الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفرع الثاني
المناقشة
إن مما أناقش فيه هذين الباحثين أمرين مهمين:
الأول منهما: أن المصلحة - التي أخذ بها فقهاؤنا واشترطوا شروطًا لسلامة الأخذ بها هي المصلحة المرسلة (المطلقة من كل قيد إلّا قيد النفع). وأسندا العمل بالمصلحة المرسلة إلى الإِمام ابن القيم ومن قبله عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ومما ذكر من الأمثلة عدم قطع الأيدي في الغزو وعدم إنكار المنكر إذا أدى إلى مفسدة عظيمة .. وإسقاط الحد عام المجاعة.
الثاني منهما: إن الأحكام المدنية في الغالب غير منزلة على وقائع الكليات المقررة بمكة، وأن تلك الأحكام الجزئية التي نزلت بالمدينة تخالف الكليات المكية من حيث البقاء والتبدل، هكذا على الإِطلاق.
مناقشة الأمر الأول:
نبدأ في المناقشة في هذا الموضع من حيث انتهينا سابقًا حيث تقرر أن ما قيل عن "تغير الأحكام بتغير المصالح والأعراف والعادات والأزمنة" ليس مبنيًا على أساس علمي، وحاصل ما عند القائلين به أنه "قاعدة" حدثت عند نشوء المجلة العدلية، وكان يكفيهم ذلك، لو أنهم تريثوا وتساءلوا لمَ لمْ ينص السلف على أنها قاعدة؟ وحينئذ سيعلمون الجواب الذي سيحملهم على إعادة النظر فيها والتعرف على حقيقتها، غير أنهم لم يصنعوا شيئًا من ذلك، بل سارع بعضهم إلى محاولة إضافة معناه إلى فقه السلف، وقد تبين لنا بما فيه الكفاية، أن الصحابة - رضوان الله عليهم - لم يغيروا الأحكام ولم يبدلوها، وبقي هنا أن نناقش ما نسب إلى ابن القيم سواء من هذين الباحثين أو من غيرهما (1)، ونقول هنا كما قلنا من قبل إن إطلاق المصلحة من ضوابطها مخالف لوضع الشريعة ولفهم
(1) أكرر ما قلته سابقًا من أن العبرة بالمناقشة ليست هي معالجة رأي هذا الباحث أو ذاك، بل هي أعم من ذلك، تتبع الفكرة حيث كانت ..
السلف من الصحابة والتابعين وأئمة الفقهاء من بعدهم، وما يقوله الأستاذ صبحي الصالح هنا يأخذ الحكم نفسه.
وإن مما يعفيه من هذه المؤاخذة أن يقيد تفسيره للمصلحة المرسلة بما أشرت إليه سابقًا من كلام الأئمة، فليس عند فقهاء السلف مصلحة مرسلة (مطلقة من كل قيد إلّا قيد النفع) إن هذه المصلحة هي المصلحة التي تدور عليها القوانين الوضعية كما يقول الباحث، والشرط الذي تضيفه الشريعة هنا هو أن تشهد نصوصها الجزئية أو الكلية لهذا النفع بعدم الرد، ذلك أن هذه الشريعة وضعت في الأصل لتكون صراطًا مستقيمًا يهتدي به الناس، ومن مقتضى اهتدائهم بها أن يستشهدوها على ما يظنونه "نفعًا" فإن شهدت بأنه كذلك ولم ترده فهو كذلك، ويترتب على ذلك أن يتبعوه ويعتبروه، لأن الشريعة أمرتهم بذلك، ومن هنا يتحقق الخير وتتحقق العبودية وذلك باتباع هذه الشريعة، وإن لم تشهد له بل ردته، فهو حينئذ ليس "نفعًا" ويجب عليهم أن يبتعدوا عنه مهما شهدت له العقول القاصرة والعادات المتكاثرة، أما أن يقال المصلحة المرسلة - التي أمرت الشريعة باتباعها - هي المطلقة من كل قيد إلّا قيد النفع - ثم نتبع ما يقال أنه "نفع" فليس ذلك بصواب، ولا يضرنا إذا اهتدينا أن تتبع القوانين الوضعية المصلحة التي أطلقت من كل قيد إلّا قيد النفع، لا يضرنا ذلك لأن هؤلاء القانونيين ليس عندهم صراطٌ مستقيمٌ من لدن العزيز الحكيم يهتدون به، بل غاية ما عندهم اتباع الأعراف والعادات والأفكار البشرية، فالنفع عندهم ما حددته أعرافهم وعاداتهم وعقولهم والنفع عندنا ما لم ترده الشريعة وهذا فرق عظيم بيننا وبينهم، ولا يضرنا من ضل إذا اهتدينا، كما قال تعالى:
وكان ينبغي - على الباحث أن يختم بحثه بما ذكره هو نفسه من شروط الفقهاء (2)، لا أن يختم بحثه بما يتبعه القانونيون من المصلحة.
