المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌تمهيدفي أهم خصائص الشريعة الإسلامية بوجه عام - الثبات والشمول في الشريعة الإسلامية

[عابد السفياني]

فهرس الكتاب

- ‌تمهيدفي أهم خصائص الشريعة الإِسلامية بوجه عام

- ‌الباب الأولالشريعة الإِسلاميةثباتها وشمولها وحجيتها

- ‌الفصل الأولالشريعة الإِسلامية والفقه الإِسلامي

- ‌المبحث الأولالتعريف بمصطلح الشريعة الإِسلامية

- ‌المطلب الأولالمعنى اللغوي

- ‌المطلب الثانيالمعنى الشرعي

- ‌المبحث الثانيتعريف "الفقه الإِسلامي" وبيان الفرق بينه وبين "علم الكلام

- ‌المطلب الأولتعريفه في اللغة

- ‌المطلب الثانيتعريف الفقه في الاصطلاح وهل هو علم أو ظن

- ‌الفرع الأولذكر أهم التعريفات

- ‌الفرع الثانيالقيود المتفق عليها

- ‌الفرع الثالثاستخراج أهم القيود المختلف فيها وهل الفقه من المعلومات أو من الظنيات

- ‌الفرع الرابعالمناقشة

- ‌الفرع الخامسمقارنة بين "علم الكلام" و"علم الفقه

- ‌المبحث الثالثالفرق بين "الفقه" و "الشريعة

- ‌الفصل الثانيالمقصود من الثبات والشمول والأدلّة على ذلك

- ‌المبحث الأولالمقصود من الثبات والأدلة على ذلك

- ‌المطلب الأولمعنى الثبات في اللغة

- ‌المطلب الثانيالدليل الأول على ثبات الشريعة

- ‌المطلب الثالثالدليل الثاني

- ‌المطلب الرابعالدليل الثالث

- ‌المطلب الخامستطبيقات على منهج الصحابة - رضوان الله عليهم - في المحافظة على ثبات الأحكام

- ‌المبحث الثانيالمقصود من الشمول والأدلة على ذلك

- ‌المطلب الثانيالدليل الأول على الشمول

- ‌المطلب الثالثالدليل الثاني على الشمول

- ‌المطلب الرابعالدليل الثالث على الشمول

- ‌الفرع الأولذكر كلام المفسرين في معنى الإكمال

- ‌الفرع الثانيذكر كلام الشاطبي في معنى الإِكمال

- ‌الفرع الثالثحاصل كلام أهل العلم في معنى الإِكمال

- ‌الفرع الرابعذكر بعض الشبه والجواب عنها

- ‌الفصل الثالثالاحتجاج بالأدلة النقلية

- ‌المبحث الأولقوّة الأدلّة النقلية

- ‌المطلب الأول

- ‌المطلب الثانيالاستقراء يثبت أن هذه البينات والجوامع لا بد من العلم والعمل بها معًا

- ‌المطلب الثالثالشريعة هي الحجة على الخلق على الإِطلاق والعموم

- ‌الفرع الأولذكر رواية البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما

- ‌الفرع الثانيذكر حديث معاذ كما رواه مسلم

- ‌الفرع الثالثذكر روايتي البخاري عن البراء وأنس رضي الله عنهما

- ‌المطلب الرابعذكر اتفاق الصحابة والتابعين على ذلك كما نقله الثقات من أهل العلم

- ‌المطلب الخامسذكر أوصاف الشريعة

- ‌الفرع الأولأوصاف الشريعة كما بينها الشاطبي

- ‌الفرع الثانياعتراض وجوابه

- ‌المبحث الثانينشأة القول بتضعيف الأدلة النقلية

- ‌المطلب الأولحقيقة هذه المقالة وموقف الخوارج والمرجئة منها

- ‌المطلب الثانينشأة هذه المقالة على يد المعتزلة

- ‌الفرع الأولمقالة واصل بن عطاء رأس المعتزلة (80 - 151)

- ‌الفرع الثانيتطور فكر المعتزلة على يد أبي الهذيل العلاف(توفي سنة 232 ه

- ‌الفرع الثالثتطورها مرة أخرى على يد النظام

- ‌المبحث الثالثأهم الأسباب التي ساعدت على انتشار القول بالظنية

- ‌المطلب الأولموقف الخوارج من رد السنة

- ‌المطلب الثانيموقف الفلاسفة وبيان وجه ارتباط تلك البدعة به، وذكر شبهة المعتزلة ومتكلمة الأشاعرة

- ‌المطلب الثالثمناقشة شبهة المخالفين والجواب عنها بأكثر من وجه

- ‌الباب الثانيالاجتهاد وأهم طرقه وقضيّة الثبات والشمول

- ‌الفصل الأولالاجتهاد وقضية الثبات والشمول

- ‌المبحث الأولحكمه وحكمته وأثر ذلك على الثبات والشمول

- ‌المبحث الثانيأنواع الاجتهاد وأثر ذلك على الثبات والشمول

- ‌المطلب الأولتنقيح المناط

- ‌المطلب الثانيتخريج المناط

- ‌المطلب الثالثتحقيق المناط

- ‌المبحث الثالثأذكر أهم شروط الاجتهاد وأثرها على الثبات والشمول

- ‌المطلب الأولالعلم بلغة العرب

- ‌المبحث الرابعضوابطه وأثر ذلك على الثبات والشمول

- ‌المطلب الأولالبناء على غير أصل

- ‌المطلب الثانيالجهل بلغة العرب

- ‌المطلب الثالثالاعتماد على "العقلى واتباع المتشابه

- ‌الفصل الثانيالعموم وقضية الثبات والشمول

- ‌المبحث الأولمقارنة بين الإِعجاز الكوني والإِعجاز التشريعي وبيان سماته

- ‌المبحث الثانيالعموم اللفظي

- ‌المطلب الأول

- ‌الفرع الأولطريقة الإِمام الشاطبي

- ‌الفرع الثانيالاعتراضات التي ذكرها وأجاب عنها

- ‌الفرع الثالثاعتراضات أخرى وجوابها

- ‌المطلب الثانيطريقة المتكلمين ومناقشتها

- ‌الفرع الأولذكر طريقة المتكلمين

- ‌الفرع الثانيمناقشة الحنفية والإِمام الشاطبي والإِمام ابن تيمية لطريقة المتكلمين

- ‌الفرع الثالثمناقشة ابن تيمية لطريقة المتكلمين ومقارنتها بمذهب الشاطبي

- ‌الفرع الرابعتحليل طريقة المتكلمين وبيان الفرق بينها وبين طريقة السلف كما يمثلها الشاطبي

- ‌الأول: أصل رفع الحرج:

- ‌الثاني: قاعدة سد الذريعة

- ‌الفصل الثالثالقياس وقضية الثبات والشمول

- ‌المبحث الأولطريقة الإِمام ابن القيم

- ‌الفرع الأول الأدلة من الكتاب والسنة:

