الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[كِتَابُ النِّكَاحِ]
ِ هُوَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: الْوَطْءُ الْمُبَاحُ. قَالَهُ الْأَزْهَرِيُّ وَسُمِّيَ التَّزْوِيجُ نِكَاحًا؛ لِأَنَّهُ سَبَبُ الْوَطْءِ؛ وَقَالَ غُلَامُ ثَعْلَبٍ: الَّذِي حَصَّلْنَاهُ عَنْ ثَعْلَبٍ عَنْ الْكُوفِيِّينَ، وَعَنْ الْمُبَرِّدِ عَنْ الْبَصْرِيِّينَ: أَنَّهُ الْجَمْعُ. قَالَ الشَّاعِرُ:
أَيُّهَا الْمُنْكِحُ الثُّرَيَّا سُهَيْلًا
…
عَمْرُك اللَّهَ كَيْفَ يَجْتَمِعَانِ
وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: هُوَ الْوَطْءُ، وَقَدْ يَكُونُ الْعَقْدَ، وَعَنْ الزَّجَّاجِ أَنَّهُمَا بِمَعْنَاهُمَا جَمِيعًا. قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: مَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ: الْجَمْعُ وَالضَّمُّ عَلَى أَتَمِّ الْوُجُوهِ فَإِنْ كَانَ اجْتِمَاعًا بِالْأَبْدَانِ فَهُوَ الْإِيلَاجُ الَّذِي لَيْسَ بَعْدَهُ غَايَةٌ مِنْ اجْتِمَاعِ الْبَدَنَيْنِ، وَإِنْ كَانَ اجْتِمَاعًا بِالْعُقُودِ، فَهُوَ جَمْعٌ بَيْنَهُمَا عَلَى الدَّوَامِ وَاللُّزُومِ، وَلِهَذَا يُقَالُ: اسْتَنْكَحَهُ الْمَذْيُ إذَا لَازَمَهُ وَدَاوَمَهُ. انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ جِنِّيٍّ عَنْ شَيْخِهِ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: فَرَّقَتْ الْعَرَبُ فَرْقًا لَطِيفًا، فَإِذَا قَالُوا: نَكَحَ فُلَانَةَ أَرَادُوا تَزْوِيجَهَا، وَإِذَا قَالُوا: نَكَحَ امْرَأَتَهُ أَرَادُوا مُجَامَعَتَهَا. وَفِي الشَّرْعِ: هُوَ عَقْدُ التَّزْوِيجِ، فَعِنْدَ إطْلَاقِ لَفْظِهِ يَنْصَرِفُ إلَيْهِ مَا لَمْ يَصْرِفْهُ دَلِيلٌ، وَهُوَ (حَقِيقَةٌ فِي الْعَقْدِ) جَزَمَ بِهِ الْأَصْحَابُ، لِأَنَّهُ الْأَشْهَرُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ: وَلِهَذَا قِيلَ: لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ لَفْظُ النِّكَاحِ بِمَعْنَى الْوَطْءِ، إلَّا قَوْله تَعَالَى:{حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] وَلِصِحَّةِ نَفْيِهِ عَنْ الْوَطْءِ فَيُقَالُ: هَذَا سِفَاحٌ وَلَيْسَ بِنِكَاحٍ، وَيُرْوَى عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:
«وُلِدْت مِنْ نِكَاحٍ لَا مِنْ سِفَاحٍ» .
