الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث
المصلحة ودلالتها على الثبات
والمقصود بهذا المبحث هو دراسة أثر العمل بالمصلحة على ثبات الشريعة، ومن ضوابط المصلحة أن لا تخالف مقصود الشارع، ومقصود الشارع يُعرف من الكتاب والسنة والإِجماع .. فإذا خالفت المصلحة نصاً من كتاب أو سنّة أو إجماع فهي مصلحة ملغاة .. والمصلحة أقسام ثلاثة عند الجمهور:
الأول: مصلحة شهد الأصل الشرعي لنوعها أو جنسها.
الثاني: مصلحة شهد نص شرعي بخلافها.
الثالث: مصلحة لم يشهد الشرع ببطلانها ولا باعتبارها وهو غير موجود في الشريعة وليس له مثال واقع.
وقسمها الغزالي إلى أربعة أقسام:
الأول: مصلحة شهد الشارع لنوعها وهي تدخل في باب القياس.
الثاني: مصلحة شهد نص شرعي بخلافها.
الثالث: مصلحة تناقض نصاً شرعياً، وهي الباطلة والملغاة.
الرابع: المصلحة المسكوت عنها في الشرع، وهي الغريبة.
والقسمان الثالث والرابع مردودة بإجماع أهل العلم كما حكاه الغزالي (1).
(1) نظرية المصلحة 15 - 19 وانظر المستصفى 1/ 284.
وبهذا يتبين أن المصلحة التي تعارض نصاً شرعياً مردودة بإجماع أهل العلم، وتسمى هذه المصلحة مصلحة باطلة أو ملغاة.
وقد قسم الإِمام الشاطبي المناسب إلى ثلاثة أقسام:
الأول: ما شهد له الشرع بالقبول فمقبول بلا خلاف.
الثاني: ما حكم الشارع برده فلا قبول له، لأن كونه مناسباً لا يقتضي حكما بنفسه وإنما ذلك مذهب أهل التحسين والتقبيح العقليين وهما مردودان (1)، وقد تبين فيما سبق أن العقل ليس بشارع ولا محسن ولا مقبح وأنه تابع للشرع فلا يتقدم بين يديه.
الثالث: ما سكتت عنه الشواهد الخاصة فلم تعتبره ولم تلقه وهو قسمان:
(أ)"أن يرد نص على وفق ذلك المعنى كتعليل منع القتل للميراث فالمعاملة بنقيض المقصود، تقدير أن لم يرد نص على وفقه مناسب غريب"(2).
وهذا المثال الفرضي من الشاطبي وهو القول بحرمان القاتل من الميراث إذا فرض أنه لم يوجد نص يقضي بالمنع إنما هو باعتبار المعاملة بنقيض المقصود.
ويعلق الدكتور حسين حامد في رسالته نظرية المصلحة - عند ذكره لتقسيم الجمهور - على ما قاله الشاطبي مبيناً أن المعاملة بنقيض المقصود أصل شرعي شهدت له النصوص في الجملة، وإذا كان الحال كذلك فإن هذه المصلحة مردودة إلى أصل شرعي تدخل تحت جنس تصرفات الشارع (3).
وبهذا الجواب يتأكد ما قاله قبل ذلك من "أن الغزالي أنكر وجود هذا النوع من المصالح، على أساس أنه لا يتصور أن توجد واقعة مسكوت عنها في
(1) الاعتصام 2/ 113.
(2)
الاعتصام 2/ 115.
(3)
نظرية المصلحة 17.
الشرع لأن هذا يتضمن أن الله قد ترك الناس سدى وأن الدين لم يكمل والنعمة لم تتم وهذا خلاف ما أخبر به الشارع سبحانه وتعالى" (1).
(ب) أن يشهد لذلك المعنى جنس اعتبره الشارع في الجملة دون أن يرد عليه دليل معين، وهو الاستدلال المرسل و"المصلحة المرسلة".
وحاصل ما يقرره الإِمام الشاطبي - من مذهب مالك رضي الله عنه أن ما لم يشهد الشرع للمعنى المناسب بالقبول سواء بدليل معين أو بغير دليل معين - بحيث يشهد لذلك المعنى جنس اعتبره الشارع في الجملة - فهو مردود قطعاً، وحكى بالإِجماع رحمه الله على أن المصلحة المعتبرة شرعاً هي ما لم يعارض مقاصد - الشرع ولا أصلًا من أصوله ولا قاعدة من قواعده والمردودة بضد ذلك (2)
مثال: إلزام الملك الذي جامع أهله في نهار رمضان بصيام شهرين متتابعين. فقد وردت الشريعة بأن كفارة الوطء في نهار رمضان إيجاب أحد ثلاث خصال: العتق أو صيام شهرين متتابعين، أو إطعام ستين مسكيناً، والعلماء ما بين قائل بالتخير وقائل بالترتيب، فمن قال بالترتيب قدم العتق على الصيام ومن قال بالتخير فلا مانع من تقديم أحد الخصال الثلاث (3).