- ‌الفرع الثانيعمل الصحابة بالقياس أو التفريق بين الرأي المذموم والرأي المحمود

- ‌المبحث الثانيطريقة الإِمام الشاطبي

- ‌المطلب الأولالأدلة على إثبات القياس

- ‌المطلب الثانيجوابه عن أقوال المعاوضين

- ‌المطلب الثالثالإِجماع

- ‌المبحث الثالثتطبيقات على أركان القياس وبيان شرط التعليل بالحكمة

- ‌المطلب الأولتطبيقات على أركان القياس

- ‌الفرع الأول

- ‌الفرع الثاني

- ‌الفرع الثالث

- ‌الفرع الرابعتحقيق مذهب الإِمام الشاطبي في التعليل بالحكمة

- ‌الفرع الخامسبيان أثر ذلك على الثبات والشمول

- ‌المطلب الثالثالقياس منهج شرعي لا مسلك عقلي

- ‌الفصل الرابعالمصلحة وقضية الثبات والشمول

- ‌المبحث الأولتعريف المصلحة والتأكيد على الضوابط الشرعية فيه

- ‌المبحث الثانيالعقل لا يستقل بإدراك المصالح والمفاسد

- ‌المبحث الثالثالمصلحة ودلالتها على الثبات

- ‌المبحث الرابعالمصلحة ودلالتها على الشمول

- ‌المطلب الأولتحرير موضع النزاع

- ‌المطلب الثانيأسباب التغير وتصوير مذهب المخالفين

- ‌ المطلب الثالث

- ‌المطلب الرابعبيان موقف الصحابة - رضوان الله عليهم - من النصوص

- ‌المطلب الخامسمناقشته في رده لضوابط المصلحة عند الأصولين

- ‌المطلب السادسمناقشة اعتباره المصلحة دليلاً مستقلاً

- ‌المطلب السابععدم فهم بعض الباحثين لمعنى "التعبد" في الشريعة ومناقشته فيما نقله عن الشاطبي

- ‌المطلب الثامنالفرق بين العبادات والعاديات

- ‌المطلب التاسعمناقشة ما نسبه بعض الباحثين إلى الإِمامين: ابن القيم والشاطبي

- ‌الفرع الأولفيما نسبوه إليهما

- ‌الفرع الثانيالمناقشة

- ‌المطلب العاشرموقف الشريعة من العادات والأعراف والمصالح

- ‌الفصل الخامسمواطن الإِجماع ومواطن الخلاف وقضية الثبات والشمول

- ‌المبحث الأولكيفية تحقق الثبات والشمول في الحكم المجمع عليه

- ‌المطلب الأولالاعتراض الأوّل وجوابه

- ‌المطلب الثانيالاعتراض الثاني وجوابه

- ‌المطلب الثالثالاعتراض الثالث وجوابه

- ‌المبحث الثانيكيفية تحقق الثبات والشمول في الأحكام التي لم يتحقق فيها إجماع

- ‌خاتمة

- ‌فهرس المصادر والمراجع

الفصل: ‌تمهيدفي أهم خصائص الشريعة الإسلامية بوجه عام

‌تمهيد

في أهم خصائص الشريعة الإِسلامية بوجه عام

إن الشريعة الإسلامية تميزت بخصائص وسمات عن جميع القوانين البشرية التي تضعها طائفة من البشر أو يضعها الزعيم أو المفكر، وهذه الخصائص كثيرة منها الخاصية الأساسية وهي عموم الرسالة للإنس والجن وختمها الشرائع ومنها:

1 -

أن هذه الشريعة هي شريعة الله أنزلها سبحانه بعلمه وليس له في وضعها شريك ولا ظهير.

2 -

أنها ثابتة ما دامت الحياة الدنيا.

3 -

أنها شاملة لجميع ما يحتاجه الناس من عقائد وشرائع وأحكام.

4 -

أنها متوازنة لا اضطراب فيها ولا عوج.

5 -

أنها تتميز عن شرائع البشر بكونها شريعة نُزلت لتحمل الناس على الخير وتحكم لهم واقعهم البشري الذي يعيشونه حسب اختلاف مجتمعاتهم (1).

ولكل خاصية من هذه الخواص تطبيقات لا تحضر تؤكدها وتبينها.

ولما كان موضوع هذه الدراسة الخاصية الثانية والثالثة استحسنت أن أمهد لذلك بالحديث عن ألصق تلك الخصائص بهاتين الخاصتين وهي كما أرى الخاصية الأولى.

(1) انظر كتاب خصائص التصور الإسلامي للأستاذ سيد قطب رحمه الله-

ص: 21

وسيكون موضوع هذا التمهيد الحديث عن أن التشريع والأمر والنهي حق الله الخالص لا يشاركه فيه أحد، وذلك من خلال بعض الآيات القرآنية ونصوص أهل العلم من الفقهاء والأصوليين، وأن حق النسخ وهو التبديل والتغيير إنما هو لمن له حق الإِنشاء وهو الله سبحانه وتعالى، وإذا تقرر ذلك لزم عنه عزل أهل السماء والأرض عن ذلك كله، وسلمت للناس هذه الشريعة شاملة ثابتة بلا تحريف ولا تبديل.

وسأعرض لذلك من ثلاثة طرق.

الأول: تقرير ما جاءت به الآيات القرآنية من أن الله هو الذي ينشئ الأحكام.

الثاني: تقرير ما جاءت به الآيات من نفي صفة الملك والأمر .. الخ عن كل ما سوى الله ووصف المخلوقين جميعاً بالحاجة والافتقار والضعف والعجز ..

الثالث: تقرير ما جاءت به الآيات من أن التشريع من دون الله كفر ..

* الطريقة الأولى: ربط القرآن في مواضع كثيرة بين الإقرار بصفات (1) الله سبحانه وتعالى من الخلق والسمع والبصر والعلم والحكمة والتدبير وبين كونه صاحب الأمر الذي لا معقب لحكمه ولا مبدل لكلماته ..

ودعا القرآن الناس ليؤمنوا بأن الله هو الخالق والرازق والمدبر والعليم

والحكيم

الخ وأنه صاحب الأمر والحكم لاشريك له وأنه مالك يوم الدين، أي يوم الجزاء، وذلك ليتجه له الخلق بجميع أنواع العبادة من الخوف والرجاء والصلاة والدعاء والإنابة والاستغاثة، والذبح والنذر، والتوكل والخشية

وقد خاطب القرآن النفس البشرية بهذه العقيدة في مواضع كثيرة جداً،

(1) من مقاصد القرآن في التذكير بصفات الله ودعوة الخلق للتسليم بها أن يؤمنوا بعد ذلك أنه سبحانه هو المعبود وحده بحق، فيصرفون له جميع أنواع العبادة مخلصين له الدين.

ص: 22

وسبب ذلك أن النفس البشرية لا تؤمن بأن الأمر وهو "الحكم والتشريع" لله دون سواه إلا إذا أيقنت أن الله هو الخالق والمدبر والمالك.

وكثيراً ما يسلم الكفار بأن الله هو الخالق والرزاق والمدبر .. ثم لا يؤمنون بأنه المعبود المطاع، ولذلك سجل عليهم القرآن القول بأن الله هو الخالق والمدبر وأنه رب العرش العظيم وهو يجير ولا يجار عليه كما قال تعالى:

{قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} (1)

ثم دعاهم بعد ذلك الى التذكر والتدبر والتقوى، لكي يؤمنوا بأن الله الذي خلق الأرض والسماوات والعرش العظيم وهو يجير ولا يجار عليه وبيده ملكوت كل شيء هو الذي يستحق أن يكون له الأمر، لأن الذي بيده ملكوت كل شيء له الأمر كله، وهذا معنى قوله تعالى:

{أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} (2).