وَيُقَالُ عَنْ السُّرِّيَّةِ: لَيْسَتْ بِزَوْجَةٍ وَلَا مَنْكُوحَةٍ، وَلِأَنَّ النِّكَاحَ أَحَدُ اللَّفْظَيْنِ اللَّذَيْنِ يَنْعَقِدُ بِهِمَا عَقْدُ النِّكَاحِ، فَكَانَ حَقِيقَةً فِيهِ كَاللَّفْظِ الْآخَرِ (مَجَازٌ فِي الْوَطْءِ) لِمَا تَقَدَّمَ (وَقِيلَ: عَكْسُهُ) : أَيْ حَقِيقَةٌ فِي الْوَطْءِ مَجَازٌ فِي الْعَقْدِ، اخْتَارَهُ الْقَاضِي فِي " أَحْكَامِ الْقُرْآنِ "" وَشَرْحِ الْخِرَقِيِّ " وَ " الْعُمْدَةِ " وَأَبُو الْخَطَّابِ فِي " الِانْتِصَارِ " وَأَبُو يَعْلَى الصَّغِيرُ؛ لِمَا تَقَدَّمَ عَنْ الْأَزْهَرِيِّ وَغُلَامِ ثَعْلَبٍ، وَلِقَوْلِ الْعَرَبِ: أَنْكَحْنَا الْفَرَا فَسَيُرَى: أَيْ أَضْرَبْنَا فَحْلَ حُمُرِ الْوَحْشِ أُتُنَهُ، فَسَيُرَى مَا يَتَوَلَّدُ مِنْهُمَا. فَضُرِبَ مَثَلًا لِلْأَمْرِ يَجْتَمِعُونَ عَلَيْهِ ثُمَّ يَتَفَرَّقُونَ عَنْهُ. وَقَالَ الشَّاعِرُ:
وَمِنْ أَيِّمٍ قَدْ أَنْكَحَتْنَا رِمَاحُنَا
…
وَأُخْرَى عَلَى خَالٍ وَعَمٍّ تَلَهَّفُ
وَالصَّحِيحُ مَا قُلْنَا؛ لِأَنَّ الْأَشْهَرَ اسْتِعْمَالُ لَفْظَةِ النِّكَاحِ بِإِزَاءِ الْعَقْدِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَلِسَانِ أَهْلِ الْعُرْفِ، ثُمَّ لَوْ قُدِّرَ كَوْنُهُ مَجَازًا فِي الْعَقْدِ لَكَانَ اسْمًا عُرْفِيًّا يَجِبُ صَرْفُ اللَّفْظِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ إلَيْهِ لِشُهْرَتِهِ كَسَائِرِ الْأَسْمَاءِ الْعُرْفِيَّةِ (وَالْأَشْهَرُ) أَنَّ لَفْظَ النِّكَاحِ (مُشْتَرَكٌ) بَيْنَ الْعَقْدِ وَالْوَطْءِ، فَيُطْلَقُ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا عَلَى انْفِرَادِهِ حَقِيقَةً. قَالَهُ الْقَاضِي؛ لِقَوْلِنَا بِتَحْرِيمِ مَوْطُوءَةِ الْأَبِ مِنْ غَيْرِ تَزْوِيجٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 22](وَالْمَعْقُودُ) الَّذِي يُرَدُّ (عَلَيْهِ) عَقْدُ النِّكَاحِ (مَنْفَعَةُ الِاسْتِمْتَاعِ) لَا مِلْكُ الْمَنْفَعَةِ؛ إذْ مَنْفَعَةُ الْبُضْعِ لَا تُمْلَكُ بِعَقْدِ النِّكَاحِ، وَإِنَّمَا يُسْتَبَاحُ الِانْتِفَاعُ بِهَا. قَالَ الْقَاضِي فِي " أَحْكَامِ الْقُرْآنِ " فِي قَوْله تَعَالَى:{وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} [النساء: 4] الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ الْحِلُّ، لَا مِلْكُ الْمَنْفَعَةِ، وَلِهَذَا يَقَعُ الِاسْتِمْتَاعُ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجَةِ مَعَ أَنَّهُ لَا مِلْكَ لَهَا. وَقِيلَ: بَلْ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ الِازْدِوَاجُ كَالْمُشَارَكَةِ، وَهُوَ مَشْرُوعٌ بِالْإِجْمَاعِ وَسَنَدُهُ قَوْله تَعَالَى:
{فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3] وَقَوْلُهُ: {وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ} [النور: 32] وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ؛ فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ، وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ؛ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَالْوِجَاءُ بِكَسْرِ الْوَاوِ وَفَتْحِ الْجِيمِ - رَضُّ الْخَصِيَتَيْنِ أَصَالَةً، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ كَاسِرٌ لِشَهْوَتِهِ بِإِدَامَتِهِ. وَقَالَ عليه الصلاة والسلام:«إنِّي أَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي» وَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: «رَدَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ التَّبَتُّلَ، وَلَوْ أَذِنَ لَهُ لَاخْتَصَيْنَا» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا.
وَالتَّبَتُّلُ: تَرْكُ النِّكَاحِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْأَدِلَّةِ.
