الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثم إن الأمر أسهل من ذلك كله، أفلا يلتفتون إلى أمر آخر، يقولون كيف نهدر الأدلة المبيحة للعمل بالمصلحة؟ أفلا يقولون كيف نهدر الأدلة التي أوجبت اتباع النصوص وجعلته دينًا وحذرت من سواه.
أفلا يعلمون أنَّه كتابْ أنزل من لدن حكيم عليم، وبيانه من رسول كريم رحيم بوحي من الله، يحدد الخير والمصلحة ويرسم طريق السعادة، ويفصل بين الحق والباطل، ويكشف تزين الشيطان وشبهه للخلق - حيث يدعوهم إلى الفساد باسم المصلحة، وإلى الشرك باسم اتباع الأباء والأجداد، فما ترك الوحي شيئًا من شبه الشيطان إلا وكشفه، ثم يقال: إن المصلحة يمكن أن تكون في غيره، عجيبة من عجائب الفكر، وضلالة بينة حملها وزرها الطوفي وتَبِعَهُ عليها من تَبِعَهُ وذلك كله دليل على قصر العقل البشري وإن من ظن بنفسه أنه سيأتي بعلم جديد يخالف به الإِجماع، فإنما يحكم على نفسه بالوقوع في الآراء الساقطة ويذهب يخبط في عماية، ونسأل الله العافية والسلامة ..
المطلب السابع
عدم فهم بعض الباحثين لمعنى "التعبد" في الشريعة ومناقشته فيما نقله عن الشاطبي
يعتبر صاحب تعليل الأحكام أن الشارع قصد بالعبادات - التي كلف بها الناس - الامتثال ولا دخل لاعتبار المصالح فيها.
وأما المعاملات: فإنه نظر إليها أولًا من جهة تحصيل المصالح للأنام وهو الأصل فيها .. ثم أخذ في الاستدلال على التقسيم بثلاثة أدلة وهي:
1 -
الاستقراء: فقد وجدنا أحكام المعاملات تحفظ على الناس مصالحهم وتدور معها حيث دارت، فترى الشيء الواحد يحرم في حال ويباح في حال أخرى كالدرهم بالدرهم إلى أجل يمتنع في المبايعة ويباح في القرض (1).
(1) تعليل الأحكام 296، وقد أخذه من الموافقات 2/ 225 بدون أن ينسب إليه.
2 -
"أن الشارع توسع في بيان العلل والمصالح في تشريع هذا النوع، عكس العبادات، وهذا تنبيه منه سبحانه إلى أننا نسلك هذا الطريق ونسير بمعاملاتنا في وادي المصالح ولا نجمد على المنصوص الذي ربما ورد لمصلحة خاصة، وبطائفة خاصة وبإقليم خاص، وفي زمن خاص، وحاشا لشريعة الخلود أن تلزم الناس بهذا الأصر والأغلال التي صرحت في غير موضع بأنه رفع عنهم (1).
3 -
"إنّ أرباب العقل في زمن الفترات قد اعتبروا المصالح في كثير من العادات فلما جاءت الشريعة أقرت منها الشيء الكثير وعدلت ما انتابته عوامل متنازعة من الإِصلاح والإِفساد، ولم تبطل إلّا ما كان منشؤه هوى النفوس وطغيان الشهوات وأما عبادتهم فقد ضلت فيها عقولهم، ولهذا هدمت الشريعة غالبها إلّا ما نقل لهم من شريعة الخليل عليه السلام.
بعد اتفاق العلماء على هذا القدر، اختلفت أنظارهم في أمر وراء هذا هو اعتبار التعبد فيها أوْلا، فمنهم من يخرج بها عن التعبد ويجعل الميزان الصحيح هو المصالح فقط، بيْدَ أنه لا يدعي خروجها عن التشريع، بل يعترف أنه ماض فيها، ولكن من هذا الطريق حسبما أرشدنا الشارع اجمالًا وتفصيلًا، ويرى فريق آخر أن التعبد له نصيب في هذا النوع لا يليق بالمكلف إهداره، فإذا ظهر التعبد في شيء وجب التسليم به والوقوف مع النصوص
…
استند هذا الفريق في مدعاه "وهو أن المعاملات ملاحظ فيها التعبد التي أمور منها":
ثم أخذ في ذكرها ومناقشتها ..