(1) سورة المائدة: آية 105.
(2)
انظر معالم الشريعة الإِسلامية 63.
وما ذكره من شروط الفقهاء لاتباع المصلحة يرجع في النهاية إلى اشتراط عدم معارضة الشريعة لها، فإذا لم تشهد الشريعة بالرد فقد أصبح لتلك المصلحة موضعًا فيها، ولو أكد على ذلك وختم به بحثه لعلم حينئذ أن المرسلة ليست هي المطلقة من كل قيد إلّا قيد النفع، بل هي التي لا تعارض الشريعة، وليس النفع هو ما يحدده البشر بل هو ما يحدده رب البشر ..
وبهذا الذي أقول كان يمكنه تفسير ما ذهب إليه عمر بن الخطاب أمير المؤمنين وما قاله ابن القيم في كتابه أعلام الموقعين.
ولقد تحدثنا عن مسألة عدم قطع الأيدي في الغزو وفي عام المجاعة، وما بنا حاجة إلى إعادته، وتقرر هناك أن هذا ليس فيه تغيير ولا اتباع لمصلحة مطلقة من شهادة الشرع (1) - ولا مطلقة من كل قيد إلّا قيد النفع - ليس شيء من ذلك كله، بل إن ذلك تحقيق مناط الأدلة الشرعية بدون تقديم ولا تأخير ولا تبديل ولا تغيير - وأما عدم إنكار المنكر إذا أدى إنكاره إلى منكر أعظم منه فذلك إعمال لقاعدة سد الذريعة، وقد سبقت الإِشارة إليها (2).
ونحن مع جميع هذه الأمثلة وغيرها نجزم أن ذلك الاجتهاد من الصحابة والتابعين وأئمة السلف من الفقهاء من بعدهم، ليس فيه تغيير ولا تبديل، ولا اتباع لمطلق النفع، أو العرف والعادة، أو الاحتكام إلى العقل، بل هو اتباع لهذه الشريعة وتحقيق لمناطات أحكامها.
مناقشة الأمر الثاني:
وهو ما نسب إلى الإِمام الشاطبي من أن الأحكام المدنية، غير منزلة على وقائع الكليات المقررة بمكة، وأنها تخالفها من حيث البقاء، وأناقش هذه النسبة من خلال نصوص الإِمام الشاطبي ومن كتابه الذي اعتمد "صاحب رسالة تغير الأحكام " على نص واحد منه ولم يتبين المعنى الحقيقي له (3).
(1) انظر ما سبق ص 470.
(2)
انظر ما سبق ص 358.
(3)
قارن صنيعة هذا بصنيع صاحب كتاب تعليل الأحكام - انظر ص 395.
ولا بأس بأن نتذكر بعض المعالم البارزة في منهج الإِمام الشاطبي والتي أشرت إليها من قبل ومنها:
1 -
إدراكه العميق لحاكمية هذه الشريعة وثباتها وشمولها وأنها قطعية.