وبهذا المعنى الشامل جاء الحديث عن سلطة الله المطلقة في الحكم الكوني والحكم الشرعي، فقال سبحانه وتعالى:

{إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} (3).

(1) سورة المؤمنون: الآيات 84 - 85 - 86 - 87 - 88 - 89.

(2)

سورة الأعراف: آية 54 - قال الطبري: " .. ألا له الخلق كله، والأمر الذي لا يُخَالف، ولايرد أمره دون ما سواه من الأشياء كلها" 8/ 206. جامع البيان عن تأويل آي القرآن لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري، الطبعة الثالثة 1388 هـ مطبعة مصطفى البابي الحلبي - مصر.

(3)

سورة يوسف: آية 40.

ص: 23

وبه تتحقق العبادة التي يريدها الله:

{أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (1).

وهذه العقيدة هي معنى "الكلمة السواء" وهي "شهادة أن لا إله إلا الله" وهذه هي الكلمة التي أمر الله رسوله أن يدعو أهل الكتاب إليها فقال سبحانه:

قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} (2).

والمعنى: "قل يا محمد لأهل الكتاب

هلموا إلى كلمة سواء يعني إلى كلمة عدل بيننا وبينكم، والكلمة العدل هي أن نوحد الله فلا نعبد غيره ونبرأ من كل معبود سواه فلا نشرك به شيئاً، وقوله:{ولايتخذ بعضنا بعضاً أرباباً} يقول ولا يدين بعضنا لبعض بالطاعة فيما أمر به من معاصي الله، ويعظمه بالسجود له كما يسجد لربه فإن تولوا: يقول: فإن أعرضوا عما دعوتهم إليه من الكلمة السواء التي أمرتك بدعائهم إليها، فلم يجيبوك إليها، فقولوا أيها المؤمنون للمتولين عن ذلك: اشهدوا بأنا مسلمون" (3).

وهذه الكلمة السواء هي الكلمة التي جاء بها الرسل جميعاً للناس كافة، تحمل لهم عقيدة واحدة وهي أن الملك كله لله الذي هو متصف بجميع صفات

(1) سورة يوسف: آية 40، وانظر ابن كثير في تفسير الآية حيث قال:"ثم أخبرهم يعني يوسف - أن الحكم والتصرف والمشيئة والملك كله لله وقد أمر عباده قاطبة ألّا يعبدوا إلّا إياه" 2/ 480 تفسير ابن كثير لأبي الفداء إسماعيل بن كثير دار الفكر - لبنان طبعة سنة 1401 هـ.

(2)

سورة آل عمران: آية 64.

(3)

جامع البيان 3/ 301 - 302.

ص: 24

الكمال وأن الأمر كله له سبحانه، يشرع الأحكام وينشئها ويرسل بها رسله ليبلغوها للناس، فهو سبحانه المعبود وحده بحق لأنه صاحب الخلق والأمر. • الطريقة الثانية: وهي مقابلة للطريقة السابقة: ذلك أن الله سبحانه وتعالى نفى صفة الخلق والتدبير والملك عن كل ما سواه، ثم نفى صفة الحكم والتشريع عن كل ما سواه.

وقد تكاثرت الآيات القرآنية في إثبات مختلف صفات النقص للإنسان خاصة فكل ما سواه سبحانه مخلوق مفتقر ومحتاج إلى الله، لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً ولا حياة ولا موتاً ولا نشوراً، بل لا يملك أدني من ذلك كما قال تعالى في وصف ما يعبد من دونه:

{إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا} (1).

وقال عنهم:

{لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ} (2).

وحتى القطمير لا يملكونه كما قال تعالى:

{وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} (3).

ووصفهم بأنهم:

{لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا} (4).

(1) سورة العنكبوت: آية 17.

(2)

سورة سبأ: آية 22.

(3)

سورة فاطر: آية 13، والقطمير هو القشرة التي على ظهر النواة وقيل القمع الذي يكون على التمرة، جامع البيان 23/ 125.

(4)

سورة الفرقان: آية 3.

ص: 25

وفي مقابل ذلك ليس لهم من حق التصرف والتدبير والأمر والتشريع شيء، فلا ينبغي أن يصرف لهم أي نوع من أنواع العبادة.

وإذا كان الرسل عليهم الصلاة والسلام وهم أعظم الناس منزلة عند الله ليس لهم في الخلق والتصرف والأمر شيء فكيف بغيرهم.

وقد وصف القرآن الرسل بأنهم بشر لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً ولا يعلمون الغيب إلا ما أخبرهم الله به، ومهمتهم هي التبليغ والإنذار والتبشير وهم فيما يبلغونه عن الله لا يقدمون فيه ولا يؤخرون ولا يكتمون منه شيئاً ولا يبدّلون.

فأمر الحكم والتشريع إذن لله وحده دون ما سواه، والرسل مبلغون ما أوحى إليهم سواء بلفظه أو بمعناه.

وإليك الأدلة القرآنية على ذلك:

أمر الله تبارك وتعالى نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم أن يقول للناس إنه بشر:

{قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ} (1).

ومثلها ما ورد على صفة التعجب:

{قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا} (2).

وقوله تعالى: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (3).

وقوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا (20) قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا

(1) سورة فصلت: آية 6.

(2)

سورة الإسراء: آية 93.

(3)

سورة الأعراف: آية 188.

ص: 26

وَلَا رَشَدًا (21) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (22) إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ} (1).

وبشرية الرسول هذه هي التي تحدد مهمته التي نص عليها القرآن في أكثر من موضع، فهي مهمة التبليغ والإِنذار والتبشير.

ومن الآيات التي حددت مهمة الرسول عليه الصلاة والسلام قوله تعالى:

{{يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} (2).

فصاحب الأمر هو الله والرسول مبلغ فقط، ومثلها قوله تعالى في سورة النحل:

{فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} (3).

والبلاع هنا للتبشير والإنذار كما قال تعالى:

{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} (4).

وبه تتحقق الشهادة من الرسل على البشر:

{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} (5).

وتحديد هذه المهمة على هذا النحو بالنسبة للرسل والقطع بها في مواطن كثيرة في القرآن يكشف لنا بوضوح عن مهمة البشر بعد ذلك، فإذا لم يكن للرسل إلّا البلاغ وهم متبعون للوحي متعبدون بذلك، لا يسعهم الخروج عنه،

(1) سورة الجن: آية 20 - 21 - 22.

(2)

سورة المائدة: آية 67.

(3)

سورة النحل: آية 35.

(4)

سورة الإسراء: آية 105.

(5)

سورة الأحزاب: آية 45.

ص: 27

ولا التبديل فيه، فإن البشر محكومون بهذا الوحي الذي بلغة الرسل واتبعوه،

ليس لهم أن يغيروا فيه ولا يبدلوا.

وقد تكلم الإمام الشافعي في كتابه الرسالة عن هذا، فقال:

"باب ما أبان الله لخلقه من فرْضِه على رسوله اتباع ما أوحى إليه وما شهد له به من اتباع ما أُمر به، ومِنْ هُدَاه، وأنه هادٍ لمن اتَبَعَهُ"(1).

واستدل الشافعي على ذلك بآيات كثيرة منها:

1 -

قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (1) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} (2).

2 -

وقوله تعالى: {اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} (3).