وقبل ذكر هذه الأدلة ومناقشتها نحصّل ما يريد قوله من كلامه السابق، وهو كما يلي:
1 -
أن العبادات قصد بها في الشرع - أولًا وآخرًا - الامتثال ولا دخل لاعتبار المصالح فيها.
(1) تعليل الأحكام 296 - 297 - وقارن مع الموافقات 2/ 225 - مع أنه بنى عليه معنى غريب لم يذهب إليه الشاطبي.
2 -
أن المعاملات قصد بها في الشرع تحصيل المصالح أولًا، وهو الأصل فيها.
3 -
أن العلماء اتفقوا على هذا القدر واختلفوا فمنهم:
(أ)"من يخرج بها عن التعبد ويجعل الميزان الصحيح هو المصالح فقط .. ".
(ب)"ويرى فريق آخر أن التعبد له نصيب .. فإذا ظهر التعبد في شيء وجب التسليم به والوقوف مع المنصوص".
وقبل أن أفصّل القول في ذكر أدلته ومناقشتها أقول أن حاصل ما ذكر في ست صفحات هو نقل عن كتاب الموافقات (1) للإِمام الشاطبي قسمه إلى أقسام:
قسم استدل به على أن المعاملات الأصل فيها اتباع المصالح، وذكر الأدلة كما هي من الموافقات، وقسم استدل به على أن المعاملات ملاحظ فيها معنى التعبد - منكرًا لهذا الرأي - وقد ذكر أدلة الشاطبي وناقشها (2).
وفي كل ذلك لم ينسب شيئًا من ذلك إلى الإِمام الشاطبي لا في القسم الأول الذي استند عليه، ولا في الثاني الذي ناقشه.
وأجمل ملاحظاتي على ترتيبه لهذا الذي نقله مع بيان مقصود الإِمام الشاطبي.
1 -
أنه قال إنّ قصد الشارع أولًا وآخرًا في العبادات الامتثال ولا دخل لاعتبار المصالح فيها.
ونضيف إلى ذلك أن الشريعة جاءت لمصالح العباد سواء ما يسمى
(1) انظر تعليل الأحكام 296 - 297 - 298 - 299 - 300 - 301، وقارن مع الموافقات 2/ 222 - 223 - 224 - 225 - 226 - 227 - 228 - 229 - 230.
(2)
تعليل الأحكام 297 وقارن مع الموافقات 2/ 228 وما بعدها.
بالعبادات أو بالعاديات، وأن هذه المصالح متحققة في شريعة العبادات علمنا منها ما علمنا وجهلنا منها ما جهلنا، ومقصود المؤلف هنا أنه لا يجري فيها القياس ونحوه، والتنبيه هنا إنما هو تنبيه على العبارة، ذلك أن الشارع قصد في العبادات تحقيق مصالح الخلق، وأمرهم فيها بالامتثال، وعبارة الإِمام الشاطبي، هي:"الأصل في العبادات - بالنسبة إلى المكلف - التعبد دون الالتفات إلى المعاني" فبالنسبة للمكلف الوقوف عند حد الامتثال - وهو التعبد - دون النظر في المعاني، فيقف عند مجرد ما حده الشارع:"ولذلك كان الواقف من مجرد الاتباع فيه أولى بالصواب وأجرى على طريقة السلف الصالح .. "(1).
مع التسليم بعد هذا كله أن العبادات جاءت رحمة للعباد محققة للمصالح في الدنيا والآخرة.
2 -
أنه قال أن المعاملات نظر الشارع فيها من جهة تحصيل الأصل فيها، فينبغي أن تتبع بها المصالح فقط.
ومع التسليم بأنها جاءت لتحقق المصالح، إلّا أنه لا يقال أنها تتبع المصالح فقط، فإن من المعلوم أن الشارع أنزل شريعته لتحقيق مصالح العباد، ولم يقل أنها تتبع المصالح، ولم يستنبط أحد من المجتهدين هذه القاعدة فيقول: إن أحكام المعاملات تتبع المصالح: "ويجعل الميزان الصحيح هو المصالح فقط .. ".
وانظر إلى ما يقوله الإِمام الشاطبي:
"الأصل في العادات - بالنسبة إلى المكلف - التعبد دون الالتفات إلى المعاني، وأصل العادات الالتفات إلى المعاني".
