الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
1 -
من شروط التعليل بالحكمة وهل يشترط انضباط المظنة أم لا؟
2 -
من شرطه في اعتبار المصلحة دليلًا شرعيًا.
وقد تبين من مجموع نصوصه أن موقفه من التعليل بالحكمة غير ما فهمه الشلبي وأما المصلحة فسيأتي لها زيادة بيان إن شاء الله ..
فالحاصل أن التعليل بالحكمة مشروط بانضباط المظنة، فإذا انضبطت المظنة هنا كما انضبطت في ربط الشارع القصر بالسفر، والحد بالإيلاج أو شرب المسكر فيجوز حينئذ التعليل بها.
الفرع الخامس
بيان أثر ذلك على الثبات والشمول
إن الشمول يتحقق لنا في الأحكام القياسية لأنا لم نقتصر على ربط الحكم بالعلة فقط، ولكن ربطناه بالحكمة بشرطها المذكور، وهذا يجعل أداة القياس أقدر على تحقيق الشمول من مجرد ربطه بالوصف الظاهر وهنا ينبغي أن نأخذ بالعدل ونلاحظ عدم الاضطراب والاختلاف حتى لا نقع فيه، فإذا خرجت الحكمة عن الانضباط لم يمكن ربط الحكم بها حينئذ لأنها تؤدي إلى اختلاف الحكم واضطرابه وهو ينافي الثبات.
ولذلك لا بد من ملاحظة الثبات والشمول في آن واحد فلا نعلل بمطلق الحكمة .. ولا نمنع التعليل بها إذا انضبطت، وقد تبين من خلال تلك الدراسة والمناقشة أن مذهب المفصلين هو الصواب وأن مذهب الشاطبي تبع لمذهب المفصلين.
ونحن في هذا وذاك نعمل "الأصل" الثابت ونحافظ عليه، وأما إعماله والاستفادة منه فيكون بنقل حكمه إلى "الفرع" الذي عملنا مشابهته للأصل إما عن طريق "العلة" أو "الحكمة" بشرطها، وهنا نكون قد حققنا الاجتهاد وأدركنا شمولية الشريعة عن طريق أداة القياس، وهي إلحاق الفرع بالأصل ..
وجميع العادات والأحوال التي تمر بها البشرية متشابهة ولذلك تكاد تكون
محصورة من حيث إمكان تحديد أوجه الشبه بينها -حتى وإن لم يكن حصرها من حيث كونها جزئيات ووقائع- وإذا لحظنا المشابهة وهي أمر مسلم به لأن أفراد البشر يشتركون في طبيعة الإِنسان عقلاً وروحاً وجسدًا، ويشتركون في تفاعلهم مع هذا الكون من حولهم، ويتتابع عليهم -في الجملة- الليل والنهار والشمس والقمر وفصول السنة، ويقع عليهم تشابه كبير في متاجرهم ومصانعهم وفي تعاملهم مع غيرهم، وترد عليهم الأمراض المتشابهة، والأحزان المتماثلة، وأفراحهم متقاربة، نعم يختلفون بعد ذلك في المنهج الذي يلتزمون به .. ويبقى بعد ذلك وقوع التشابه في ذلك كله في الجملة، وهذا يعني أن جميع الوقائع والأحوال تأخذ من التشابه فيما يتصل من الأحداث والوقائع بحياة البشر في جميع تلك الأمور -وإن لم يمكن حصرها من حيث الجزئيات- إلّا أنه يمكن حصرها من حيث التشابه وهذا هو المقصود، فإذا كانت محصورة -وهي كذلك- أمكن ربط المتشابهات والمتماثلات بالأصل الشرعي المشابه لها، فتضيق تلك الدائرة التي يُظن أنها لا تنحصر أبداً لتصبح هي في ذاتها محصورة وذلك على مرحلتين:
الأولى: أن وقائع البشرية وأحداثها ترجع إلى طبيعتها المتشابهة في جميع أقطار الأرض، فهي على سعتها تضيق حتى يمكن جمع أطرافها وجزئياتها عن طريق رد المتماثلات إلى بعضها البعض، فإذا هي وقائع وأحداث يمكن حصرها.
