الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القاضي المسئول عن كل شئون البلد:
الشيخ عمر بن محمد بن سليم قاض، بل من أكابر القضاة، وقد ورث القضاء عن أخيه ووالده، وقضاياه معروفة بل مهارته في القضاء مشهورة، ولكن الشيء الذي لا يعرفه كثير من الناس، وبخاصة من المثقفين المعاصرين أنه لم تكن توجد في عصره في بريدة بلدية، ولا إدارة حماية المستهلك ولا إدارة التخطيط المدن، وملاحظة الصالح العام فيها، فكان يقوم بذلك أو ما تمس الحاجة إليه.
فهو المحتسب الذي هو المسئول عن شئون العامة في تعاملهم وعدم تعدي أحد منهم على أحد، بل هو يقوم مقام (حماية المستهلك) وذلك بمكافحة الغش في البيع والشراء، أو التحايل على المشترين والباعة.
وقد عين في كل جهة من جهات بريدة نظراء جمع نظير والنظير هو الذي ينظر في مصالح البلد، ويراقب ما يحدث الناس من التعدي على الحقوق العامة كالأسواق والميادين أو على حقوق الغير كإغلاق الطرق أو إيجاد معوقات فيها.
حدثني خالي عبد الله بن موسى العضيب وهو أحد نظراء شمال بريدة، وكان معه فهد بن محمد النصار أن الشيخ عمر بن سليم قد أمرهم بمراقبة أشياء كثيرة ومن ذلك ألا ينشيء أحد بناء يضيق على الآخرين، وأن لا يخط شارع إلَّا بعد أن يطلعوا على سعته.
قال: وقد أمرنا الشيخ عمر الا يقل عرض الشارع عن سبعة أذرع، قال الأفضل أن يكون ثمانية أذرع، وذلك من أجل أن يكون بالإمكان أن يمر منه بعيران على كل واحد منهما حمل من الحطب أو الحشيش.
ولا يعرف مقدار أهمية ذلك إلا من عرف مساحات الأسواق بمعنى الأزقة والشوارع في المدن النجدية في القديم.
قال: وإذا بدأ أحد بحفر أساس بيته راقبناه فإن ضيق الشارع أو خرج عن مسامتة، جيرانه في الشوارع القائمة منعناه، فإن أمتثل وإلا رفعنا الأمر للشيخ عمر، ومن ثم يمنعه أمير بريدة بالقوة.
وسمعت الستاد علي بن محمد الحامد وهو استاد أي معلم بناء مشهور في شمالي بريدة قال قال لي الشيخ عمر بن سليم: أنت استاد في الشمال فيجب ألا يقل الشارع بين البيوت التي تبنيها عن ثمانية أذرع بمعنى أربعة أمتار ونصف.
ومن نظر الشيخ عمر بن سليم في مصالح البلد أن جماعة من سكان حارة جديدة في شمال بريدة بني أحد الدباغين فيها بيتًا فرآه جيرانه يعد في حوشه مكانًا للمدبغة فشكوه إلى الشيخ عمر بن سليم طالبين منعه من إحداث مدبغة في بيته لأنها تؤذي الجيران برائحتها، فمنعه الشيخ من ذلك.
فقال له الدباغ: يا شيخ، أحسن الله عملك، أنا وأهلي كنا ندبغ في الحارة الفلانية التي تقع في الشمال الغربي من بريدة ولا أحد اعترض علينا ومنعنا.
فقال له الشيخ: تلك حارة قديمة أنتم موجودون فيها تمارسون مهنة الدباغة قبل مجيء جيرانكم إليكم، أما الحارة الجديدة، فإنه لا يجوز إحداث مدابغ فيها لأذيتها بالرائحة وماينتج عن بقايا الدباغ من تلويث وأوساخ.
أقول أنا مؤلف الكتاب: إنه كان دباغ له بيت يقع إلى الشرق من مسجدنا الذي نصلي فيه وهو مسجد عبد الرحمن بن شريدة الواقع في شمالي بريدة القديمة.