ومعنى الالتفات إلى المعاني: جواز التعدية إما بطريق القياس أو بطريق العمل بالمصلحة المعتبرة شرعًا.
(1) الموافقات 2/ 222، 224.
فإذا عُلم المعنى الذي من أجله شُرع الحكم، وغلم وجوده في الفرع، عُرف هذا المعنى بطريق من طرق الاستنباط المعلومة ..
أما أن فريقًا من العلماء قال أن المعاملات تتبع المصالح، والمصالح فقط وهي الميزان الصحيح، لأن الشارع نظر في تشريعه للمعاملات من جهة تحصيل المصالح، فهذا أمر لم ينسبه المؤلف إلى أحد من العلماء، وإنما هو مذهب الطوفي، الذي حاول الانتصار له بنصب هذه المسألة للبحث (1).
والصواب كما تبين من قبل، أن الأئمة المجتهدين - نظروا في المعاملات فوجدوا أن الأصل فيها الالتفات إلى المعاني، فإذا علموا معنى معتبرًا في الشرع عدوه إلى الفرع بطريق معتبر من طرق الاستنباط.
أما اتباع المعاملات المصالح فقط وبلا ضبط فهذا لم يقل به أحد من العلماء كما أشرت آنفًا، وما زعمه المؤلف فيما سبق أن الضبط أمر مخترع قد تبين بطلانه، وهو ما يزال يجادل على ذلك، ويستنكر أن تخضع المصالح إلى ضبط المسالك المعلومة في أصول الفقه، كما سيأتي معنا في مناقشته لكلام الشاطبي مع أنه لم ينسبه إليه.
وإذا علم هذا - تبين خطؤه في قوله: وهذا القدر اتفق عليه العلماء، ومقصوده بالقدر الذي اتفق عليه العلماء هو أن العبادات قصد بها الشارع الامتثال أولًا وآخرًا ولا دخل لاعتبار المصالح فيها، وأن المعاملات شرعت أولًا من جهة تحصيل المصالح للأنام وهو الأصل فيها.
بقي أن نقف عند قوله: "فمنهم من يخرج بها عن التعبد ويجعل الميزان الصحيح هو المصالح فقط بيد أنه لا يدعي خروجها عن التشريع، بل يعترف
(1) قال المؤلف بعد أن دافع عن شذوذ الطوفي 295: "وإذا أردنا أن نحكم على هذا الرأي حكمًا صحيحًا بالقبول أو الرفض، وجب علينا أن نعرض لمسألة أخرى هي كالأساس لما نحن فيه، وهي هل نظر الشارع للمعاملات ملاحظ فيه التعبد أو مجرد عن ذلك، وهو موضوع البحث الآتي" 296 ثم نصب هذه المسألة التي أنا الأن بصدد مناقشته فيها، وأشرت إلى هذا ليعلم القارئ شدة حرص المؤلف في الانتصار لشذوذ الطوفي.
أنه ماض فيها، ولكن من هذا الطريق حسبما أرشدنا الشارع إجمالًا وتفصيلًا (1). ويقصد بذلك أن هذا الفريق من العلماء يوافقه على أن المعاملات تتبع المصالح فقط وهو الميزان الصحيح، وهذا واضح من عبارته ..
أما الطريق الذي نعرف به هذه المصالح فيحتاج إلى بيان، فإن كان مقصوده أن المصلحة لا ينبغي أنْ تخرج عن التشريع، بمعنى أنها لا تكون مصلحة إلّا إذا وافق عليها الشرع فهذا حق، وأن المصلحة هي ما أرشدنا الشارع إليها إجمالًا وتفصيلًا، فما فصلته النصوص من المصالح فلا نحيد عنه، إذ المصلحة متوفرة فيه، وما لم ينص عليه يعرف بمراجعة نصوص الشارع فما شهدت له بأنه مصلحة قبلناه وإن شهدت برده رددناه.
فإن كان هذا مقصوده من هذه العبارة، فالصواب فيه ظاهر ويقتضي هدم ما ردده في رسالته هذه من أن بعض النصوص لا تحقق المصلحة، وأنها لهذا لا بد من تعطيلها مؤقتًا، لأن من الأحكام ما يتبدل بتبدل المصالح، وأن دعوى الأصوليين في اشتراط الضابط أمر مخترع، إلى آخر ما ردده في كتابه.