(وَسُنَّ) النِّكَاحُ (لِذِي شَهْوَةٍ لَا يَخَافُ الزِّنَا) لِلْحَدِيثِ السَّابِقِ، عَلَّلَ أَمْرَهُ بِأَنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَخَاطَبَ الشَّبَابَ؛ لِأَنَّهُمْ أَغْلَبُ شَهْوَةً، وَذَكَرَهُ بِأَفْعَلِ التَّفْضِيلِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ أَوْلَى لِلْأَمْنِ مِنْ الْوُقُوعِ فِي مَحْظُورَاتِ النَّظَرِ وَالزِّنَا مِنْ تَرْكِهِ (وَاشْتِغَالَهُ) أَيْ: ذِي الشَّهْوَةِ (بِهِ) أَيْ النِّكَاحِ (أَفْضَلُ مِنْ) نَوَافِلِ الْعِبَادَةِ، قَالَهُ فِي " الْمُخْتَصَرِ " وَمِنْ (التَّخَلِّي لِنَوَافِلِ الْعِبَادَةِ) قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: لَوْ لَمْ يَبْقَ مِنْ أَجَلِي إلَّا عَشَرَةَ أَيَّامٍ وَأَعْلَمُ أَنِّي أَمُوتُ فِي آخِرِهَا يَوْمًا، لِي فِيهِ طَوْلُ النِّكَاحِ، لَتَزَوَّجْت مَخَافَةَ الْفِتْنَةِ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لِسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: تَزَوَّجْ، فَإِنَّ خَيْرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَكْثَرُهَا نِسَاءً (قَالَ أَحْمَدُ) فِي رِوَايَةِ المروذي (لَيْسَتْ الْعُزُوبَةُ مِنْ أَمْرِ الْإِسْلَامِ فِي شَيْءٍ) وَمَنْ دَعَاك إلَى غَيْرِ التَّزْوِيجِ فَقَدْ دَعَاك إلَى غَيْرِ الْإِسْلَامِ. قَالَ الْآمِدِيُّ: يُسْتَحَبُّ فِي حَقِّ الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ، وَالْعَاجِزِ وَالْوَاجِدِ، وَالرَّاغِبِ وَالزَّاهِدِ، نَصًّا، وَاحْتَجَّ بِأَنَّ «النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُصْبِحُ وَمَا عِنْدَهُمْ شَيْءٌ، وَيُمْسِي وَمَا عِنْدَهُمْ شَيْءٌ» ، وَلِأَنَّهُ «عليه السلام زَوَّجَ رَجُلًا لَمْ
يَقْدِرْ عَلَى خَاتَمٍ مِنْ حَدِيدٍ، وَلَا وَجَدَ إلَّا إزَارَهُ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ رِدَاءٌ» . أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ: قَالَ أَحْمَدُ فِي رَجُلٍ قَلِيلِ الْكَسْبِ يَضْعُفُ قَلْبُهُ عَنْ التَّزْوِيجِ: فَأَمَّا مَنْ لَا يُمْكِنُهُ فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور: 33] انْتَهَى.
وَنَقَلَ صَالِحٌ: يَقْتَرِضُ وَيَتَزَوَّجُ، فَإِنَّ أَحْمَدَ تَزَوَّجَ وَهُوَ لَا يَجِدُ الْقُوتَ، وَلِأَنَّ مَصَالِحَ النِّكَاحِ أَكْثَرُ مِنْ مَصَالِحِ التَّخَلِّي لِنَوَافِلِ الْعِبَادَةِ، لِاشْتِمَالِهِ عَلَى تَحْصِينِ فَرْجِ نَفْسِهِ وَزَوْجَتِهِ وَحِفْظِهَا وَالْقِيَامِ بِهَا وَإِيجَادِ النَّسْلِ، وَتَكْثِيرِ الْأُمَّةِ وَتَحْقِيقِ مُبَاهَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَصَالِحِ الرَّاجِحِ أَحَدُهَا عَلَى نَفْلِ الْعِبَادَةِ.
فَائِدَةٌ: قَدْ ذَكَرَ أَصْحَابُنَا أَنَّ أَحْمَدَ لَمْ يَتَزَوَّجْ حَتَّى صَارَ لَهُ أَرْبَعُونَ سَنَةً اشْتِغَالًا بِطَلَبِ الْعِلْمِ. قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ مَنْ شَغَلَهُ النِّكَاحُ عَنْ طَلَبِ الْعِلْمِ فَطَلَبُ الْعِلْمِ أَوْلَى. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: لَمْ يَشْتَغِلْ أَحْمَدُ بِكَسْبٍ وَلَا نِكَاحٍ حَتَّى بَلَغَ مِنْ الْعِلْمِ مَا أَرَادَ، وَنَقَلَ الْخَلَّالُ عَنْ المروذي أَنَّ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ قَالَ لَهُ: مَا تَزَوَّجْت إلَّا بَعْدَ الْأَرْبَعِينَ.