2 -
إدراكه لخطورة مسلك المبتدعة وأنه مؤد إلى رفع الضوابط الشرعية وتحكيم العقل والهوى في الشريعة ومن ثم مؤد إلى تبديلها وتغيرها كلها أو بعضها.
وأضيف هنا ما يكشف حقيقة ما نسب إليه، وأبدأ بنقل النص نفسه الذي اعتمده "صاحب رسالة تغير الأحكام" مع الإشارة إلى موضع آخر من كتاب الموافقات ولا بد من نقل النص كاملًا مع ما فيه من طول (1):
يقول الإِمام الشاطبي في معرض حديثه عن بعض معالم منهج التربية الإِسلامية وعن حقيقة الاجتهاد الخاص بالعلماء، والعام لجميع المكلفين:
"إن المشروعات المكية - وهي الأولية كانت في غالب الأحوال مطلقة غير مقيدة وجارية على ما تقتضيه مجاري العادات عند أرباب العقول، وعلى ما تحكمه قضايا مكارم الأخلاق من التلبس من كل ما هو معروف في محاسن العادات، والتباعد عن كل ما هو منكر في محاسن العادات، فيما سوى ما العقل معزول عن تقريره جملة من حدود الصلوات وما أشبهها، فكان أكثر ذلك موكولًا إلى أنظار المكلفين في تلك العادات، ومصروفًا إلى اجتهادهم، ليأخذ كل بما لَاقَ به وما قدر عليه من تلك المحاسن الكليات، وما استطاع من تلك المكارم في التوجه بها للواحد المعبود من إقامة الصلوات فرضها ونفلها، حسبما بينه الكتاب والسنة، وإنفاق الأموال في إعانة المحتاجين، ومواساة الفقراء والمساكين، من غير تقدير مقرر في الشريعة، وصلة الأرحام قربت أو بعدت على حسب ما تستحسنه العقول السليمة في ذلك الترتيب ومراعاة حقوق الجوار، وحقوق الملة الجامعة بين الأقارب والأجانب، وإصلاح ذات البين بالنسبة إلى جميع الخلق، والدفع
(1) لأن ذلك ضروري لتصحيح ما نسبه الباحث إلى الشاطبي.
بالتي هي أحسن، وما أشبه ذلك من المشروعات المطلقة التي لم ينص على تقييدها بعد، وكذلك الأمر فيما نهى عنه من المنكرات، والفواحش على مراتبها في القبيح فإنهم كانوا مثابرين على مجانبتها مثابرتهم على التلبس بالمحاسن، فكان المسلمون في تلك الأحيان آخذين فيها بأقصى مجهودهم، وعاملين على مقتضاها بغاية موجودهم، وهكذا بعد ما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وبعد وفاته، في زمان التابعين، إلّا أن خطة الإِسلام لما اتسعت ودخل الناس في دين الله أفواجًا ربما وقعت بينهم مشاحات في المعاملات، ومطالبات بأقصى ما يِحَقُّ لهم في مقطع الحق، أو عرضت لهم خصوصيات ضرورات تقتضي أحكامًا خاصة، أو بدت من بعضهم فلتأت في مخالفة المشروعات وارتكاب الممنوعات، فاحتاجوا عند ذلك إلى حدود تقتضيها تلك العوارض الطارئة، ومشروعات تكمل لهم تلك المقدمات، وتقييدات تفصل لهم بين الواجبات والمندوبات، والمحرمات والمكروهات، إذ كان أكثرها جزئيات لا تستقل بإدراكها العقول السليمة فضلًا عن غيرها، كما لم تستقل بأصول العبادات وتفاصيل التقربات ولا سيما حين دخل في الإِسلام من لم يكن لعقله ذلك النفوذ من عربي أو غيره أو من كان على عادة في الجاهلية وضرى على استحسانها فَرِيقُهُ ومال إليها طَبْعهُ، وهي في نفسها على غير ذلك، وكذلك