فكان جماعة المسجد يتأذون من رائحة الدباغ، وبخاصة إذا فتح المدبغة بعد إغلاقها لفترة فذهب جماعة منهم إلى الشيخ عمر بن سليم يطلبون منه أن يمنع ذلك الدَّباغ من الدباغة في بيته الملاصق للمسجد، لأنه يؤذي المصلين، فسألهم الشيخ عما إذا كان الرجل قد أنشأ بيته وصار يدبغ فيه قبل إنشاء المسجد أم إن ذلك كان بعد إنشاء المسجد واكتمال بنائه؟
فأجابوا بعد أن تحققوا من الأمر بأن ذلك كان قبل إنشاء المسجد، فقال الشيخ: لا حق لكم في منعه، لأنكم في الحقيقة، أنتم الذين جئتم إليه، فكأنهم راضون بذلك، أما لو كان أحدث المدبغة بعد بناء المسجد فإننا سنمنعه.
وفيما يتعلق بالبيع والشراء، وملاحظة الشيخ عمر بن سليم لذلك بل ومراقبته نذكر أن مدينة بريدة كانت في العشر السادسة من القرن الرابع عشر فيها أكبر سوق للإبل في العالم، ويقصدها الأعراب وأهل البادية من نواحي المملكة لبيع مواشيهم فيها وفيهم أغرار وأناس لا بصر لهم بحيل المشترين وطرقهم، لأخذ ما معهم بأقل مما يستحق من الثمن مع إثبات بعضهم لمخالفات شرعية.
لذا جمع الشيخ عمر بن سليم المتعاملين في سوق البيع والشراء من الجالبين وهم الذين يحضرون مواشيهم للبيع في بريدة وتكلم فيما لا يجوز لهم أن يعملوه من الأعمال المخالفة للشرع في التعامل مع الناس وذكرهم بالله وخوَّفهم من عقابه، وأخبرهم أنه عين أشخاصًا لمراقبة ذلك وإبلاغه بأية تجاوزات تحدث من بعض الناس من أجل إنزال العقوبة بمن لا يلتزم بالأوامر الشرعية في البيع والشراء.
ثم كتب كتابة في هذا الأمر اطلع عليها الذين جمعهم، وأرسل نسخة منها إلى أمير بريدة، وسوف نورد نصها كما كتبها الشيخ عمر، ثم نعقب ذلك بإيضاح ما يحتاج منها إلى إيضاح.
وهذا نصها:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد فقد حضر عندنا أهل البيع والشراء في الإبل والغنم وغيرها من المجلوبات، وقد كان يصدر منهم معاملات مخالفة للشرع، وقد نهيناهم عن ذلك وخوفناهم عقوبة الخالق، وأدب ولي الأمر فمن ذلك تلقى الركبان.
ومن ذلك النجش.
ومن ذلك مخادعة الجالب وإذا سام منه إنسان بقريب القيمة سام الثاني بنصف القيمة، قال: إن الأول كاذب من أجل المخادعة والمكر.
ومن ذلك إذا اجتمعوا عند الجالب تشاركوا فجعل بعضهم يأمر بالبيع وهو شريك ثم المشتري إذا باع عليه الجالب قال لشركائه الحاضرين فلان شريك وفلان شريك وهو غائب، وهذا أمر لا يصلح إلا باتفاق الشركاء حاضرين ورضاهم، وكذلك يدعي زيادة على سهمه ولا يثبت إلا برضاهم.
ومن ذلك مخادعة البائع بقولهم (حامل زامل) إيماءً له بالرضا بالعيب وهذا قول فاسد فلا يخدع به البائع، ومن ذلك السوم على سوم أخيه بعد الرضا من البائع فليس لأحد أن يسوم بعد ذلك.
ومن ذلك البيع على بيع أخيه إذا باع صاحب السلعة زاد عليه.
ومن ذلك بيع الحاضر للباد فلا يقصده الحاضر لبيع سلعته.
ومن ذلك مماطلة البائع بحقه، وظلمه حتى يضع من حقه، وهذا من المنكرات فإن رفعه لولي الأمر فما لحقه من الحق فهو على المماطل.
ومن ذلك الأيمان الكاذبة وكثرة الحلف.
ومن ذلك الكذب بقوله سيمت بكذا وكذا، وهو كاذب أو اشتريتها بكذا وكذا وهو كاذب.
ومن ذلك كتمان العيب والغش والتدليس.
ومن ذلك أذية الجالب وتشقيق ثيابه وجذب شعره فهذا لا يجوز.
