الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أدى إلى فتح الباب لدخول الشبهة على كثير من الباحثين (1)، ذلك أنهم كروا على الأدلة واحدًا واحدًا بكثرة الاعتراضات والاحتمالات.
وإذا تقرر أن الأحاديث الواردة في عصمة الأمة عن الضلالة والخطأ والأحاديث الواردة في تعظيم شأنها تفيد حجية الإِجماع لم يبق بعد ذلك إلّا النظر في إفادتها العصمة نصًا، وهذا الأمر متفق عليه (2)، فثبت أن الأمة معصومة وأن الحكم الناتج عن إجماعها معصوم كذلك، وهذا مذهب الأئمة الأعلام منهم الأئمة الأربعة وأتباعهم (3). وإذا تحققنا من العصمة تحققنا من ثبات الحكم المجمع عليه.
المطلب الثاني
الاعتراض الثاني وجوابه
إن الإِجماع لا يحتاج إلى سند، بل يمكن أن يلهم الله المجتهدين فيجمعون على حكم لا سند له إلّا الإِلهام، يؤكد ذلك أن الإِجماع لو كان سنده الكتاب
(1) أشرت إلى ذلك في هامش ص 167.
(2)
وشذ من زعم أن الحديث إنما هو وارد في أن الأمة لا تجتمع على الكفر فترتد، أما اجتماعها على الخطأ فممكن.
والجواب عنه: أنه مع التسليم أن الأمة لا تجتمع على الكفر إلى قيام الساعة كما هو مقرر عند العلماء المحققين من أهل السنّة وإن كثرت طوائف الضلال فيها، انظر الاعتصام 6/ 202 شرح الكوكب المنير 2/ 282، 283.
إلّا أن الأحاديث وردت في عصمتها عن الخطأ في الحكم أيضًا لأن الخطأ في الحكم نوع من الضلال فإن لفظ الضلال عام يدخل فيه معنى الحيرة عن الحق كما في قوله تعالى: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} ويدخل فيه ما هو دون الكفر من الانحراف، ويدخل فيه الكفر، فهي إذن معصومة عن الخطأ في الحكم أيضًا، وهذا الرأي الشاذ مع سقوطه أحببت التنبيه عليه والأصوليون متفقون بعد ذلك على أن الأحاديث تدل على إثبات العصمة. انظر المستصفى 1/ 175، كشف الأسرار 3/ 355.
(3)
شرح الكوكب المنير، قال الفتوحي و"الإِجماع حجة قاطعة بالشرع، أي بدليل الشرع كونه حجة قاطعة، وهو مذهب الأئمة الأعلام منهم الأربعة وغيرهم
…
" 2/ 214.
أو السنّة لم يكن دليلًا مستقلًا، إذ الدليل حينئذ إما الكتاب وإما السنّة، وقالوا إن هناك إجماعات وقعت من دون سند (1).
وبالجواب عن هذا الاعتراض يثبت أنه لا بد للإِجماع من سند من الكتاب أو السنة، وفائدته حينئذ هو حرمة النظر في المسألة بعد ذلك والحكم الناتج عنه ثابت أبدًا.
الجواب عن الاعتراض الثاني:
إن الأصوليين اتفقوا على أن الإِجماع لا بد له من سند، قال الآمدي "اتفق الكل على أن الأمة لا تجتمع على الحكم إلّا عن مأخذ ومستند يوجب اجتماعها خلافًا لطائفة شاذة فإنهم قالوا بجواز انعقاد الإِجماع عن توفيق لا توقيف، بأن يوفقهم الله تعالى لاختيار الصواب من غير مستند"(2).
واستدل الأصوليون بدليلين:
الأول: أن الإِلهام ليس بحجة، وإنما الحجة هي الكتاب والسنة والحمل عليهما بطريق من طرق الاستنباط، وحينئذ لا بد من مستند لأن عدمه يستلزم جواز الخطأ، ثم إن اتفاق الكل بدون مستند مستحيل، فلا بد من الدليل.
الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم وهو الذي لا ينطق عن الهوى - لا يقول ولا يحكم إلّا عن وحي (3) فالأمة أولى، لأن الدليل دل على أن كل مسلم يحرم عليه القول في الدين بغير مستند، وقد بينت ذلك عند الكلام في الرأي المذموم وذكرت الإِجماع على ذمّة، وهو في حقيقته قول بغير مستند.
(1) كشف الأسرار 3/ 263.
(2)
الإِحكام للآمدي 1/ 261، وانظر كشف الأسرار 3/ 263 - 264 - 265، شرح الجلال على جمع الجوامع مع حاشية البناني 1/ 195، تيسير التحرير 3/ 254، شرح الكوكب المنير 2/ 259.
(3)
والمقصود بأن الرسول لا يحكم إلّا عن وحي أي أنه لا بد له من مستند من عند الله، أو أنه إذا حكم باجتهاده - وقد أجاز الله له ذلك - فلا بد من إقرار الوحي وإلّا فإن الوحي إذا حكم بغير صحته فإنه لا يكون منه. انظر 32 - 88 - 89 مما سبق. وانظر هامش الإِحكام للآمدي 1/ 261.
وهذا المعنى موجود في تعريف الأصوليين للإِجماع، فقد اتفقوا على أن الاجماع إنما يقع من المجتهدين، فلا بد إذن من الاجتهاد، ولا بد للاجتهاد من مستند. وأما قولهم أن انعقاد الإِجماع عن دليل يلغي فائدته، ثم إنه قد وقع، والوقوع دليل الجواز، ومن أمثلة وقوع الإِجماع عن غير مستند بيع المراضاة وأجرة الحمام .. فالجواب عنه:
أولًا: أن وقوع الإِجماع عن مستند فائدته أن الإِجماع على الاستدلال بهذا المستند يزيده قوة إلى قوته، ويسهل رفع الخلاف عن المسألة - إن كان ثم خلاف - ويمنع النظر فيها بعد ذلك، إذ أن النظر في الحكم الذي ثبت الإِجماع عليه حرام قطعًا (1).
ثانيًا: أن ما ادعوه من أن بعض الأحكام مجمع عليها من غير سند مردود بل إن العلماء اعتمدوا فيها على سند وبيان ذلك:
"أما الاستصناع فقد كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ولم ينكره، وتقريره صلى الله عليه وسلم دليل وسند شرعي، وبيع المراضاة وهي المعاطاة لا إجماع فيها لأنها لا تصح عند الإِمام الشافعي على قول، وأجرة الحمام مقدرة بالعرف، وأخذ الخراج للإِمام تصرف بحسب المصلحة. ولا إجماع في زكاة الحلي"(2) فهذه المسائل إما أن يكون لها سند شرعي، وإما أن لا تكون من مسائل الإِجماع، وقد بين شيخ الإِسلام ابن تيمية حكمة وجود مستند الإِجماع فقال: "وذلك لأن كل ما أجمع عليه المسلمون فإنه يكون منصوصًا عن الرسول، فالمخالف لهم مخالف للرسول كما أن المخالف للرسول مخالف لله
…
فلا يوجد قط مسألة مجمع عليها إلّا وفيها بيان من الرسول ولكن قد يخفى ذلك على بعض الناس، ويعلم الإِجماع فيستدل به .. كما يقال: قد دل على ذلك الكتاب والسنة والإِجماع، وكل من هذه
(1) مجموع الفتاوى 19/ 194، 195، 200، وكشف الأسرار 3/ 263، وأصول الفقه وابن تيمية 1/ 306 إلى 312.
(2)
وانظر بيان شذوذ هذا الرأي في الإِجماع للفرغلي 272 وما بعدها، وأصول الفقه وابن تيمية 1/ 306 إلى 312.