حُجْرَتِهَا، يُنَاوِلُهَا رَأْسَهُ وكَانَ لَا يَدْخُل البيتَ إلا لِحَاجَة الإنسان إذا كَانَ معتَكِفاً. أخرجه الستة (5)[صحيح].
وزاد أبو داود (6): وَكَانَ يَمُرُّ بِالْمَرِيضِ وَهُوَ مُعْتَكِفٌ، فَيَمُرُّ وَلَا يُعَرِّجُ يَسْأَلُ عَنْهُ. [ضعيف].
وقَالَتْ (7): السُّنة للمعتكف أن لا يعود مريضاً، ولا يشهد جَنازة، ولا يَمسَّ امرأة، ولا يباشِرهَا، ولا يخرُجَ إلا لمِا لا بدّ له منه، ولا اعتكاف إلا في المسجد الجامع. [حسن].
"الترجيل" تسريح الشعر وتنظيفه وتحسينه.
(1) في "صحيحه" رقم (2044).
(2)
في "سننه" رقم (2466) وأخرجه ابن ماجه رقم (1769).
(3)
في "سننه" رقم (2463).
قلت: وأخرجه ابن ماجه رقم (1770)، وهو حديث صحيح.
(4)
في "سننه" رقم (803) وقال: هذا حديث حسن غريب صحيح، وهو حديث صحيح.
(5)
أخرجه البخاري رقم (2046) ومسلم رقم (6/ 297) ومالك في "الموطأ"(1/ 312) وأبو داود رقم (2467) والترمذي رقم (804) والنسائي رقم (275، 276).
(6)
في "سننه" رقم (2472) وهو حديث ضعيف.
(7)
أخرجه أبو داود رقم (2473) وهو حديث حسن.
102/ 6 - وعنها رضي الله عنها قالت: اعْتَكَفْت مَعَ النبي صلى الله عليه وسلم امرأةٌ مِنْ أزْوَاجِه مُسْتَحَاضَةٌ، فَكَانَتْ تَرَى الدَّم والصُّفْرَةَ وَهِي تُصَلِّي، وَرُبَّمَا وَضَعت الطَّسْتَ تَحْتَهَا مِنْ الدَّم. أخرجه البخاري (1) وأبو داود (2)[صحيح].
"تحتها وهي تصلي" الحديث (3).
103/ 7 - وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ قال: قَالَتْ صَفِيَّةَ رضي الله عنها: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مُعْتَكِفًا فَأتيْتُهُ أَزُورُهُ لَيْلاً، فَحَدَّثْتُهُ، ثُمَّ قُمْتُ لأَنْقَلِبَ فَقَامَ مَعِيَ حَتَّى إذا بَلَغ بابَ المَسْجِد مَرَّ رَجُلَانِ مِنَ الأَنْصَارِ، فَلَمَّا رَأَيَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَسْرَعَا فَقَالَ:"عَلَى رِسْلِكُمَا [114/ ب] إِنَّهَا صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ" فَقَالَا: سُبْحَانَ الله! يَا رَسُولَ الله! فَقَالَ: "إِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِى مِنَ الإِنْسَانِ مَجْرَى الدَّمِ، وَإنِّي خَشِيتُ أَنْ يَقْذِفَ في قُلُوبِكُمَا شَرًّا" أَوْ قَالَ: "شَيْئًا". أخرجه البخاري (4) وأبو داود (5)[صحيح].
"الانقلاب" الرجوع.
قوله: "وعن علي بن الحسين":
أقول: هو أبو الحسن، ويقال: أبو الحسين، ويقال: أبو محمَّد علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب الهاشمي المعروف بزين العابدين من أكابر سادات أهل البيت، ومن جلة التابعين، وأعلامهم.
(1) البخاري رقم (310).
(2)
في "سننه" رقم (2476).
قلت: وأخرجه ابن ماجه رقم (1780)، وهو حديث صحيح.