والمصلحة التي يريد الشرع تحصيلها تتحقق بأحد الأمرين: إما التخير أو الترتيب.
وأفتى بعض العلماء ملكاً جامع أهله في نهار رمضان بخلاف ما سبق، حيث أوجب عليه الصيام زجراً له عما ارتكب، يطلب بذلك تحصيل مصلحة مبنية على معنى مناسب عنده وهو زجر الملك عن فعله، ولا يتحقق ذلك إلّا إذا ألزمه بالصيام، أما العتق، أو إطعام ستين مسكيناً فإنه يسهل عليه ولا ينزجر به.
(1) الاعتصام 2/ 115.
(2)
الاعتصام 2/ 113.
(3)
انظر المسألة في المغنى 3/ 140.
وهذا المعنى لم يشهد له أصل شرعي بل على الضد من ذلك يعارضه الحكم الشرعي - سواء أكان القول بالتخير أو الترتيب - ومعارضة هذا الحكم لتلك المصلحة يجعلها مصلحة ملغاة، والعقل لايستقل بدرك المصلحة فإذا لم يشهد لها الشرع بل عارضها فهي مردودة (1).
فإلزام الملك بالصيام مصلحة لا تحقق مقصود الشارع، و"كل مصلحة لا ترجع إلى حفظ مقصود فهم من الكتاب والسنة والإِجماع وكانت من المصالح الغريبة التي لا تلائم تصرفات الشرع فهي باطلة مطرحة ومن صار إليها فقد شرع
…
" (2).
والمصلحة التي تصادم نصاً أو تتعرض له بالتغيير مصلحة مردودة لأنها ملغاة. ويصرح الغزالي أيضاً بذلك حيث يقول: "نحن مع المصالح بشرط ألا تهجم على نص الرسول بالرفع"(3).
ويحصل الدكتور حسين حامد في كتابه نظرية المصلحة، نصوصاً كثيرة من كتب الغزالي الثلاثة: المستصفى وشفاء الغليل والمنخول فيقول: "فالذي يؤخذ من هذه النصوص أن الغزالي [في مجموع كتبه] لا يعمل بمصلحة في مقابلة نص شرعي، كتابًا أو سنّة، إذا كان هذا النص لا يحتمل التأويل، لأن العمل بالمصلحة في مقابلة هذا النص "يغير النص" أو"يصدم النص" أو"يرفع حكم النص" أو"يناقض النص" أو"يخالف النص" أو "يحرف النص" وقد قرر الغزالي أن المصلحة التي هذا شأنها مصلحة ملغاة"(4).
(1) المستصفى 1/ 285.
(2)
المستصفى 1/ 310 - 311 ونظرية المصلحة 450 والاعتصام 2/ 115.
(3)
ويقول في شفاء الغليل 184: "والمصلحة حجة بشرط ألا يكون - المعنى المناسب - بديعًا غريبًا، وبشرط ألّا يصدم نصاً ولا يتعرض له بالتغير" ويقول في ص 191: "
…
إن اتباع المصلحة على مناقضة النص باطل".
(4)
نظرية المصلحة 461.
وهذا الإِجماع الذي نقله العلماء على رد المصلحة المخالفة للنص، يدل دلالة قاطعة على أن العمل بالمصلحة الشرعية ليس له أثر سلبي على ثبات حكم الشرع لأنها إما مقبولة عنده - وهو لا يقبل إلا ما وافق مقصودة ومقصوده يعلم بالنص والِإجماع - وإما مردوده وهي المخالفة له ولا عبرة بها البتة.
وهذا المعنى الذي انعقد عليه الإِجماع بدهي من بدهيات الإِسلام لأن الله سبحانه وتعالى هو الشارع ولم يترك لأحد من خلقه هذا الحق لأنه سبحانه وهو الرحيم بهم يعلم ابتداء أن عقولهم -التي خلقها لهم- لا تطيقه وأنهم إن حكّموا العقل فستغلب عليه الأهواء والمصالح وتنقلب البشرية إلى أحزاب متناحرة .. تتبع ما فيه هلاكها .. من المذاهب والشرائع - وتعرض عما فيه نجاتها من الاستسلام لله وحده والخضوع لحكمه وإشاعة الأخوة الإِيمانية في الأرض والعدل الرباني، ولذلك سقط أكثر الناس في الأهواء لأن المسافة بين العقل والهوى قريبة جداً.
فأما الذين رفضوا الإِسلام واستسلموا لحكم العقل مطلقاً فما زال يفرقهم ولا يجمعهم وينقلهم من مبدأ إلى آخر ومن نظام إلى نظام لا يُثَبتهم على مبدأ ولا يحفظ بنظامه عقلاً ولا روحاً ولا عرضاً ولا خلقاً، ومن بقي معه شيء من القيم ما زال يطاردها ليحل محلها "العلمانية" أي اللادينية وهكذا صنع بهم وهم به مؤمنون لأن هذا العقل لا يخضع لحكم الله سبحانه .. (1).