ومن ذلك السب والشتم وفحش الكلام والهمز والتعيبة وشهادة الزور وقول الزور، فمن امتثل الأمر الشرعي واتبعه ولم يخالفه، فالحمدلله ومن خالف ذلك فعلي ولي الأمر منعه من البيع والشراء حتى يمتثل الأمر الشرعي في البيع والشراء، وقد ألزمنا محمد العثمان العبيد وعبد الله الحماد مع خويلد وعبد الرحمن القسومي والتويجري ومحمد الشريان يتفقدون أحوالهم وينصحونهم ويلزمونهم بذلك، ومن لم يمتثل رفعوا أمره لولي الأمر نسأل الله أن يوفق الجميع لذلك إنه ولي وذلك وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
حرر 15 محرم 1358 هـ
التعليق:
في السطر الأول ذكر المجلوبات وهي جمع مجلوبة أو المجلوب وهو البضاعة من الماشية وما يخرج منها من سمن أو اقط، التي يحضرها صاحبها من بلاد بادية أو بلاد بعيدة وهو لا خبرة لديه بأقيامها في البلد الذي أحضرها إليه ليبيعها فيه.
ومثل ذلك الجَلَب حيث تسمى بهذا الاسم.
وبعدها ذكر تلقيِّ الركبان من دون تفسير لأن المخاطبين كلهم يعرفونه والركبان هم الجالبون الذين يحضرون بضائعهم المذكورة وأمثالها لبيعها في المدينة.
وتلقيهم أن يخرج أناس من أهل البلد إلى خارجه ليتلقوهم فيشتروا منهم ماشيتهم أو بضاعتهم وهم أي الركبان التي هي جمع راكب ومعناها ما ذكرته لا يعرفون قيمة السلع التي قدموا بها في المدينة، حيث تكون أحيانًا تساوي مبلغًا أكثر مما يبيعون به على المتلقي لهم.
وإنما الأمر الشرعي الا يشتري منهم أحد حتى يصلوا إلى السوق وبذلك يتمكنون من معرفة قيمة السلعة المذكورة، لا سيما إذا تنافس عليها المشترون.
الثالث: النجش:
والنجش أن يسوم رجل سلعة من البائع بثمن لا يريد أن يأخذها به، لأنه أكثر مما تستحق في نظره، وإنما يريد أن يزيد في ثمنها على شخص محتاج أو مضطر إلى شرائها فيشتريها بأكثر مما تستحق، والمطلوب الشرعي أنه إذا لم تكن به حاجة إلى السلعة بالثمن الذي يحدده أن يتركها لكي يتفاوض الراغب فيها مع بائعها على الثمن الذي يريدانه، وهو الثمن الحقيقي للسلعة.
الرابع: مخادعة الجالب وقد فسر ذلك أو ضرب المثل له بأن يسوم إنسان بقريب القيمة أي بما يقرب من قيمة الشيء المعروض للبيع ثم يسوم الثاني بنصف القيمة مدعيًا أن الأول غير صادق في سومه.
وقد رأيت ذلك عندما يكون الجالب أعرابيًّا غريرًا حتى إذا كان البعير يساوي مائة ريال مثلًا وسامه واحد آخر من المشتري أي طلب أن يشتريه بتسعين ريالًا فإن أخر يأتي ويسومه بخمسين من أجل أن يبيع الجالب علي صاحب السوم الأول وهما شركاء في الشراء من دون أن يعلم الجالب الذي هو صاحب البعير بذلك.
الخامس: أن يشترك المشترون في شراء بعير أو أباعر مثلًا من دون أن يعرف البائع ذلك، ثم يجعل بعضهم يشير على البائع بالبيع من أجل حمله على ذلك، ثم إذا غاب الجالب عن المشتري الحاضر التفت المشتري قائلًا للحاضرين: ترى فلان شريك وفلان شريك.
وهما لم يحضرا البيع، ومن دون أن يعلم المشتركون في الشراء مسبقًا بذلك، وهذا فيه إضرار بهم، لأنه ينقص الفائدة التي يحصلون عليها.
السادس: مخادعة البائع بقول المشتري: حامل زامل، إيهامًا للبائع بأنه سوف يشتريه بما فيه من العيوب، ثم إذا ظهر فيه عيب طلب تخفيض ثمنه من أجل ذلك العيب.
السابع: السوم على سوم أخيه بعد أن يرضى البائع بأن يبيع عليه، فإذا باع على الرجل بعيره مثلا بمائة ريال جاء آخر بعد البيع، وقال: أنا آخذه منك بمائة وخمسة ريالات على سبيل المثال، لأنه إذا تم البيع فليس لأحد أن يطلب الشراء من صاحب البعير - مثلًا - بعد ذلك.