(3)
هذا ما تبقى من شرح الحديث الموجود في الورقة الساقطة.
(4)
في "صحيحه" رقم (2035) ومسلم رقم (24/ 2176).
(5)
في "سننه" رقم (2470).
قال الزهري: ما رأيت قرشياً أفضل من علي بن الحسين. مات سنة أربع وسبعين، وهو ابن ثمان وخمسين، ودفن بالبقيع (1).
قال: "قالت صَفيَّة".
أقول: بنت حُيَيّ (2) أم المؤمنين من بني إسرائيل من سبط هارون بن عمران، كانت تحت كنانة بن أبي الحُقَيق، فقتل يوم خيبر فاصطفاها النبي صلى الله عليه وسلم لنفسه وتزوجها، وجعل عتقها صداقها ماتت سنة خمسين، ودفنت بالبقيع.
وهذا الحديث ترجم له البخاري (3) باب: "هل يَخْرُجُ المعتَكِف لحِوائِجِه إلى بابِ المَسْجِد".
قوله: رجلان من الأنصار.
أقول: قال الحافظ (4): لم أقف على تسميتهما في شيء من كتب الحديث إلا أن ابن العطار في "شرح العمدة" زعم أنهما أسيد بن حضير وعباد بن بشر، ولم يذكر لذلك مسنداً. انتهى.
ووقع في رواية البخاري (5): فأبصره رجل من الأنصار، بالإفراد.
قال ابن التين: وهم، ثم قال: ويحتمل تعدد القصة.
(1) انظر ترجمته في "المعرفة والتاريخ" للفسوي (1/ 360، 544 - 545) الطبقات لمسلم (706) والعلل ومعرفة الرجال لأحمد رواية ابنه عبد الله (2/ 350)(2440) و"سير أعلام النبلاء"(4/ 386 - 401) و "الجرح والتعديل"(6/ 178 - 179).
(2)
انظر ترجمتها في "الاستيعاب"(ص 916 - 917) رقم (3372).
(3)
الباب رقم (8) من كتاب الاعتكاف (33) - (4/ 278 - مع الفتح).
(4)
في "الفتح"(4/ 279).
(5)
في "صحيحه" رقم (2039).
قال الحافظ (1): قلت: الأصل عدمه، بل هو محمول على أنَّ أحدهما كان تبعاً للآخر، أو خص أحدهما بخطاب المشافهة دون الآخر، ويحتمل أنَّ الزهري كان يشك، فيقول تارةً: رجل وتارة رجلان، وقد رواه مسلم (2) من حديث أنس بالإفراد.
قوله: "أسرعا":
أي: في المشي.
قوله: "على رسلكما":
أقول: بكسر الراء وفتحها، أي: على هنيتكما في المشي، فليس هنا شيء يكرهانه، قال: سبحان الله يا رسول الله! زاد في رواية: فقال: يا رسول الله! هل يظن بك إلا خيراً.
قوله: "من ابن آدم":
المراد: جنس أولاد آدم، فيدخل الرجال والنساء، والحاصل: أنه صلى الله عليه وسلم خشي أنَّ يوسوس لهما الشيطان؛ لأنهما غير معصومين، فقد يفضي بهما ذلك إلى الهلاك، فبادر بإعلامهما حسماً للمادة، وتعليماً لمن بعده إذا وقع له مثل ذلك.
وفيه دلالة أنَّ الشيطان أقدره الله على أن يجري من الإنسان مجرى دمه في عروقه.
قوله: "شيئاً أو شراً":
هو لفظ سنن أبي داود (3) وهو شك من الراوي، وفيه دليل أنه يتجنب محل التهمة، وأنه يُبَّين لمن لا يعرف وجه الفعل وجهه.
(1) في "الفتح"(4/ 279).
(2)
في "صحيحه" رقم (23/ 2174) من حديث أنس.
(3)
في "سننه" رقم (4994) وهو حديث صحيح.