والظاهر - والله أعلم -كما هو وارد في النصوص التي جاءت بعد ذلك أنه ما زال ينافح عن دعواه السابقة (2)، وأن عبارته هذه ما هي إلّا علامة بينة على اضطرابه، إذ يقال له: إذا كانت المصلحة لا تخرج عن التشريع، فما بالك تصرح بأن النص قد لا يحقق المصلحة، وأن هذا يقتضي تعطيله مؤقتًا، وإذا كان الطريق الذي تعرف به المصالح في المعاملات هو طريق الشارع إجمالًا وتفصيلًا، فما بالك تصرح بأن الضبط أمر مخترع عند الأصوليين، وحاصل ما عندهم هو أن المصلحة لا بد من اعتبارها، إذا أرشدنا إليها الشارع إجمالًا كأن يشهد لها بالاعتبار، فإن لم يشهد لها فلا تعتبر، لأنا لم نعرف طريقا شرعيًّا يعتبرها.
(1) رسالة التعليل 297.
(2)
إضافة إلى ما نقلته سابقًا. انظر ما ورد بعد ص 297 مثل 299، 370.
ومقابل هذا الخلط والاضطراب وعدم الضبط ننقل عبارات الإِمام الشاطبي - التي نقل المؤلف بحثه الرابع منها انتصارًا لمذهب الطوفي - لنرى هل أحسن النقل حين نقل أم لا؟ وهل أحسن الفهم؟ وهل أحسن المناقشة؟
حاصل ما يريد الشاطبي تقريره في المسألة الثامنة عشر والتاسعة عشر أن:
1 -
الأصل في العبادات - بالنسبة للمكلف - التعبد دون الالتفات إلى المعاني.
2 -
الأصل في العادات - بالنسبة للمكلف - الالتفات إلى المعاني (1).
3 -
الأول يقتضي الوقوف عند ما حده الشارع وهذا معنى التعبد.
4 -
الثاني - وهو أن الغالب في العادات الالتفات إلى المعاني فإذا وجد فيها التعبد فلا بد من التسليم والوقوف مع المنصوص، وذلك لأن التعبديات علتها مجرد الانقياد من غير زيادة ولا نقصان (2).
5 -
"أن العاديات وكثير من العبادات لها معنى مفهوم وهو "ضبط وجوه المصالح" إذ لو ترك الناس والنظر، لانتشر ولم ينضبط، وتعذر الرجوع إلى أصل شرعي، والضبط أقرب إلى الانقياد ما وجد إليه سبيل
…
" (3).
6 -
كل ما ثبت فيه اعتبار التعبد فلا تفريع عليه.
7 -
كل ما ثبت فيه اعتبار المعاني دون التعبد فلا بد من اعتبار التعبد فيه.
ثم أخذ في الاستدلال على ذلك وقال بعده: "
…
وما أشبه ذلك من المسائل الدالة على اعتبار التعبد، وإنْ عُقِلَ المعنى الذي لأجله شُرع الحكم، فقد صار إذن كل تكليف حقًّا لله، فإن ما هو لله فهو لله، وما كان للعبد فراجع
(1) الموافقات: 2/ 222.
(2)
الموافقات 2/ 226 - 227.
(3)
الموافقات: 2/ 227.
إلى الله من جهة حق الله فيه، ومن جهة كون حق العبد من حقوق الله، إذْ كان لله أن لا يجعل للعبد حقًّا أصلًا" (1).
وتبين من كلام الإِمام الشاطبي، أن مقصوده من بحث هذه المسألة، هو إثبات أن التكليف هو حق لله، سواء أكان من العبادات أو المعاملات، ولهذا ذكر الأدلة على أن "كل ما ثبت فيه اعتبار المعاني دون التعبد فلا بد من اعتبار التعبد ثم ذكر أربعة أوجه تدل على ذلك ..
وبعد معرفة ما يريد الشاطبي تقريره في الموافقات، أعود إلى المقارنة بين ما هو موجود في الموافقات وما نقله الشلبي مع بيان الفوارق:
أولًا: ذكر الإِمام الشاطبي ثلاثة أدلة على أن الأصل في العادات الالتفات إلى المعاني:
أولها: الاستقراء: وهو ما ذكره الشلبي سابقًا.