الثامن: البيع على بيع أخيه، وذلك فيما إذا باع السلعة بثمن معين قال آخر: أبيعك إياها بأنقص مما اشتريته به من فلان.
التاسع: بيع الحاضر للبادي فلا يقصده الحاضر لبيع سلعته، ومثال ذلك أن يحضر بدوي إبلا أو غنمًا لبيعها فيقول له بعض أهل الحضر العارفين بالسوق: دعني أبيعها عنك فذلك لا يجوز، لأنه يمنع المشترين شراء صحيحًا من أن يكسبوا من السلعة، إنما الصحيح كما في الأثر: دعو الناس يرزق الله بعضهم من بعض.
العاشر: مماطلة البائع بحقه، وظلمه حتى يضع من حقه، وذلك بأن يمنع صاحب الحق من أخذ دراهمه، أي لا يعطيه إياها حتى إذا ألح عليه قال له: نَزِّل لي منها وأنا أعطيك إياها، مع أنهاحق للبائع كلها لا يجوز أن يأخذ المشتري منه شيئًا.
ثم ذكر الشيخ بعد ذلك أشياء واضحة.
وقال الشيخ عمر: الزمنا محمد العثمان العبيد وهو من العبيد السلمي الآتي ذكرهم في حرف العين، وعبد الله الحمادي بفتح الدال وهو من العاملين في السوق العارفين بأحوالها، مع خويلد الخويلد، وعبد الرحمن القسومي،
والتويجري الذي هو محمد
…
التويجري الملقب دليم على لفظ تصغير (أدلم) نسبة إلى جد لهم اسمه دليم.
وقد عرفته وأدركته بعدما شاب وابنه عبد العزيز كان صديقًا لي وكان أكبر مني سنا بنحو ثمان سنين، وحفيده الشيخ سليمان بن عبد العزيز التويجري من تلاميذي.
وأخيرًا: ذكر الشيخ محمد الشريان وهو رجل ثقة عدل معروف سيأتي ذكره في حرف الشين بإذن الله.
وتاريخ إصدار هذه التعليمات الشرعية المفيدة في 15 محرم سنة 1358 هـ.
تلاوته القرآن:
لا حاجة إلى القول بأن الشيخ عمر بن سليم يحفظ القرآن الكريم كله كما يحفظ غيره سورة الفاتحة، فلا نعرف شيخًا وقاضيًا ذا أهمية لا يحفظ القرآن الكريم حتى أئمة المساجد قل منهم من لا يحفظ القرآن الكريم ويصلي بالناس صلاة التراويح والقيام ويتلو القرآن في الصلاة من حفظه.
ولما بلغنا أن إمامًا معروفًا بقلة الحفظ كان يحمل معه في الصلاة مصحفًا يراجع فيه ما قد يكون غاب عن حفظه من الآيات التي يريد أن يتلوها استفظع الناس ذلك وتعجبوا منه تعجبهم من شيء غير مألوف.
وأكثر العلماء الذين عرفناهم أو بلغتنا أخبارهم من أهل القصيم يتلون القرآن على حالاتهم كلها مثل أن يكون الشيخ ماشيًا فيتلو القرآن سرًّا أو على ما يقرب من السر وهو يمشي، ويتلو القرآن وهو يتهيأ للنوم، ويتلوه وهو على وسادته قبل أن يغلبه النوم.
ومرافقوهم في السفر إذا كانوا مسافرين والحضر إذا كان حاضرين يسمعونهم يتلون القرآن ويعرفون كم قرأوا في اليوم والليلة مما يسمعونه من آية أو آيات.
وقد أجمع الذين حدثوني عن تلاوة الشيخ عمر للقرآن الكريم أو كادوا على أنه كان يختم القرآن كل أسبوع في الأيام المعتادة، أما في رمضان فإنه كان يختمه في كل يومين مرة.
وهذا شيء معروف لي أنا وأمثالي من الذين أدركوه وأدركوا أمثاله من العلماء العاملين.
ذلك بأن تلاوتهم للقرآن ليست جهرية ولا بطريقة التلاوة المجودة، وإنما كانوا أحيانًا يتلونه سرًّا، ولكنها قراءة تأمل.