3 -

وقوله تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} (4).

قال الإمام الشافعي: "فأعلم اللهُ رسولَه مَنه عليه بما سبق في علمهِ من عصمتهِ إيّاه من خلقه، فقال:

{يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} (5).

(1) الرسالة 1/ 85 للإمام المطلبي محمد بن إدريس الشافعي، تحقيق أحمد محمد شاكر 1309 هـ.

(2)

سورة الأحزاب: آية 1 - 2.

(3)

سورة الأنعام: آية 106.

(4)

سورة الجاثية: آية 18.

(5)

سورة المائدة: آية 67، وانظر الرسالة 1/ 86.

ص: 28

"وشهد له جل ثناؤه باستمساكه بما أَمرهُ به والهُدى في نفسه وهداية من اتبعه فقال:

{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (1).

ثم قال: "فأبان الله أنْ قد فرضَ على نبيهِ اتباعَ أمرِه وشهدَ له بالبلاغِ عنه، وشهدَ به لنفسه، ونحن نشهدُ له به تقرباً إلى الله بالإيمان به وتوسلًا إليه بتصديق كلماته"(2).

وقرر الإمام الشاطبي هذا الأصل -الذي قرره الإمام الشافعي- وذلك في كتابه الموافقات حيث قال:

"المقصد الشرعي من وضع الشريعة إخراج المكلف عن داعية هواه حتى يكون عبداً لله اختياراً كما هو عبد لله اضطراراً (3)، والدليل على ذلك .. النص الصريح الدال على أن العباد خُلقوا للتعبد لله والدخول تحت أمره ونهيه، كقوله تعالى:

{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} (4).

إلى غير ذلك من الآيات الأمرة بالعبادة على الإطلاق وبتفاصيلها على العموم فذلك كله راجع إلى الرجوع إلى الله في جميع الأحوال والانقياد الى أحكامه على كل حال وهو معنى التعبد لله .... " (5).

(1) سورة الشورى: آية 52، وانظر الرسالة 1/ 86.

(2)

الرسالة 1/ 87.

(3)

أي أن يعيش في حياته حسب أمر مقدر لا اختيار له فيه من حيث ولادته ونفسه وخِلْقَتِهِ

الخ.

(4)

سورة الذاريات: آية 56 - 57.

(5)

الموافقات في أصول الأحكام 2/ 120، أبي إسحاق إبراهيم الشاطبي تحقيق محمد محي الدين، مطبعة المدني بالقاهرة.

ص: 29

ويدخل في كلام الشاطبي رحمه الله: توحيد الاتباع والطاعة وهو مبني على علم الإنسان بصفات الله وتأليهه له، وخوفه منه وتضرعه إليه، وتوكله عليه، وإنابته إليه، وذبحه ونذره ودعائه وصلاته له وحده سبحانه وإذا حقق العبد ذلك انقاد لأحكام هذه الشريعة وأذعن لها في إيمان واستسلام، ورضى وطمأنينة، لا يعرض عن شيء منها، ولا يقدم عليه غيره، فضلاً أن يقع في جحود شيء منها أو إنكاره.

وعلى هذا الأصل بنى الشاطبي قوله في كتاب الاعتصام حيث قال:

" .. فاعلموا أن الله تعالى وضع هذه الشريعة حجة على الخلق كبيرهم وصغيرهم ومطيعهم وعاصيهم برهم وفاجرهم لم يختص الحجة (1) بها أحداً دون أحد وكذلك سائر الشرائع إنما وضعت لتكون حجة على جميع الأمم التي تنزل فيهم تلك الشريعة حتى أن الشريعة (2) المرسلين بها صلوات الله عليهم داخلون تحت أحكامها، فأنت ترى أن نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم مخاطب بها في جميع أحواله وتقلباته مما اختص به دون أمته أو كان عاماً له ولأمته .. "(3).

وهذا الذي قررته الآيات بمثابة البيان لمهمة البشر في هذه الأرض وأنهم محكومون بهذه الشريعة لا يخرج عن حكمها أحد البتة، حتى الأنبياء والرسل، والتشريع حق الله الخالص، وعلى الرسل والبشر جميعاً الإذعان والاتباع، فإذا لم يحق لأحد على الإطلاق كائناً من كان أن يخرج عن حكم هذه الشريعة فلأن لا يكون له شيء من حق التشريع أو التغيير أو التبديل أولى وأحرى.

وها هو الرسول صلى الله عليه وسلم يقول للذين لا يرجون لقاء الله وهم يطلبون منه أن

(1) قال المحقق لفظ "الحجة" الأرجح أنها زائدة.

(2)

قال المحقق لفظ "الشريعة" كذلك الأرجح أنها زائدة، وقد ذكرتهما في الصلب محافظة على النص.

(3)

الاعتصام 2/ 338 للعلامة المحقق الإمام أبي إسحاق إبراهيم الشاطبي وبه تعريف المدقق السيد محمد رشيد رضا دار المعرفة - بيروت - 1202 هـ الناشر محمد على صبيح .......

ص: 30

يبدل ما أوحاه الله إليه يقول لهم أنه ليس له من الأمر شيء إنما هو متبع للوحي.

قال تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} (1).

"فالشريعة هي الحاكمة على الإطلاق والعموم عليه -أي على الرسول- وعلى جميع المكلفين وهي الطريق الموصل والهادي الأعظم ألا ترى الى قوله تعالى:

{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} (2).

فهو عليه الصلاة والسلام أول من هداه الله بالكتاب والإيمان، ثم من اتبعه فيه، والكتاب هو الهادي والوحي المنزل عليه مرشد ومبيّن لذلك الهدي والخلق مهتدون بالجميع، ولما استنار قلبه وجوارحه عليه الصلاة والسلام وباطنه وظاهره بنور الحق علماً وعملاً صار هو الهادي الأول لهذه الأمة والمرشد الأعظم

لأنه حكم الوحي على نفسه .. وهذه الخاصية كانت من أعظم الأدلة على صدقه فيما جاء به، إذْ قد جاء بالأمر وهو مؤتمر، وبالنهي وهو منته، وبالوعظ وهو متعظ وبالتخويف وهو أول الخائفين وبالترجيه وهو سائق دابة الراجين" (3).

وقرر ابن تيمية هذا المعنى عند قوله تعالى:

(1) سورة يونس: آية 15، وانظر تفسير ابن كثير 2/ 411.

(2)

سورة الشورى: آية 52.

(3)

الاعتصام 2/ 338 - 339.

ص: 31

{إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} (1).

فقال: "فالحكم لله وحده، ورسله يبلغون عنه، فحكمهم حكمه وأمرهم أمره، وطاعتهم طاعته، فما حكم به الرسول وأمرهم به وشرعه من الدين وجب على جميع الخلائق اتباعه وطاعته، فإن ذلك هو حكم الله على خلقه، والرسول يبلغ عن الله قال تعالى:

{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللهِ

} الآية (2).

فعلى جميع الخلق أن يحكّموا رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين وأفضل المرسلين .. " (3).

وإنما كان الحكم لله وحده لأن ذلك مقتضى الألوهية كما بينت سابقاً، وأما أنّ الرسولَ المبلغَ يطاع بإذن الله فذلك لأنه حكّم الوحي على نفسه كما قال الإمام الشاطبي:"وحقيقة ذلك كله جعله الشريعة المنزلة عليه حجة حاكمة عليه، ودلالة له على الصراط المستقيم الذي صار عليه عليه السلام"(4).

