الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عبد المحسن بن محمد بن سيف (المُلَّا)
ومنهم المُلَّا واسمه عبد المحسن بن محمد السيف ولكنه لقب بالملا لأنه كاتبا حسن الخط في وقت كان فيه الكاتبون في نجد قلة، وكان أهلها يسمون من كان كذلك (الملَّا) وليس من كان يحس الكتابة فقط.
والملا عبد المحسن المذكور يعد من ظرفاء الرجال في وقته، وكان نديمًا للأمراء من آل رشيد، فكان يفد إليهم في كل عام مرة أو أكثر من مرة فيجيزه ابن رشيد بعد أن يمضي عنده وقتًا يعلله بأحاديثه الطريفة، ونكته العذبة، التي أصبحت يتناقلها الناس من بعده ويرددونها عنه.
ولكن أكثرها ضاع مع ما ضاع من أخبار أهل نجد وأشعارهم وسيرهم، وقد ألفت كتابًا خاصا به أسميته:(أخبار الملا ابن سيف) وهو مطبوع.
توفي عبد المحسن في نحو 1294 هـ.
ومن أخباره:
أنه دعا أمير بريدة على عشاء في بيته وقدم له جريشًا فاخرًا لم يذق الأمير مثيلًا له في طعمه من قبل فسأل الملا عن الجهة التي حصل منها على هذا العيش فقال: إنه من أرحامنا في النبهانية، فطلب الأمير منه شيئًا فأرسل إليه الملا عدلًا مليئًا باللقيمي وهو البر الذي يصنع منه الجريش.
فأمر الأمير أن يطبخوا منه جريشا، ولكنه عندما ذاقه لم يجد فيه مذاق الجريش الذي أكله عند الملا، ولا حتى هيئته.
فقال للملا: كيف ترسل لنا جريشا غير الذي أكلنا منه؟
فأجاب الملا: يا طويل العمر، الجريش هو الجريش اللي أرسلت لك لكن يد الدخيلة ما أرسلتها.
والدخيلة هي امرأته يلقبها بذلك للطف جسمها ورشاقته تشبيهًا بالدخلة التي هي طائر صغير لطيف.
يقول: ليس عندكم من يحسن صنعه كما تفعل امراته.
ودعا مرة أمير بريدة على العشاء بعد صلاة العصر مباشرة كما هي العادة المتبعة عندهم في ذلك الوقت لأنهم لم يكونوا يعرفون وجبة الفطور وإنما كان لهم الغداء في الضحى والعشاء بعد العصر.
وكان قال للأمير: العشاء سيكون مختصرا لك أنت وأربعة أو خمسة من رجالك المقدمين غير أن الأمير أضمر أمرا يريد أن يمتحن به الملا ابن سيف ذلك بأنه أحضر معه حوالي ثلاثين من رجاله ضاق بهم مجلس ابن سيف الذي لم يكن قد أعد من العشاء ما يكفي عشرة، أو نحوهم، ليعرف كيف تصرف (الملا) تجاه ذلك، ولكن الملا لم تضق حيلته فأمر أحد جيرانه الحاضرين، وكان قوي الصوت أن يصرخ بأعلى صوته قائلًا:
سعيرة: سعيرة: أي: نار عظيمة مشتعلة.
والسعيرة عندهم هي الحريقة وكانوا إذا شبت حريقة في بيت من البيوت صرخ أحدهم أو أكثر من واحد: سعيرة سعيرة، فيسرع إليه من يسمعه من الناس يخرجون من بيوتهم ويأتون من الأزقة المجاورة حتى يساعدوا على إطفاء هذه السعيرة، أي النار المشتعلة بجلب المياه من عدة بيوت لإطفائها وبكافة أنواع المكافحة.
وفعل الرجل وخرج الناس من البيوت وكان في مقدمتهم أولئك الذين مع الأمير ما عدا رجاله المقربين وهم أربعة أو خمسة وسارع ابن سيف يغلق بابه إغلاقا محكما، ويقدم الطعام للأمير ومن معه.
أما الذين خرجوا يبحثون مع غيرهم عن (السعيرة) فعندما أيسوا من العثور عليها رجعوا لبيت ابن سيف فوجدوا الباب مغلقا والأمير قد فرغ من العشاء! .
كان الملا ابن سيف يذهب إلى حائل للأمير بن رشيد حاكم نجد في زمنه كل سنة، وفي مرة من المرات بينما كان عائدا من حائل إلى بريدة ومعه ما أعطاه الأمير وغيره إذ خرج عليه لصوص من أهل البادية المتجهزين تجهيزًا حسنًا عرف منه ابن سيف أنهم ليسوا من قطاع الطرق الذين يمارسون عملهم منفردين، فأحاطوا به ومن معه وشهروا سلاحهم عليهم مما لم يترك له مجالًا للمقاومة وأرادوا قتله ومن معه ويريدون من ذلك إخفاء جريمة السرقة.
