الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بأسفله حتى انكسرت" (1). فترك هؤلاء الصحابة الخمر بخبر واحد، مع أنها كانت حلالًا لهم بيقين فترة طويلة من الزمن ولم يقل: "ولا واحد منهم نحن على تحليلها حتى نلقى رسول الله مع قربه منا، أو يأتينا خبر عامة" (2) ولم يقولوا كيف نزيد على القرآن بخبر الواحد، كما أنهم لم يقولوا في تحولهم إلى الكعبة كيف نترك قبلتنا التي نصلي إليها هذه المدة الطويلة ونتبع هذه القبلة الجديدة بخبر واحد، لم يقولوا هذا ولا ذاك.
وقد استمرت هذه العقيدة وهي اتباع ما ثبت من الوحي في جميع أمور الدين، وتمسّك بها التابعون وأئمة السلف لا يغيرون فيها شيئًا أسوة بالجيل القدوة جيل الصحابة - رضوان الله عليهم -، وسنذكر بمشيئة الله اتفاقهم كما نقله العلماء الثقات على ما بيناه وبالله التوفيق.
المطلب الرابع
ذكر اتفاق الصحابة والتابعين على ذلك كما نقله الثقات من أهل العلم
سنذكر في هذا المطلب ما يدل على أن الصحابة والتابعين على تلك العقيدة ولا يعلم منهم مخالف لذلك، قال الإِمام الشافعي: "ولو جاز لأحد من الناس أن يقول في علم الخاصة: أجمع المسلمون قديمًا وحديثًا على تثبيت خبر الواحد والانتهاء إليه، بأنه لم يعلم من فقهاء المسلمين أحد إلا وقد ثبته: جاز لي.
(1) فتح الباري 13/ 232.
(2)
الرسالة رقم 1122، وهذا الذي قاله الإِمام الشافعي هو من السمات التي برزت في الجيل الأول وهي جدية الأخذ من الكتاب والسنة حتى وهم في حال الركوع أو في حال الشراب لا يتأخرون لحظة ولا يقدّمون عقولهم على أحكامهما ولا يتفلسفون على نصوصها، ومقاصدها كما صنعت الفرق ومن تأثر بهم من الأجيال المتأخرة فيضعون بين قلوبهم وبين مضمون النص حجبًا مكثفة من الشروط المحدثة حتى إذا وصل مضمونه إلى القلوب وصل اليها وهي فاترة متقلبة بين شتى الظنون والاحتمالات.
ولكن أقول: لم أحفظ عن فقهاء المسلمين أنهم اختلفوا في تثبيت خبر الواحد بما وصفت من أن ذلك موجودًا على كلهم" (1).
وسنعضد كلام الإِمام الشافعي بأكثر من طريق من ذلك:
الأول: ما قاله أبو الحسن الأشعري في رسالته إلى أهل الثغر بباب الأبواب (2) وهو يتحدث عن حجية أخبار الرسول وأنها تفيد العلم.
قال: " .. وصارت أخباره عليه السلام أدلة على صحة سائر ما دعانا إليه من الأمور الغائبة عن خواسنا وصفات فعله وصار خيره عليه السلام عن ذلك سبيلًا إلى إدراكه وطريقًا إلى العلم بحقيقته وكان ما يستدل به من أخباره عليه السلام على ذلك أوضح دلالة من دلالة الأعراض التي اعتمد على الاستدلال بها الفلاسفة ومن اتبعها من القدرية وأهل البدع المنحرفين عن الرسل عليهم السلام"(3).
"فأخذ سلفنا رحمة الله عليهم ومن تبعهم من الخلف الصالح بعد ما عرفوه من صدق النبي صلى الله عليه وسلم فيما دعاهم إليه من العلم بحدثهم ووجود المحدث لهم (4) بما نبههم عليه من الأدلة - إلى التمسك بالكتاب والسنة وطلب الحق في سائر ما دعوا إلى معرفتها منها، والعدول عن كل ما خالفها"(5). "فلما
(1) الرسالة مسألة رقم 1248 - 1249، هكذا في الأصل "موجودًا على كلهم" والمعنى موجود عندهم.