والفارق بينهما أن الشاطبي جعله دليلًا على ما ذكره وحرر الضوابط فقال مبينًا: إنا فهمنا من العادات اعتبار الصالح، وذكر لذلك أمثلة منها: جواز الدرهم بالدرهم في القرض مع حرمته في المبايعة، وحديث "لا يقضي القاضي وهو غضبان"، "ونهى عن بيع الغرر"، "ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب"
…
إلى غير ذلك في لا يحصى وجميعه يشير - بل يصرح - باعتبار المصالح للعباد، وأن الإذن دائر معها أينما دارت حسبما بينته مسالك العلة فدل ذلك أن العادات مما اعتمد الشارع فيها الالتفات إلى المعاني" (2).
والشاطبي -كما هو واضح من عبارته- أحسن الاستدلال على مقصوده وحرر ضوابط اتباع المصالح، وهو أن الشارع أذن في ذلك، وضوابطه هي اتباع مسالك العلة.
(1) الموافقات 2/ 231.
(2)
الموافقات 2/ 225.
والشلبي بضد ذلك نقل أول كلام الشاطبي وترك آخره الذي فيه هذه الضوابط.
وقد سبق في أكثر من موضع استنكاره لها وزعمه أن الضبط أمر مخترع.
ثانيًا: استدل الشاطبي بأن "الشارع، توسع في بيان العلل والحكم في تشريع باب العادات كما تقدم تمثيله، وأكثر ما علل فيها بالمناسب الذي إذا عرض على العقول تلقته بالقبول، ففهمنا من ذلك أن الشارع قصد منها اتباع المعاني لا الوقوف مع النصوص (1)، بخلاف باب العبادات فإن المعلوم فيه خلاف ذلك
…
" (2).
وأضاف الشلبي - بعد أن لخص الدليل الذي ذكره الشاطبي - قوله: "وهذا تنبيه منه سبحانه إلى أننا نسلك هذا الطريق ونسير بمعاملاتنا في وادي المصالح، ولا نجمد على المنصوص الذي ربما ورد لمصلحة خاصة وبطائفة خاصة، وبإقليم خاص وفي زمن خاص، وحاشا لشريعة الخلود أن تلزم الناس بهذا الإصر والأغلال التي صرحت في غير موضع بأنه رُفع عنهم"(3).
وهذه الإِضافة من المؤلف تخدم القضية التي ينافح عنها في كتابه، وما زال يمفد لها، ويقوّي من شأنها، والشبهة التي أصابته ما زالت تلاحقه وهي ظاهرة في قوله: "
…
ولا نجمد على المنصوص الذي ربما ورد لمصلحة خاصة
…
" فهو يرى أن النص قد لا يحقق المصلحة، وبذلك يجب أن نتعرف عليها ولو خارج النصوص، ونسير بمعاملاتنا في وادي المصالح هكذا بغير حرمة للنص وبغير شهادة من الشرع لهذه المصالح المزعومة.
(1) الموافقات 2/ 224.
(2)
يعني بعدم الوقوف عندها أي عدم الاقتصار على ما نصت عليه، بل الحمل عليها باتباع المعاني المناسبة شرعًا.
(3)
تعليل الأحكام 296 - 297.
بل إنه يرى أن وضع هذه الضوابط نوع من الإِصر والأغلال.
أمّا مسألة خصوص بعض الأحكام فلم يقل أحد من العلماء إن خصوصيات الرسول عليه الصلاة والسلام تلزم المكلفين ..
أمّا بقية الأحكام وهي معظم الشريعة فلم يقل أحد من أهل العلم أن من نصوصها ما ورد لمصلحة خاصة، وبطائفة خاصة، وبإقليم خاص، وفي زمن خاص وهذه الدعوى - مع خطورتها - لم يقدم لها المؤلف دليلًا إلّا قوله أن بعض المصالح تتغير، وأن النص لا يحقق المصلحة في بعض الأحيان، وهذه كما ترى دعوى أخرى، فلم يبق في يديه إلّا قوله: إن هذا عمل الصحابة فكان إجماعًا، وقد بينت في البحوث السابقة أن الصحابة لم يغيروا ولم يبدلوا وما فهمه واتبعد ما هو بيقين، ولكن شُبِّهَ له.