فانتدب إليهم ابن سيف وقال لهم: يا جماعة أنا الملا ابن سيف رفيق الأمير ابن رشيد جاي من حائل إلى بريدة وهذي عادتي كل سنة، أيهن أحسن لكم تذبحونني أنا واللي معي ويدوركم محمد بن رشيد بدمي لما يذبحكم أو تأخذون اللي معي وتخلونني أروح وأنا أحلف لكم أني ما أخبر أحد بكم، وكل سنة أجي مع ها الدرب معي مثل اللي معي هالحين خير ودراهم وكسوة تقدرون تأخذونها!
فتشاوروا فيما بينهم، ثم قالوا: لا والله يا الملا عملك طيب، إلَّا ناخذ اللي معك، ولا لنا ولابن رشيد يلاحقنا على شأنك! .
وهكذا سلم ومن معه من القتل بلطف حيلته.
روى الشاعر عبد الله اللويحان: أن عبد الله بن رشيد وأخاه عبيد من أمراء حائل، كان لهم رفيق يدعى عبد المحسن بن سيف الملقب بالملا من أهل بريدة، وكانوا يتجاذبون الحديث فقالوا له: يا عبد المحسن علمنا بما فينا من العيوب، حيث أنه كما قيل في المثل (كل بصير في عيوب غيره) فقال لهم لن أعلمكم بما فيكم إلَّا إذا أمنتوني، فقالوا له لك الأمان منا فقال - أما أنت يا عبد الله فعيبك عدم تقديرك للأجاويد وأخيار الناس، وذلك يعتريك عند الغضب وهذه خصلة فيك وهي غير حميدة، وأما أنت يا عبيد فجميع مكارم الأخلاق حاويها ومدركها ولا فيك سوى عيب واحد وهو عظيم تقديرك للصلبي (ساهي) إذا
دخل في المجلس قربته حولك وأدنيته بجانبك - فقال عبيد نعم أنا يا عبد المحسن إن هذا الرجل طيب وفيه شجاعة وهمة عالية ونفس أبية عن الأدناس - فمن أجل ذلك قال عبيد هذه القصيدة:
حمدت ربي عالم السر
…
والغيب يقبل صلاتي له ويقبل صيامي
يجعل لنا عرض نقي عن العيب
…
ويفكنا من شرسو الأثامي
ابن آدم ملفي الخطا والعذاريب
…
لو ما فعل ترمي عليه التهامي
ربعي لقومي ماشبت انا عيب
…
عيب لقوه مفسرين الأحلام
قلت اخبروني وش لقيتوا من العيب
…
قالوا على ساقة رفيقك تحامي
والعيب هذا من قديم لنا عيب
…
مستارثينه من خوال وعمام
العيب ترك المعرضة بالمواجيب
…
وإلا الرفيق بفزعته ما نلام
رفيقنا لو هو من الجد وصليب
…
متجود منا براس السنام
رفيقنا ما نجدعه للقصاصيب
…
يجبر بنا لو هو كسير العظام
هذي فعايلنا إلى عدوا الطيب
…
كل يعود لفعل أهله القدام
ذهب المحسن السيف هذا إلى الأمير ابن رشيد في حائل وكان الوقت في فصل الوسمي الذي ينتظر فيه أهل نجد وبخاصة أهل الشمال مطر الوسمي، فلم ينزل المطر.
فكان ابن رشيد يقول للملا ابن سيف من باب المداعبة: يوم جيتونا انتم يا هالقصمان تأخر الوسم، فيسكت ابن سيف على مضض.
وفي يوم من الأيام وفصل الوسمي لم ينته بعد غامت السماء وأطبقت بالغيم ثم نزل المطر مدرارا وتواصل نزوله حتى ذهب قسم من الليل فأخذ ابن سيف يلبس عباءته ويذهب إلى قصر الأمير في وقت لا يأتي فيه أحد للأمير إلَّا لأمر عظيم وسأله البواب من أقول للأمير؟
فقال: قل له: عبد المحسن بن سيف يبيك.
وأذن ابن رشيد له وحالما دخل عليه بادره قائلًا ويش جايبك بها الليل يا ابن سيف؟ وكان يظن أنه جاء لأمر خطير! فأجاب: جاي أشوف عسانا انسترنا يا طويل العمر!
فقال ابن رشيد: انسترتوا وشو به؟ فقال: بالخير والمطر اللي نزل.
فقال ابن رشيد: هو منكم؟ فقال ابن سيف: أجل هو حنا اللي ما نعينه؟
عندما كبر ابن لعبد المحسن السيف وهم أهل ثراء بالنسبة لحالة أكثر أهل نجد في عصره التي كان طابعها الفقر والفاقة، بل الجوع في بعض الأحيان رأي ابنه يشتري أشياء للبيت لا يود الملا أن يشتريها من باب التوفير.
وصادف مرة أن اشترى لحمًا واشترى ابنه لحمًا ولم يعرف أحدهما ما اشتراه الآخر.