الثانية: أخذ هذه الوقائع والأحداث وربطها بالأصول الشرعية كل حسب ما يشبهه.
ويتحقق لنا هذا الشمول ونحن محافظون على الثبات لأننا لم نعمل الأصل ونستفد منه بغير ضابط، بل لاحظنا الضابط الشرعي وحددناه من خلال التعرف على موقف الشرع منه، فوجدنا أن اتباع العلة والحكمة بشرطها هو الضابط فتمسكنا به، ولم نتعده إلى التعليل بمطلق الحكمة، والضوابط هي أداة الثبات كما يتبين ذلك من خلال موضوعات البحث جميعها، فأداة القياس الشرعي على الصورة التي قدمناها وهي الوسط بين مسلك المتوسعين والمانعين
-مع ما ذكرناه في التعليل بالحكمة- تجمع بين المحافظة على الثبات والشمول في آن واحد، وهذه الطريقة تجمع بين خصوصيات الألفاظ واعتبار معانيها منفردةً ومجتمعةً فلا هي تقف عند خصوصيات الألفاظ، وتجمد عليها وتهمل اعتبار المعاني - ومن صنع ذلك لم يدرك شمول الأحكام القياسية ولم يستفد من مدلول النص الاستفادة المطلوبة، ولم يسهل عليه حصر الوقائع في أشباه متقاربة وإدخالها تحت أحكامها الشرعية عن طريق حمل "الفرع" على "الأصل" وعسر عليه الخروج عن التناقض والاضطراب ووقع في الحرج - ولا هي تتبع المعاني معرضة عن الالتفات إلى خصوصيات الألفاظ فإن ذلك يوجب رفع الضوابط الشرعية، لأنها لا تعرف من تتبع المعاني وحدها، بل تعرف من مجموع خصوصيات الألفاظ، واعتبار المعاني، فإذا اعتبرنا المعاني الشرعية فإن هذا الاعتبار وإن كان مطلوبًا إلّا أن تحديده ومعرفة مداه لا بد له من ضابط يحفظه من اتباع مجرد الحكم والأوصاف الملغية والمعاني التي يظنها الناس مصالح وهي في حقيقتها مفاسد، والضابط في الحقيقة هو خصوصيات الألفاظ، فإذا علمنا أن مايظنه المجتهد معنى شرعياً - يخالف نصاً شرعياً حكمنا عليه حينئذ بأنه ليس من المعاني الشرعية التي يعمل بها، فخصوصيات الألفاظ ركن ركين يجب اعتباره فهي الشاهد بالصحة والسلامة أو بالفساد على اجتهاد المجتهد، فقد يظن أن هذا الأمر مصلحة - إذا تتبع المعاني الشرعية كما يفهمها - وهنا تحتمل صحة اجتهاده أو خطأه، فإذا رجعنا إلى خصوصيات الألفاظ فلم نر تصادمًا بينها وبين اجتهاده علمنا أن تتبعه للمعاني معتبر شرعاً، فالقياس هو العمل بمجموع الأمرين معاً، "الأصل ثابت الحكم" و"العلة" ثابتة والحكمة المعتبرة في معناها، وخصوصيات الألفاظ معتبرة والمعاني متبعة، فيوصل المجتهد مقصد الشارع إلى "الفرع" في صورة حكم محدد، فالمعاني مادة تصل بين الفرع والأصل، وخصوصيات الألفاظ مصدر وشاهد، منه يستقي المجتهد وعليه يصحح اجتهاده فإن عاد اجتهاده على الأصل بالإِبطال فاجتهاده باطل، وكذلك "الإِجماع" يعتبر أصلًا وهوفي حكم "النص" لا بد من المحافظة عليه، لأن الإِجماع لايكون إلّا عن نص -كما سيأتي في باب الإِجماع- فهو معصوم كما أن النص معصوم، فكما يكون النص مادة القياس تكون ثمرته التي هي الحكم المجمع عليه كذلك،