الأمور التي كان لها في عادات الجاهلية جريان لمصالح رأوها، وقد شابها مفاسد مثلها أو أكثر، هذا إلى ما أمر الله به من فرض الجهاد حين قووا على عدوهم، وطلبوا بدمائهم الخلق إلى الملة الحنيفية، وإلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فأنزل الله تعالى ما يبين لهم كل ما احتاجوا إليه بغاية البيان، تارة بالقرآن، وتارة بالسنة، فتفصلت تلك المجملات المكية، وتبينت تلك المجملات، وقيدت تلك المطلقات، وخصصت بالنسخ أو غيره تلك العمومات، ليكون ذلك الباقي المحكم قانونًا مطردًا وأصلًا مستنًا إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وليكون ذلك تمامًا لتلك الكليات المقدمة، وبناء على تلك الأصول المحكمة فضلًا من الله ونعمه، فالأصول الأولى باقية لم تتبدل ولم تنسخ، لأنها في عامة الأمر كليات ضروريات وما لحق بها، وإنما وقع النسخ أو البيان على وجوهه عند الأمور المتنازع فيها من الجزئيات لا الكليات،
وهذا كله ظاهر لمن نظر في الأحكام المكية مع الأحكام المدنية فإن الأحكام المكية مبنية على الإِنصاف من النفس وبذل المجهود في الامتثال بالنسبة إلى حقوق الله أو حقوق الآدميين.
وأما الأحكام المدنية فمنزلة في الغالب على وقائع لم تكن فيما تقدم من بعض المنازعات والمشاحات والرخص والتخفيفات، وتقرير العقوبات في الجزئيات لا الكليات فإن الكليات كانت مقررة محكمة بمكة، وما أشبه ذلك، مع بقاء الكليات المكية على حالها وذلك يؤتي بها في السور المدنيات تقريرًا وتأكيدًا فكملت جملة الشريعة والحمد لله بالأمرين وتمت واسطتها بالطرفين، فقال الله تعالى عند ذلك:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} وإنما عُنيَ الفقهاء بتقرير الحدود والأحكام الجزئيات التي هي مظان التنازع والمشاحة، والأخذ بالحظوظ الخاصة، والعمل بمقتضى الطوارئ العارضة، وكأنهم واقفون للناس في اجتهادهم على خط للفصل بين ما أحل الله وما حرم، حتى لا يتجاوزوا ما أحل إلى ما حرم الله فهم يحققون للناس مناط هذه الأحكام بحسب الوقائع الخاصة حين صار التشاحّ ربما أدى إلى مقاربة الحد الفاصل، فهم يزعونهم عن مداخلة الحمى، وإذا زل أحدهم يُبين له الطريق الموصل إلى الخروج عن ذلك في كل جزئية آخذين بحجزهم، تارة بالشدة وتارة باللين" (1).
ويشتمل هذا النص على المعاني الآتية:
1 -
المشروعات المكية غير محددة، لكي يجتهد المكلفون ويأخذ كل بما يليق به من المقدار الذي يستطيعه، وقد كان الصحابة يثابرون عليها ويبلغون بها غاية مجهودهم.
2 -
أنه لمّا اتسعت خطة الإِسلام ودخل فيه الناس أفواجًا ووقعت منهم بعض المخالفات لبعض المشروعات وارتكاب بعض المنهيات، ولاحت بينهم
(1) الموافقات 4/ 155 - 154 - 156.
المشاحات والخصومات، انتقل منهج التربية الإِسلامية - المتمثل في الكتاب والسنة - إلى مراعاة هذه الوقائع الجديدة، ونزلت أحكام الشريعة بما يفض الخصومات، ويفصل أحكام المكروهات والمحرمات والمندوبات والواجبات.