(وَيُبَاحُ) النِّكَاحُ (لِمَنْ لَا شَهْوَةَ لَهُ) أَصْلًا، كَالْعِنِّينِ وَالْمَرِيضِ وَالْكَبِيرِ، لِأَنَّ الْعِلَّةَ الَّتِي يَجِبُ النِّكَاحُ لَهَا أَوْ يُسْتَحَبُّ - وَهُوَ خَوْفُ الزِّنَا أَوْ وُجُودِ الشَّهْوَةِ - مَفْقُودَةٌ فِيهِ، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ النِّكَاحِ الْوَلَدُ، وَهُوَ فِيمَنْ لَا شَهْوَةَ لَهُ غَيْرُ مَوْجُودٍ فَلَا يَنْصَرِفُ إلَيْهِ الْخِطَابُ بِهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مُبَاحًا فِي حَقِّهِ كَسَائِرِ الْمُبَاحَاتِ، لِعَدَمِ مَنْعِ الشَّرْعِ مِنْهُ، وَتَخَلِّيهِ إذَنْ لِنَوَافِلِ الْعِبَادَةِ أَفْضَلُ (وَقِيلَ: يُكْرَهُ) النِّكَاحُ لِمَنْ لَا شَهْوَةَ لَهُ. قَالَ فِي " الْإِنْصَافِ " وَمَا هُوَ بِبَعِيدٍ فِي هَذِهِ الْأَزْمِنَةِ لِمَنْعِ مَنْ يَتَزَوَّجُهَا مِنْ التَّحْصِينِ بِغَيْرِهِ، وَيَضُرُّهَا بِحَبْسِهَا عَلَى نَفْسِهِ، وَيُعَرِّضُ نَفْسَهُ لِوَاجِبَاتٍ وَحُقُوقٍ لَعَلَّهُ
لَا يَقُومُ بِهَا، وَيَشْتَغِلُ عَنْ الْعِلْمِ وَالْعِبَادَةِ بِمَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ.
(وَيَجِبُ) النِّكَاحُ بِنَذْرٍ وَ (عَلَى مَنْ يَخَافُ) بِتَرْكِهِ (زِنًا) وَقَدَرَ عَلَى نِكَاحِ حُرَّةٍ وَلَوْ كَانَ خَوْفُهُ ذَلِكَ (ظَنًّا، مِنْ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ،) لِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ إعْفَافُ نَفْسِهِ وَصَرْفِهَا عَنْ الْحَرَامِ، وَطَرِيقُهُ النِّكَاحِ (وَيُقَدَّمُ) النِّكَاحُ (إذَنْ) أَيْ حِينَ وُجُوبِهِ (عَلَى حَجٍّ وَاجِبٍ) زَادَ أَحْمَدُ: نَصًّا، خَشْيَةَ الْوُقُوعِ فِي مَحْذُورٍ بِتَأْخِيرِهِ، بِخِلَافِ الْحَجِّ. قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: وَإِنْ كَانَتْ الْعِبَادَاتُ فَرْضَ كِفَايَةٍ كَالْعِلْمِ وَالْجِهَادِ قُدِّمَتْ عَلَى النِّكَاحِ إذَا لَمْ يَخَفْ الْعَنَتَ (وَلَا يُكْتَفَى) فِي الْخُرُوجِ مِنْ وُجُوبِ النِّكَاحِ حَيْثُ وَجَبَ الْعَقْدُ بِمَرَّةٍ وَاحِدَةٍ، بَلْ يَكُونُ التَّزْوِيجُ (فِي مَجْمُوعِ الْعُمْرِ) لِيَحْصُلَ الْإِعْفَافُ وَصَرْفُ النَّفْسِ عَنْ الْحَرَامِ (وَيُجْزِئُ تَسَرٍّ عَنْهُ) أَيْ: عَنْ النِّكَاحِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 3] لَكِنَّ التَّخَلِّي لِنَوَافِلِ الْعِبَادَةِ أَفْضَلُ مِنْ التَّسَرِّي وِفَاقًا إنْ مَلَكَ نَفْسَهُ.