فهذا هو شأن سيد ولد آدم عليه السلام، والبشر بعده كافة مدعون في

(1) سورة يوسف: آية 40.

(2)

سورة النساء: آية 64.

(3)

مجموع الفتاوى الكبرى 35/ 363 لشيخ الإسلام أحمد بن تيمية طبعة 1398 هـ.

(4)

الاعتصام 2/ 339، وانظر أصول الفقه 36 لأستاذي الدكتور حسين حامد حسان وطريق العودة إلى الإسلام حيث قال مؤلفة: الإمام لا يتمتع بأي سلطة تشريعية، كيف والرسول ذاته صلى الله عليه وسلم لم يكن مخولاً أن يشرع؟ إنما كان يجتهد إذا انقطع عنه الوحي في البحث عن حكم الله عز وجل، والمعول بعد ذلك على إقرار الوحي لما قد هداه اليه اجتهاده، وربما نزل الوحي يأمر النبي أن يتحول عن اجتهاده إلى حكم آخر فلا يسعه صلى الله عليه وسلم إلّا تنفيذ ما أمره به المشرع جل جلاله فالأئمة الذين جاءوا من بعده مثله في ذلك مع فارق انقطاع الوحي وضرورة اتباعهم لما صح من سنته القولية والفعلية" 62 للدكتور سعيد رمضان البوطي.

ص: 32

القرآن إلى الإيمان بأن الله هو المعبود بحقٍ وحده بلا شريك، وأن ذلك إنما يتحقق باعتقاد أنه هو الخالق وحده والمتصرف وحده .. والآمر وحده دون سواه، ولا حق لأحد في شيء من ذلك لا ملك مقرب ولا نبي مرسل.

ولأهمية هذه العقيدة ولأنها هي المفتاح الأول لدراسة الشريعة الإسلامية والتمكين لها احتاجت للبيان المتكرر في القرآن في كثير من المواضع، وإليك الآن الطريقة الثالثة المبينة لذلك.

• الطريقة الثالثة: وتتلخص هذه الطريقة في أن كثيراً من الآيات جاءت لتبيّن أن من أسباب الكفر والشرك التشريع من دون الله، وأن ذلك هو ما تصفه السنة الذين يفترون على الله الكذب -حيث يستحلون ما حرم الله ويحرمون ما أحله- وأن ذلك من ابتغاء حكم الجاهلية، وأنه غير سبيل المؤمنين، وأنه زيادة في الكفر. ويضيف القرآن في أكثر من موضع بياناً يزيل به الشبه ويدفع به أعذار المعتذرين، ويكذّب به زعمهم في طلب التوفيق بين شرع الله وشرع غيره، ويكذب دعواهم أن ذلك هو محض المشيئة، وأنه لو شاء الله أن لا يُعبد غيره ولا يُحرم شيء من دونه لكان ذلك .. وهذه بعض الآيات القرآنية التي وردت في المواضع المشار إليها، ومنها قوله تعالى:

{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} (1).

يقول الإِمام الطبري في تفسير هذه الآية: "يقول تعالى ذكره، أم لهؤلاء المشركين بالله شركاء في شركهم وضلالتهم

ابتدعوا لهم من الدين مالم يبح الله لهم ابتداعه .. " (2).

ويؤكد الإمام الشاطبي على هذا المعنى فيقول: "إن البدع إذا تُؤمل معقولها وُجدت رتبها متفاوتة فمنها ما هو كفر صراح كبدعة الجاهلية التي نبه عليها القرآن كقوله تعالى:

(1) سورة الشورى: آية 21.

(2)

25/ 21، وانظر تفسير ابن كثير 4/ 112.

ص: 33

{وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا} (1)

وما أشبه ذلك مما لا يشك أنه كفر صراح" (2).

وبين القرآن في مواضع أخرى أن استحلال الحرام وتحريم الحلال بغير إذن من الله كذب وافتراء على الله، بل هو زيادة في الكفر، كما قال تعالى:

{وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ} (3).

وقوله تعالى: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} (4).

والافتراء إنما يقع في نفس التشريع كما قال الله تعالى عن المشركين:

{وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} (5).

(1) سورة الأنعام: آية 136.

(2)

ثم ذكر قسمين آخرين للبدع الأول: "ما هو من المعاصي التي ليست بكفر أو يختلف هل هي كفر أم لا كبدعة الخوارج والقدرية والمرجئة ومن أشبههم من الفرق الضالة، ومنها ما هو معصية ويتفق عليها ليست بكفر كبدعة التبتل .. ". الاعتصام 2/ 37، قال المعلق على الكتاب لعل الأصل "على أنها ليست بكفر".

(3)

سورة النحل: آية 116.

(4)

سورة التوبة: آية 37.

(5)

سورة الأنعام: آية 137.

ص: 34

قال الشاطبي: "فنسبهم إلى الافتراء -كما ترى- والعصيان من حيث هو عصيان لا يكون افتراء، وإنما يقع الافتراء في نفس التشريع

" (1)، ولذلك كان التشريع من دون الله من فعل الجاهلية كما قال الله تعالى:{أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} (2).

فتشريعهم من دون الله افتراء عليه، ولذلك كان كفراً وجاهلية، يقول الإمام ابن كثير عند تفسير هذه الآية:"ينكر تعالى على من خرج عن حكم الله المحكم المشتمل على كل خير الناهي عن كل شر، وعدل إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله (3)، كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات مما يضعونها بآرائهم وأهوائهم، وكما يحكم به التتار من السياسيات الملكية المأخوذة عن ملكهم جنكزخان الذي وضع لهم "الياسق" وهو عبارة عن كتاب مجموع من أحكام قد اقتبسها من شرائع شتى من اليهودية والنصرانية والملة الإسلامية وغيرها، وفيها كثير من الأحكام أخذها من مجرد نظره وهواه - فصارت في بنية شرعاً متبعاً، يقدمونه على الحكم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فمن فعل ذلك منهم فهو كافر

{أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} أي يبتغون ويريدون وعن حكم الله يعدلون

" (4).

وكما نقل الإمام الشاطبي الاتفاق على أن التشريع من بدع الجاهلية وهو من الكفر الصراح الذي لا شك فيه، فقد صرح الإمام ابن كثير بالإجماع على هذا المعنى فقال: "

فمن ترك الشرع المنزل على محمد بن عبد الله خاتم الأنبياء وتحاكم إلى غيره من الشرائع المنسوخة كفر، فكيف بمن تحاكم إلى

(1) الاعتصام 2/ 41.

(2)

سورة المائدة: آية 50.

(3)

هذا هو التشريع من دون الله الذي قال عنه الإمام الشاطبي أنه هو الافتراء.

(4)

تفسير ابن كثير 2/ 68.

ص: 35

"الياسا"(1)، وقدمها عليه! من فعل ذلك كفر بإجماع المسلمين، قال تعالى:

{أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (2).

وقال تعالي: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (3) " (4).

ولذلك كفر اليهود والنصارى لما تمسكوا بشرع مبدل منسوخ قال شيخ الإسلام: "ومن بدل شرع الأنبياء وابتدع شرعاً فشرعه باطل لا يجوز اتباعه كما قال تعالى: {أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم ياذن به الله} ولهذا كفر اليهود والنصارى لأنهم تمسكوا بشرع مبدل منسوخ"(5).