3 -
أن الفقهاء عنوا أشد العناية بهذه المرتبة، وهي التي تليق بالجمهور فاستنبطوا الأحكام الجزئية الخاصة بها، وقاموا بحماية الحد الفاصل بين الحلال والحرام، وأمَّا ما يخص الأخلاق والارتفاع إلى المنازل العالية فيها، وبذل غاية الجهد في تحقيقها والمحافظة عليها، فقد تركه الفقهاء رحمهم الله لجهد المكلف لأنه في أكثر الأحيان يستقل بمعرفته وتطبيقه، ومتروك لجهده الذاتي وقوة إيمانه ولا تلزمه الشريعة بالمراتب العالية، إلّا أن يلتزمها بنفسه .. وهذه مراتب الإحسان التي حققها الصحابة، وتابعهم فيها أئمة الهدى من التابعين وتابعيهم ومن اقتدى بهم فيها، وبهذا النوع اهتم الزهاد والعباد من أهل العلم، من أمثال مالك وأحمد وغيرهم كثير من العلماء ومن اقتدى بهم (1)، وهذه المراتب هي ما يسميه الشاطبي العزائم المكيات، وهذه هي التي ثبت عليها الصحابة - رضوان الله عليهم - وأولو العزم ممن اقتدى بهم من بعدهم، ولم تزحزحهم عنها الرخص المدنيات، واستمروا في بذل الجهد على التمام (2).
(1) وهذا الذي لم يفهمه أعداء الإِسلام أو فهموه واستمرؤا المعاندة والمكابرة حتى قالوا إنّ الفترة التي عاشها الصحابة - وهم الجيل الأول - لم تتكرر، والجواب أنها تكررت من ناحية النوع لا من ناحية الكم، وأما من ناحية الكم فإنه لا يتصور أن تكون حالة الأمن في المجتمع الإِسلامي وحالة الكثرة الكاثرة من الأفواج المتدفقة إلى الإِسلام مثل حالة البدء في بناء المجتمع الإِسلامي وحالة القلة التي كانت تتفاعل مع منهج التربية بجميع كيانها العقلي ثم النفسي والروحي والجسدي، ومع هذا فإن هذه الشريعة وإن طلبت من الناس أن يرتفعوا إلى منازلهم - وألزمت من التزم بالقدر الذي التزمه - لكنها لم تلزمهم ابتداءً بتحقيق ذلك المطلوب، ولا يعني أنها خيرتهم في العمل بالشريعة، كلا، وإنما المقصود أنها ألزمتهم بتطبيق الشريعة جملة وتفصيلًا في حياتهم الخاصة والعامة وهذه مرتبة الإِسلام والإِيمان، ولم تلزمهم بمرتبة الإحسان التي هي مرتبة الصحابة رضوان الله عليهم بل ندبتهم إليها وحببتها لهم.
(2)
4/ 156 - 157.
هذا هو مقصود الإِمام الشاطبي الذي أدرك بعمق حقيقة منهج التربية الذي دعت إليه هذه الشريعة، وحددت جميع معالمه بما اشتملت عليه من أحكام، والذي واكبت فيه القدرات الفذة للنفس البشرية التي بلغت الذروة في اقامة الحق والإِحسان، وواكبت فيه أيضًا في المرحلة المدنية طبيعة النفس البشرية، وهي وإن لم تلزمها بمراتب الإحسان إلّا أنها لم تقبل منها تضييع الحق والإِعراض عنه.
وهذا كلام محكم دقيق تلوح منه معالم منهج التربية الإِسلامية ممتزج بأصول الفقه وهذا ليس فيه أن الكليات ثابتة والجزئيات متغيرة كما فهم بعض الباحثين، بل في النص المنقول ما هو صريح بثبات النوعين، حيث يقول الإِمام الشاطبي عن المرحلة المدنية التي تبعت المرحلة المكية "
…
فتفصلت تلك المجملات المكية وتبينت تلك المجملات وقيدت تلك المطلقات وخصصت بالنسخ أو غيره تلك العمومات ليكون ذلك الباقي المحكم قانونًا مطردًا وأصلًا مستنًا إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وليكون ذلك تمامًا لتلك الكليات المتقدمة وبناء على تلك الأصول المحكمة فضلًا من الله ونعمة
…
" (1).
فالمجموع من الكلي والجزئي، محفوظ ثابت، وقانون مطرد في جميع العصور والأزمان، والمدني مبني على الكليات المكية المتقدمة ومتمم له.