والحاصل أن هذه الإِضافة على كلام الشاطبي - مع خطورتها - ليس لها وزن علمي لأنها مجرد دعوى، ووسعت البيان هنا ضرورة لإِبطال قوله بعد ذلك أن هذا قدر اتفق العلماء عليه!!!
وفكرته هذه وما ينبني عليها لا يزيدها إدخالها مع كلام الشاطبي إلّا خذلانا، وذلك لما بينته من الفرق بين ما نقلته عن الأصوليين، ومنهم الشاطبي وهو الالتزام بالضوابط الشرعية، وتوقير النصوص، والشعور بحرمتها وأنها رحمة متضمنة للعدل والمصلحة والخير واتباع المعاني تحت العمل بالضوابط وبين شذوذ صاحب رسالة التعليل الذي يرى المصلحة
…
خارجة عن النص في بعض الأحيان ويصر على عدم الضبط (1)، ويعطل بعض النصوص مؤقتًا، تجديدًا لشذوذ الطوفي، بل وزيادة عليه.
(1) وهو شديد الاضطراب في هذه القضية، فتارة ينكر على الأصوليين اتباعهم الضوابط ويزعم أنها أمر مخترع، وتارة يستنكر اعتبار مطلق المصلحة في مقابلة النص ولو لم يكن إليها حاجة، انظر 300، وأما إذا اعتبرنا أن "الحاجة" غير منضبطة - وهي كذلك - فإن الاضطراب يرتفع ويحل محلة الإِصرار على رفع الضوابط.
ثالثًا: قال الإِمام الشاطبي إن العقول قد تدرك بعض المصالح كما كان يصنعه أهل الفترات، حيث اتبعوا بعض الأحكام - اتباعًا لبعض المعاني - فجرت بذلك مصالحهم، وذلك ما كانوا يعملونه في الجاهلية، كالدية والقسامة، والاجتماع يوم العروبة - وهي الجمعة للوعظ - والقراض وكسوة الكعبة، وأشباه ذلك، ومع ذلك فإنهم قصّروا في جملة من التفاصيل فجاءت الشريعة لتتم مكارم الأخلاق، وأما في التعبديات فكان الصحيح منها نادرًا، وهو ما أخذوه من ملة إبراهيم عليه السلام (1).
ثم جاءت الشريعة وأقرت من هذه الأحكام ما أقرت، ورفضت منها ما رفضت، وما قبلته أصبح من نظامها لا على أنه حكم الجاهلية خالط حكم الإِسلام، وأن الإِسلام تأثر به، بل لأن الإِسلام اختاره وأقره، ولو لم يقره لم يكن منه البتة، وهو بهذا الإِقرار أصبح من شريعة الإِسلام، وأخذ شرعيته من إقرار الإِسلام به.
وقد صرح الإِمام الشاطبي أن هذا الإِقرار لهذه المصالح من الشارع حيث قال: "ومن ها هنا أقرت هذه الشريعة جملة من الأحكام التي جرت في الجاهلية كالدية والقسامة
…
" (2).
ونحن نطالب من يريد اتباع المصالح حيث كانت أن يأتي بإقرار من الشارع، على أن هذا الأمر مصلحة وليس بمفسدة لا نريد منه أكثر من ذلك.
والمصالح حينئذ قسمان كما قرره الشاطبي نفسه:
الأول: ما لا يمكن الوصول إلى معرفته بالمسالك المعهودة - ويقصد بالمسالك الإِجماع والنص والإِشارة والسير والمناسبة وغيرها - ولا يطلع عليه إلا بالوحي، فهو موقوف على التعبد المحض، ومعنى هذا أن من زعم أنه يدرك
(1) الموافقات 2/ 225 - 226.
(2)
المصدر السابق 2/ 226.
المصلحة منه، ويريد أن يعديها إلى غير محلها فهو مخطئ وأمره مردود عليه لأنه لا سبيل إلى إدراكها.
الثاني: "ما يمكن الوصول إلى معرفته بمسالكه المعروفة كالإِجماع والنص والإشارة والسبر والمناسبة وغيرها - وهذا القسم هو الظاهر الذي نعلل به ونقول أن شرعية الأحكام لأجله"(1).
وهذه الضوابط المذكورة هنا هي من معنى قول الشاطبي سابقًا "ومن ههنا أقرت هذه الشريعة جملة من الأحكام".
نعم لابد من الإِقرار من الشارع، وقد علمنا أنه قد كفنا عن طلب القسم الأول، وأمرنا بالقياس على القسم الثاني، والعمل به شريطة أن لا يخالف إجماعًا أو نصًا ذلك أن الإِجماع والنص .. وغيره هي الطرق التي بها تعرف المصلحة وهي الدلالة عليها فكيف يتصور أن تعارضها المصلحة أو تطلب خارجًا عنها.
وإذا تحصل مقصود الشاطبي ننظر بعد ذلك في صنيع الدكتور الشلبي فإنه ذكر هذا الدليل مختصرًا فقال:
"إنّ أرباب العقل في زمن الفترات قد اعتبروا المصالح في كثير من العادات، فلما جاءت الشريعة أقرت منها الشيء الكثير، وعدلت ما انتابته عوامل متنازعة من الإِصلاح والإِفساد، ولم تبطل إلّا ما كان منشؤه هوى النفوس وطغيان الشهوات، وأما عباداتهم فضلت فيها عقولها ولهذا هدمت الشريعة غالبها إلا ما نقل لهم من شريعة الخليل عليه السلام" ثم قال إن هذا القدر اتفق عليه العلماء (2).
والفارق بين معالجة الإِمام الشاطبي لهذه المسألة ومعالجة الشلبي واضح جدًا، فإن الإِمام الشاطبي بيّن إلتفات الشارع إلى المعاني في باب العادات فإذا
(1) المصدر السابق 2/ 230.
(2)
الموافقات 297.
علمنا المعنى اتبعناه تحقيقًا للمصلحة، وأنه لا بد من إقرار الشارع وشهادته لهذا المعنى بالمناسبة، وإلّا تبينا أن هذا الذي ظنناه مصلحة ليس كذلك ..
وأما الشلبي فإنه يسير فيما يخدم دعواه، ولذلك تجده لم يذكر الضوابط التي ذكرها الإِمام الشاطبي، ولم يحرر المسألة كما حررها، فبينما تجد الشاطبي يصرح بما أقرته الشريعة، ويبين أنه جملة من الأحكام، تجد الشلبي يقول: "أقرت منها الشيء الكثير
…
ولم تبطل إلّا ما كان منشؤه هوى النفوس وطغيان الشهوات" هكذا على سبيل الحصر .. لم تبطل إلّا المصلحة التي حمل عليها هوى النفس وطغيان الشهوات، وأما التي حمل عليها العقل فشيء آخر، فإذا ما جاء أحد من العقلاء - في غير طغيان ولا هوى - وقال إن هذه مصلحة فاتبعوها فينبغي أن نتبعها لأن بعض المصالح التي جاءت بها بعض النصوص تتغير وما دام إقرار الشارع لها ليس شرطًا والضبط أمر مخترع فلا بد من اتْباعِ العقلِ بدون الرجوع إلى أصل معين.
والحق أنه لا عبرة بمثل هذا النوع من المصالح ما لم يشهد له الشرع بعدم الرد، فإن رده فهو مردود سواء أكان الحامل عليه هوى نفس أو طغيان أو نية خالصة تريد النفع والخير (1) وذلك أنه قد تقرر على سبيل القطع أن العقل ليس بشارع، وأنه لا يستقل بإدراك المصالح ودفع المفاسد، وأنه لا بد من شهادة الشارع للمصلحة بأحد المسالك المعروفة فإن لم يشهد ورد - ذلك الذي ظنناه مصلحة - فإنه مردود بالإِجماع، والعبرة بما حده الشرع وبينه ..
وأستطيع هنا أن أقول - نقضًا لما زعمه شلبي وبيانًا للحق - أن هذا
(1) وكم وقع العبّاد والزهاد وكثير من الدعاة في مثل هذا، يقولون إن هذا طريق إلى الآخرة، وهذا طريق التي الغاية المطلوبة بنية خالصة، ثم لا يدركون مبتغاهم، وينضاف التي ذلك مجاوزة الشريعة وعدم الوقوف عند ما حدته أو الرجوع إلى ما يخالف المصلحة - بزعمهم - بالتأويل ونحوه، ولا بد لكل مسلم أن يقف عند ما حدته الشريعة، وإنْ نازعته نفسه تطلب اتباع المصالح المزعومة.