(2)
سأعتمد على النسخة التي تضمن كتاب درء تعارض العقل والنقل نصوصًا. منها، وذلك لأنها حتى الآن تعتبر أوثق النسخ وأحسنها تحقيقًا، فهي نسخة محققة على خمس نسخ للجزء السابع من الكتاب المذكور، مقابلة جميع هذه النسخ على نسخة مصورة بمعهد المخطوطات وأخرى بمكتبة "روان كشك" باستانبول، وعلى النسخة المطبوعة، فهي رسالة محققة على ثمان نسخ قام بذلك الدكتور عمد رشاد سالم رحمه الله، انظر هامش كتاب درء تعارض العقل والنقل 7/ 186.
(3)
الدرء 7/ 209 وهؤلاء هم القائلون بأن الأدلة النقلية لا تفيد العلم، وسيأتي بيان ذلك إن شاء الله.
(4)
أي العلم بأنهم مخلوقون وأن لهم خالق هو الله سبحانه وتعالى.
(5)
المصدر السابق 7/ 212.
كان هذا واجبًا لما ذكرناه عند سلف الأمة والخلف كان اجتهاد الخلف - في طلب أخبار النبي صلى الله عليه وسلم، والاحتياط في عدالة الرواة واجبًا عندهم ليكونوا فيما يعتقدونه من ذلك على يقين، ولذلك كان أحدهم يرحل إلى البلاد البعيدة في طلب الكلمة تبلغه عن رسول الله - صلي الله عليه وسلم - حرصًا على معرفة الحق من وجهه وطلبًا للأدلة الصحيحة فيه حتى تثلج صدورهم بما يعتقدونه وتسكن نفوسهم إلى ما يتدينون به ويفارقوا بذلك من ذمه الله في تقليده لمن يعظمه من سادته بغير دلالة تقتضي ذلك، ولما كلفهم الله عز وجل ذلك وجعل أخبار نبيه صلى الله عليه وسلم طريقًا إلى المعارف بما كلفهم إلى آخر الزمان - حفظ أخباره عليه السلام في سائر الأزمنة ومنع من تطرق الشبه عليها حتى لا يروم أحد تغيير شيء منها أو تبديل معنى كلمة قالها إلا كشف الله تعالى ستره وأظهر في الأمة أمره حتى يرد ذلك عليه العربي والعجمي ومن قَدْ أُهّل لحفظ ذلك من حملة علمه عليه السلام، والمبلغين عنه، كما حفظ كتابه حتى لا يطيق أحد من أهل الزيف على تحريك حرف ساكن فيه أو تسكين حرف متحرك إلا يبادر القراء في رد ذلك عليه مع اختلاف لغاتهم وتباين أوطانهم لما أراده الله عز وجل من صحة الأداء عنه ووقوع التبليغ لما أتي به نبينا عليه السلام إلى من يأتي في آخر الزمان لانقطاع الرسل بعده (1) واستحالة خلوهم من حجة الله عليهم حتى قد ظهر ذلك بينهم، وأيست من نيله خواطر المنحرفين عنه وجعل الله ما حفظه من ذلك وجمع القلوب عليه حجة على من تعبده بعد النبي عليه السلام بشريعته ودلالة لمن دعا إلى قبول ذلك ممن لم يشاهد الأخبار وأكمل الله لجميعهم طرق الدين وأغناهم بها عن التطلع إلى غيرها من البراهين ودل على ذلك بقوله تعالى:
(1) قارن مع ما ذكرته من نصوص أهل العلم في معنى الحفظ وقد سبق ص 120 - 121 تجد كلامهم يؤكد بعضه بعضًا ويخرج من مشكاة واحدة.
(2)
المائدة: آية 3 الدرء 7/ 213 - 214 - 215.
ويفيدنا هذا النص الثمين مايلي:
1 -
أن دلالة الأخبار تفيد العلم وهي أوضح مما يزعمه أهل البدع من أن المفيد للعلم هو النظر العقلي أما السمعيات فلا.
2 -
أن هذا هو مذهب السلف ومن تبعهم من الخلف، ولذلك كانوا يحرصون على طلب الحديث، لأن هذه الأخبار هي التي تفيد اليقين في الاعتقاد وتثلج بها الصدور.
3 -
أن أخباره محفوظة كما أن القرآن محفوظ، وما كان من الأخبار ليس بصحيح النسبة إلى الرسول عليه الصلاة والسلام لا يمكن أن يجهله العلماء بل لا بد أن ينكشف زيفه.