بقي أن ننظر في السبب الذي حمل الباحث على أن يستنتج ذلك المعنى الفاسد فنجد ذلك يرجع إلى عدم فهمه لقول الإِمام الشاطبي: "
…
وأما الأحكام المدنية فمنزلة في الغالب على وقائع لم تكن فيما تقدم من بعض المنازعات والمشاحات
…
" (2).
فنقل النص من معنى صحيح إلى معنى فاسد، والمعنى الصحيح كما قدمت آنفًا، أن من أسباب تفصيل الأحكام الجزئية في المدينة هو حدوث وقائع لم تكن فيما تقدم - في المرحلة المكية - وقد علل الشاطبي ذلك تعليلًا حسنًا.
(1) 4/ 155.
(2)
4/ 155.
والمعنى الفاسد الذي استنتجه الباحث هو كما قال: "إن الأحكام المدنية منزلة في الغالب على وقائع غير الكليات المقررة لمكة
…
" (1)، وأنها تخالفها من حيث الثبات (2).
ودخل عليه الفساد من أوجه عدة منها:
1 -
عدم ملاحظته للمعنى الجلي الذي يدل عليه كلام الشاطبي ومنه:
(1)
أن الأحكام الكلية بمكة والجزئية بالمدينة أصبحت بعد انقطاع الوحي قانونًا مطردًا وأصلًا ثابتًا إلى يوم القيامة (3).
(ب) أن الأحكام المدنية الجزئية إنما جاءت لتكون تمامًا لتلك الكليات المكية المتقدمة (4).
2 -
عدم ضبطه لمعنى النص وذلك لزيادته فيه عبارة أخلت بالمعنى المقصود عند الشاطبي، فالنص الذي في الموافقات هو:"وأما الأحكام المدنية فمنزلة في الغالب على وقائع لم تكن فيما تقدم" وبالمقارنة مع استنتاج الباحث يتبين أنه أدخل فيه معنى زائد وهو قوله: "وقائع غير الكليات المقررة بمكة" وخطأه يعرف بأن نفرق بين ارتباط الأحكام المدنية بالكليات المكية، وبين عدم تنزل الأحكام المدنية على وقائع مكية، وذلك يعرف بالوجهين الثالث والرابع.
3 -
عدم فهمه لمقصود الإِمام الشاطبي من التفريق بين المكي والمدني في هذا الموضع ومقصوده أمران:
(أ) أن أحوال الصحابة - رضوان الله عليهم - في مكة من حيث قلة العدد وانشغالهم الكامل بإقامة الحق، وكونهم قاعدة الحق الذي أشرف الرسول صلى الله عليه وسلم على تربيتها بنفسه، وكونهم في أعلى المنازل عبادة وجهادًا، وكونهم مطاردين معذبين، يتوقد إيمانهم ويتوهج، وهم في
(1) انظر ما سبق ص 522.
(2)
انظر ما سبق ص 522.
(3)
الموافقات 4/ 155.
(4)
الموافقات 4/ 154.
ذات الوقت متحابون متآلفون لم يخالطهم مخلط ولا منافق فكانت أمورهم حينئذ تجري على الصلاح والتوفيق، والأخذ بالعزائم والإِيثار والصبر، فلم يكن بينهم ما يتقضى نزول الأحكام الخاصة لفض المنازعات والخصومات، لأن وقائعها لم تكن في الغالب في المرحلة المكية، ثم كانت بعد في المرحلة المدنية.
(ب) أن هذا لا يعني أن ما نزل بالمدينة لم يكن له صلة بالكليات المكية، كلًا ومما يؤكد ارتباط ما بينهما ما ذكر الشاطبي مفصلًا من أن الأحكام التي نزلت بالمدينة ترجع إلى الأصول المكية (1).