وقال ابن دقيق العيد (1): وهذا متأكد في حق العلماء، ومن يقتدى بهم، فلا يجوز لهم أن يفعلوا فعلاً يوجب سوء الظنّ بهم، وإن كان لهم فيه مخلص؛ لأنه سبب إلى إبطال الانتفاع بهم.
ومن ثمة قال بعض العلماء (1): ينبغي للحاكم أن يبين وجه الحكم إذا كان خائفاً للتهمة، ومن هنا يظهر خطأ من يتظاهر بمظاهر السوء، ويعتذر بأنه يوري بذلك على نفسه، وقد عظم البلاء بهذا الصنف، والله المستعان. ذكره الحافظ (2).
الحديث الثامن: حديث ابن عمر:
104/ 8 - عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: أنَّ عُمَر نَذَرَ في الْجَاهِلِيَّةِ أَنْ يَعْتَكِفَ لَيْلَة، ويُرْوَى: يَومَاً فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، فسأَل رسول الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:"أَوْفِ بِنَذْرِكَ" أخرجه الخمسة (3). [صحيح].
قوله: "نذر في الجاهلية أن يعتكف ليلة":
أقول: استدل به على أنَّ الاعتكاف جائز بغير صوم، وأنه ليس شرطاً فيه؛ لأنَّ الليل ليس طرفاً للصوم، فلو كان شرطاً لأمره النبي صلى الله عليه وسلم به.
(1) حكاه عنه الحافظ في "الفتح"(4/ 280).
(2)
في "الفتح"(4/ 280).
(3)
البخاري رقم (2032) ومسلم رقم (1656) وأبو داود رقم (3325) والترمذي رقم (1539) والنسائي رقم (3820 - 3822)، وهو حديث صحيح.
وتعقب برواية: "يوماً" وهي عند مسلم (1) وجمع بين الروايتين بأنه نذر اعتكاف يوم وليلة، فمن أطلق ليلة أراد بيومها، ومن أطلق يوماً أراد بليلته، وقد ورد [69 أ/ ج] في روايات أنه صلى الله عليه وسلم قال له:"اعتكف وصم" إلا أنها ضعفت.
قوله: "أوفِ بنذرك":
يأتي تحقيقه في كتاب النذر إن شاء الله تعالى.
(1) في "صحيحه" رقم (28/ 1656).
[الكتاب السادس](1) قوله: كتاب إحياء الموات
قال ابن الأثير (2): الموات الأرض التي لم تزرع، ولم تعمَرْ، ولا هي ملك لأحد، وإحياؤها مباشرة عمارتها بتأثير شيء فيها من زرع أو عمارة، أو إحاطة حائط، أو نحو ذلك.
ذكر المصنف ثلاثة أحاديث في الكتاب، وفي "الجامع"(3) سبعة.
الأول:
105/ 1 - عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ عَمَّرَ أَرْضاً لَيْسَتْ لأَحَدٍ فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا" قال عروة بن الزبير: قضى به عمرُ في خلافتهِ رضي الله عنه. أخرجه البخاري (4)[صحيح].
قوله: "من عمر أرضاً ليست لأحدٍ فهو أحق بها":
أقول: قال الشافعي (5): بلاد المسلمين شيئان: عامر، وموات، فالعامر لأهله، وكذلك كلما يصلح به العامر من فناءٍ وطريق، ومسيل ماء، وغيره فهو كالعامر في أنَّ لا يملكه على أهله إلا بإذنهم.
قال: والموات شيئان: موات قد كان عامراً لأهله معروفاً في الإِسلام، ثم ذهبت عمارته، فصار مواتاً، فذلك كالعامر هو لأهله لا يملك عليهم إلا بإذنهم.
(1) زيادة من "جامع الأصول"(1/ 347).
(2)
في "جامع الأصول"(1/ 348).
(3)
في "جامع الأصول" رقم (130، 131، 132، 133، 134، 135، 136).
(4)
في "صحيحه" رقم (2335).