(وَيَجُوزُ) نِكَاحُ مُسْلِمَةٍ (بِدَارِ حَرْبٍ لِضَرُورَةٍ لِغَيْرِ أَسِيرٍ) عَلَى الصَّحِيحِ مِنْ الْمَذْهَبِ. قَالَهُ فِي " الْإِنْصَافِ ". قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ الْبُهُوتِيُّ: لَا يَصِحُّ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِدَارِ الْحَرْبِ مِنْ الْكُفَّارِ، بَلْ حَيْثُ احْتَاجَ يَتَزَوَّجُ الْمُسْلِمَةَ؛ لِأَنَّهَا أَقْرَبُ لِسَلَامَةِ الْوَلَدِ مِنْ أَنْ يَسْتَعْبِدَ انْتَهَى. فَإِنْ لَمْ تَكُنْ ضَرُورَةٌ لَمْ يَتَزَوَّجْ وَلَوْ مُسْلِمَةً، نَصًّا وَأَمَّا الْأَسِيرُ فَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ: لَا يَحِلُّ لَهُ التَّزْوِيجُ مَا دَامَ أَسِيرًا، لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْ وَطْءِ امْرَأَتِهِ إذَا أُسِرَتْ مَعَهُ مَعَ صِحَّةِ نِكَاحِهِمَا، قَالَهُ فِي " الْمُغْنِي " وَ " الشَّرْحِ "(وَيَصِحُّ النِّكَاحُ بِدَارِ الْحَرْبِ لِلضَّرُورَةِ) ، لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ مِنْ أَهْلِهِ فِي مَحِلِّهِ (وَيَعْزِلُ نَدْبًا) إنْ أُبِيحَ لَهُ نِكَاحُ مُسْلِمَةٍ بِأَنْ دَخَلَ دِيَارَ كُفْرٍ بِأَمَانٍ، أَوْ لِتِجَارَةٍ وَغَلَبَتْ عَلَيْهِ الشَّهْوَةُ. قَالَهُ فِي " الْفُصُولِ " (خِلَافًا لَهُ) أَيْ: لِصَاحِبِ " الْإِقْنَاعِ "؛ فَإِنَّهُ قَالَ: وَيَجِبُ عَزْلُهُ، فَظَاهِرُهُ مُطْلَقًا سَوَاءٌ
حَرُمَ ابْتِدَاءُ النِّكَاحِ أَوْ جَازَ (وَإِنْ) تَزَوَّجَ (بِلَا ضَرُورَةٍ) فَعَلَيْهِ أَنْ يَعْزِلَ (وُجُوبًا) لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْ التَّزَوُّجِ وَالتَّسَرِّي بِلَا ضَرُورَةٍ. قَالَ فِي " الْإِنْصَافِ ": وَحَيْثُ حَرُمَ نِكَاحُهُ بِلَا ضَرُورَةٍ وَفِعْلٍ؛ وَجَبَ عَزْلُهُ، وَإِلَّا اُسْتُحِبَّ (وَمُقْتَضَى تَعْلِيلِهِمْ) أَيْ: الْأَصْحَابِ (جَوَازُ نِكَاحِ نَحْوِ آيِسَةٍ) كَصَغِيرَةٍ فَإِنَّهُمْ قَالُوا: مِنْ أَجْلِ الْوَلَدِ، لِئَلَّا يُسْتَعْبَدَ. قَالَهُ الزَّرْكَشِيُّ.
وَأَمَّا إنْ كَانَ فِي جَيْشِ الْمُسْلِمِينَ، فَلَهُ أَنْ: يَتَزَوَّجَ؛ لِمَا رَوَى سَعِيدُ بْنُ أَبِي هِلَالٍ: أَنَّهُ بَلَغَهُ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم زَوَّجَ أَسْمَاءَ بِنْتَ عُمَيْسٍ أَبَا بَكْرٍ وَهُمْ تَحْتَ الرَّايَاتِ» رَوَاهُ سَعِيدٌ
، وَلِأَنَّ الْكُفَّارَ لَا يَدَ لَهُمْ عَلَيْهِ؛ أَشْبَهَ مَنْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ.