وتفسير كونها مرتبطة بتلك الأصول مع أنها لم تكن لها وقائع بين الصحابة يسير جدًّا والحمد لله، فالمنازعات والخصومات التي نزلت بخصوصها أحكام في المدينة مرتبطة بالكليات المكية وإن لم توجد بين الصحابة بالمرحلة المكية، وارتباطها يظهر من أن المنازعات والخصومات فيها ظلم واعتداء ولا شك، فنزلت لها تفصيلات مدنية، وأصلها في مكة موجود وذلك في الكليات التي تنهي عن الظلم والبغي والعدوان. ومن هنا تكون مرتبطة بالكليات المكية، وتكون غير واقعة بين الصحابة في المرحلة المكية، ومن هنا يصح قول الشاطبي:"وأما الأحكام المدنية فمنزلة في الغالب على وقائع لم تكن فيما تقدم من بعض المنازعات والمشاحات"، ومن هنا نعلم مقصده رحمه الله، وتبين لنا أنه لم يفرق في الثبات بين ما نزل بمكة وما أنزل بالمدينة، أي بين الكليات والجزئيات ولا بين ما يدخله الاجتهاد الخاص، ولا بين ما يدخله الاجتهاد العام.
4 -
عدم فهمه لقول الشاطبي: "
…
فالأصول الأول باقية لم تتبدل ولم تنسخ لأنها في عامة الأمر كليات ضروريات وما لحق بها، وإنما وقع النسخ أو البيان على وجوهه عند الأمور المتنازع فيها من الجزئيات لا الكليات" (2).
(1) انظر الموافقات 4/ 155.
(2)
4/ 155.
فليس فيه ما يدل على أن الجزئيات يقع عليها التغير بعد انقطاع الوحي، وحاصل ما فيه أن النسخ وقع بالمدينة ولم يقع بمكة.
أما بعد انقطاع الوحي ووفاة الرسول صلى الله عليه وسلم فلا نسخ ولا تغيير لا في الكليات ولا في الجزئيات .. وإليك ما قاله الإِمام الشاطبي وقد سبق:
يقول رحمه الله وهو يتحدث عن أوصاف الشريعة: "الثبوت من غير زوال فلذلك لا تجد فيها بعد كمالها نسخًا، ولا تخصيصًا لعمومها، ولا تقيدًا لإطلاقها ولا رفعًا لحكم من أحكامها لا بحسب عموم المكلفين ولا بحسب خصوص بعضهم، ولا بحسب زمان دون زمان ولا حال دون حال، بل ما أثبت سببًا فهو سبب أبدًا لا يرتفع وما كان شرطًا فهو أبدًا شرط، وما كان واجبًا فهو واجب أبدًا، أو مندوبًا فمندوب، وهكذا جميع الأحكام فلا زوال لها ولا تبدل ولو فرض بقاء التكليف إلى غير نهاية لكانت أحكامها كذلك"(1).
وبهذا يتبين الصبح لكل ذي عينين، لنعلم بعد ذلك أن ما نُسب إلى هذين الإِمامين الجليلين الشاطبي وابن القيم ليس بشيء وإن إلصاق ما يسمى "بقاعدة تغير بعض الأحكام بتغير الزمان" بهما لا دليل عليه بل شُبه على هذين الباحثين كما شُبه على غيرهما، ودعوى اتباع المصالح أو الأعراف أو العوائد لا تصلح لتأسيس هذه "القاعدة" المحدثة، ولا بد أن يعلم جميع الخلق علماؤهم وعوامهم أن جميع الأحكام التي جاءت بها هذه الشريعة لا زوال لها ولا تبدل ولا تغير في جميع العصور والأزمان.
وإنّ في هذه الشريعة المباركة منهجًا أصيلًا يحدد موقفها من إصلاح المجتمعات البشرية، وجميع ما فيها من انحرافات كلية أو جزئية - سواء انتشرت هذه الانحرافات تحت دعوى اتباع المصالح، أو اتباع العادات والأعراف.
ونختم هذه الدراسة ببيان موقف الشريعة من إصلاح عادات البشرية وأعرافها، وكيف حددت للناس طريق التعرف على المصالح الحقيقية.
(1) 1/ 41.