(1) ولقد زعمت طوائف كثيرة من البشر بأن العقل - الذي لا يخضع لحكم الشرع - يمكن أن يعرفها بمصالحها فماذا صنعت؟:
(أ) كان أهل الفترة يرون أن المصلحة في وأد البنات.
(ب) كان أهل الفترة يرون حرمان الإِناث من الِإرث ومثل جاهلية أهل الفترة القانون الانجليزي فقد ظل على ذلك قرابة عشرة قرون.
(ج) وكانت الجاهلية الأولى ترى أن شرب الخمر ولعب الميسر وزواج الأخدان لا مفسدة فيه وتنكر على من ينكره، وكذلك يصنع القانون الأمريكي فللموصي أن يوصي بكامل ثروته لخليلته - فإنهم يتخذون الأخدان - ويرى أن المصلحة في إعطاء الخليل وخليلته الحرية لأن ذلك لا مفسدة فيه!!! =
وأما من قبل الإِسلام وظن أن للعقل قدرة في إدراك المصلحة جاهلاً أو متأولًا - فماذا صنع بهم هذا الوهم؟
أما المعتزلة - وهم من فرق المبتدعة - فقد ابتدعوا مسلكاً جديداً في النظر يتقدمون به بين يدي الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ويتجافون به عما - تعلمه الصحابة والتابعون ومن تبعهم بإحسان - وهذا المسلك عملوا به متأثرين بفلسفة اليونان والإغريق - وهم - أصحاب مبدأ العبودية للعقل لا لله سبحانه (1)، ولذلك أصاب الفرق الضالة ما أصاب أولئك - والداء واحد فإن التفكك من التكاليف رغبة شديدة في النفس البشرية وهي إما أن تجعل صاحبها يرفض الإِسلام مطلقاً أو تصيبه المعصية .. أو تصيبه الأهواء - ولقد مالت المعتزلة إلى مجافة السنّة ثم
= (د) والجاهلية الأولى ترى المصلحة في أن المدين إذا لم يستطع أن يدفع لدائنه فعليه أن يدفع مقابل الأجل فوائد حتى يقضي أو يُقضى عليه، وأما القانون الروماني فهو أشد جاهلية، فإنه يجيز للدائن أن يسترق مدينه إذا لم يستطع أن يقضي دينه، وإذا كان هناك أكثر من دائن ولم يجدوا من يرغب في شراء المدين فإن لهم الحق - بموجب القانون الروماني أن يقتسموا جثته، وإذا جاء الإِسلام ليطهرهم من هذا الرجس فيقول لهم: فإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة وأن تصدقوا خير لكم فلا ربا ولا استرقاق، قالوا: ما للدين والاقتصاد .. انظر على سبيل المثال: نظرية المصلحة لأستاذي د. حسين حامد حسان 6 - 7. ولا أريد أن أثقل هذا الهامش بحماقات العقل البشري - الذي لا يخضع لحكم الله سبحانه - ومن أراد مزيداً من الاطلاع على ذلك فلينظر في حصيلة كل فترة - لم تخضع لحكم الإِسلام وإنما اهتدت بالعقل البشري سواء في عقائدها أو أحكامها القانونية، وسيرى أن العقل بنفسه لم يستطع أن يهتدي - فضلاً أن يهدي - ولا في فترة واحدة، مع أنه لا يزال يمارس نشاطه من قرون متطاولة وتتسع المساحة التي يمارس فيها نشاطه لعدم غلبة مفاهيم الإِسلام العقائدية وأحكامه على العالم كله. فهل استطاع العقل البشري أن يأتي بنظام يحفظ الأعراض والدماء والعقول وما بقي للبشرية من قيم - ولو في فترة واحدة. الحق أن الذين لا يقبلون حكم الله ما زالوا تحت حكم العقل ينتقل بهم من مذهب فكري إلى مذهب آخر .. ومن نظام إلى نظام آخر وما زالت عقولهم تتحفهم بمثل تلك الحماقات السابقة ..
(1)
انظر مذاهب فكرية معاصرة فصل "العقلانية"500.
استقرت بعد ذلك على مسلك غريب عن منهج الاستدلال والاستنباط الذي عليه أهل الحق.
ومن أبرز معالمه تقديم العقل على الشرع، ويكفي لمناقشة المعتزلة ما تقدم ذكره عن منزلة العقل ورد القول بظنية الأدلة القرآنية والسنّة، واربط به بعد ذلك رأي المخالفين للإِجماع القائلين بأن المصلحة تقدم على النص بل وتغيره، ليعلم أن مسلكهم هذا - وهو تقديم العقل ومجافاة السنّة وعدم الالتزام بمنهج السلف الصالح قد أهلك من قبلهم فأوقعهم في الشذوذ عن الإِجماع والطعن في الأئمة ووكلهم إلى جهدهم الحسير وقطع صلتهم بخير الأجيال وخير القرون ولعلهم يحذرون.