(وَسُنَّ) لِمَنْ أَرَادَ نِكَاحًا (تَخَيُّرُ ذَاتِ دِينٍ) لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: «تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لِأَرْبَعٍ: لِمَالِهَا وَلِحَسَبِهَا وَلِجَمَالِهَا وَلِدِينِهَا، فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاك» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، (وَ) ذَاتِ (عَقْلٍ) لَا حَمْقَاءَ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ يُرَادُ لِلْعِشْرَةِ الْحَسَنَةِ وَلَا تَصْلُحُ الْعِشْرَةُ مَعَ الْحَمْقَاءِ، وَلَا يَطِيبُ مَعَهَا عَيْشٌ، وَرُبَّمَا تَعَدَّى ذَلِكَ إلَى وَلَدِهَا وَقَدْ قِيلَ: اجْتَنِبُوا الْحَمْقَاءَ؛ فَإِنَّ وَلَدَهَا ضَيَاعٌ وَصُحْبَتَهَا بَلَاءٌ، (وَ) أَنْ تَكُونَ مِنْ بَيْتٍ مَعْرُوفٍ بِالْ (قَنَاعَةِ) لِأَنَّهُ مَظِنَّةُ دِينِهَا وَقَنَاعَتِهَا، (وَ) أَنْ تَكُونَ ذَاتَ (جَمَالٍ) لِأَنَّهُ أَسْكَنُ لِنَفْسِهِ، وَأَغَضُّ لِبَصَرِهِ، وَأَكْمَلُ لِمَوَدَّتِهِ، وَلِذَلِكَ جَازَ النَّظَرُ قَبْلَ النِّكَاحِ، وَلِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ:«قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ النِّسَاءِ خَيْرٌ؟ قَالَ: الَّتِي تَسُرُّهُ إذَا نَظَرَ إلَيْهَا، وَتُطِيعُهُ إذَا أَمَرَهَا، وَلَا تُخَالِفُهُ فِي نَفْسِهَا وَلَا فِي مَالِهِ بِمَا يَكْرَهُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ. وَعَنْ يَحْيَى بْنِ جَعْدَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «خَيْرُ فَائِدَةٍ أَفَادَهَا الْمَرْءُ الْمُسْلِمُ بَعْدَ إسْلَامِهِ امْرَأَةٌ جَمِيلَةٌ تَسُرُّهُ إذَا نَظَرَ إلَيْهَا، وَتُطِيعُهُ إذَا أَمَرَهَا، وَتَحْفَظُهُ فِي غَيْبَتِهِ فِي مَالِهِ وَنَفْسِهَا» رَوَاهُ سَعِيدٌ (الْوَلُودُ) لِحَدِيثِ أَنَسٍ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: تَزَوَّجُوا الْوَدُودَ الْوَلُودَ فَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمْ الْأُمَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . رَوَاهُ سَعِيدٌ. وَيُعْرَفُ كَوْنُ الْبِكْرِ وَلُودًا بِكَوْنِهَا مِنْ نِسَاءٍ يُعْرَفْنَ بِكَثْرَةِ الْأَوْلَادِ (الْحَسِيبَةُ) وَهِيَ طَيِّبَةُ الْأَصْلِ لِيَكُونَ وَلَدُهَا نَجِيبًا، فَإِنَّهُ رُبَّمَا أَشْبَهَ
أَهْلَهَا وَنَزَعَ إلَيْهِمْ (الْأَجْنَبِيَّةُ) لِأَنَّ وَلَدَهَا يَكُونُ أَنْجَبَ، وَلِأَنَّهُ لَا يَأْمَنُ الْفِرَاقَ، فَيُفْضِي مَعَ الْقَرَابَةِ إلَى قَطِيعَةِ الرَّحِمِ الْمَأْمُورِ بِصِلَتِهَا. وَقَدْ قِيلَ: إنَّ الْغَرَائِبَ أَنْجَبُ وَبَنَاتِ الْعَمِّ أَصْبَرُ (الْبِكْرُ) لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام لِجَابِرٍ: «فَهَلَّا بِكْرًا تُلَاعِبُهَا وَتُلَاعِبُك» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
(إلَّا أَنْ تَكُونَ مَصْلَحَتُهُ فِي نِكَاحِ ثَيِّبٍ أَرْجَحُ) فَيُقَدِّمُهَا عَلَى الْبِكْرِ مُرَاعَاةً
لِلْمَصْلَحَةِ.
