الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الأول
تعريف المصلحة والتأكيد على الضوابط الشرعية فيه
تعريف المصلحة:
المصلحة في اللغة: الصلاح ضد الفساد والمصلحة: الصلاح هي واحدة المصالح، والاستصلاح نقيض الاستفساد (1).
"وأصلح أتى بالصلاح وهو الخير والصواب، وفي الأمر مصلحة أي خير والجمع المصالح
…
" (2).
المصلحة في الشرع: لها تعريفات كثيرة، أقتصر هنا على ذكر بعض منها: وقد ذكر الباحثون المحدثون في "المصلحة" هذه التعريفات، وغرضي هنا الإشارة إليها - لتجلية معنى المصلحة - من جانب وللإِشارة لتعريف الإِمام الشاطبي للمصلحة والتنبيه عليه وبيان أهميته ..
وقد ذكر الغزالي والطوفي (3) وغيرهما تعريفات للمصلحة كل بحسب نظره
(1) لسان العرب - مادة "صلح".
(2)
المصباح المنير في غريب الشرح الكبير، مادة "صلح".
(3)
وهو"سليمان بن عبد القوي الطوفي" قال عنه ابن رجب في طبقاته: "
…
وكان شيعياً منحرفاً عن السنّة" ذيل طبقات الحنابلة 2/ 366، 377، وشذرات الذهب 6/ 239، وانظر ما يؤكد ذلك فيما حققه الدكتور البوطي في كتابه ضوابط المصلحة هامش 202 - 206. الطبعة الرابعة 1402 هـ مؤسسة الرسالة، وانظر هامش 529 من كتاب نظرية المصلحة.
للمعنى الشرعي، ومن المحدثين صاحب رسالة ضوابط المصلحة وصاحب رسالة تعليل الأحكام.
وأقتصر هنا على ذكر هذه التعريفات وأعقب بما لاحظه أستاذي الدكتور حسين حامد - موافقاً على ذلك ومؤيداً له - ثم أنبه على تعريف الإِمام الشاطبي، وأهميته.
1 -
عرف الغزالي المصلحة فقال: "أما المصلحة فهي عبارة في الأصل عن جلب منفعة أودفع مضرة، ولسنا نعني به ذلك، فإن جلب المنفعة ودفع المضرة مقاصد الخلق، وصلاح الخلق في تحصيل مقاصدهم، لكننا نعني بالمصلحة: المحافظة على مقصود الشرع"(1).
ويقصد بمقصود الشرع محافظته على الدين والنفس والعقل والنسل والمال. فكل ما حفظها فهو مصلحة، وكل ما فوت شيء منها فهو مفسدة ودفعه مصلحة.
وظاهر من تعريف الغزالي أن ما شهد الشارع برده فليس مصلحة وإن قال الناس أنه مصلحة دنيوية.
2 -
عرفها الطوفي بأنها، هي السبب المؤدي إلى مقصود الشارع عبادة أو عادة
…
" (2).
ويرى أستاذي الدكتور حسين حامد حسان أن الطوفي بهذا التعريف لا يعتبر الشروط الشرعية للمصلحة، ولا يقسمها بعد ذلك - كما قسمها الغزالي وغيره - إلى معتبرة وملغية - بل لا يشترط إلّا أن تؤدي إلى مقصود الشارع (3).
فقال: "والنقطة الهامة التي يجب التنبيه عليها في هذا المقام هو أن الطوفي
(1) المستصفى 1/ 286.
(2)
المستصفى 1/ 286.
(3)
انظر شرحه لحديث "لا ضرر ولا ضرار" وهو موجود في ملحق كتاب "المصلحة في الشريعة الإِسلامية" للدكتور مصطفى زيد 211.
يعرف المصلحة كدليلِ شرعي في حين أن الغزالي يعرف مطلق المصلحة الشرعية ثم يشترط فيها شروطًا بعد ذلك حتى يجوز الاعتماد عليها بمفردها كدليل شرعي على حكم الوقائع غير المنصوص عليها" (1).