فنادى ابنه بحضور أهل البيت وطلب من إحدى النساء أن تملأ (القرو) وهو حوض حجري يوضع بجانب البئر يملأ من الماء وفيه فتحة صغيرة هي صنبور يتلقى المتوضيء وغيره من الماء، وفيه صنبور آخر مقابل له.
فقال الملا ابن سيف لابنه: يا ولدي إلى صرت أنا أصرف على البيت من جهة وأنت تصرف عليه من جهة خلصت دراهمنا بسرعة مثل ما أن القرو يخلص ماءه بسرعة وإلى صار ما يصرف إلَّا واحد بقيت الدراهم مدة أطول مثل القرو اللي ما فتح منه إلَّا (بلبلول) واحد إلى فتح منه (بلبولين)!
وكان هذا درسًا نافعًا لابنه في الاقتصاد.
وعلى ذكر ابنه حكي عنه أنه قال لأولاده: يا أولادي، أنتم تراكم ما بكم قوة لي، ولا يعتمد عليكم، أنتم مثل الجص اللي يطلى به الجدار يزينه، ولكنه ما يقويه.
ولما طلبوا منه إيضاح ذلك، قال: الله سبحانه وتعالى يقول في محكم كتابه (المال والبنون زينة الحياة الدنيا) فأنتم زينة بس.
ومن طرائف الملا عبد المحسن بن سيف ما حدثني به والدي قال والدي رحمه الله:
قال الملا ابن سيف خرجت مرة من بيتي أريد صلاة الجمعة وكنت قد تبخرت وتطيبت وقد ألبستني زوجتي الدخيلة ثوبًا جديدًا وشماغًا جديدًا.
ولما خرجت من بيتي والتفت رأيتها تنظر التي من (القاتولة) وهي الطارمة أي ما يشبه النافذة التي تبرز عن الجدار وتكون فيها ثقوب يري من ينظر بها من هم في الشارع ولا يرونه لضيق الشقوق، ولذلك تطل منها النساء على الزقاق والشارع.
قال فأعجبتني نفسي وأردت أن أري زوجتي كيف تكون شجاعتي وهو أمر لا يتيسر أن أريها إياه في البيت.
قال: وكان هناك رجل أسود ضخم الجثة جسيم، وأنا صغير الجسم بالنسبة إلى جسمه، وكان هذا الرجل يحفر بلاعة لأحد جيراننا وعادتهم في ذلك الحين أن يستعملوا البلاعة وهي حفرة كالتي تسمى الآن البيارة، لمياه الوضوء ونحوه قال: فكان الرجل يخرج التراب الأسود المنتن من جوف البلاعة ويكومه بجانبها تمهيدا لنقله وإبعاده بعد ذلك.
فقلت له بصوت عال أريد أن تسمعه امرأتي: صل يا حمار، وراك ما تروح لصلاة الجمعة، قال: وكان في الوقت بقية، يمكنه أن ينجز بعض عمله ثم يذهب للجامع غير أنني أردت أن تسمع زوجتي أنني أستطيع أن انتهر هذا العبد الضخم وأمثاله من دون خوف أو تردد.
قال: فلم يرد علي أول الأمر فكررت ذلك عليه، وأردت أن أضربه بمهفة كانت معي وهي المروحة اليدوية من الخوص قال: فما كان منه إلَّا أن قبض عليَّ بيديه المملوؤتين بالتراب الأسود القذر ثم حملني كما يحمل الطفل القوته، وضرب بي وسط التراب القذر المنتن، وزوجتي تراني. قال: وصار يمسح بي الأرض واصعب ما حصل على أن (رواية) وهي المرأة التي تجلب الماء للبيوت صاحت بأعلى صوتها لما رأت ما يفعل العبد بي وهي تقول: يا الأجاويد: من يفك الرجل من الرجل؟
تريدني بالرجيل - تصغير الرجل، وبالرجل - بصيغة التكبير هذا العبد الضخم.
قال: فعدت إلى زوجتي وأنا في غاية الخجل فصارت تنزع عني ثيابي الملوثة، وتنظف جسمي كما تفعل بطفلها.
وكان هذا من أشد ما خجلت منه في حياتي!
كان الملا ابن سيف عند الأمير ابن رشيد في حايل فبلغه أنه تخاصم مع زوجة له صغيرة السن مدلة بشبابها وأنه ندم على ذلك، ولكنه لا يستطيع أن يتنازل ويترضاها، فقال له الملا ابن سيف:
يالامير، أنا مرة تزاعلت أنا وأم عيالي، ويوم نمنا بالفراش لقتني قفاها ولقيتها قفاي، ففكرت قليلًا، ثم قلت لها: يا بنت الحلال أنا وإياك متزاعلين، لكن هذا وهذي ما بينهم زعل يشير إلى مقدمة ثوبه، ومقدمة ثوبها، خليهن على شغلهن العادة وحنا على زعلنا.
قال: فقالت: اللي تشوف يا أبو فلان.
فسكت ابن رشيد ومن الغد كان مبتهجًا وقال للملا ابن سيف: عينت الكلام اللي قلت نفع وسويت مثلك!