فالتغيير والتبديل من فعل الكفار، وقد أبان عن ذلك الشاطبي أيضاً حيث قال عند قوله تعالى:

{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} (6).

قال: "وهو دليل على أن تحريم ما أحل الله وإن كان بقصد سلوك الآخرة منهي عنه، وليس فيه اعتراض على الشرع ولا تغيير له ولا قصد فيه الابتداع، فما ظنك إذا قصد به التغيير والتبديل كما فعل الكفار

" (7).

وقد مر تقسيم الإمام الشاطبي لمراتب البدع فمنها ما هو كفر لا شك فيه وهو محل اتفاق، ومنها ما هو دون ذلك، والبدع على كل حال تلزم صاحبها بأوصاف ثلاثة:

(1)"الياسا" و"الياسق" اسمان لكتاب كتب فيه التتار أحكامهم التي كان يحكمون بها، انظر البداية والنهاية لإبن كثير 13/ 119 مطبعة السعادة - مصر.

(2)

سورة المائدة: آية 50.

(3)

سورة النساء: آية 65.

(4)

البداية والنهاية 13/ 119.

(5)

مجموع الفتاوى الكبرى 35/ 365.

(6)

سورة المائدة: آية 87.

(7)

الاعتصام 2/ 37، 40.

ص: 36

1 -

أن الرسول خان الرسالة.

2 -

معاندة الشرع.

3 -

رد أمر الشارع عليه.

فبالنسبة للأول قال الإمام الشاطبي: "إن الشريعة جاءت كاملة لا تحتمل الزيادة، ولا النقصان لأن الله تعالى قال فيها:

{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَام دِينًا} (1) " (2).

ثم قال: "وثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يمت حتى أتي ببيان جميع ما يُحتاج إليه في أمر الدين والدنيا (3) وهذا لا مخالف عليه من أهل السنة .. فإذا كان كذلك، فالمبتدع إنما محصول قوله بلسان حاله أو مقاله أن الشريعة لم تتم، وأنه بقي منها أشياء يجب أو يستحب استدراكها لأنه لو كان معتقداً لكمالها وتمامها من كل وجه لم يبتدع ولا استدرك عليها وقائل هذا ضال عن الصراط المستقيم"(4).

ونقل قول الإمام مالك رحمه الله: "من ابتاع في الإسلام بدعة يراها حسنة فقد زعم أن محمداً صلى الله عليه وسلم خان الرسالة"(5).

وأما بالنسبة للأمر الثاني فقد قال:

"إن المبتدع معاند للشرع ومشاق له، لأن الشارع قد عين لمطالب العبد طرقاً خاصة على وجوه خاصة، وقصر الخلق عليها بالأمر والنهي والوعد والوعيد، وأخبر أن الخير فيها وأن الشر في تعديها إلى غير ذلك لأن الله يعلم ونحن لا نعلم وأنه إنما أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين، فالمبتدع راد لهذا كله،

(1) سورة المائدة: آية 3.

(2)

الاعتصام 1/ 48.

(3)

سيأتي بيان لهذا المعنى عند دراسة شمول الشريعة ..

(4)

الاعتصام 1/ 49.

(5)

المصدر السابق 1/ 49.

ص: 37

فإنه يزعم أن ثم طرقاً أخر ليس ما حصره الشارع بمحصور، ولا ما عينه بمتعين، كأن الشارع يعلم ونحن أيضاً نعلم، بل ربما يفهم من استدراكه الطرق على الشارع أنه علم ما لم يعلمه الشارع، وهذا إن كان مقصوداً للمبتدع فهو كفر بالشريعة والشارع، وان كان غير مقصود فهو ضلال مبين" (1).

ويضيف الشاطبي أن الشارع قد انفرد بالتشريع للناس ليحكم بينهم فيما اختلفوا فيه، وألزمهم الجري على سننها، ومنعهم من حق التشريع لأن عقولهم لا تدركه، ولو كانت تدركه عقولهم لما بعث الله لهم الرسل عليهم السلام، فمن أراد أن يكون له من هذا الحق شيء فإنما أراد أن يكون معانداً للشرع ونظيراً له ومضاهياً، وراداً لقصد الشارع في الانفراد بالتشريع (2).

وذكر الإمام الشاطبي في مواضع أخرى من كتابه الاعتصام أن البدعة إذا بلغت حد الاعتراض على الكتاب والسنة فصاحبها بالتكفير أحق، لأنه حينئذ في حكم المتبعين للهوى بإطلاق، والمتبعين لما تشابه من الكتاب ومن كل وجه وهذا "لا يتأتي .. من أحد في الشريعة إلّا مع رد محكماتها عناداً وهو كفر"(3).

وهذا كله في المبتدع وهو يقصد التقرب إلى الله ويدخل تحت أذيال التأويل (4).

أما الشرع من دون الله فهو منقطع عن الوحي منشئ للحكم مفتر على الله فهو حينئذ أحق وأولى بتلك الأوصاف التي وُصف بها المبتدع. وإنما كان المشرع من دون الله ملزماً بهذه الأوصاف لأنه معرض عن اتباع ما أنزل الله، ملتزم بما شرعه هو لنفسه من أحكام لم ينزل الله بها من سلطان فإذا حكم بهذه

(1) المصدر السابق 1/ 49.

(2)

المصدر السابق 1/ 50 - 51.

(3)

انظر الاعتصام 2/ 272 و 2/ 286.

(4)

المصدر نفسه 1/ 134، "والدليل على ذلك أنه لا تجد مبتدعاً ممن ينسب إلى الملة إلّا وهو مستشهد على بدعته بدليل شرعي فينزّله على ما وافق عقله وشهوته" 1/ 134 - 2/ 64.

ص: 38

الأحكام الباطلة انتشرت حينئذ البدع والمبادئ المنحرفة والمذاهب الباطلة وظهر الفساد، لأن الذي يحاربها ويطهر الأرض منها هو شرع الله، والمشرع لنفسه معرض عنه. بل إن المشّرعين من دون الله يطمعون في أكثر من ذلك ألا وهو تغير ملة الحق (1)، وقد أشار الإمام الشاطبي إلى الفرق بين التشريع المطلق وبين الهوى الذي يتبعه المبتدع فقال:" .. وقد ثبت أيضاً للكفار بدع فرعية ولكنها في الضروريات وما قاربها" ثم أخذ يعددها إلى أن قال: "حتى صار التشريع ديدناً لهم، وتغيير ملة إبراهيم عليه السلام سهلاً عليهم، فأنشأ ذلك أصلاً مضافاً إليهم وقاعدة رضوا بها وهي التشريع المطلق لا الهوى .. "(2).

وبهذا تظهر لنا خطورة التشريع من دون الله وما يؤدي إليه من الانحراف عن شريعة الإسلام، وهو أشد خطورة من البدع الأخرى وإن كان لفظ البدع شاملاً له كما أشار الإمام الشاطبي.

ولا تزال آيات القرآن تجلو هذه العقيدة، وتطهرها مما أصابها من الشبهات (3) .. حتى تستقر في عقول الناس كافة، ويزداد الذين آمنوا إيماناً،

(1) ومع محاولاتهم العديدة إلّا أن الله برحمته قد حفظ القرآن والسنة ويسر لها من العلماء العدول من كل خلف من يذبون عنها، فهي محفوظة، ولم يبق لأعداء الإسلام إلا التشكيك والمخادعة والمحاربة.