صلاة العيد:
لا أزال أذكر صلاة العيد خلف الشيخ عمر بن سليم، في مصلى العيد في جنوب بريدة، إذْ يخطب الخطبة وما يتخللها من التكبيرات والتحميدات وأحكام زكاة الفطر في خطبة عيد رمضان، وأحكام الأضاحي في خطبة عيد الأضحى، وكل ذلك غير مستغرب منه.
ولكن المستغرب تأثير خطبته على الناس أذكر أنه إذا قال في خطبة العيد: (الله أكبر) وكررها يرفع أصبع يده السبابة المسماة عند العوام بالشاهد، ويخرجه إخراجًا عجيبا بخشوع واستذكار لجلال الله سبحانه وتعالى وعظمته، حتى إنني بكيت مرة وأنا أتابع ذلك منه.
وقد صادف أن صليت العيد بعد وفاة الشيخ عمر بخمسين سنة في المكان نفسه وهو مصلى العيد الجنوبي، وكان في أول الأمر هو الوحيد الذي تصلي فيه صلاة العيد، وليست فيه أبنية، ولم يحط عليه بحائط، فكان خطيب لا أعرفه يخطب من ورقة حتى إنني رأيته إذا أراد أن يقول: الله أكبر نظر إلى الورفة كأنما يخشى أن ينساها.
ومع ذلك لحن في آية قرآنية، وليس لكلامه أي وقع أو تأثير على نفوس سامعيه، لأنه يلقي خطبته المكتوبة كما يلقي التلميذ الغبي كلمة في مدرسته.
فعجبت والله أشد العجب من اختلاف الزمان، بل من اختلاف أقدار الرجال وتفاوت تأثيرهم على الناس.
التأليف:
لا شك في أن المرء يتوقع أن يجد مؤلفات كثيرة لمثل هذا العالم الجليل الذي صار شيخ المشايخ، إذ تخرج به عدد كبير من المشايخ القضاة والمدرسين في المساجد، وكثير منهم تولى وظائف قضاء أو ارشاد أو تدريس ولكن الواقع ليس كذلك، فالشيخ عمر بن سليم رحمه الله لم يشذ عن القاعدة التي وجدنا عليها علماء نجد عندما عقلنا الأمور وهو زهدهم في التأليف واعتمادهم على أصول الكتاب والسنة القديمة إضافة إلى كتب الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله وتلامذتهم وهي قليلة وأكثرها رسائل مختصرة.
ولذلك لا يجد الباحث في آثارهم قوائم المؤلفات عديدة كما عليه الحال بالنسبة إلى أمثالهم من علماء الأمصار.
وليس ذلك لقصور في علمهم، فهم وبعضهم بحور في العلم وبخاصة في الحديث والعقيدة والتفسير، ولكن تلك عادة ساروا عليها، ربما كان التواضع وغمط النفس نصيب في وجودها، وربما كان لعدم رغبتهم في الاشتغال بالتأليف عن الدروس التي تفيد طلابهم وتلاميذهم، فيرون أن صرف الوقت فيها أفضل من صرفه في التأليف وإنما خلفوا من الموروثات رسائل علمية في مسائل مختصرة أو نصائح علمية ومنها هذه الرسالة للشيخ عمر بن سليم رحمه الله.
قال الشيخ عمر بن محمد بن سليم: "من عمر بن محمد بن سليم، إلى كافة الإخوان من أهل الأرطاوية، سلك الله بنا وبهم صراطه المستقيم، وثبتنا على دينه القويم، وأعاذنا من الأهواء المضلة والسبل المفضية بسالكها إلى طريق الجحيم.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أما بعد: فالباعث لهذه النصيحة: إقامة الحجة على المعاند، والبيان الجاهل الذي قصده الحق، فإن الله سبحانه لما من على بادية المسلمين من أهل نجد، في آخر هذه الأزمان، بالإقبال على تعلم دين الإسلام، ورأى الشيطان منهم قوة في ذلك، وحرصًا على الخير، وايس أن يردهم على حالهم الأولى، التي انتقلوا منها، أخذ في فتح أبواب الشر، وحسَّنها لهم، وزيّنها في قالب القوة والصلابة في الدين، وأن من أخذ بها فهو المتمسك بملة إبراهيم، ومَن تركها فقد ترك ملة إبراهيم.
وهذا من كيد اللعين، كما ذكر ابن القيم رحمه الله: أن الشيطان يشم قلب العبد، فإن رأى فيه كسلًا، سعى في رده عن دينه بالكلية، وإن رأى فيه قوة، سعي في حمله على مجاوزة الحد، والزيادة على ما شرعه الله ورسوله، فإذا أخبر بالمشروع، قال له الشيطان: ما يكفيك هذا، إلى آخر كلامه رحمه الله تعالى.