(5)
في "الأم"(5/ 77).
والموات الثاني: ما لم يملكه أحد في الإِسلام، ولا عمر في الجاهلية، فذلك الموات الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من أحيا أرضاً ميتةً فهي له"(1) ومن أحيا مواتاً فهو له.
والإحياء ما عرفه الناس إحياءً مثل البناء إن كان مسكناً أن يبني بناءً مثله، أو ما يقرب منه، وأقلّ عمارة الأرض الزرع فيها، وحفر البئر، ونحو ذلك.
وقال ابن عبد البر (2): إحياؤها أن تعمل حتى تعود أرضاً بيضاء يصلح أن تكون مزرعة بعد حالها الأول، فإن غرسها بعد ذلك فهو أبلغ في إحيائها، هذا مما لا خلاف فيه.
واختلف في الحجر عليها بالحيطان، هل يكون ذلك إحياءً أو لا؟
قد ذهبت طائفة من التابعين ومن بعدهم إلى أنَّ من حجر على موات فقد ملكه، وأنَّ ذلك كالإحياء له، واستدلوا بما رواه شعبة وغيره عن قتادة عن الحسن عن سمرة أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"من أحاط حائطاً على أرض فهي له"(3).
واختلفوا في شرط إذن السلطان، فقال أبو حنيفة (4): ليس لأحدٍ أن يحيي مواتاً من الأرض إلا بإذن الإِمام، ولا يملك منه شيئاً إلا بتمليكه إياه، وقال صاحباه، والشافعي: من
(1) أخرجه أحمد في "المسند"(3/ 313، 327، 381) والترمذي رقم (1379) وقال: هذا حديث حسن صحيح من حديث جابر.
وهو حديث صحيح.
(2)
انظر "التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد مرتباً على الأبواب الفقهية للموطأ"(13/ 119 - 125).
(3)
أخرجه أحمد في "المسند"(5/ 12، 21) وأبو داود رقم (3077)، وهو حديث ضعيف.
(4)
المبسوط للسرخسي (23/ 181) والاختيار (3/ 89 - 90) والبناية شرح الهداية (11/ 325).
أحيا مواتاً من الأرض فقد ملكه أذن الإِمام أم لا، قال الشافعي (1): وعطية رسول الله صلى الله عليه وسلم عامة لكل من أحيا مواتاً أثبت من عطية من بعده من سلطان وغيره.
قلت: يريد أنَّ قوله صلى الله عليه وسلم: "من عَمَّر أرضاً ليسَتْ لأحدٍ فهو أحق بها"(2) بها، عام لكل الأمة من عصر تكلمه صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة فأي حاجة إلى إذن غيره، وهو قول أحمد وإسحاق، وأبي ثور وداود.
قوله: قال عروة بن الزبير: فقضى به عمر في خلافته.
أقول: لعله يريد ما رواه ابن عيينة عن أبي نجيح عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: "أن النبي صلى الله عليه وسلم أقطع ناساً من جهينة أرضاً، فعطلوها فجاء قوم، فعمروها، فخاصمهم أصحاب الأرض إلى عمر بن الخطاب فقال: لو كانت قطيعة من أبي بكر أو مني لم أردها إليكم، ولكنها قطيعة من رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا أستطيع إلا أن أردها، فردها إليهم، ثم قال: من أقطع أرضاً فعطلها ثلاث سنين [69 ب/ ج] ثم أحياها غيره فهو أحق بها". انتهى.
ذكره ابن عبد البر، ويحتمل أنها قصة أخرى.
(1) في "الأم"(5/ 90 - 91).
(2)
أخرجه البخاري رقم (2335) من حديث عائشة بلفظ: "من أعمر
…
".