(2)

الاعتصام 2/ 201 - 202، وقوله:"لا الهوى" يقصد به أنهم رضوا بالتشريع المطلق وأصبح قاعدة لهم وديدناً، بخلاف الهوى الذي يصيب المبتدع فإنه قد يؤدي به إلى التشريع المطلق والاعتراض على الكتاب والسنة وقد لا يؤدي به إلى ذلك، بحسب بدعته على ما ذكره من التقسيم السابق، ولا يقال الكلام المذكور في البدع فلم نقلته هنا، فالجواب أن الشرك من البدع ومنه التشريع المطلق كما صرح الشاطبي عند التقسيم السابق.

(3)

وقد رد القرآن على اعتذار المعتذرين بأنهم لم يريدوا إلا التوفيق بين شريعة الله وشريعة غيره. انظر تفسير آية النساء 62 في تفسير ابن كثير 1/ 520، والاعتصام 1/ 137، وأعلام الموقعين 1/ 50 - 51، وكذلك رفع القرآن دعواهم أن شركهم هذا هو محض المشيئية. انظر تفسير آية 148 من سورة الأنعام تفسير ابن كثير.

ص: 39

ولا يرتاب منها الدارسون لهذه الشريعة، بل عليهم أن يوقنوا أنها جوهر الإِسلام وحقيقته، وأنها هي الكلمة السواء التي جاء بها الرسل جميعاً (1)، وأن هذه العقيدة هي المفتاح الأول لدراسة الإِسلام عامة ومعرفة خصائص الشريعة الإسلامية بصفة خاصة، وهي الطريق لإِقامة الشريعة الإسلامية والالتزام بها وعدم التقديم من بين يديها ولا من خلفها.

وإذا استُعمل هذا المفتاح علم الباحثون -بعد ذلك- أن هذا القرآن شاهد كما أن الرسل جميعاً شاهدون والمؤمنون من بعدهم على أن التشريع حق الله الخالص كما أن الملك -من الخلق والرزق والتدبير والإِحياء والإماتة

- حقه الخالص أيضاً لا يشاركه فيه أحد سواه، وأن مقام البشر بعد ذلك هو مقام العبودية مقام الطاعة والاتباع والتسليم والإِذعان سواء كانوا من عامة المسلمين أو من المجتهدين فيهم، وبهذه العقيدة يجابه الإِسلام عقائد الجاهلية ويصححها، ويحارب عقائد المبتدعة داخل الأمة.

وأكتفي بهذا القدر من نصوص أهل السنة في بيان أهمية هذه العقيدة التي تُعْتَبرُ هي القاعدة لفهم الإسلام عقيدة وشريعة، والتي هي من معنى:"لا إله إلا الله" الكلمة السواء التي دعا لها الرسل جميعاً عليهم الصلاة والسلام، والتي ما وقع انحراف في البشرية إلا بسبب عدم تحقيق ذلك المعنى الذي دعت إليه.

فقد انحرفت البشرية قبل بعثة النبي عليه الصلاة والسلام فاتبعت اليهود والنصارى ومشركو العرب والفرس والروم والهند أحكاماً وشرائع لم ينزل الله بها من سلطان، فانصرفوا عن عبادة الله، وأخذوا يتصرفون في أعراضهم وأموالهم وأولادهم وديارهم بغير شريعة الله، ويلتزمون في ذلك بما حكمت به عقولهم القاصرة فجاءوا بشرائع وأحكام وعقائد وآراء لا ينالون منها إلّا الشر والفساد

(1) على هذه العقيدة يطلق لفظ الشهادتين، والإِسلام والإِيمان والتوحيد والدين والكلمة السواء.

ص: 40

ولا تحول بينهم وبين البدع والخرافة والضلالة والانحراف، وما زالوا على ذلك حتى جاءهم الإسلام يناديهم لهذه العقيدة والشريعة، التي توجب عليهم الاتباع لكل ما جاءهم من عند الله، فآمن من آمن وكفر من كفر، واستقر أمر الجيل الأول من المؤمنين على هذه العقيدة فلم يعودوا يتلَقّون إلا عن هذه الشريعة -كتاباً وسنة- لا يراجعونها في شيء، ولا يقدمون عليها شيئاً، ولا يخلطونها بغيرها من شرائع البشر وأفكارهم، يتلقون منها بصدق ويقين .. فاستقامت حياتهم، واستفادوا العلم والإيمان واليقين والثبات من هذه الشريعة - فلا تغيير ولا تبديل ولا نسخ ولا معارضة - والشريعة تشملهم برحمة الله وحكمته وعدله، قد سجدت عقولهم وقلوبهم وأسماعهم وأبصارهم لأحكامها، فخضعت مجتمعاتهم لحكم هذه الشريعة في جميع مجالاتها، ثم انتشرت هذه العقيدة تبشر الأمم الأخرى وتنذرها فآمن من آمن وكفر من كفر، وكانت الكلمة العليا لهذه الشريعة فحكمت المجتمعات الجديدة كما حكمت المجتمعات السابقة.

وأمام هذه الانطلاقة العظيمة لهذه الشريعة نشط المكر وقوي العداء من أبناء الأمم الأخرى الذين لم يؤمنوا بالإسلام .. وكان من مكرهم أن حملوا ثقافتهم وأفكارهم الجاهلية ليغزوا الإسلام بها فانتشرت الأفكار الفلسفية القادمة من الأمم الأخرى .. وتم توزيعها عن طريق الفرق الضالة .. فبدأ الانحراف العقائدي ينتشر ويذكر بالجاهلية الأولى وانحرافها حين اتبعت العقل البشري وضلالته وعبدت غير الله، وقد تلبست الجاهلية الأولى بملة إبراهيم عليه السلام، وتلبس الفكر الجاهلي القادم من ثقافة اليونان بانتساب المعتزلة إليه (1)، وهي فرقة من الفرق التي انتشرت داخل الأمة الإسلامية، وكان من انحرافها أن جعلت العقل البشرى القاصر طريقاً وحيداً للتعرف على "الحق" فبدأ الفكر عند هؤلاء ينحرف عن أصوله الأولى، ويفقد خصائصه، فلم يصبِح الوحي هو مصدر التلقي عندهم لأنهم بزعمهم لا يستفيدون منه علماً ولا يقيناً، فتغيرت وجهة القوم فبعد أن كانت قبلتهم هذه الشريعة وتلك العقيدة أصبحت قبلتهم

(1) سيأتي الحديث عن أئمتها وبعض عقائدهم بما يناسب موضوع الرسالة إن شاء الله.

ص: 41

الجديدة عقول الفلاسفة وأسس الفكر اليوناني الوثني الجاهلي (1). فتغير مصدر التلقي وهذه هي أول هزة للمجتمع الإِسلامي - ولو كان انحراف المعتزلة انحرافاً سلوكياً لهان الأمر وقد ينقطع بانقطاعهم، ولكن الأمر أشنع وأنكى، إنه انحراف عقدي أدى إلى تغيير مصدر التلقي عندهم وإثارة الشبه على مصدر التلقي عند الأمة الإسلامية، فبدأ التشكيك فيه من جهة وتمجيد المصدر العقلي عند المخالفين من جهة أخرى، ومهما كان من جهد علماء الأمة في الرد على المعتزلة فإن بقاءهم في داخل الأمة الإسلامية وهم يحملون هذا الانحراف كان له من الأثار السيئة على اتجاه الأمة الإسلامية ما نعاني منه حتى هذه اللحظة.