ومن الأمور التي زينها الشيطان: التفرق والاختلاف في الدين، وسبب ذلك: كلام أهل الجهل بأحكام الشرع، فلو سكت الجاهل سقط الاختلاف والكلام في دين الله بغير علم، وخوض الجاهل في مسائل العلم، قد حرمه الله تعالى في كتابه {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ. (الأعراف - 33).
ومن كيد الشيطان أيضًا، الذي صدهم عن تعلم العلم وطلبه: اتهام علماء المسلمين بالمداهنة، وسوء الظن بهم، وعدم الأخذ عنهم، وهذا سبب لحرمان العلم النافع، فإن العلماء هم ورثة الأنبياء، ومن زهد في الأخذ عنهم، فقد زهد في ميراث
سيد المرسلين، والعلماء هم الأمناء على دين الله، فواجب على كل مكلف أخذ الدين عن أهله، فإن الفرض الواجب، واللازم لعوام المسلمين، سؤال العلماء وأتباعهم، قال تعالى:(فسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون). (النحل: 43).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم (فإنما شفاء العيّ السؤال)، أي: سؤال العلماء، وقال:(يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين).
وأما من رغب عن سؤال العلماء، أو قال: حجتنا الكتاب الفلاني، أو مجموعة التوحيد، أو كلام العالم الفلاني، وهو لا يعرف مقصوده بذلك، فإن هذا جهل وضلال، فإن أعظم الكلام كتاب الله، فلو قال إنسان: ما نقبل إلا القرآن، وتعلق بظاهر لفظ لم يفهم معناه، وأوله على غير تأويله، فقد ضاهي أهل البدع المخالفين للسُّنَّة، فإذا كان هذا حال من اكتفى بظاهر القرآن، عمَّا بينته السُّنَّة، فكيف بمن تعلق بالفاظ الكتب، وهو لا يعرف معناها.
والكتب أيضًا: فيها الصحيح والضعيف، والمطلق والمقيد، والعام والخاص، والناسخ والمنسوخ، فإذا لم يؤخذ العلم عن العلماء النقاد، الذين مَنَّ الله عليهم يفهم الكتاب والسُّنَّة ومعرفة ما عليه السلف الصالح والأئمة، وقع في الجهل والضلال، وفي الصحيح عن عبد الله بن عمرو مرفوعًا:"إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بموت العلماء، حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤساء جهالًا، فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا".
إذا عرف هذا، تبين: أن الذي يستغني بمجموعة التوحيد، أو يقلد من يقرأها عليه، وهو لا يعرف معناها، قد وقع في جهل وضلال، بل يجب عليه الأخذ عن علماء المسلمين.
ومن كيد الشيطان أيضًا: إساءة الظن بولي الأمر، وعدم الطاعة له، وهو من
دين أهل الجاهلية، الذين لا يرون السمع والطاعة دينا، بل كل منهم يستبد برايه وهواه، وقد تظاهرت الأدلة من الكتاب والسنة، على وجوب السمع والطاعة لولي الأمر، في العسر واليسر، والمنشط والمكره، حتى قال:"اسمع وأطع، وإن أخذ مالك، وضرب ظهرك"، فتحرم معصية ولي الأمر، والاعتراض عليه في ولايته، وفي معاملته، وفي معاقدته ومعاهدته، ومصالحته الكفار.
فإن النبي صلى الله عليه وسلم حارب وسالم، وصالح قريشًا صلح الحديبية، وهادن اليهود وعاملهم على خيبر، وصالح نصاري نجران، وكذلك الخلفاء الراشدون من بعده، ولا يجوز الاعتراض على ولي الأمر في شيء من ذلك، لأنه نائب المسلمين، والناظر في مصالحهم، ولا يجوز الافتيات عليه بالغزو، وغيره، وعقد الذمة، والمعاهدة، إلا بإذنه.
فإنه لا دين إلا بجماعة، ولا جماعة إلا بإمامة ولا إمامة إلا بسمع وطاعة، فإن الخروج عن طاعة ولي الأمر، من أعظم أسباب الفساد، في البلاد والعباد.