وَ (لَا) يَنْبَغِي تَزَوُّجُ (بِنْتِ زِنًا وَلَقِيطَةٍ وَحَمْقَاءَ وَدَنِيئَةِ نَسَبٍ) وَمَنْ لَا يُعْرَفُ أَبُوهَا (وَلَا يَصْلُحُ مِنْ النِّسَاءِ مَنْ قَدْ طَالَ لُبْثُهَا مَعَ رَجُلٍ، وَمِنْ التَّفْضِيلِ تَزَوُّجُ شَيْخٍ بِصَبِيَّةٍ) ، أَيْ شَابَّةٍ (وَيَمْنَعُ الرَّجُلُ زَوْجَتَهُ مِنْ مُخَالَطَةِ النِّسَاءِ؛ فَإِنَّهُنَّ يُفْسِدْنَهَا عَلَيْهِ، وَالْأَوْلَى أَنْ لَا يَسْكُنَ الرَّجُلُ بِهَا) أَيْ بِزَوْجَتِهِ (عِنْدَ أَهْلِهَا) لِسُقُوطِ حُرْمَتِهِ عِنْدَهَا بِذَلِكَ (وَأَنْ لَا يُدْخِلَ بَيْتَهُ مُرَاهِقًا وَلَا يَأْذَنَ لَهَا فِي الْخُرُوجِ) مِنْ بَيْتِهِ؛ لِأَنَّهَا إذَا اعْتَادَتْ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ مَنْعِهَا بَعْدَ ذَلِكَ (وَلَا يَسْأَلُ عَنْ دِينِهَا حَتَّى يُحْمَدَ لَهُ جَمَالُهَا) قَالَ أَحْمَدُ: إذَا خَطَبَ الرَّجُلُ امْرَأَةً سَأَلَ عَنْ جَمَالِهَا أَوَّلًا، فَإِنْ حُمِدَ سَأَلَ عَنْ دِينِهَا، فَإِنْ حُمِدَ تَزَوَّجَ، وَإِنْ لَمْ يُحْمَدْ يَكُونُ رَدًّا لِأَجْلِ الدِّينِ، وَلَا يَسْأَلُ أَوَّلًا عَنْ الدِّينِ، فَإِنْ حُمِدَ سَأَلَ عَنْ الْجَمَالِ، فَإِنْ لَمْ يُحْمَدْ رَدَّهَا لِلْجَمَالِ لَا لِلدِّينِ.
فَائِدَةٌ: قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَمَنْ اُبْتُلِيَ بِالْهَوَى فَأَرَادَ التَّزْوِيجَ، فَلْيَجْتَهِدْ فِي نِكَاحِ الَّتِي اُبْتُلِيَ بِهَا إنْ صَحَّ ذَلِكَ وَجَازَ، وَإِلَّا فَلْيَتَخَيَّرْ مَا يَظُنُّهُ مِثْلَهَا انْتَهَى. وَمَنْ أَمَرَهُ بِهِ أَبَوَاهُ أَوْ أَحَدُهُمَا. قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ صَالِحٍ وَأَبِي دَاوُد: أَمَرْتُهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَوْ كَانَ شَابًّا يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ الْعَنَتَ، أَمَرْتُهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ، فَجَعَلَ أَمْرَ الْأَبَوَيْنِ لَهُ بِذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ خَوْفِهِ عَلَى نَفْسِهِ الْعَنَتَ، وَلِوُجُوبِ بِرِّ الْوَالِدَيْنِ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: وَاَلَّذِي يَحْلِفُ بِالطَّلَاقِ لَا يَتَزَوَّجُ أَبَدًا، إنْ أَمَرَهُ بِهِ أَبُوهُ تَزَوَّجَ (وَلَيْسَ لِوَالِدَيْهِ إلْزَامُهُ بِنِكَاحِ مَنْ لَا يُرِيدُ) نِكَاحَهَا؛ لِعَدَمِ حُصُولِ الْغَرَضِ بِهَا (فَلَا يَكُونُ عَاقًّا) بِمُخَالَفَتِهِمَا ذَلِكَ (كَأَكْلِ مَا لَا يُرِيدُ) أَكْلَهُ (قَالَهُ الشَّيْخُ) تَقِيُّ الدِّينِ (وَلَا يَزِيدُ عَلَى وَاحِدَةٍ نَدْبًا إنْ عَفَّتْهُ) لِمَا فِيهِ مِنْ التَّعْرِيضِ لِلْمُحَرَّمِ. قَالَ تَعَالَى: