الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأصول يدل على الحق مع تلازمها، فإن ما دل عليه الإِجماع فقد دل عليه الكتاب والسنة .. " (1).
وبهذا نتبين قوة الإِجماع وأنه مبني على الكتاب والسنة، فتحقق أنه لا بد من مستند، وأنه معصوم، ومن ثم تثبت الأحكام المبنية عليه لأنها معصومة كذلك.
المطلب الثالث
الاعتراض الثالث وجوابه
ذهب بعض الأصوليين إلى أن الحكم المجمع عليه إذا كان سنده المصلحة الشرعية يمكن تبديله بإجماع آخر إذا تبدلت تلك المصلحة.
قال صاحب كشف الأسرار: " .. ويتصور أن ينعقد إجماع لمصلحة ثم تتبدل تلك المصلحة فينعقد إجماع آخر على خلاف الأول"(2).
وقال في آخر باب الإِجماع: "فأما الأحكام الثابتة بالاجتهاد أو بالإِجماع بعد الرسول صلى الله عليه وسلم فيجوز أن تنسخ، وهو مختار المصنف، بأن يوفق الله تعالى بعد ثبوت حكم بإجماع أو باجتهاد أهل عصر آخر أن يتفقوا على خلافه بناء على اجتهاد نسخ (3) لهم على خلاف اجتهاد أهل العصر المتقدم ويكون هذا بيانًا لانتهاء مدة الحكم الأول كما في النصوص، ولا يقال هذا غير جائز لأنه لا مدخل للرأي في معرفة انتهاء مدة الحكم، لأنا لا ندعي أنهم يعرفون انتهاء مدة الحكم بآرائهم، بل نقول لما انتهى ذلك الحكم بانتهاء المصلحة من غير أن يعرفوا عند الاتفاق تبدّل المصلحة ومدة الحكم "وأما التضليل فلا يجب لأن الرأي كان حجة يومئذ" (4).
(1) مجموع الفتاوى 19/ 194 - 195.
(2)
3/ 176.
(3)
لعل الصواب "سنح".
(4)
3/ 250.
وبهذا الرأي قال بعض الباحثين المحدثين منهم الدكتور البوطي عند الحديث عن ضوابط المصلحة .. قال: "الأمر الأول: ضرورة سير المصالح في جوهر الدين المكون من صريح النصوص والأحكام وما تم عليه الإِجماع بمعنى أنه لا يجوز بناء حكم على مصلحة إذا كان في ذلك مخالفة لنص كتاب أو سنة أو قياس تم الدليل على صحته أو إجماع، إلّا إجماعًا تأسس أمره على مصلحة دنيوية غير ثابتة، فيجوز أن يتغيّر حينئذ ذلك الإِجماع بمثله إذا تغيّرت المصلحة الأولى وقامت مصلحة غيرها، مثال ذلك ما لو أجمع المسلمون في وقت ما على ضرورة قتل الأسرى، أو استرقاقهم، نظرًا لمصلحة تستدعي ذلك كالمعاملة بالمثل، ثم أجمعوا في وقت آخر على خلاف ذلك نظرًا لزوال الحالة السابقة، ومثاله أيضًا ما لو أجمع المسلمون في عصر ما على عقد الصلح بينهم وبين الكافرين لمصلحة تستدعي ذلك، ثم رأى من بعدهم وأجمعوا على عدم الصلح لزوال تلك المصلحة"(1). ومنهم صاحب كتاب تعليل الأحكام حيث قال: "وإذا رجعنا بالإِجماع إلى سنده الذي هو الدليل على الحقيقة وجدناه لا يخرج عن كونه نصًا أو قياسًا أو مصلحة (2) فإن كان نصًا فقد علمت ما فيه (3)، وإن كان قياسًا والأقيسة مختلفة، فقياس شبهي وآخر طردي، وثالث مناسب، وكل هذه لا تقوى على معارضة المصلحة التي ما شرع الحكم إلّا لتحصيلها، وإنْ كان مصلحة فقد تغيّرت فيجب الانتقال إلى ما يحصلها، وكون الاتفاق وقع على الحكم الأول بقصد أو بغير قصد لا يؤثر في الحكم إلّا بما قاله الفقهاء، أن الحكم
(1) ضوابط المصلحة 61.
(2)
سيأتي بيان أن من العلماء من يستبعد وقوع الإِجماع على قياس أو مصلحة واستبعده الدكتور الشلبي قبل هذا الموضع بأسطر قليلة انظر 324 ومع ذلك جعل منه قضية للبحث!!!
(3)
لم أعلمْ ما فيه إلّا ما قدمه قبل هذا الكلام وهو عبارة عن إنكار لحجية الإِجماع وعصمته ثم عود منه - على طريقة الجدليين - للتسليم بالحجية، ثم تقسيم الإِجماع إلى قطعي وظني، ثم الكلام على استبعاد ثبوته، ثم التسليم به مرة أخرى 323 - 324، فلعله بريد أن يقول قد علمت ما قلناه في الإِجماع!!
أصبح قطعيًا لا يصح فيه الاجتهاد بعد أن كان ظنيًا مجالًا لاختلاف الأنظار، وهذه كما ترى لا تخرج عن كونها دعوى
…
والآن نعرض لبعض الأحكام التي خالف فيها الأئمة ما سماه الناس إجماعًا فيما بعد .. " (1) ..
مناقشة هذا الرأي: إن هذا الرأي استنكره عامة الأصوليين قال صاحب كشف الأسرار في باب النسخ بعد أن ذكر رأي البزدوي: "ويتصور أن ينعقد إجماع لمصلحة ثم تتبدل تلك المصلحة فينعقد إجماع على خلاف الأول ولكن عامة الأصوليين أنكروا كون الإِجماع ناسخًا لشيء أو منسوخًا بشيء لما بينا أنه لا يصلح ناسخًا للكتاب والسنة
…
وكذا لا يصلحِ ناسخًا للإجماع ولا منسوخًا به
…
وكذا لا يصلح ناسخًا للقياس ولا منسوخًا به
…
" (2).
وقوله "ولكن" استدراك على قوله: "ويتصور أن ينعقد إجماع لمصلحة ثم تتبدل" وكما هو ظاهر يفيدنا أن عامة الأصوليين ينكرون نسخ الإِجماع بالإِجماع سواء ما كان عن مصلحة أو قياس أو نص.
ولننظر بعد ذلك في سبب إنكار عامة الأصوليين لهذا الرأي ثم أبين الوضع الصحيح لهذه المسألة بعد ذلك، وسبب الإِنكار يرجع إلى أمرين:
الأول: أن من العلماء من منع وقوع الإِجماع عن قياس فضلًا أن يقع على مصلحة، ومنهم الإِمام الطبري وأهل الظاهر (3).
وقد رجح هذا المذهب صاحب رسالة "أصول الفقه وابن تيمية" وأثبت أن الإِجماع لم يقع عن قياس وذلك باستقراء المواضع التي ذكرها المجيزون، وأثبت وقوعها عن نص وقدم لذلك بقوله: " .. إنّ الحق هو أن الإِجماع لا بد له
(1) 324 - 325.
(2)
3/ 176.
(3)
الإِحكام للآمدي 1/ 264، الإِحكام لإبن حزم 4/ 640 تحقيق وتقديم محمد عبد العزيز - الطبعة الأولى 1398 هـ.
من مستند وأن سنده نص من الكتاب أو السنة أو قياس جلي إذ هو في معنى النص، كما ذهب إلى ذلك شيخ الإِسلام ابن تيمية، أما إذا كانت علة القياس خفية لا تعلم إلّا بالنظر والاستنباط، والسبر والتقسيم، والترديد بين الأوصاف، وأوجه تأثيرها واستخراج أقواها تأثيرًا، وأوثقها اتصالًا بالحكم، فإن الاتفاق يندر بل يتعذر أن يحصل بذلك، فيتفق عليه الفقهاء في جيل من الأجيال في كل الأقاليم والأمصار (1).
وباستعراض الأمثلة التي ذكرها المجيزون أدلة لهم على وقوع الإِجماع مستندًا إلى القياس والاجتهاد، وجدناها لا يخلوا واقعها من أحد أمرين: إما أن لا يكون فيها إجماع أصلًا بل فيها خلاف، - وإما أن يكون فيها إجماع لكنه مستند إلى نص لم يعلموه، وعدم علمهم بالنص لا يدل على عدمه، إذ أن السلف قد يكونون تركوا التصريح بالنص استغناء عنه بالإِجماع، ولشهرة الإِجماع جهل الكثير الذي هو مستند الإِجماع" (2).
ثم أخذ في تتبع الأمثلة وبيان رجوعها إلى النصوص أو عدم وقوع الإِجماع فيها منتصرًا في ذلك لما ذكره ابن تيمية في مجموع الفتاوى حيث يقول: "فلا يوجد قط مسألة مجمع عليها إلّا وفيها نص أو بيان من الرسول صلى الله عليه وسلم (3)، ولكن قد يخفى ذلك على بعض الناس ويعلم الإِجماع فيستدل به كما أنه يستدل بالنص من لم يعرف دلالة النص (إلى أن قال) ولا يوجد مسألة يتفق الإِجماع عليها بدون نص
…
".
ويقول أيضًا: "لكن استقرأنا موارد الإِجماع فوجدناها كلها منصوصة وكثير من العلماء لم يعلم النص وقد وافق الجماعة كما أنه يحتج بقياس وفيها إجماع لم يعلمه فوافق الإِجماع"(4).
(1) انظر إقرار الدكتور شلبي بذلك 324 وعدم استفادته منه.
(2)
أصول الفقه وابن تيمية 2/ 576.
(3)
ويدخل في هذا القياس الجلي إذ هو في معنى النص، انظر مجموع الفتاوى 9/ 194 - 195.
(4)
مجموع الفتاوى 19/ 196.
وقد ذكر صاحب "أصول الفقه وابن تيمية" أمثلة كثيرة وبين فيها أنها لا تخلوا من أحد أمرين: إما أن يكون الإِجماع فيها عن نص أو لا إجماع فيها، ومن أمثلة ما كان الإِجماع فيها عن نص خلافة أبي بكر واستدل على ذلك بسبعة أدلة (1)، ومن المسائل التي ليس فيها إجماع حد الشرب، فإن الإِجماع لم ينعقد على أن حده ثمانين بل وما زال الخلاف في عهد الصحابة موجودًا ومن بعدهم (2).
وأما إجماعهم على جزاء الصيد فليس مستندًا إلى الاجتهاد بل هو مستند إلى النص (3) وكذلك إجماعهم على قتال مانعي الزكاة، إنما مرجعه النصوص الدالة على ذلك، وأما شحم الخنزير فمحرم بالحديث الذي رواه الجماعة وهو مستند الإِجماع (4).
والحاصل أن هذا الفريق من العلماء يستبعدون وقوع الإِجماع عن علة خفية لا تعلم إلّا بالنظر والاستنباط والسبر والتقسيم والترديد بين الأوصاف فيبعد أن يقع الإِجماع عن مصلحة معتبرة من قبل الشارع وخاصة إذا كانت بواسطة الجنس البعيد المتحقق في الضروريات الخمس وهي المصلحة التي تسمى بالمرسلة.
فالقول بأن الإِجماع الذي يتبع المصلحة يتغير بإجماع آخر غير وارد عندهم أصلًا لأنه غير متصور.
ولذلك تجد الدكتور البوطي يميل في موضع آخر إلى عدم تصور التغيّر ويربط ما ذكر من الأمثلة بحق "الإِمامة" وحق الإِمامة: "هو أن يتصرف الإِمام في أمر أعطى الشارع له - أو لمن ينوب عنه من المجتهدين - صلاحية الحكم فيه "(5).
(1) أصول الفقه وابن تيمية 2/ 576 - 2/ 577.
(2)
المرجع نفسه 2/ 578.
(3)
المرجع نفسه 2/ 580 - 581.
(4)
المرجع نفسه 2/ 584.
(5)
ضوابط المصلحة 61 - 62.
وهذه الصلاحية: "ليست إلا حكمًا إلهيًا دائمًا"(1) لأن الإِمام مخيَّر على سبيل الدوام - وهو حكم ثابت - بين المن والقتل والفدية والاسترقاق.
ومن هنا فقد نص البوطي على أن مثل هذه الأحكام لا تنطوي في الحقيقة على نسخ للإِجماع وأن الإِجماع الثابت شأنه كالنص الثابت من الكتاب والسنة لا يجوز الخروج عليه بحال" (2).
وهو بهذا يربط المثال الذي ذكره - استدلالًا أو مجاراة لما نقله عن البزدوي - بحق الإمامة بالحكم الثابت، ثم أخذ في ترجيح أن الخلاف بين الأصوليين - الذين يرون عدم النسخ والذين يرون النسخ أمثال البزدوي وصدر الشريعة - إنما هو خلاف لفظي (3)، وهذا تقرير جيد يفيدنا هنا، أن الخلاف ليس مبنيًا على معنى معتبر عند الفريقين لأن منهم من لا يتصور انعقاد الاجتماع على مصلحة شرعية، ومنهم من يتصور انعقاده، ولكن لا يرى تغير الحكم المجمع عليه، لأنه يربطه بحق الإِمامة كما صنع الدكتور البوطي وحمل على ذلك كلام البزدوي وصدر الشريعة، وقرر أن الخلاف لفظي وسأتجه بالمسألة وجهة أخرى وأحاول بيان السبب الذي أدى إلى القول بالتغير وسيكون ذلك من خلال التطبيقات التي ذكروها وقبل ذلك أذكر الأمر الثاني ..
الأمر الثاني: أن عامة الأصوليين أنكروا النسخ، وإنما أجازه البزدوي وصدر الشريعة كما أشار الدكتور البوطي آنفًا، وأنا أذكر هنا أدلة الجمهور على أن الإِجماع لا يَنْسخُ ولا يُنْسخ به. وهي:
(أ) أن العصمة ثابتة للحكم المجمع عليه أيًا كان سنده، ولا نسخ بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والإِجماع إنما يكون بعد وفاته صلى الله عليه وسلم لأنه إن وقع في حياته فلا يعتبر إلا بموافقته وموافقته هي المعتبرة وحدها والحجة فيها لا في غيرها، فبعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم قد انقطع الوحي فلا يمكن أن يقع النسخ.
(1) المرجع نفسه 62.
(2)
المرجع نفسه 62.
(3)
المرجع نفسه هامش 62.
(ب) أن الإِجماع لا ينسخه إجماع آخر، لأن هذا الاجماع الثاني، إما أن يكون عن دليل، وإما أن يكون عن غير دليل ولا يتصور ذلك، وإن كان عن دليل فيستلزم أن يكون الإِجماع الأول خطأ وذلك منتف، فيستحيل شرعًا أن يكون الإِجماع ناسخًا للإِجماع آخر.
(ج) والقياس لا يعارض الإِجماع ولا ينسخه وذلك لأن من شرط العمل بالقياس أن لا يكون مخالفًا للإِجماع (1).
وحفظ الشرع من النسخ والتبديل أمر مقطوع به، لأن هذه الشريعة معصومة، كما أن نبيها معصوم عليه الصلاة والسلام، والأمة فيما أجمعت عليه معصومة (2).
ولذلك نرى الأصوليين يصرحون بعصمة الإِجماع وأبدية الشريعة، "وهذا بخلاف الشرائع المتقدمة فإن نسخها لما كان جائزًا، لم تقع الحاجة فيها إلى عصمة الأمة عن الخطأ، فأما شريعتنا هذه فلا يجوز عليها النسخ بل هي شريعة مؤبدة، فَعُصِمْت أمتُها عن الخطأ ليبقى الشرع فإجماع الأمة محفوظٌ"(3).
والقول بأن الإِجماع يَنْسَخْ ولا يُنْسَخْ به من هذا المعنى المقطوع به.
ولقد أحسن الأستاذ البوطي في ربطه المسألة بحق الإِمامة، وتخريج سبب الخلاف فيها، وأحاول هنا إزالة بعض الإِشكالات وذلك بالنظر فيما أوردوه من تطبيقات، وترجع إلى ثلاثة أمثلة:
الأول: الإِجماع على قتل الأسرى، وقد تبين ما فيه سابقًا (4)، وأضيف هنا أن هذا لا يسمى إجماعًا، لأن النص قد جاء بتخيير الإِمام بين الأسر والفداء والقتل وهو قوله تعالى:
(1) انظر إرشاد الفحول 192 - 193.
(2)
انظر ما سبق ص 116.
(3)
كشف الأسرار 3/ 261.
(4)
وقد تبين ما قاله البوطي سابقًا ص 556.
وهنا التخيير حكم ثابت لا يتغير ولا يتصور وقوع الإِجماع على قتل الأسرى وأنه ملزم للحاكم نفسه ومن يجيء بعده. وذلك لأن الأمة معصومة من مخالفة النص الثابت الذي دل على التخيير ولم ينسخ، فلا يقال والحال هذه أن الإِجماع قد تحقق على وجوب قتل الأسرى، لأن معنى تحقق الإِجماع أنه ملزم لمن بلغه حكمه، وهذا مقتضى العصمة، وكيف يتحقق الإلزام مع أن التخير حكم ثابت قطعًا، وهل يقول من ظن أن المسألة مجمع عليها أن على المسلمين وجوب قتل الأسرى في الجهاد وأن هذا حكم مجمع عليه!. بل يُقال إنّ الإِمام قد اختار هو ومن معه من المسلمين أحد الأحكام التي خُيروا فيها بنص القرآن، ولغيره من بعده أن يختار أحدها أيضًا، وليس في ذلك إجماعًا ولا تغيرًا ولا تبديلًا.
ولذلك ظهر من كلام الأستاذ البوطي: جعل الخلاف بين القائلين بالنسخ وعدمه لفظيًا، وأقول هنا على ما بينته آنفًا أن الخلاف فرع عن صحة هذه التطبيقات إذْ هي عمدة المخالف ومسألة اختيار المسلمين قتل الأسرى هي أحد هذه التطبيقات وهي ليست مسألة من مسائل الإِجماع فلا تصلح دليلًا على القول بتغيّر حكم الإِجماع.
الثاني: ومثلها قولهم: "الإِجماع على الصلح مع الكافرين لصلحة فإنه إذا رأى المسلمون بعد ذلك عدم الصلح مع الكافرين لزوال تلك المصلحة فإن لهم ذلك (2).
وأجيب هنا بما أجبت به آنفًا، فإنه لا يقال عن هذا الحكم أنه من مسائل الإِجماع.
بيان ذلك: أن القرآن أوجب على المسلمين جهاد الكافرين ابتداء، وذلك
(1) سورة محمد: آية 4، وانظر تفسير ابن كثير 4/ 174.
(2)
انظر ضوابط المصلحة 61.
بتخييرهم بين ثلاثة خصال وهي: الدخول في الإِسلام، أو دفع الجزية، أو القتال، ثم أجاز القرآن - ولهذا تطبيقات في عمل الرسول صلى الله عليه وسلم أن يصالح المسلمون أعداءهم بشرطين اثنين:
الأول: تحقق الضرورة والمصلحة.
الثاني: أن لا يكون الصلح مؤبدًا (1).
فالحكم الشرعي الثبات في علاقة المسلمين بأعدائهم وجوب التخير بين ثلاثة خصال أو الدخول في صلح معهم بشروطه المعلومة.
فإذا جاء على المسلمين وقت وكان لهم من القوة والسلطان ما يخيرون به أعدائهم بين تلك الثلاثة الخصال فلا يجوز لهم إلّا ذلك وهم في ذلك منفذون لحكم الله الذي هو ثابت في حقهم إلى يوم القيامة ما داموا في تلك الحالة (2).
وإذا جاء وقت آخر ولم يكن لهم من القوة والسلطان ما يخيرون به الكافرين .. ودخلوا معهم في صلح بشروطه الشرعية فإنهم في ذلك منفذون لأمر الله الذي هو ثابت في حقهم إذا كانوا في حالة لا يستطيعون بها قتال أعدائهم" (3).
هذه صورة الحكم الشرعي، بقي بعد ذلك تحقيق المناط، وهو النظر في
(1) شرح السير الكبير 5/ 1689، لشمس الدين السرخسي تحقيق د. صلاح الدين المنجد مطبعة شركة الإِعلانات الشرقية، الجموع شرح المهذب 18/ 221 - الطبعة الأولى، بدائع الصنائع 9/ 4324 مطبعة العاصمة، القاهرة، الناشر زكريا علي، وحاشية الدسوقي 2/ 206، الطبعة بدون الناشر - دار الفكر. المغني لإبن قدامة 9/ 297.
(2)
شرح السبر الكبير 5/ 1689، بدائع الصنائع 9/ 4324، الأم 4/ 190، حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 2/ 206، كشاف القناع 3/ 103 - 104 مطبعة الحكومة بمكة، نهاية المحتاج 8/ 106 - الطبعة بدون.
(3)
انظر بحثًا مفصلًا في هذا - مع ذكر مواطن الإِجماع - في رسالة ماجستير بعنوان "دار الإِسلام ودار الحرب وأصل العلاقة بينهما" مخطوطة بالمكتبة المركزية، من - ص 78 الخ.
حال المسلمين في وقت ما، هل يمكنهم تخيير أعدائهم وقتالهم إذا لم يستجيبوا أم لا يمكنهم ذلك؟ فإن أمكنهم لزمهم الحكم الأول، وإن لم يمكنهم لزمهم الثاني مع وجوب الاعتقاد أن الكفار هم أعداء الله ورسوله والمؤمنين، يجب تخييرهم بين تلك الخصال الثلاثة عند القدرة على ذلك.
فإذا عمل المسلمون بالحكم الثاني باعتبار الحالة الثانية فهل يقال إن عملهم هذا هو إجماع على وجوب الصلح مع الكافرين، فإذا جاء وقت آخر وأمكنهم قتال أعدائهم قيل أنهم تركوا الحكم المجمع عليه لمصلحة، ثم يقال بعد ذلك أن حكم الإِجماع - الذي هو الدليل الشرعي - قد تغير وتبدل.
والحق أن عمل المسلمين في عقد الصلح في الحالة الثانية تحقيق لمناط الحكم الشرعي الثابت، وأن جهادهم لأعدائهم في الحالة الأولى تحقيق لمناط الحكم الشرعي الثابت، ولا يعتبر اتفاقهم على تحقيق المناط في الأولى والثانية إجماعًا على حكم شرعي، نُسخ به حكم شرعي آخر.
فخرجت هذه المسألة عن أن تكون تطبيقًا للقول بأن حكم الإِجماع الذي يكون سنده المصلحة يتغير بتبدل تلك المصلحة.
3 -
إن الإِجماع على الصلاة في رمضان على إمام واحد قد تغير بعد ذلك، فصلى الناس وراء أئمة متعددين، وهذا يدل على أن حكم الإِجماع قد يتغير بتغير المصلحة التي بني عليها (1).
والجواب: بنفي ثبوت الإِجماع، فإنه قد صح أن عمر رضي الله عنه قد جمع الناس في الصلاة في رمضان على إمام واحد فكانت سنّة يعمل بها المسلمون من بعده، وهي كذلك، ولكن أين الدليل على أن الناس كانوا يصلون على إمام واحد، ومن المعلوم أن جمع عمر للناس إنما كان في المدينة، وأهل القرى والمدن الأخرى كانوا يصلون خلف أئمة آخرين، أفليس في ذلك دليلًا على أن الصلاة تجوز خلف أئمة متعددين إذا اقتضى الأمر ذلك، وهذا في الوقت الذي يقال فيه
(1) الإِجماع للفرغلي 189، 489.
إن الإِجماع انعقد على الصلاة خلف إمام واحد، ثم ما الفرق بين الصلاة خلف أكثر من إمام في مدينة صغيرة حولها قرى كثيرة وبين الصلاة خلف أئمة متعددين في مدينة كبيرة.
ومن المعلوم أن الناس لم يكونوا يجتمعون كلهم من المدينة ومن حولها للصلاة خلف إمام واحد في عهد عمر رضي الله عنه، غاية ما فعله عمر رضي الله عنه أنه جمعهم على إمام واحد بعد أن كان هناك أكثر من إمام في مسجد واحد، وهو مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فأين الإِجماع على الصلاة خلف إمام واحد حتى يقال أن ذلك قد تغير فأصبح الناس يصلون خلف أئمة متعددين.
نعم لو أجمع المجتهدون على جواز الصلاة خلف أكثر من إمام في مسجد واحد صح أن يقال أن هذا مخالف لما أجمع عليه المسلمون، ولكن ذلك لم يحدث قطعًا.
والحاصل أن هذه التطبيقات وما ماثلها لا تصلح قاعدة لدعوى النسخ (1) ولايخالف بها ما اتفق المجتهدون عليه، وغاية ما يقال فيها أنها إما تطبيق وهو ما يسميه الأصوليون بتحقيق المناط وإما أن المسألة لا إجماع فيها أصلًا.
وهي مماثلة لما زعمه بعض الباحثين (2) من أن الصحابة غيروا بعض الأحكام التي وردت بها النصوص مثل "سهم المؤلفة قلوبهم" ونحو ذلك من الأمثلة التي بينت أنها من تحقيق المناط وليست تغييرًا ولا تبديلًا.
(1) وقد صرح د. البوطي بعد أن ذكر أن الإِجماع لا يُنسخ واستثنى حكم الإِجماع الذي يكون سنده المصلحة وقال: "ومن ناحية أخَرى فالتصرف بمقتضى تبدل المصلحة المعتبرة في الشرع لا يسمى في الحقيقة نسخًا كما ذكرنا، كيف وإن الشارع قد شرع من أول الأمر الأخذ بأي وجه من الوجوه (يقصد في حكم الأسرى (قد تجنح إليه مصلحة المسلمين فلئن ظهر التنفيذ من الحاكم أو المجتهد بمظهر الجديد فإن أصل التشريع له سابق وقديم"64.
(2)
انظر تعليل الأحكام 326.
ولذلك لا أجدني في حاجة إلى الجواب عن القول بأن الإِجماع ينسخ النص استدلالًا بأن الصحابة أجمعوا على منع المؤلفة قلوبهم من سهمهم، وأن ذلك تغير للنص بالإِجماع.
وقد أجبت عن أصل المسألة في موضع سابق وهو الجواب عن القول بنسخ النص بالإِجماع (1).
نعم إذا كان هناك نص منسوخ فإن الناسخ له ليس هو الإِجماع، وإنما هو السند الذي انبنى عليه ذلك الإِجماع علمه من علمه وجهله من جهله (2).
والجواب عما ذهب إليه هؤلاء الباحثون هو الجواب عما قاله الدكتور شلبي وأضيف هنا أن الأمثلة التي ذكرها والتي قال عنها: "والآن نعرض لبعض الأحكام التي خالف فيها الأئمة ما سماه الناس إجماعًا فيما بعد
…
" (3) ثم ذكر بعض الأمثلة منها مسألة التسعير، وإعطاء المؤلفة قلوبهم في عهد عمر بن عبد العزيز رحمه الله
…
إن هذه الأمثلة يمكن الجواب عنها من وجهين:
الأول: إن المستدل بها قال إنها مما سماه الناس إجماعًا، فهي إذن ليست إجماعًا مقطوعًا به، وليس كل ما يسميه الناس إجماعًا يكون كذلك، ونحن نتحدث عن الإِجماع الثابت ونقول إنه معصوم وحكمه كذلك، ولا يجوز تغييره ولا تبديله.
الثاني: إن مسائله المذكورة مشابهة لما ناقشته فيه عند الحديث عن المصلحة فمسألة المؤلفة قلوبهم تحقيق مناط بحسب حالتهم في زمن أبي بكر أو زمن عمر بن الخطاب أو زمن عمر بن عبد العزيز وليست تغييرًا ولا تبديلًا في الحكم الشرعي (4).
(1) انظر ما سبق ص 461.
(2)
المجموع الفتاوى الكبرى 19/ 201 - 202.
(3)
انظر تعليل الأحكام 325.
(4)
انظر ما سبق ص 461.
ومسألة التسعير مسألة مختلف فيها والخلاف فيها مشهور وليست من مواضع الإِجماع (1).
ونقول هنا كما قلنا من قبل عند الرد على القائلين بتغيير الأحكام، إنّ الحادثة الواحدة المجمع على حكمها لا يتصور أن يتغير حكمها إلّا إذا أسقطنا حجية الإِجماع كدليل شرعي، تمامًا كما قلنا أن الحادثة الواحدة التي حكمت فيها السنّة أو حكم فيها القرآن لا يمكن أن يتغير حكمها، إلّا إذا أسقطنا حجية القرآن أو حجية السنّة، ولا يقول بذلك أحد من المسلمين، فآل الأمر إلى أن الحادثة قد نقع بصورة جديدة وخصائص أخرى غير خصائصها الأولى - ومن ثم فهي حادثة متميزة غير الحادثة الأولى التي أجمع عليها، وحينئذ تأخذ حكمًا خاصًا بها بحسب مناطها، وحادثتان لها حكمان كما قلنا ليس غريبًا ولا عجيبًا.
وأما الإِجماع الذي لم يُتيقن من ثبوته، فهو إجماع مظنون لا يجزم المجتهد به، وهو مع كونه حجة إلّا أنه ليس في منزلة الإِجماع المتيقن، ومرتبته أن يُستدل به ويُقدم على ما دونه من الظن (2)، أي أنه من مسائل الاجتهاد، بحيث يمكن للمجتهد أن يقدم عليه ما هو أقوى منه من الأدلة، بخلاف الإِجماع المُتَيَقَّنُ من ثبوته فهذا لا كلام فيه، ولا يجوز أن يقدم عليه، أو أن يبدل لأنه معصوم وحكمه الناتج عنه له صفة الثبات، ذلك أن الشريعة معصومة والأمة فيما اجتمعت عليه معصومة، ولا تجتمع إلّا على الحق، ويستحيل أن تجتمع على خطأ أبدًا، ومن معنى حفظ الشريعة وعصمتها، عصمة الأمة أن تجتمع على ضلالة، تغيّر بها أو تبدل حكمًا واحدًا من أحكام الله، أو تقر التقديم عليه أو الإِعراض عنه، ولذلك فإن الانحراف مهما كثُر وعظُم وتفاوتت مراتبه من كفر أو شرك
(1) انظر رسالة دكتوراه بعنوان الحرية الاقتصادية وتدخل الدولة 426 - 468 - للدكتور عبد الله مصلح الثمالي، وبقية أمثلته عبارة عن فتوى مجتهدين فإن صادفت إجماعًا فخالفته فهي مردودة، وإن لم تصادفه فليس له دليل فيها على ما ادعاه. انظر تعليل الأحكام 325.
(2)
مجموع الفتاوى 19/ 268.
أو بدعة أو معصية فإنه يظل انحرافًا يشار إليه بحسب جهد المصلحين والمنكرين له، ويستحيل شرعًا أن يجد إقرارًا من الأمة بأجمعها لأنها لا تجتمع على إقرار الباطل، وهكذا القول في ثبات أحكام الشريعة ما كان منها حجته الكتاب أو السنّة أو الإِجماع، فالعصمة ثابتة لهذه الشريعة ولجماعة العلماء، وهذا من أبرز معالم الثبات التي حفظت الشريعة من التغيير والتبديل - ولو في حكم واحد من أحكامها - وحفظت الأمة من أن يضيع الحق فيها، فـ "لا تزال طائفة .. قائمة بالحق لا يضرهم من خالفهم
…
" وبثبات هذا المصدر الرباني وعصمة جماعة العلماء أهل السنّة والاتباع أمكن لهذه الأمة أن تعالج انحرافاتها، وتصمد أمام الغزو الفكري الجاهلي وتيار البدع الداخلي، وتتسلم قيادة البشرية مرات عديدة بعد أن كادت تسلم قيادها للانحراف العقدي لولا رحمة الله سبحانه المتمثلة في ثبات ذلك المصدر الرباني، وبقاء تلك الطائفة القائمة بالحق. والأمة في عصرها الأخير ما زال المصلحون يعتمدون في معالجة الانحرافات فيها على ثبات ذلك المصدر، وعصمة جماعة العلماء، والأعداء ما زالوا يكدحون دون أن يتمكنوا من هدفهم الأخير، وهو القضاء على هذه الأمة، ولن يتمكنوا لأن العصمة مكفولة لهذه الشريعة، ومكفولة لجماعة العلماء، وهي عصمة الإِجماع، ولا يزال الأعداء في ياس أمام هذا القدر الرباني (1) مهما بلغوا في الكيد من القوة
(1) القدر الرباني يقتضي بقاء هذين العنصرين عصمة الشريعة وثباتها، وعصمة الأمة من أن تجتمع على الباطل والانحراف عن الشريعة، ومقصد الأعداء مضاد لهذين القدرين فأتى لهم بملاقاته وتغييره، ولازم ذلك أن لا يصلوا إلى مقصدهم، وهذا لا يعني أنهم لن يؤثروا في الأمة كلا فأثرهم واقع لا محالة، والأمة مكلفة بعد ذلك بأن تساير قدر الله الذي رفع منزلتها فتجاهد لتصل إلى التمكين في الأرض وستكون أضعف فتراتها التي تكثر فيها الفتن وتنتشر فيها طوائف الضلال ومذاهب الغزو الفكري ويعود أصحاب الحق إلى الغربة التي حدث عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم ستكون هذه الأمة مع ذلك في أمن من يضيع الحق فيها وتزول تلك الطائفة القائمة به وهي الطريق بمشيئة الله لاعادة الأمة إلى التمكين في الأرض وغلبة دين الله على الأمم الأخرى، وهذا هو الذي يزعج أعداء هذا (0) الدين ويفت في عضدهم. انظر كتاب موقف المستشرقين من ثبات الشريعة وشمولها دراسة وتطبيقًا.
ومن مهارة التخطيط
…
{وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (1).
وبهذا نتبين حفظ الله لهذا الدين كتابًا وسنّة وعصمة الأمة من أن تضيعه أو تبذله، وعلى هذا الأساس يقوم مفهوم الشمول، وقد تبين - فيما سبق - أن الثبات قاعدة الشمول، فلا شمول بغير ثبات.
وأن المجتهد وهو يؤسس اجتهاده، على ما علمه من الكتاب والسنّة وما أجمعت عليه الأمة ليجد فيها من الأصول المتيقنة، وخاصة تلك التي تفهمها العلماء وأجمعوا عليها ما يجعله يبني اجتهاده عليها وهو متبع لعلم راسخ، يزيده قوة ورشدًا في استبانة الحق ورد الفروع إلى الأصول، وإعطاء النظير حكم نظيره.
وإن هذا الذي أجمع عليه المجتهدون إمَّا أن يكون حكمًا جزئيًا وإمّا أن يكون أصلًا شرعيًّا، وكلاهما من قواعد الشمول كما بينا سابقًا فلا نعيده هنا (1).
وننقل البحث بعد ذلك إلى المواطن التي لم يتحقق فيها إجماع.
* * *
(1) انظر تحقق الشمول في العموم اللفظي والعموم المعنوي، ص 314 وما بعدها.