4 -
إنه بهذا -أي بدلالة الأخبار التي صحت نسبتها- تقوم الحجة على الناس إلى يوم القيامة في جميع أمور دينهم لا فرق بين العقيدة وغيرها، وأن ذلك يغنيهم عن غيرها من البراهين.
الثاني: ما قاله ابن عساكر:
قال ابن عساكر (1): "عن مسلك أهل الأهواء ومنهج أهل السنة وهو يشرح قول الإِمام الشافعي: قال: "وإنما يعني -والله أعلم- بقوله من ارتدى بالكلام لم يفلح، كلام أهل الأهواء الذين تركوا الكتاب والسنة وجعلوا معولهم عقولهم وأخذوا في تسوية الكتاب عليها، وحين حُملت عليهم السنة بزيادة بيان لنقص أقاويلهم اتهموا رواتها وأعرضوا عنها، فأما أهل السنة فمذهبهم في الأصول مبني على الكتاب والسنة، وإنما أخذ من أخذ منهم في العقل إبطالًا لمذهب من زعم أنه غير مستقيم في العقل (2).
(1) هو أبو القاسم علي بن الحسين بن هبة الله بن عبد الله، وشهرته ابن عساكر (توفي 571 هـ). انظر شذرات الذهب 4/ 239 - 240، ومقدمة كتاب تبيين كذب المفتري - الناشر دار الكتاب العربي طبعة 1399 هـ.
(2)
تبيين كذب المفتري 345 وانظر الدرء 7/ 252 - 253.
وهذا النص يؤكد الذي قبله من أن مذهب أهل السنة أن الشريعة كتابًا وسنة تفيد العلم ولذلك بنوا أصولهم في الاعتقاد عليها متبعين في ذلك خبر الكتاب وخبر الرسول.
الثالث: ما قال الإِمام ابن تيمية - جوابًا عن سؤال وجه إليه عن أخبار الآحاد (1) - قال:
"وما زال العلماء من الصحابة والتابعين والفقهاء بعدهم رضي الله عنهم أجمعين في خطابهم وكتابهم يحتجون بها في موارد الخلاف وغيره، بل إذا كان في الحديث وعيد كان ذلك أبلغ في اقتضاء التحريم على ما تعرفه القلوب وقد تقدم التنبيه على رجحان قول من يعمل بها في الحكم واعتقاد الوعيد، وأنه قول الجمهور وعلى هذا فلا يقبل سؤال يخالف الجماعة"(2).
ويقصد بالجماعة جماعة الصحابة والتابعين، وتبعهم على ذلك جمهور العلماء، ومثله قول تلميذه الإِمام ابن القيم وقد نقلته عنه سابقًا، فها هنا إذن مرحلتان: الأولى ذكر اتفاق جماعة الصحابة والتابعين وهي القاعدة التي نبني عليها وقد توطدت أركانها بهذه النقول (3)، والمرحلة الثانية: اتباع جمهور العلماء لهم. ومن خلال مجموعة هذه النقول عن الأئمة الثقات العارفين بأصول العلم وفروعه المتثبتين في نقل الأخبار الغيورين على عقيدة الإِسلام، وبعد ذكر الأدلة من القرآن الكريم والسنة وعرض التطبيقات التي تدل على عقيدة الصحابة أستطيع أن أقول أن الشريعة الإِسلامية - وهي عبارة عن نصوص
(1) مجموع الفتاوى الكبرى 20/ 286.
(2)
مجموع الفتاوى الكبرى 20/ 286.
(3)
انظر ما سبق ص 158 حيث نقل ابن القيم الإِجماع عن الصحابة والتابعين وسنؤكد ذلك عند الحديث عن نشأة القول بالظنية، وأنها صنيعة أهل الأهواء، وخلافهم كما هو معلوم غير معتبر، وقد خدعوا بشبههم بعض أهل السنة فجعلوهم يرددون مقالتهم، ولكن الجمهور كما نقلنا عن ابن تيمية آنفًا متبع لمذهب الصحابة والتابعين، وسنذكر أهم الشبه التي أدت إلى الانخداع بمقالة أهل الأهواء ونجيب عنها إن شاء الله.