• وعلق الحافظ ابن حجر في "الفتح"(5/ 20) بقوله: قال عياض: كذا وقع، والصواب:"عمر" ثلاثياً. قال تعالى: {وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا} [الروم: 9]. إلا أن يريد أنه جعل فيها عماراً. قال ابن بطال: ويمكن أن يكون أصله من اعتمر أرضاً، أي: اتخذها، وسقطت التاء من الأصل. وقال غيره: قد سمع فيه الرباعي، يقال: أعمر الله بك منزلك، فالمراد من أعمر أرضاً بالإحياء فهو أحق به من غيره، وحذف متعلق أحق للعلم به. اهـ
الحديث الثاني:
106/ 2 - وعَنْ عروة بِن الزبير قَالَ: قَالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيْتَةً فَهِي لَهُ وَلَيْسَ لِعِرْقٍ ظَالِمٍ حَقٌّ" أخرجه الأربعة إلا النسائي (1)[صحيح].
وزاد أبو داود (2): قال عروة: أَشْهَدُ أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قضَى أَنَّ الأَرْضَ أَرْضُ الله، وَالْعِبَادَ عِبَادُ الله تعالى [115/ ب]، فَمَنْ أَحْيَا مَوَاتًا فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ، جَاءَنَا بِهَذَا عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الَّذِينَ جَاءنا بِالصَّلَوَاتِ عَنْهُ. [إسناده صحيح].
قوله: "لعرق ظالم":
يروى بالإضافة والتوصيف، ويأتي تفسيره في كلام المصنف، وهو تفسير مالك له في الموطأ.
قوله: "عُمّر": بضم العين المهملة وتشديد الميم، يأتي هذا تفسيرها في كلام المصنف.
قوله: "أخرجه الأربعة إلا النسائي":
أقول: أمَّا المنذري في "مختصر السنن"(3) فنسبه إلى إخراج الترمذي والنسائي، وقال: قال الترمذي: حديث حسن غريب، وذكر أنَّ بعضهم رواه مرسلاً، وأخرجه النسائي - أيضاً - مرسلاً. انتهى كلامه.
قلت: وأخرجه مالك مرسلاً، ولفظه عن هشام بن عروة عن أبيه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(1) أخرجه مالك في "الموطأ"(2/ 743) وأبو داود رقم (3073) والترمذي رقم (1378) وقال: هذا حديث حسن غريب. وهو حديث صحيح.
(2)
في "سننه" رقم (3076) بسند صحيح.
(3)
(4/ 265).
قال ابن عبد البر (1): لم يختلف عن مالك في إرسال هذا الحديث عن هشام، وقد اختلف فيه على هشام، فرواه طائفة، كما رواه مالك مرسلاً، وهو أصح ما فيه. والله أعلم.
وروته طائفة عن هشام عن وهب بن كيسان عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وروى آخرون عن هشام عن عبيد الله بن أبي رافع عن أبيه عن جابر، ومنهم من يقول: عن عبيد الله بن عبد الرحمن بن أبي رافع اضطربوا فيه على هشام كثيراً، وقد ذكرنا الأسانيد بذلك في التمهيد، وأتينا باختلاف ألفاظ الناقلين له هناك. والحمد لله.
ثم قال: رواه يحيى بن عروة عن عروة، ورواه ابن أبي مليكة عن عروة يقضيان على أن من روى هذا الحديث مرسلاً، كما رواه مالك أصح من رواية من أسنده.
قلت: رواية يحيى بن عروة وابن أبي مليكة هي رواية سنن أبي داود (2)، ثم قال: والحديث صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد تلقاه العلماء بالقبول.
قوله: الذين جاءوا بالصلوات عنه.
أقول: زاد هذا عروة؛ لأنَّه ليس بصحابي، فلم يشهد قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم لكنه أخبر أنَّ الذين رووا لنا الصلاة هم الصحابة الذين رووا هذا.
