الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث
تطبيقات على أركان القياس وبيان شرط التعليل بالحكمة
المطلب الأول
تطبيقات على أركان القياس
إن العمل بالقياس على هذا النحو يكفل لنا ثبات أحكام الشريعة التي ترتبط بالأحكام القياسية، فالحكم الناتج عن القياس ينبني على "الأصل" وهو النص، وعلى "حكمه" وهو ثمرة "النص" التي استخرجها المجتهد منه سواء بطريق "العلة" وهي الوصف الظاهر المنضبط، أو ما شابهها من الحكم (1)، فالأصل وحكمه ثابتان، لأن "النص" الذي هو الأصل ثابت لا يتغير ولا يتبدل، لأنه وُضح على الأبدية فهو معصوم، والثبات ناتج عن عصمته - وقد سبق - أن ذلك متحقق في الوحي، وأنه كذلك أبداً حتى لو تصورنا استمرار الحياة الدنيا وعدم انقطاعها و"حكمه" كذلك، لأنه مدلول النص، فالنص ومدلوله ثابتان ولا يتصور "نص" بغير مدلول ولا معنى لثبات النص إلّا إثبات مدلوله، هذا إذا كان مدلوله واحداً. أما إذا اتسع معناه وتعددت مدلولاته فهي ثابتة أيضاً، لأن ثباتها هنا هو علم المجتهد بشمول النص لها دون غيرها.
فكأن النص وعاءً، تارة يكون فيه معنى واحد فدلالة النص عليه ثابتة، وتارة يكون فيه أكثر من معنى، فيعلمها المجتهد وتكون ثابتة بحيث يتبين شمول هذا النص لهذه المعاني، فالأصل إذاً وما دل عليه ثابت.
(1) سيأتي إن شاء الله تفسير ذلك والاستدلال عليه.
أما "العلة" فهي ثابتة كذلك ودليل ثبوتها ظهورها وانضباطها، وهذا قدر متفق عليه في أوصاف "العلة" ومعنى ظهورها وانضباطها أي ثباتها وعدم اختلافها باختلاف الأشخاص وباختلاف البيئات والأحوال، فالنَّسَبُ يثبت بقيام فراش الزوجية أو الإِقرار، وهذا فيه معنى الظهور، وفيه أيضاً معنى الانضباط تماماً مثل كون "السكر" هو العلة لتحريم الخمر فهو أمر ظاهر في أن من شرب "المسكر" أصابه السكر عادة وكذلك هو ثابت لأنه متعلق بالخمر ذاتها وبكل مسكر، فهي إذاً علة ظاهرة ومنضبطة وهذا معنى ثباتها، ولذلك ربط الشارع الحكم بها، فعندنا إذاً ثلاثة أركان "أصل" و"حكم" و"علة الحكم" وقد ظهر لنا معنى الثبات في كل، وهذه هي أعظم أركان القياس فهو إذاً طريق يؤكد ثبات الأحكام المرتبطة به.
بقي أن ندرس أمرين مهمين قد يظنهما كثير من الدارسين منافيين لذلك.
الأول: كون "الحكمة" وهي الأمر المناسب الذي قصد الشارع إلى جلبه إن كان نفعاً أو دفعه إن كان مفسدة - أن هذه الحكمة إذا رُبط الحكم بها أدى ذلك إلى الاضطراب والتغير وهذا ينافي الثبات، وعليه فلا يجوز ربط الحكم بالحكمة مطلقاً (1).
والثاني: أن الركن الرابع من القياس وهو "الفرع" لا بد من إثبات صلاحيته ليكون محلًا لحكم الأصل وذلك لا يكون إلاّ عن طريق "العقل" وإذا دخل العقل هنا أصبح القياس حكماً عقلياً، وتد تقرر فيما سبق أن منهج الاستنباط منهج شرعي لا عقلي، فإما أن يكون - عقلياً - وهو ينافي الثبات (2)،
(1) سيأتي بيان كونه مذهباً لبعض الأصوليين.
(2)
لأن العقل إذا استقل بالحكم - وهو قاصر وهذه هي طبيعة العقل البشري، قد يحكم بتغيير النص أو إبطاله وهذا ينافي الثبات، وانظر ما سبق في بيان أن دخول العقل فيما لم يُخلق له وهو إنشاء العقائد والأحكام يدل على تورطه فيما لا يقدر عليه وقد أدى بالبشرية إلى اختلاف وشر كثير مستطير ص 287 - 288.
وإما أن يكون شرعياً ولا منافاة حينئذ، ولكن لابد من تفسير لعمل العقل في القياس وهل إدراكه لكون الفرع محلاً صالحاً لنقل الحكم إليه يوجب أن يكون القياس حكماً عقلياً أم لا يوجب ذلك.
وبدراسة هذين الأمرين وبيانهما يكون الجواب وبالله التوفيق، ويتجلى لنا مفهوم الثبات والشمول من ناحية الأحكام القياسية.
المطلب الثاني
التعليل بالحكمة (1) وأثره على ثبات الأحكام وشمولها
تبين لنا كيفية دلالة القياس على الثبات، وذلك لأن كلًا من الأصل وحكمه ثابتان وعلة الحكم ثابتة لأنها ظاهرة منضبطة، أما الحكمة فقد وقع الاختلاف بين الأصوليين في جواز التعليل بها، ويرجع خلافهم إلى سبب جوهري وهو كون "لحكمة" تارة تظهر وتنضبط وتارة لا تظهر ولا تنضبط، فمن اشترط ظهورها وانضباطها - كما اشترط في العلة - لم يعلل بها والحال عنده أنها لا تنضبط ومن لم يشترط علل بها أيضاً واكتفى بتضمين الحكمة لجلب المصلحة ودفع المفسدة، وهناك رأي ثالث ارتبط بظهور الحكمة وانضباطها أو عدم ذلك فإن ظهرت وانضبطت علل بها وإن لم تظهر وتنضبط لم يعلل بها.
وهذه الآراء الثلاثة لها تأثيرات على معنى الثبات والشمول في الأحكام التي يجري فيها القياس.
ولبيان صلة كل رأي بما نحن فيه أقول: إن منع التعليل بها مؤد إلى المحافظة على ثبات الحكم إذ أنه لا يقع حينئذ اختلاف ولا تغيير إذا لم نربط الحكم بها - وفي هذا سد للتعليل بها سواء انضبطت أو لم تنضبط.
(1) الحكمة هي الأمر المناسب الذي تضمنه الوصف الظاهر، فالعلة في قصر الصلاة هي السفر، والسفر هو الوصف الظاهر المنضبط الذي رُبط به الحكم - وهو القصر - وحكمته هي وجود المشقة فيه غالباً، فإذا عمل المكلف بهذه الرخصة فإن الحكمة وهي جلب المصلحة ودفع المفسدة تتحقق له والمصلحة هي التيسير عليه، والمفسدة هي المشقة اللاحقة به، وسيأتي تفصيل مذاهب الأصوليين فيها إن شاء الله.