وانظر إلى الفرق الضخم بين عقيدة الصحابة وعقيدة هؤلاء لتعرف مدى الخطورة التي يحملها الفكر الذي بُني على التراث اليوناني الجاهلي.

إن أمر التشريع لله كما أن الخلق له، يستوي في ذلك ما صغر شأنه وما عظم في الخلق والأمر، فالخلق خلقه، حبة الزرع وجنة الخلد، والسحاب الذي بين السماء والأرض والكرسي الذي فوقه عرش الله سبحانه وتعالى، والأمر

له سبحانه في تحديد مواصفات الحياة الإسلامية على هذه الأرض ابتداء من أحكام الأسرة .. إلى أحكام الدولة .. والأمر أمره في بيان صفاته سبحانه وإنزال كلامه لا معقب لحكمه ولا مغير ولا مبدلْ، له الخلق والأمر - هذه هي عقيدة الجيل الأول رضوان الله عليهم، ومحمد عليه السلام مبلغ ومبين ومبشر ومنذر وسراج منير وعبد الله ورسوله.

ثم جاء الفكر المنحرف فأقر بالخلق وأشرك العقل في مصدر التلقي - وفي أبعد ما يكون عن إدراكه - أشركه في التعرف على صفات الله .. فبدأ من ذلك الحين مسلك جديد في الفكر والاعتقاد يغذيه الفكر اليوناني على يد الفلاسفة قديماً، وتغذيه المذاهب المادية حديثاً .. وهذه المرة سَهُل على المستشرقين وحملة الفكر الأروبي الدخول لزعزعة صفات الشريعة ومنها الثبات والشمول، والذي

(1) سنذكر من الأدلة ما يثبت هذا الذي نقوله هنا، ونكتفي في هذا الموضع بالإشارة إلى أثر تلك العقيدة التي تحدثنا عنها على الثبات والشمول سلباً وإيجاباً.

ص: 42

سهّل عليهم ذلك هو الفكر المعتزلي - وإن شئت قل الفكر اليوناني الفلسفي - لأن الفكر الذي تحكم في إدراك صفات الله -فنفى منها ما نفى وأثبت منها ما أثبت كما يريد- هو نفسه الذي نفى من صفات الشريعة ما نفى وأثبت منها ما أثبت في هذا العصر الذي نعيشه.

العقل مصدر في تلقي العقيدة كما زعم الفكر اليوناني .. والعقل مصدر لوضع القانون كما زعمت المذاهب الفكرية المعاصرة .. والمعتزلة حملة الفكر القديم وقد رباهم الفكر الفلسفي، والمذاهب المعاصرة وتلامذتها وقد رباهم الاستشراق .. ومهمة التلاميذ قديماً وحديثاً تلبيس المفاهيم الجاهلية بالصورة الإسلامية .. فمن داخل الشريعة الإِسلامية يطالبون بتغيير أحكامها ومن داخلها يشككون في شمولها ويقصرونها على بعض جوانب الحياة، ينفون ما شاءوا ويثبتون ما شاءوا باسم الإِسلام!!

وقبل أن ندخل في تفصيلات البحث لنقرر منهج أهل الحق في المحافظة على صفات هذه الشريعة نذكر المخالفين بهذه العقيدة المسلمة البدهية التي عاش عليها الجيل الأول وهي عقيدة الرسل أجمعين: "إن الخلق لله والأمر لله" وأن الذي ينشئ الأحكام وينزّلها ويشرّعها، وينسخ منها ما شاء ويبدّلها بغيرها إذا شاء هو الله سبحانه وتعالى لأنه هو الخالق والرازق والمدبر .. فهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله، وإن مهمة البشر هي التلقي والفهم والاستنباط - والتطبيق -لا حسب أهوائهم- بل حسب منهج شرعي تعلمه الصحابة من الرسول عليه الصلاة والسلام وتعلمه التابعون من الصحابة وهكذا من جيل إلى جيل تعلمه أهل الحق وعلّموه لمن بعدهم، وحينئذ تستقر صفات هذه الشريعة فلا تبديل ولا تغيير، ويعرف لها الناس منزلتها، فهي شريعة الحكمة والعدل والعلم والرحمة، كما أنها شريعة الثبات والشمول، فقد جاءت بالحق الثابت الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة مما يحتاجه الناس، ودلت عليه، وهذا البحث بيان من أوله إلي آخره لهذه العقيدة.

ومن المفيد أن نقول هنا أن هذه العقيدة لو استقرت في قلوب البشر لآمنوا ولرجعت البشرية اليوم إلى الدين الحق وحكمت بهذه الشريعة.

ص: 43

ولو استقرت في عقول الباحثين وقلويهم لما نادى كثير منهم بتغيير الأحكام .. ولما حجر على الشريعة أن تحكم الدولة والاقتصاد والنظام الاجتماعي إلّا إذا تغيرت وتلبست بأحكام الجاهلية الحديثة.

فإذا وجدت في كتب الأصول عند المعتزلة أن العقل مصدر للتلقي .. وأن الشريعة لا تفيد العلم فما ذلك إلّا لغياب تلك العقيدة، فلو حجزوا أنفسهم عن تقرير أمور العقيدة بأهوائهم وأخذوها مسلمة من عند الله لكان خيراً لهم.

وإذا وجدت من المُحْدَثِينَ من يدعو إلى إبعاد الشريعة عن أمور الحياة كالدولة والاقتصاد .. فما ذلك إلا لغياب تلك العقيدة.

ونقتصر على هذه الأمثلة لبيان أهمية إدراك تلك العقيدة وأنه لا بد من التذكير بها والتزامها في منهج البحث العلمي لمن أراد أن يتعرف على الحق أو يجادل عنه بعد معرفته، بل ينبغي لكل إنسان أن يلتزم بمقتضياتها ومنها:

1 -

التسليم المطلق بكل ماجاء به الوحي ممثلاً في هذه الشريعة التي بلغها رسول الإِسلام عليه السلام، مع الاعتقاد الجازم بأن كل حكم فيها هو العدل والحكمة والرحمة والخير.

2 -

الاحتكام إليها في جميع شؤون الحياة، والإذعان لها، بحيث لا يُقدمُ عليها منهج آخر في الحكم، مع المحافظة على أحكامها ومقاصدها من محاولة التغيير والتبديل بشبهة اتباع العقل أو العرف أو اختلاف الزمان والمكان.

3 -

الاعتقاد الجازم بأنها حجة على الخلق كافة في جميع شؤونهم في الدنيا والآخرة.

وأن كل ما ثبت منها حجة علينا لا نعارضه بهوى ولا نغيره بشبهة، ولا نقدم عليه شيئاً من أحكام البشر.

4 -

الاعتقاد الجازم بأن البشر أجمعين لا شأن لهم في وضع العقيدة ولا الشريعة ولا قدرة لهم على ذلك، وأن تدخلهم في هذا الأمر هو الشرك والانحراف والفتنة والمفسدة.

ص: 44