الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأكثر ألفاظاً ولا نعلمه يحيط بجميع علمه إنسان غير نبي، ولكنه لا يذهب منه شيء على عامتها حتى لا يكون موجوداً فيها من يعرفه.
والعلم به عند العرب كالعلم بالسنة عند أهل الفقه: لا نعلم رجلاً جمع السنن فلم يذهب منها عليه شيء، فإذا جمع علم عامة أهل العلم بها أتى على السنن وإذا فُرّق عِلْمُ كلِ واحدٍ منهم ذهب عليه الشيء منها، ثم كان ما ذهب عليه منها موجوداً عند غيره .. " (1). وبهذا حفظ الله سبحانه وتعالى دينه فلم يذهب من علم الحديث على المحدّثين شيء، ولا من علم الفقه على الفقهاء شيء، ولا من علم التفسير على المفسرين شيء، ولا من علم العربية على علمائها شيء
…
وهكذا في سائر العلوم وهذا متحقق ومشاهد والحمد لله، وهو آية من آيات الله دالة على بقاء هذا الدين ما بقيت الحياة على هذه الأرض ولقد كان للقراء والمحدثين والفقهاء .. أسوة في صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث كانوا محافظين على هذه الشريعة من حيث ثبات نصوصها وثبات الفهم الصحيح لها، وإذا كنا تحدثنا عن الأول في هذا المطلب فلنتحدث عن الثاني في المطلب الآتي وبالله التوفيق.
المطلب الخامس
تطبيقات على منهج الصحابة - رضوان الله عليهم - في المحافظة على ثبات الأحكام
إن جيل الصحابة - رضوان الله عليهم - أعلم أجيال هذه الأمة بالوحي ولغة العرب، وأصدقها في الفهم والنقل، وأحرصها على حراسة هذه الشريعة ونصرتها ودفع الشبه عنها بحيث صار هذا الجيل هو القدوة العملية والحجة على كافة الأجيال بعد ذلك، تحقيقاً لقوله تعالى في سورة التوبة:
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} (2).
(1) مسألة رقم 138 - 139 - 140.
(2)
سورة التوبة: آية 119.
فقد وصفهم الله بالصدق فمن أراده فليلزمْ طريقَهم، ويتبعْ منهجهم فلقد كانوا حريصين حرصاً بالغاً على المحافظة على هذه الشريعة، وشمل هذا الحرص المحافظة على نصوصها والمحافظة على فهمها، ليتحقق لهم وللأجيال من بعدهم ثباتاً في النص وثباتاً في الفهم (1).
فكان من كبار الصحابة - رضوان الله عليهم - من يترك "المندوب" المستحب مخافة أن يعتقد الناس أنه واجب، وهذا منهم محافظة على ثبات الحكيم الشرعي، لأن ما كان مستحباً ينبغي أن يكون كذلك ومن اعتقد أنه واجب بُيّن له بالقول وبالفعل أنه غير واجب، فَتَرْكُ بعض الصحابة له بيانٌ بالعمل على أنه ليس بواجب، وهذا البيان -وهو المحافظة على ثبات الحكم آكد- فهو إذن مقدم على فعل المستحب.
(1) قد يقال إن الله قد تكفل بحفظ كتابه، حكى أبو عمرو الداني في طبقات القراء له عن أبي الحسن بن المنتاب قال: كنت يوماً عند القاضي أبي إسحاق إسماعيل بن إسحاق، فقيل له: لِمَ جاز التبديل على أهل التوراة، ولم يجز على أهل القرآن؟ فقال القاضي: قال الله عز وجل في أهل التوراة "بما استحفظوا من كتاب الله" فوكل الحفظ إليهم، فجاز التبديل عليهم، وقال في القرآن:"إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون". فلم يجز التبديل عليهم، الموافقات 2/ 40.
وهذا حق، ولكن الله ابتلى هذه الأمة بأنْ أمرها بتعلّم الكتاب والسنة وتعليمهما وتطبيقهما في واقع الأرض ودعوة البشرية للاسلام وجعل لذلك طريقاً محدداً يميّز بين الحق والباطل، من اتبعه في فهم هذه الشريعة نجى ومن حاد عنه هلك، يمثل هذا الطريق قوله عليه الصلاة والسلام في وصف الفرقة الناجية:"ما أنا عليه وأصحابي" وقد تحدث عنه الشاطبي وأبرزه في الاعتصام تحت عنوان: "الباب العاشر في بيان معنى الصراط المستقيم الذي انحرفت عنه سبل أهل الابتداع فضلت عن الهدى بعد البيان" 2/ 290 - فمن سلك طريق الصحابة في الفهم نجى، ومن خالف عن طريقهم هلك، ونسأل الله السلامة، وسيأتي في هذه الرسالة إن شاء الله توضيح لمعالم منهج الاستدلال عندهم مع كشف مسالك النظر المخالفة لعل الله أن يلحقنا بصحابة نبيه صلى الله عليه وسلم غير مبدّلين
ولا مغيرين. فإن ذلك علامة الصدق في الدين، "ولا يصلح آخر هذه الأمة إلّا بما صلح به أولها".
ونضرب لذلك مثالاً يثبت ما نقصد إليه، ونكتفي ببيان موقفهم من "الأضحية" وهي مستحبة عند أكثر أهل العلم (1)، وقد كان أبو بكر وعمر وأبو مسعود الأنصاري لا يُضَحون لكي لا يظُن الناسُ أن الأضحية واجبة وحتم عليهم، روى أبو سريحة الغفاري قال:"ما أدركت أبا بكر أو رأيت أبا بكر وعمر رضي الله عنهما كانا لا يضحيان -في بعض حديثهم- كراهية أن يُقْتدى بهما"(2).
وعن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه قال: "إنّي لأدع الأضحى وإني لموسر مخافة أن يرى جيراني أنه حَتْمٌ عليّ"(3).
وهذا من الصحابة محافظة بالعمل -على ثبات الحكم- الذي هو مطلوب من كل من يُقْتدى به فإن القول قد لا يكفي في البيان في بعض الأحيان فلا بد من الفعل. وهذا دليل على أن الحكم يجب أن يبقى على الصفة التي شُرِعَ عليها وهذا هو معنى ثبات الحكم، فالأضحية مثلاً مندوب إليها وقد يظن بعض الناس أنها واجبة فبيّن كثير من الصحابة حكمها بالعمل، والبيان آكد، وذلك ليعلم من ظن وجوبها أنها ليست واجبة، إذْ لو كانت واجبة ما تركها هؤلاء الأئمة الذين يُقْتدى بهم.
(1) انظر المغني لإبن قدامة 9/ 435 - حققه محمود فايد، وعبد القادر عطا الطبعة الأولى 1389 هـ، وأكثر أهل العلم على أنها سنة مؤكدة، وأجابوا عما استدل به من قال بوجوبها بعدة أجوية -9/ 435 - 436، وبصرف النظر عن تفصيل القول في هذه المسألة فإن المقصد من الإتيان بها متحقق بدون ذلك، لأنا نقصد بيان موقف كبار الصحابة من المحافظة على الحكم الشرعي كما علموه والتأكيد على ذلك في منهج تربوي عملي.
(2)
أخرجه البيهقي 9/ 295 وأبو سريح هو حذيفة بن أُسيّد صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال الألباني حديث صحيح 4/ 355 إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل - إشراف زهير الشاويش - الطبعة الثانية - المكتب الإِسلامي 1405 هـ.
(3)
أخرجه البيهقي أيضاً 9/ 295 وصححه الألباني - إرواء الغليل 4/ 355 وقد نقل الإِمام الشاطبي شيئاً من هذه الآثار واستدل بها على محافظة الصحابة على استقرار الأحكام. انظر الموافقات 3/ 207.
وكما لا يُسوى بين المندوب والواجب حتى لا تتغيّر الأحكام وتتبدّل كذلك لا يُسوى بين المباحات والمندوبات ولا بينها وبين الكروهات، قال الإِمام الشاطبي:"المباحات من حقيقة استقرارها مباحات أنْ لا يُسوى بينها وبين المندوبات ولا المكروهات"(1).
و"المكروهات من حقيقة استقرارها مكروهات أن لا يسوى بينها وبين المحرمات ولا بينها وبين المباحات"(2).
ومن أمثلة ذلك: قول النبي صلى الله عليه وسلم عن كراهيته لأكل الضب: "
…
لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه" (3)، وأُكِلَ على مائدته فأقر ذلك، فظهر أنه مباح الأكل، فلمْ يُسو بينه وبين الحرام أو المكروه، وكذلك المكروهات لو سُوّي بينها وبين المحرمات لتوهمها الناس محرمات فإذا طال عليهم العهد صيّروا تركها واجباً (4).
وهذا التقرير من الإِمام الشاطبي حسن، ولا يُقال إن في ذلك ارتكاباً للمكروه أو تركاً لمندوب. فقد أجاب رحمه الله: بأن البيان آكد، وذلك أن المحافظة على استقرار الأحكام - بحيث يبقى الحرام حراماً فلا يلتبس بغيره من الأحكام الأخرى، ويبقى الواجب واجباً فلا يلتبس بغيره، وكذلك المندوب والمكروه والمباح - المحافظة هذه آكد لأنها بيان -ممن يُقْتدى بهم- لازم لاستقرار أحكام الشريعة (5)، وبعدم تحقق ذلك يتحقق الضد وهو عدم استقرار الأحكام فيلْحقها التغيير والتبديل، فيكون المندوب واجباً وهو ليس كذلك وهكذا في بقية الأحكام.
(1) الموافقات 3/ 211.
(2)
الموافقات 3/ 212.
(3)
الحديث قطعة من حديث ابن عباس عن خالد رضي الله عنهم، كتاب الذبائح والصيد، باب الضب من صحيح البخاري بشرح فتح الباري 9/ 662 - 663.
(4)
الموافقات 3/ 212.
(5)
الموافقات 3/ 212 - 213.
ومقصود الشارع كما تبين من قبل هو المحافظة على ثبات الأحكام واستقرارها ولذلك فإن البيان الذي تمثل في فعال الصحابة كما ورد في الأمثلة السابقة آكد لتحقيق ذلك المقصود. وقد توسع الشاطبي في عرض الأمثلة في المسألة السادسة والسابعة والثامنة (1).
ويصرح الإِمام الشاطبي بهذا المعنى أيضاً في المسألة التاسعة فيقول عن الواجبات والمحرمات: "فمن حقيقة استقرار كل واحد من القسمين أن لا يُسوّى بينه وبين الأخر لأن في تغيير أحكامها تغيرها في أنفسها"(2).
فالأحكام ثابتة والبيان -مع ما فيه من بعض المحذورات- آكد للمحافظة على استقرار الأحكام وعدم تغييرها، وبهذا الدليل يتقرر أن الصحابة كانوا ملاحظين لها المعنى مثابرين على هذا البيان لكي تسقر أحكام الشريعة فما كان حراماً فهو حرام إلى يوم القيامة وما كان واجباً فهو واجب إلى يوم القيامة وما كان مندوباً فهو مندوب إلى يوم القيامة وقدوتهم في ذلك هو رسول الله صلى الله عليه وسلم كما مر في حديث أكل الضب .. وكما في تركه الصلاة بالناس في التهجد في رمضان مخافة أن يظن الناس أن مداومته عليها دليل على وجويها وهو تأويل متمكن (3).
وقد تكلم الشافعي عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر أنها بيان للقرآن، وذكر من الأمثلة ما يؤكد ذلك ثم قال:"وفيه دلائل على أن ما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم حرام بإذن الله تعالى إلى يوم القيامة بما وصفت وغيره من افتراض الله تعالى طاعته في غير آية من كتابه .. "(4).
(1) الموافقات 3/ 196 وقد ذكر الشاطبي في فصل البيان والإجمال أن البيان كما يكون بالقول يكون بالفعل وبنى عليه مسائل مهمة.
(2)
الموافقات 3/ 217.
(3)
وهذا ما أشار إِليه الشاطبي وهو مفيد في مسألتنا مع أنه أشار أيضاً إلى التفسير الأخر وهو خوف أن تُفْرض على الناس. الموافقات 3/ 207 والحديث في صحيح البخاري بشرح فتح الباري برواية عائشة رضي الله عنها، 4/ 250 - 251.
(4)
الأم 5/ 127 - للإمام الشافعي أشرف على طبعه محمد النجار، دار المعرفة بيروت - الطبعة الثانية - 1393 هـ - وانظر الرسالة ص 151.
وكلام الشافعي في معنى ما نقل عن الصحابة - رضوان الله عليهم -، فقد كانوا يقتدون برسول الله صلى الله عليه وسلم فيحافظون على استقرار الأحكام لتكون ثابتة حتى في أفهام العامة وذلك لأن عدم استقرارها يؤدي إلى تغييرها في نفسها. وبعد عصر الصحابة تجد عمر بن عبدالعزيز رحمه الله يذكر بهذا المعنى في خطبته لما بايعه الناس حيث قال بعد أن حمد الله وأثنى عليه:"أيها الناس إنه ليس بعد نبيكم نبي ولا بعد كتابكم كتاب ولا بعد سنتكم سنة، ولا بعد أمتكم أمة، ألا وإن الحلال ما أحل الله - في كتابه على لسان نبيه حلال إلى يوم القيامة ألا وإن الحرام ما حرم الله في كتابه على لسان نبيه حرام إلى يوم القيامة، ألا وإني لست بمبتدع ولكن متّبع، ألا، وإني لست بقاضي (1) ولكني منفذ، ألا وإني لست بخازن ولكني أضع حيث أُمرت ألا وإني لست بخيركم ولكني أثقلكم حملًا، ألا ولاطاعة لمخلوق في معصية الخالق، ثم نزل"(2).
وفي هذه الخطبة يبْرز موقف السلف من المحافظة على ثبات الأحكام وأنهم يجعلون ذلك عقيدة لهم يدعون إليها ويربون الأمة عليها، ولو أن المسلمين أدركوا ذلك كما أدركه السلف الصالح واعتقدوه ودعوا إليه وحافظوا عليه لاستقرت الأحكام في مجتمعاتهم ولصدو هجوم الغزو الفكري المتمثل في القوانين الوضعية ونبذوها ولقالوا للناس كافة أنه ليس بعد هذا الكتاب كتاب ولا بعد السنة سنة ولا بعد هذه الأمة أمة .. لو فعلوا ذلك لكانت هذه الأمة بيدها مقاليد البشرية تعلمها الحق وتحكمها بهذه الشريعة .. ولكن التغيير والتبديل الذي وقعت فيه طوائف كثيرة من هذه الأمة جعلها تتبع غير سبيل المؤمنين وجعل الغزو الفكري ينفد إلى أهم مواقعها ويحيط هذه الأمة بشبه كثيرة وينشر بينها أفكار المذاهب المعاصرة وأنظمتها بدعوى عدم شمولية الشريعة للأحوال المتجددة (3)، ونحن نذكّر بعقيدة الصحابة والتابعين على هذا النحو ونؤكد على
(1) علق المحقق الشيخ محمد رشيد رضا فبيّن أنّ المقصود من قوله هذا أنه ليس بمشرّع ولكنه منفذ وهو كما قال، الاعتصام 1/ 86.
(2)
الاعتصام 1/ 86.
(3)
سيأتي مناقشة المستشرقين ونقض دعواهم إن شاء الله.
"ثبات الشريعة" كليات وجزئيات (1) لأن ذلك هو الطريق لإقامة أحكام الشريعة، فلا نستطيع أن نتصور شمولاً لأحكامها بغير ثبات لها، والأمر هنا أمر عقيدة، ولذلك اجتهد الصحابة في المحافظة على ثبات الأحكام لأنه لا بد أن يعتقد المسلمون أن الحرام حرام إلى يوم القيامة وأن الواجب واجب إلى يوم القيامة، وأن المندوب مندوب إلى يوم القيامة، فيتضح الحق في نفوسهم ويميّزون بينه وبين أحكام الجاهلية ويحولون بينها وبين مجتمعاتهم وقلوبهم وعقولهم وينفرون ويتبرؤون من أهلها مهما بلغوا من القوة المادية تماماً كما فعل السلف الصالحٍ - رحمهم الله تعالى - حيث حالوا بين السنة والبدعة وجعلوا بينهما حجراً محجورا لكي ينجلي الحق وتندفع الشبه.
ومن كلام عمر بن عبد العزيز الذي حفظه العلماء - وكان يعجب مالكاً جداً - قوله رحمه الله: "سن رسول الله صلى الله عليه وسلم وولاة الأمر من بعده سنناً (2) الأخذ بها تصديق لكتاب الله، واستكمال لطاعة الله وقوة على دين الله ليس لأحد تغييرها ولا تبديلها ولا النظر في شيء خالفها، من عمل بها مهتد ومن انتصر بها منصور، ومن خالفها اتبع غير سبيل المؤمنين وولاه الله ما تولى وأصلاه جهنم وساءت مصيراً"(3) وإذا تأملنا في كلامه رحمه الله وجدنا الربط بين الشريعة والعقيدة جلياً واضحاً وتظهر معالمه في هذه الأمور:
الأول: أن الوقوف عند الفهم الصحيح للإِسلام كتاباً وسنة تصديق بالوحي وقوة في الدين.
(1) سيأتي مناقشة القائلين بتغير بعض الجزئيات وتصوير مذهبهم في دراسة خاصة إن شاء الله.
(2)
سنة الخلفاء الراشدين من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أمر رسول الله باتباع سنتهم في قوله: "فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ .. " سنن أبي داود.
(3)
انظر الاعتصام 1/ 87 وقد علق عليه الشاطبي رحمه الله بتعليق نفيس فراجعه ومنه قوله: "وفي كلام عمر قطع لمادة الابتداع جملة".
الثاني: أن على المسلمين أن يعتقدوا أنه ليس لأحد أن يغيّر أو يبدّل من أحكام هذه الشريعة فمن فعل ذلك ساء مصيره واتبع غير سبيل المؤمنين فعليهم أن يتبرؤا منه لأنه سلك طريقاً غير طريقهم واتبع منهجاً غير منهجهم.
الثالث: يجب عليهم أن يعتقدوا أنه ليس لأحد منهم أن ينظر فيما خالفها ومن فعل ذلك اتبع غير سبيل المؤمنين.
وهذا الثبات الذي حافظ عليه التابعون تعلموه من الصحابة - رضوان الله عليهم - وقد تعلموه جميعاً من هذا القرآن الذي دل على ثبات هذه الشريعة، فإن نزولها بالحق وعصمتها وعصمة رسولها وعصمة الأمة في مجموعها كل ذلك من قواعد الثبات سواء في الكليات أو الجزئيات، مع العلم أن كلياتها قد استقرت سواء الضروريات أو الحاجيات أو التحسينات، لأن كل ما يعود بالحفظ على الدين والعقل والنفس والعرض والمال ثابت، وذلك في جميع الرسالات (1) ثم تتابع نزول الجزئيات فكملت الشريعة قبل وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم فحفظت الأمة الكليات والجزئيات معاً، وحفظ الله كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم من سابق الأزل كما قال تعالى:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)} وانقطع الوحي بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم لأن الوحي إنَّما هو من الله، والرسول بشر يوحى إليه:
(1) ومن الآيات الدالة على"ذلك قوله تعالى: "{شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى} " الشورى آية: 13، {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} سورة الأحقاف:35. {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} سورة الحج: آية 78 وفي قصة موسى عليه السلام أمره بإقامة الصلاة بعد التوحيد: {إِنَّي أَنَا الله لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} سورة طه: آيه 14. {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} سورة البقرة: آية 183. {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ} سورة القلم: آية 17، {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} أي كتبنا عليهم في التوراة، سورة المائدة: آية 45 .. وقد اعتبرت الحاجيات مع الضروريات لأنهم لم يكلفوا بما لم يطيقوا .. وكذلك الأمر في الرسالة الخاتمة. انظر الموافقات 3/ 80.
{قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} (1).
فلما انقطع الوحي انقطع التشريع ومثله النسخ والتبديل والتغيير، فما كان حكماً لله فهو كذلك إلى يوم القيامة لأن هذه الشريعة وُضعت على الكلية والأبدية، فلو تصور أحد بقاء الدنيا إلى غير نهاية لكانت هذه الشريعة حجة على الخلق على الإِطلاق والعموم.
* * *
(1) سورة الكهف: آية 110.