107/ 3 - قال عروة (3): ولقد حدثني الذي حدثني بهذا الحديث: "أَنَّ رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا إِلَى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم غَرَسَ أَحَدُهُمَا نَخْلاً في أَرْضِ الآخَرِ فَقَضَى لِصَاحِبِ الأَرْضِ بِأَرْضِهِ وَأَمَرَ صَاحِبَ النَّخْلِ أَنْ يُخْرِجَ نَخْلَهُ مِنْهَا. قَالَ: فَلَقَدْ رَأَيْتُهَا وَإِنَّهَا لَتُضْرَبُ أُصُولُها بِالْفُئُوسِ، وَإِنَّهَا لَنَخْلٌ عُمٌّ حَتَّى أُخْرِجَتْ مِنْهَا.
(1) في "التمهيد"(22/ 280 - تيمية) و"الاستذكار"(22/ 207 - 208).
(2)
في "سننه" رقم (3076) وهو حديث صحيح.
(3)
في سنن أبي داود بإثر الحديث رقم (3074).
قال مالك (1) رحمه الله: "والعِرْق الظالمُ" كلُّ ما أخِذَ واحتُفِرَ وَغُرِسَ بغير حق "الفؤوس" جمع فأسِ، وهي الآلة المعروفة من الحديد:"والعُمُّ" جمع عَمَّية، وهي التامة في الطول والالتفاف.
قوله: لقد حدثني الذي حدثني.
لفظ أبي داود: "أخبرني الذي حدثني" وكأنَّ هذه القصة هي القضاء الذي أخبر عنه بقوله: قضى رسول الله أنَّ الأرض أرض الله. إلخ.
قوله: "جمع عميَّة":
قلت: في "الجامع"(2) جمع: عميمة، وهي التامة في الطول والالتفاف.
وفي "النهاية"(3): مثله لفظ: "عُمّ" أي: تامة في طولها، والتفافها واحدتها: عميمة، وأصلها: عمم، فأسكن وأدغم. انتهى.
ومثله في "القاموس"(4) فإنه قال: ونخلة عميمة، وعماء طويلة، وقال: والعم الجماعة، والنخل: الطوال، وتضم. انتهى.
فأفاد أنها تضم عين الجمع وتفتح فلا أدري من أين نقل المصنف أنه جمع عمية.
قوله: "الحديث الثالث عن سمرة":
108/ 4 - وَعَنْ سَمُرَةَ بن جُنْدِب قَالَ: قَالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَحَاطَ حَائِطًا فِي مَوَاتٍ فَهِو لَهُ". أخرجه أبو داود (5)[ضعيف].
(1) في "الموطأ"(2/ 743).
(2)
في "جامع الأصول"(1/ 349).
(3)
"النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (3/ 301).
(4)
"القاموس المحيط"(1473).
(5)
في "سننه" رقم (3077) وهو حديث ضعيف.
وزاد رزين رحمه الله عن سعيد بن زيد (1) رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ عَمَرَ أَرْضًا قَد عجزَ صاحِبُها عنها وتركها مَهْلَكَة فهي له"[صحيح].
قلت: أخرجه أبو داود (2) من طريق الحسن عنه، ولأئمة الحديث كلام كثير في سماع الحسن من سمرة قد بيناه في الجزء الثاني من سبل السلام (3).
قوله: "زاد رزين عن سعيد بن زيد":
أقول: هو أول حديث في باب: إحياء الموات من سنن أبي داود (4) عن هشام بن عروة عن أبيه عن سعيد بن زيد عن النبي صلى الله عليه وسلم لكن لفظ: "من أحيا أرضاً ميتة فهي له، وليس لعرق ظالم حق" وقد قدمنا شرح ما أفاده في الحديث الأول [7 أ/ ج].
(1) أخرجه الترمذي رقم (1378) وقال: هذا حديث حسن غريب. وأخرجه أبو داود رقم (3073)، وهو حديث صحيح.
(2)
في "سننه" رقم (3077) وهو حديث ضعيف.
(3)
في "سبل السلام الموصلة إلى بلوغ المرام"(5/ 99) بتحقيقي.
(4)
في "سننه" رقم (3073).