وأزيد الفرق وضوحاً فأقول: إن الغزالي لا يرى تحقق المصلحة المعتبرة في خلاف مقصود الشارع، فلا بد من شهادة الشرع لها بعدم المعارضة حتى نعلم أن هذه المصلحة محافظة على مقصوده، بخلاف الطوفي فإنه يرى أن وجود النص الشرعي أو الإِجماع - المخالف للمصلحة - في نظره - لا يدل على عدم اعتبارها، وعلى مخالفتها لمقصد الشارع، بل يرى تخصيص النص والإِجماع بها (2).
3 -
عرفها صاحب ضوابط المصلحة، فقال:"المصلحة فيما اصطلح عليه علماء الشريعة يمكن أن تعرف بما يلي: هي المنفعة التي قصدها الشارع الحكيم لعباده من حفظ دينهم ونفوسهم وعقولهم ونسلهم وأموالهم طبق ترتيب معين فيما بينها والمنفعة هي اللذة، أوما كان وسيلة إليها ودفع الألم أو ما كان وسيلة إليه"(3).
واشترط عدم مخالفة هذه المصلحة للنص ليخرج الملغاة، واشترط أيضًا عدم مخالفتها للقياس أو لمصلحة أهم منها (4).
ويلاحظ الدكتور حسين حامد أنه لم يشترط في المصلحة أخص من مطلق الناسبة العامة، والمقصود أن المصلحة قد تدخل تحت المقاصد العامة، وقد تدخل تحت جنس اعتبره الشارع في الجملة دون أن يثبت عن طريق نص معين، أو تدخل تحت أصل شرعي ثبت بالاستقراء من نصوص متوافرة.
(1) نظرية المصلحة 10 - 11. وانظر إسقاط مسلك الطوفي من 529 إلى 568.
(2)
انظر نظرية المصلحة 14.
(3)
ضوابط المصلحة 23.
(4)
المصدر السابق 115 وما بعدها.
ومن هنا فإنه يخالف الطوفي ويشترط لحجية المصلحة المرسلة عدم معارضة النص أو القياس المعتمد على الأصل المعين (1).
وبعد الإشارة إلى هذه التعريفات ومعرفة الفوارق بينها، أذكر هنا ما أشار اليه الدكتور حسين حامد حسان من أن بعض المحدثين لم يعرفوا المصلحة لأنها عندهم من "الظهور والوضوح بحيث لا تحتاج إلى تعريف"(2).
واكتفى الدكتور الشلبي بسرد تعريفات الغزالي والطوفي، وبذكر المعنى اللغوي المجازي والحقيقي فقال:"فهذه العبارات وغيرها تفيد أن المصلحة في اصطلاح الفقهاء والأصوليين تطلق بإطلاقين: الأول مجازي، وهو سبب الوصول للنفع، والثاني حقيقي، وهو نفس المسبب الذي يترتب على الفعل من خير ومنفعة ويعبر عنه باللذة أو النفع أو الخير أو الحسنة"(3).
وهذا المسلك - الذي سلكه الدكتور الشلبي في رسالته تعليل الأحكام وهو السرد لأقوال العلماء دون التحقيق فيها مسلك ظاهر في مواضع كثيرة من رسالته (4). ومنها هذا الموضع، ومع أن أستاذي الدكتور حسين حامد قد أحسن في بيان الفوارق بين التعريفات السابقة - وميّز للقارئ بين تعريف الغزالي والطوفي وبين موقف الطوفي والشلبي من جهة أخرى، كما ستأتي الإِشارة إلى ذلك - إلا أن موقف الدكتور شلبي هذا يحتاج إلى زيادة مناقشة في هذا الموضع، فإنه انصرف هنا عن بيان شروط العمل بالمصلحة الشرعية سواء في تعريفها أو عند الاستدلال عليها.
فعند تعريفها انصرف عن المعنى الشرعي - ومن المعلوم أن النظر في هذه المصطلحات - أمثال القياس أو المصلحة أو الإِجماع - وغيره من المصطلحات
(1) نظرية المصلحة 13 - 14.
(2)
انظر رسالة المصلحة في التشريع الإِسلامي 19.
(3)
تعليل الأحكام 279.
(4)
وسيأتي بمشيئة الله زيادة بيان لهذا حين تفصيل الكلام عن المصلحة وأثرها على ثبات الحكم. وانظر ما سبقت مناقشته فيه ص 395.
نظر شرعي، ولا يكتفي فيها بالنظر اللغوي ولا يستقيم إطلاقها من غير ضابط شرعي أيضاً، ودعوى وضوحها لا تصلح لإبعاد النظر الشرعي عنها وتحديد الضوابط، ولو كانت المصلحة ظاهرة معلومة لا تحتاج إلى ضابط أو تعريف فلماذا اختلفت فيها الأنظار سواء أنظار العامة أو العلماء، وهذا الطوفي يخصص بها النص والإجماع - مخالفاً في ذلك إجماع أهل العلم - وهذا الشلبي نفسه يذهب إلى تقديم المصلحة المتغيرة على النص والإِجماع.
ولهذا فإن المحققين من الأصوليين - أمثال الغزالي والشاطبي - يشترطون شروطاً شرعية للعمل بالمصلحة وتابعهما الدكتور حسين حامد حسان وذكر أن المصلحة التي تدخل تحت مقاصد الشارع العامة يشترط لها أحد أمرين: إما أن يثبت الشارع حكماً على وفقها .. وإما أن تكون ملائمة لجنس تصرفات الشارع.
وبهذا النظر الشرعي لا يتصور أن يترك نص بمصلحة قط، وأما إذا قيل أن المصلحة ظاهرة لا تحتاج إلى تعريف، أو وقفنا عند المعني اللغوي - فإن حاصل هذا النظر - هو ترك المصلحة بغير ضوابط لكي تُقدم على النص والإِجماع إما بطريق التخصيص والبيان لهما كما زعم الطوفي وإما عن طريق تغييرهما كما زعم الشلبي.
والبحث في هذا الموضع مقتصر على أهمية تعريف المصلحة لأن النظر فيها نظر شرعي .. وأضيف هنا - للأهمية - تعريف الإِمام الشاطبي لها: يقول: "المراد بالمصلحة عندنا" ما فهم رعايته في حق الخلق من جلب المصالح ودرء المفاسد على وجه لا يستقل العقل بدركه على حال" ثم قال: "فإذا لم يشهد الشرع باعتبار ذلك المعنى بل برده كان مردوداً باتفاق المسلمين" (1).
وهذا التعريف يحدد منهج النظر في "المصلحة" وهو أدق التعريفات وأحكمها، والضوابط الشرعية ظاهرة فيه، فهو يقرر أن النظر في تحديد المصلحة
(1) الاعتصام 2/ 113، ولم يذكره أستاذي الدكتور حسين حامد في تعريف المصلحة في الاصطلاح، وذكره عند دراسته للمصلحة عند المالكية 62. وسيأتي بمشيئة الله تفصيل أنواع المرسل كما بينها الشاطبي في الاعتصام إن شاء الله ..
المعمول بها نظر شرعي، والعقل ليس بشارع، ولا يستقل بدركها على حال وحينئذ لا بد من إحالة - المصلحة - على الشرع ليشهد لها بالاعتبار فإن لم يشهد بل ردها كانت مردودة باتفاق المسلمين (1).
وبعد النظر في تعريف المصلحة - وبيان أن النظر فيه نظر في أمر شرعي نذكر الأدلة على أن العقل ليس بشارع .. ولا يستقل بإدراك المصالح والمفاسد.
* * *
(1) وهذا هو الإِجماع ولم يخالفه إمام معتبر من أئمة المسلمين، وقد شذ عنه الطوفي وتابعه على شذوذه الدكتور الشلبي، وانظر نظرية المصلحة تعلم كيف اتفق المسلمون على ما أشار إليه الشاطبي رحمه الله، ففيها بيان لموقف أئمة المسلمين من العمل بالمصالح.