ومن كيد الشيطان: أنه غلظ أمر الأعراب عند بعض الناس، حتى صار منهم من يتجاوز الحد الشرعي، وحكم عليهم بأحكام مخالفة للكتاب والسنة، فمن الناس من يري جهادهم حتى يلتزموا سكنى القرى، أو أنهم لا يستقيم لهم دين حتى يهاجروا، فالواجب على كل مسلم رد ما تنازع فيه المتنازعون إلى كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ولا يرد ذلك إلى محض الجهل والهوى.
ومن علم سيرة النبي صلى الله عليه وسلم في الأعراب الذين في زمانه، وسيرة الخلفاء الراشدين، تبين له الحق، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعوهم إلى توحيد الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، قال تعالى:{فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} ، (التوبة: 5) {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} (التوبة: 11).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث بريدة الطويل، الذي في صحيح مسلم، أنه كان إذا أمرَّ أميرا على جيش أو سرية، إلى قوله:(ثم ادعهم إلى الإسلام فإن أجابوك لذلك فاقبل منهم، وكف عنهم، ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين، فإن أبوا فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين، يجري عليهم حكم الله، ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء، إلا أن يجاهدوا مع المسلمين).
فدلّ الحديث: على أنه كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم أعراب، ولم يلزمهم بالهجرة إلى القرى، ومن ألزمهم بذلك، ورآه دينا، فقد شرع في الدين ما لم يأذن به الله.
وقال ابن القيم رحمه الله في الهدي النبوي في آخر الوفود - وقدم عليه وفد بني عبس، فقالوا: يا رسول الله: قدم علينا قراؤنا، فأخبرونا أنه لا إسلام لمن لا هجرة له، ولنا أموال ومواش، فإن كان لا إسلام لمن لا هجرة له، فلا خير في أموالنا ومواشينا، بعناها وهاجرنا عن آخرنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(اتقوا الله حيث كنتم، فلن يلتكم من أعمالكم شيئًا).
نعم: يجب على ولي الأمر، إلزام الأعراب بشرائع الإسلام، وكفهم عن المحرمات من الشرك وغيره، كغيرهم من المسلمين، وبعث دعاة يعلمونهم شرائع الإسلام.
إذا علمت أنه لا يجوز إلزامهم بغير ذلك، تبين لك: أنه لا يجوز هجر من قدم على الحاضرة منهم، إلا من كان مجاهرًا بالمعاصي، وهذا ليس خاصًّا بالأعراب.
نعم: حديث بريدة يدل على استحباب الهجرة لأعراب المسلمين والحالة هذه، وترغيبهم فيها، ولما يترتب على الهجرة من تعلم شرائع الإسلام، وشهود الجمع والأعياد.
ومن الأمور التي أوقعها الشيطان: أن الإنسان إذا هاجر وسكن قرية من قرى المسلمين، واتخذ ماشية من إبل أو غنم، وخرج ليرعاها في وقت من الأوقات، ومن نيته الرجوع إلى ذلك المحل، هجر عن السلام، وفي زعم الذي هجره: أن خروجه مع ماشيته معصية، وهذا جهل وضلال، فإن فعله ذلك قد أباحه الرسول صلى الله عليه وسلم، فلا يجوز هجره والإنكار عليه والحالة هذه.
وقد كان للنبي صلى الله عليه وسلم، تم من إبل وغنم يجعل فيها رعاة يرعونها، وقال الفضل بن عباس: زارنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في بادية لنا، فمن كان مقصوده اتباع الحق، وطلب الهدى، وسعه ما وسع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
ومن الأمور التي أدخلها الشيطان على بعض الناس لينال بها مقصوده من إغوائهم، وتفريق كلمتهم، وإلقاء البغضاء بينهم، التي هي الحالقة - أي حالقة الدين - ما حملهم عليه من التهاجر على غير سبب يوجب ذلك، بل بمجرد الرأي المخالف للكتاب والسنة، وهذا ينافي ما عقده الله بين المسلمين، من الإخوة الإسلامية، التي توجب التواصل والتراحم، والتواد والتعاطف، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:(مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم، كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا) وشبك بين أصابعه، وقال تعالى:{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} (آل عمران: 103) ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم (لا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تدابروا ولا تقاطعوا وكونوا عباد الله إخوانًا، المسلم أخو المسلم لا يظلمه) الحديث.
ومن كيد الشيطان: ما زينه لبعض الناس، من الاستطالة على الناس